السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

بعد قرار إجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية الشهر الحالي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
TT

السنغال... تعود «واحةً» للديمقراطية في الغرب الأفريقي

جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)
جانب من التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة (رويترز)

عودة السنغال إلى المسار الديمقراطي، لا ينقذ البلاد فقط من الأزمة السياسية والشعبية، بل يمتد أثره ليؤكد سمعة الدولة التي اشتهرت كواحة ديمقراطية في الغرب الأفريقي، الذي بات عنواناً للتغييرات غير الدستورية في الحكم، والذي تعززت صورته تلك بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية خلال السنوات الأربع الأخيرة. صحيح، أن السنغال لا تبدو على الخريطة الأفريقية دولة شاسعة المساحة أو هائلة الموارد، لكنها استطاعت أن ترسم لنفسها صورة مختلفة عن جيرانها في الغرب الأفريقي عبر تجربة سياسية اعتمدت الانتقال السلمي للسلطة سواء من الاشتراكية إلى الليبرالية، أو عبر الالتزام باحترام التعددية الحزبية وحرية المنافسة؛ ما جعلها تبدو «حالة نادرة» في منطقة لم تعد «الانقلابات» بها خبراً لافتاً. ولكن للمرة الأولى منذ ستة عقود تعرّضت الانتخابات الرئاسية في السنغال لتأجيل بدا مفاجئاً لكثيرين، وتسبب في احتقان الأفق السياسي، وإشعال ردود فعل غاضبة سواء على مستوى الشارع أو القوى الحزبية والمدنية، عندما أصدر الرئيس ماكي سال مطلع فبراير (شباط) الماضي قراراً بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى بعدما كان مقرراً إجراؤها يوم 25 فبراير 2024.

قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية السنغالية أشعل غضب أحزاب المعارضة، وسرعان ما انتقلت الأزمة إلى الشارع عبر مظاهرات شعبية سقط خلالها قتلى ومصابون إثر مصادمات مع قوات الشرطة، قبل أن يحسم المجلس الدستوري الصراع لصالح المسار الديمقراطي بقراره إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية شهر مارس (آذار) الحالي.

الآن، رغم انتهاء الفصل الحالي من الأزمة السياسية بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء فترة حكم الرئيس سال، تفتح الأزمة المجال أمام مراجعات قد تحتاج إلى مزيد من الجهد عقب وصول رئيس جديد إلى سدة الحكم؛ كي لا يتكرر مشهد الارتباك الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات.

معارضون يرفعون لافتات مؤيدة لعثمان سونكو (آ ف ب)

جذور الأزمة

وبينما يحاول كثير من المحللين ربط الأزمة السياسية الراهنة بقرار الرئيس سال إرجاء الانتخابات الرئاسية، يرى البعض أن الأزمة أعمق من ذلك؛ إذ ترجع إلى نتائج التعديلات الدستورية التي اعتُمدت عام 2016، وبموجبها قُلّصت الولاية الرئاسية إلى ولايتين فقط. وحقاً أقرّت التعديلات الدستورية بعدما بدأ الرئيس سال ولايته الأولى (عام 2012)، ونصّ الدستور السنغالي المعدل على أنه «لا يمكن لأحد أن يحكم البلاد أكثر من فترتين متتاليتين»، لكن سال قال عام 2021 إنه ينوي الترشح لولاية ثالثة، معتبراً أن هذه المادة لا تنطبق عليه باعتبار أن ولايته الأولى كانت قبل التعديلات الدستورية.

هذا الأمر أثار ردة فعل عنيفة سواء على مستوى الشارع أو من أحزاب المعارضة، وبالذات من رئيس حزب «باستيف» المعارض عثمان سونكو الذي دعا إلى النزول للشارع للوقوف أمام طموحات سال. وفعلاً، شهدت السنغال مظاهرات عنيفة شملت العاصمة دكار وعدداً من كبريات مدن البلاد، راح ضحيتها قتلى وجرحى، ثم تدخلت دبلوماسية المشيخة الصوفية وهيئات العلماء وأسهمت بإنهائها. وعندها أعلن الرئيس تخليه عن فكرة الولاية الثالثة، لكن إعلانه لم يقنع العديد من قطاعات الشارع السنغالي أو الطبقة السياسية بحسن نية الرئيس.

ثم أن الإجراءات التي اتبعتها السلطة بحق عثمان سونكو، الذي يُنظر إليه على أنه منافس بارز ويحظى بشعبية كبيرة بين الشباب السنغالي بسبب خطابه الشعبوي ومواقفه القوية ضد الفساد، كانت سبباً آخر في إثارة الكثير من المخاوف إزاء صدق نوايا السلطة في إجراء انتخابات تنافسية. إذ سُجن سونكو إثر اتهامه بعدد من التهم، بينها التمرد، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها «ذات دوافع سياسية»، ولا يزال هذا المعارض البارز قابعاً في السجن؛ ما حال دون ترشحه للانتخابات.

الرئيس ماكي سال (آ ف ب)

مشهد مرتبك

لم يلهب الوضع فقط استخدام السلطة الأحكام القضائية حجة لإبعاد بعض المرشحين الأقوياء من أحزاب المعارضة، بل استفحلت الأزمة من جديد عندما أصدر «المجلس الدستوري» السنغالي القائمة النهائية التي ضمت 20 مرشحاً رئاسياً، لكنها خلت من كريم واد زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي (ونجل الرئيس السابق عبد الله واد) بحجة أنه ثنائي الجنسية، في حين أن اللائحة ضمّت مرشحة مزدوجة الجنسية هي روز ورديني (انسحبت لاحقاً). وللعلم، فإن «المجلس» هو السلطة الدستورية العليا في البلاد والجهة المخوّلة التصديق على انطباق شروط الترشح على الراغبين في خوض السباق الرئاسي.

ويوم 1 فبراير طالب نواب من الحزب الديمقراطي السنغالي بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق مع عضوين في «المجلس الدستوري» لاتهامها بالتواطؤ من أجل إبعاد كريم واد. وهذا ما استند إليه الرئيس سال لإصدار قراره بتأجيل الانتخابات؛ ما تسبب في اندلاع موجة من أعمال العنف سقط خلالها قتلى ومصابون.

مجلة «جون أفريك» الفرنسية المتخصصة في الشؤون الأفريقية، قدمت تحليلاً للمشهد المرتبك في السنغال، ليس فقط على مستوى الشارع، بل وحتى خلال إقرار البرلمان قرار تأجيل الانتخابات. إذ اشتبك النواب المؤيدون والمعارضون بالأيدي، وتدّخلت قوات الدرك لإخراج نواب المعارضة من قاعة البرلمان من أجل إصدار قرار التأجيل. وأشار تحليل المجلة الفرنسية إلى أن أفراد «المحيط السياسي» للرئيس سال أقنعوه بتأجيل الانتخابات الرئاسية حتى يتمكنوا من إيجاد وريث يكون قادراً على جمع الطيف السياسي من حوله.

وتابعت المجلة أن سال يدرك خطورة المصادقة على ترشيح باسيرو ديوماي فاي، بديل عثمان سونكو، الذي تدعمه الحركات الشبابية والنقابية، والذي بات يمثل «خطراً» على حظوظ آمادو با، مرشح حزب الرئيس، وبخاصة مع تنامي اقتناع الرئيس بأن مرشحه لن يتمكن من حسم السباق لصالحه؛ بسبب تصدّع معسكر النظام وافتقار ترشيح بالإجماع، إضافة إلى وجود مرشحيْن منشقين عن النظام الحاكم، هما الوزير الأول السابق محمد عبد الله ديون، ووزير الداخلية السابق علي نغوي ندياي.

كل هذه الملابسات أسهمت في دفع سال إلى الاقتناع بالتنسيق مع كريم واد، المقرّب من فرنسا، والذي يحظى بقبول كبير داخل دوائر «الدولة العميقة». وكان استبعاد ترشيح كريم واد، من جانب «المجلس الدستوري» قد استند إلى حمله الجنسية الفرنسية عندما قدم طلبه الترشح لمنصب الرئيس. ومع أن واد (ابن الرئيس السابق عبد الله واد من سيدة فرنسية) تخلى عن جنسيته الفرنسية، فإن الخطوة لم تتوافق مع مهل تقديم الترشيحات؛ ما فرض تأجيل الانتخابات، ثم الدعوة إلى موعد جديد، وفتح باب الترشح مجدداً «لإعادة ترتيب أوراق السباق» بما يخدم مصالح الرئيس سال، حسبما ادعاءات المعارضة. وعقب تصويت البرلمان بالموافقة على إجراء الانتخابات في ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي؛ ما يعني إدخال البلاد في حالة من الفراغ أو تمديد ولاية الرئيس سال - وهو ما تتمسك المعارضة برفضه - جاء قرار «المجلس الدستوري» بإبطال قرار البرلمان، وإلزام السلطات بإجراء الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية مارس الحالي ليكون بمثابة «طوق نجاة».

كريم واد (آ ف ب)

لحظة فارقة

يرى عمر ندياي، الكاتب والباحث السنغالي، والمتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، أن قرار تنظيم الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي «يمثل استعادة للنهج الديمقراطي الذي اتسمت بها البلاد على مدى 6 عقود». واعتبر لـ«الشرق الأوسط» أن قرار تأجيل الانتخابات «لم يكن يحظى بالإجماع بين الطبقة السياسية وحتى بين الرأي العام السنغالي؛ لأن الأسباب المقدمة ليست قوية».

وأضاف ندياي: «هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها الديمقراطية السنغالية، التي بُنيت على مدى العقود الأخيرة، مثل هذه اللحظة الفارقة... نعم، شهدت ديمقراطيتنا توترات مرات عدة، لكن الانتخابات الرئاسية كانت دائماً لحظة ساعدت في وضع حد لكل هذه الأزمات». وتابع أنه لم يسبق للسنغال من قبل اللجوء لتأجيل الاستحقاق الرئاسي في ظل أزمات سابقة، مستشهداً بما حدث عام 2012، عندما حدث انقسام في الطبقة السياسية حول الترشيح الثالث المتنازع عليه للرئيس عبد الله واد، مع توترات شديدة تسببت في سقوط قتلى. ولكن، يومذاك أُجريت الانتخابات بسلام وانتُخب ماكي سال. وأردف ندياي: «ما كان لهذا التأجيل أي سبب، خاصة أن الأسباب المذكورة (فساد مزعوم للقضاة الدستوريين) لا تصمد. نحن في وضع فريد من نوعه في تاريخنا السياسي الحديث، ولا نعرف إلى أين قد يقودنا».

تقويض الاستقرار

وتتشارك نسرين الصباحي، الباحثة بوحدة الدراسات الأفريقية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، خلال تعليق لـ«الشرق الأوسط»، الرؤية المحذّرة من خطورة الوضع السابق الذي أدى إليه قرار تأجيل الانتخابات على مستقبل التجربة الديمقراطية في السنغال. إذ تشير إلى أن تأجيل الاستحقاق الرئاسي «كان بمثابة دفع للبلاد إلى مزيد من تصعيد المشهد المضطرب»، على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية العديدة. وازداد الوضع تعقيداً مع استبعاد زعماء المعارضة الرئيسيين من الانتخابات؛ ما أسهم بتقويض الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي في دولة اعتُبرت طوال العقود الماضية «جزيرة الاستقرار ونموذجاُ للديمقراطية في منطقة غرب أفريقيا».

وأضافت الصباحي: «السنغال لم تتعرض لأي انقلاب عسكري منذ الاستقلال، فجرى تداول انتقال السلطة بشكل منتظم، كما أن تاريخها حافل بالتعددية الحزبية والانتقال السلمي من خلال صناديق الاقتراع»، وبالتالي، إجراء الانتخابات الرئاسية قبل انتهاء ولاية سال يأتي «انتصاراً لقيم الدولة ومسارها السياسي الديمقراطي».

وبالفعل، حافظ الجيش في السنغال على حياده سياسياً؛ إذ التزم منذ الاستقلال بالابتعاد عن التدخل في السياسة، وكان هذا من بين السمات المميزة للسنغال عن جيرانها في غرب أفريقيا. ثم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن 85 في المائة من السنغاليين يعربون عن ثقتهم بالجيش، وهذه النسبة من بين أعلى المعدلات في القارة.

«سيناريو» فراغ السلطة

عودة إلى عمر ندياي، الذي يرى أن قرار إجراء الانتخابات قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي في 2 أبريل (نيسان) المقبل «مثّل إخراجاً للبلاد من سيناريو فراغ السلطة الذي كان يهددها»، لا سيما وأن كل الحلول التي طُرحت سابقاً للخروج من الأزمة مثل تنظيم الانتخابات في يونيو (حزيران) المقبل، أو إمكانية بقاء الرئيس المنتهية ولايته لتنظيمها، كانت جميعها «موضع خلاف».

ويضيف الكاتب السنغالي: «كل السيناريوهات عدا إجراء الانتخابات تحمل بذور أزمة مؤسسية، وما كان ليقبلها أحد». ومن جهة ثانية، فإن الاهتمام بمسار الأحداث في السنغال لم يقتصر فقط على أبناء البلاد التي اجتازت العديد من أزماتها عبر احترام مبدأ التعايش السلمي والتعدد السياسي - فضلاً عن المسحة الصوفية التي تغلب على شعبها - بل امتد إلى كثيرين، في القارة الأفريقية. ولقد كان على السنغال أن تحسم خياراتها، فإما الحفاظ على إرث التداول السلمي للسلطة، أو الاستسلام لعدوى الاضطرابات المنتشرة بقوة في الغرب الأفريقي... ويبدو أن «مؤسسات الدولة» السنغالية حسمت بالعودة إلى إقرار الانتخابات الرئاسية مسارها المعتاد، حتى وإن انحرفت الأمور قليلاً.

وهكذا، قد تكون استعادة المسار بحد ذاته خبراً ساراً للسنغاليين وللمراهنين على إمكانية أن تترسخ تجربة ديمقراطية في «القارة السمراء».

على المستوى القاري، وقبيل العدول عن قرار التأجيل، حث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي، السنغاليين على حل «خلافهم السياسي من خلال التشاور والتفاهم والحوار»، داعياً السلطات إلى «تنظيم الانتخابات بشفافية وسلام ووئام وطني». أما «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس)، التي لطالما اتخذها الرئيس ماكي سال منبراً للمطالبة بالديمقراطية في دول أفريقية تعاني عدوى الانقلابات، فكانت أعربت عن أسفها لما تمر به دكار من «خروج على مبادئ الديمقراطية»، وطالبت بالإسراع في الخروج من حالة «الانسداد السياسي الذي يؤدي إلى الفوضى».

وخارج أفريقيا، دخلت على الخط الولايات المتحدة، التي تعدّ أحد أبرز حلفاء السنغال، فاعتبرت الخارجية الأميركية التصويت لإرجاء موعد الانتخابات الرئاسية السنغالية «لا يمكن أن يعتبر شرعياً»، كما انتقدت كل من فرنسا وألمانيا ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي قرار تأجيل الانتخابات. وعليه، لعل إعلان موعد إجراء الانتخابات قبل نهاية الشهر الحالي سيسعد تلك الأطراف المترقبة، بحسب عمر ندياي، الذي يرى أن التأثير الإقليمي للأزمة السنغالية كان «هائلاً»، ويلفت إلى معاناة جيران السنغال خلال السنوات الخمس الماضية من أزمات مؤسسية ناجمة عن الانقلابات العسكرية. ويضيف: «الجميع كان يأمل أن تقدّم السنغال درساً في الانتقال الديمقراطي والسلمي للسلطة... وكان من شأن تعذّر ذلك إعطاء العسكريين في بلدان غرب أفريقيا الفرصة لطرح أنفسهم كحل لأزمة الديمقراطية هذه».

أما الصباحي، فترى أن تداعيات الأزمة في السنغال لم تكن لتقتصر على إمكانية تقويض عقود من التقدم الديمقراطي في البلاد، بل ستنعكس أيضاً على المنطقة ككل، فهي ليست مجرد قضية داخلية، بل تحمل آثاراً إقليمية كبيرة، بل تُشكّل الأزمة السياسية في السنغال «اختباراً حاسماً للديمقراطية في عموم غرب أفريقيا؛ لكون السنغال نموذجاً قارياً للحكم الديمقراطي».



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.