ثلاثمائة يوم على كارثة السودان المنسية

موت 13 ألف مواطن ونزوح 8 ملايين والعالم ينتظر بحياد مريب

آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)
آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)
TT

ثلاثمائة يوم على كارثة السودان المنسية

آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)
آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)

اضطرت القيادة العسكرية للجيش في حينه لإطاحة عمر البشير وتسلّم السلطة عبر مجلس عسكري انتقالي برئاسة المفتش العام للجيش وقتها الفريق عبد الفتاح البرهان، وينوب عنه قائد قوات «الدعم السريع» الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وضباط عسكريون آخرون أبرزهم الفريق شمس الدين الكباشي، والفريق ياسر العطا.

إلا أن المحتجين رفضوا أن يتسلم العسكر السلطة، واعتبروه «تحايلاً» على ثورتهم، فواصلوا اعتصامهم واحتجاجاتهم بقيادة تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين السودانيين»، مطالبين بتسليم السلطة لقادتهم المدنيين. لكن العسكر الطامعين في الحكم استخدموا القوة المفرطة لفض الاعتصام، فقُتل نتيجة للعنف والرصاص والإلقاء مقيدين في نهر النيل أكثر من مائة معتصم مدني إضافة إلى عشرات المفقودين، فضلا عن حملة اعتقالات واسعة.

قائد الجيش ورئيس «المجلس العسكري الانتقالي» عبد الفتاح البرهان، خرج للعلن عقب فض الاعتصام، وأوقف التفاوض مع القوى المدنية على تسليم السلطة، ووعد بتشكيل حكومة انتقالية. إلا أن الشارع الثوري لم يتح له تنفيذ تعهداته، إذ استمرت الاحتجاجات المطالبة بتسليم الحكم للمدنيين، وشارك فيها ملايين السودانيين في مختلف مدن السودان، وأشهرها ما عرفت بـ«مليونية 30 يونيو» 2019، إذ خرج كل السودان – تقريبا – إلى الشوارع، متحدياً «الصدمة والترويع» الناتجة عن فض اعتصام القيادة العامة.

غريفيث (رويترز)

وعندها اضطر قائد الجيش ورئيس «المجلس العسكري الانتقالي» إلى العودة للتفاوض مع «قوى الحرية والتغيير» تحت الضغط الشعبي والشارع الثورة. وحقاً توصل الطرفان لتوقيع «الوثيقة الدستورية» الحاكمة للفترة الانتقالية بعد تفاوض شاق في 17 أغسطس (آب) 2019. وقضت «الوثيقة» بتقاسم السلطة السيادية بين المدنيين والعسكريين خلال فترة الانتقال، وتولي العسكريين رئاسة «مجلس السيادة» خلال الفترة الأولى، وأن تؤول الفترة الثانية للمدنيين، ومن ثم تكون السلطة التنفيذية «كاملة» من المدنيين، وحدّدت فترة انتقالية.

تكوّنت، وفقاً للوثيقة الدستورية، حكومة انتقالية بين تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» - الذي حصل على «حصة الأسد» من السلطة - من مجلسين:

1 - مجلس سيادي يضم 11 عضواً هم خمسة عسكريين يختارهم الجيش وخمسة مدنيين تختارهم «قوى الحرية والتغيير» وعضوا مستقلا يصار إلى اختياره بالتشاور بين الطرفين.

2 - ومجلس وزراء مدني بالكامل، على أن يترأس المجلس السيادي في المرحلة الأولى من الانتقال العسكريون، والفترة الثانية تنتقل السلطة السيادية إلى المدنيين.

أيضاً، توافق المدنيون والعسكريون على أن يتولى الفترة الأولى رئيس «المجلس العسكري الانتقالي» وقائد الجيش (وقتها) الفريق عبد الفتاح البرهان، وينوب عنه قائد قوات «الدعم السريع» الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، بينما شكّل المدنيون مجلس وزراء اختاروا له الأكاديمي الاقتصادي والموظف الأممي الرفيع الدكتور عبد الله حمدوك رئيساً، الذي أدى اليمين الدستورية 21 أغسطس 2019، وشكل حكومته من مدنيين رشحتهم «قوى الحرية والتغيير» باستثناء وزيري الدفاع والداخلية، فترك أمر ترشيحهما للعسكريين.

«انقلاب»... وتراجعلكن العسكريين الطامعين في الحكم (أي قائد الجيش وقائد «الدعم السريع»)، وبتشجيع ودفع من الحركة الإسلامية – الاسم السوداني لتنظيم الإخوان المسلمين – وحزبها «المؤتمر الوطني»، دبروا انقلاباً عسكرياً على الحكومة المدنية بقيادة الدكتور حمدوك، وألقوا القبض على الوزراء والسياسيين بمن فيهم رئيس الوزراء، وأعلنوا «حالة الطوارئ» العامة في البلاد.

البرهان (آ ف ب)

لم يستطع الانقلابيون المدعومون بالإسلاميين وبعض قادة الحركات المسلحة الموقّعة على «اتفاق سلام السودان» في جوبا، بعد انقلابهم إدارة البلاد، فقد واجهوا معارضة شعبية سلمية واسعة وشجاعة، اندلعت ضد انقلابهم حتى قبل إذاعة بيانه. ورغم العنف الذي استخدم ضد المحتجين السلميين ومقتل المئات منهم معظمهم من الشباب والنساء وبينهم أطفال، استمر التظاهر والاحتجاج على الانقلاب، فإذا بشريك الانقلاب قائد قوات «الدعم السريع» يعلن «فشل الانقلاب»، وتأييده لعودة الحكم المدني قائلاً إنه «خُدع» بانقلاب أعاد النظام السابق إلى الواجهة مجدداً.

وإزاء ذلك «اضطر» العسكريون للمرة الثانية للعودة للتفاوض مع المدنيين، ووقعوا معهم ما عرف بـ«الاتفاق الإطاري» في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023، ونص على تكوين حكومة مدنية انتقالية جديدة، وعلى إزالة تمكين نظام الإسلاميين ومحاسبته، وتكوين جيش وطني موحد.

عقب توقيع «الاتفاق الإطاري»، نُظّمت عدة ورش عمل الهدف منها إعداد الدراسات اللازمة لحل قضايا البلاد، وفقا لرؤى متوافق عليها بين أعرض تراصف وطني مدني وعسكري، شملت الاقتصاد وكيفية الحكم، وبينها «القشة التي قصمت ظهر البعير» التي هي «ورشة الإصلاح الأمني والعسكري». ولكن بعدما أكملت التوصيات قاطعها الجيش السوداني، ووافقت عليها قوات «الدعم السريع».

وكان الاتفاق النهائي مقرراً بين الجيش والمدنيين في 6 أبريل (نيسان) 2023، إلا أن الحركة الإسلامية وأنصار النظام السابق وحلفاء «انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021» الذي أطاح حكومة حمدوك، شنوا حملات ترهيب وتخويف عنيفة، حال توقيع هذا الاتفاق، وتصاعدت الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع» وبلغ التوتر ذروته بين الطرفين. وتمثلت أبرز الخلافات بشكل أساسي على سنوات إدماج «الدعم السريع» وقوات الحركات المسلحة في الجيش. ففي حين «اقترحت (الدعم السريع) إكمال العملية في غضون سنوات، أصر الجيش على إكمالها خلال أشهر. كذلك ثار خلاف عنيف على الهيكل القيادي خلال فترة الانتقال، فالجيش تمسك بأن تكون القوات بما فيها «الدعم السريع» تحت إمرة القائد العام للجيش، بينما رأى «الدعم السريع» أن تكون قيادة القوات تحت إمرة القائد الأعلى للقوات وهو «رئيس الوزراء المدني» وفقا لنصوص مشروع الاتفاق.

هجوم 15 أبريل حاولت القوى المدنية الموقعة على «الاتفاق الإطاري» إزالة التوتر بين الجيش و«الدعم السريع»، وكادت أن تتوصل إلى اتفاق، إلاّ أن الجميع فوجئوا صبيحة السبت 15 أبريل (نيسان) بقوة عسكرية تابعة للجيش تهاجم قوات «الدعم السريع» في معسكر «المدينة الرياضية» جنوبي الخرطوم. وهو الهجوم الذي تعتبره «الدعم السريع» شرارة الحرب، بينما يعتبر الجيش ومؤيدوه أن الحرب بدأت لحظة استجلاب «الدعم السريع» قوات إلى الخرطوم، ومحاصرة القاعدة الجوية في مطار مروى بشمال البلاد. وهكذا اندلعت الحرب التي لم تتوقف وأصابت البلاد بخراب شامل وكامل، وكل طرف يتهم الآخر بإشعال شرارتها.

"حميدتي" (رويترز)

كابوس إنساني

بحسب مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، خلفت الحرب «أحد أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ الحديث». وكان غريفيث قد حذر في تصريحات الأسبوع الماضي بقوله «لا تنسوا السودان، وهذه رسالتي البسيطة التي أرغب في توجيهها لكم». ووصف الأوضاع في السودان بأنها أسوأ مما هي عليه في «أوكرانيا» بقوله «عندما كنت قبل أسابيع هنا أدعو لتذكر أوكرانيا لأنها خرجت من الأخبار، لكن من الواضح أن السودان في حالة أسوأ من أوكرانيا، وهو في حاجة إلى اهتمام ورعاية كبيرين من طرفنا».

ووفق آخر إحاطات «منظمة الهجرة الدولية» (IOM) الصادرة 14 فبراير (شباط) الحالي، التي تتابع النزوح في السودان، فإن 6.217.222 فرداً نزحوا داخليا منذ اندلاع القتال منتصف أبريل الماضي، 57 في المائة منهم نزحوا من ولاية الخرطوم، و32 في المائة منهم من دارفور، والباقون من أكثر من 12 ولاية من جملة 18 ولاية.

وأفادت مصادر أخرى تتابع النزوح بأن ما يقدر بنحو 1.803.213 شخصا هاجروا إلى بلدان الجوار عبر الحدود، مثل مصر وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا، وأيضاً إلى دول خليجية، بينا ذكرت تقارير أن من بين كل 8 نازحين أو لاجئين حول العالم لاجئا سودانيا على الأقل. وأشارت «الهجرة الدولية» إلى أن انقطاع الاتصالات والإنترنت في البلاد منذ 6 فبراير (شباط) الحالي، أعاق وصول فرقها الميدانية، ولذا عجزت عن تقديم معلومات محدثة إلى مكاتبها، وكان آخر تحديث لبياناتها في 2 فبراير 2024.

من جهة ثانية، وفقا لتقارير صحافية سودانية فإن ملايين النازحين واللاجئين يعيشون ظروفا إنسانية بالغة التعقيد، فداخلياً يعوق استمرار القتال وتعنت طرفي الحرب إيصال المساعدات الإنسانية للنازحين، بينما يعاني مئات الآلاف منهم في دول الجوار أوضاعا إنسانية بالغة التعقيد. وبالفعل نقلت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لمئات اللاجئين وهم يتكدّسون في المساجد في إريتريا المجاورة، على سبيل المثال. وأفادت «الهجرة الدولية» بأن نحو 18 مليون شخص مهددون بظروف صعبة بسبب الغارات الجوية وقصف المستشفيات والسجون والمدارس وغيرها من المرافق في المناطق السكنية المكتظة، وأيضاً انتشار الأمراض الحادة، بشكل خاص الكوليرا وحمى الضنك والملاريا، في عدد من الولايات، في ظل استمرار التدهور السريع للظروف الصحية، وافتقار الملايين لمياه الشرب النظيفة، وارتفاع تكاليف الغذاء والدواء والوقود، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي.

ويقول «برنامج الأغذية العالمي» إن أجزاء كثيرة من السودان معرّضة الآن بشكل كبير «لظروف جوع كارثية» من دون مساعدات غذائية إضافية، في حين تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 25 مليون شخص، أو أكثر من نصف سكان السودان البالغ 45 مليونا، يحتاجون إلى المساعدة والحماية.

خسائر جسيمة لحقت بالمدنيين والعسكريين على السواء

> بلغ حصاد الأرواح في السودان، لتاريخه، نحو 13 ألف ضحية مدنية، وعشرات الآلاف من الجرحى الذين لا يحصل الكثيرون منهم على العلاج بسبب خراب البيئة الصحية. ولقد قتل وأصيب معظم هؤلاء بالقصف الجوي للطيران الحربي التابع للجيش، أو عن طريق القصف المدفعي العشوائي الذي يمارسه طرفا القتال، أو عن طريق الرصاص الطائش، أو أحيانا الموت تحت التعذيب في معتقلات طرفي القتال. وتذكر تقارير صحافية أن أعمال عنف وتعذيب واسعة تمارس ضد المعتقلين من المدنيين والعسكريين في معتقلات استخبارات طرفي القتال، وترجح التقارير أن عشرات الآلاف من الأسرى لدى قوات «الدعم السريع» يتعرضون لانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وعدد أقل لدى استخبارات الجيش، وعادة ما يواجه المعتقلون من الطرفين الاتهام بموالاة الطرف الآخر، والعمل ضمن استخباراته، وتمارس عليهم الضغوط والتعذيب للحصول على معلومات عنه. وذكرت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في بيان لها أن الحرب حصدت أرواح السودانيين وجعلت من الوضع الإنساني في البلاد «كارثة معقدة»، وأن الفئات الضعيفة من المجتمع «الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل» تواجه تعقيدات جمّة في الهرب من القتال وتتعرض تبعا لذلك حياتهم للخطر. أما بالنسبة للعسكريين، فمنذ اندلاع الحرب لم يكشف أي من طرفي القتال حجم خسائره البشرية، ناهيك عن خسائره المادية، ولا أحد يعلم عدد الشباب المشاركين في القتال الذين راحوا ضحية للتحشيد والتحشيد المضاد. لكن ضابطاً رفيعاً في الجيش السوداني ذكر في «فيديو» على صفحته على «فيسبوك» أكثر من 30 جنرالاً من قيادات الجيش قتلوا أو أسروا من قبل «الدعم السريع» على رأسهم المفتش العام للجيش الفريق مبارك كوتي، الذي لا يزال أسيرا منذ اليوم الأول للحرب. وذكر العميد طبيب طارق كجاب أن عدداً من كبار قادة الجيش السوداني قتلوا، بينهم ضابط برتبة فريق، وخمسة برتبة لواء (الفريق حمد عبد القيوم، قائد قوات المدرعات، واللواء أيوب عبد القادر واللواء حسن عرديب واللواء هاشم إبراهيم واللواء ياسر فضل الله، واللواء متوكل)، وما لا يقل عن 16 ضابطا برتبة عميد. ووفقا لتراتبية الجيش السوداني، فإن عدد القتلى من كبار الضباط يشير إلى عدد القتلى من صغار الضباط والجنود خلال الحرب، وهو في أقل التقديرات لا يقل عن عشرات الآلاف. أما «الدعم السريع» فلم تعلن عن عدد قتلاها، سوى كبار الضباط أو القادة، ولا توجد إحصائيات رسمية أو حتى غير رسمية توضح العدد الفعلي لقتلى هذه القوات، باستثناء ما تنشره بعض صفحات التواصل الاجتماعي الموالية لها عن مقتل قادة ومقاتلين، وما يصدر عن الجيش من أنه «قتل عددا كبيرا منهم». وكان مساعد القائد العام الفريق ياسر العطا قد ذكر في تصريحات أغسطس (آب) الماضي، ونقلتها «الشرق الأوسط» وقتها، أن الجيش قضى على 80 في المائة من قوات «الدعم السريع» التي بدأت الحرب بأكثر من مائة ألف مقاتل، وهو رقم - إن صح – يعني نهاية الحرب.

الخراب الاقتصادي والأزمة الصحية

> قال الخبير الاقتصادي ووزير المالية السوداني الأسبق إبراهيم البدوي خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، في تسجيل سمعته «الشرق الأوسط»، إن الدمار الذي شهدته البلاد سيكون ضخما جداً. وتابع أنه لولا تعثر المسار الدستوري واندلاع الحرب، كان الاقتصاد السوداني بنمو طيب جداً. ولكن بمقارنة النمو الاقتصادي في البلاد الذي كان بنسبة 4 في المائة سنوياً، وبين النمو السلبي الذي يشهده الآن، فإن خسائر الاقتصاد السوداني خلال السنوات الـ15 الماضية، تبلغ 165 بليون (مليار) دولار، أي ست مرات حجم الناتج المحلي للعام 2022. وقدّر البدوي الخسائر الفعلية للحرب بنحو 60 بليون دولار حتى الآن، مع هلاك نحو 10 في المائة من البنية التحتية الإجمالية، حتى ديسمبر الماضي. وأردف أن الاقتصاد السوداني، في حال توقف الحرب، سيكون بحاجة إلى دعم اقتصادي عاجل يتراوح بين 5 و10 بلايين دولار، بينما «استمرار الحرب سيؤدي لتدمير الاقتصاد والدولة السودانية». وفعلاً، تسببت الحرب في تعطيل التجارة والنقل والزراعة، فأوقفت حركة الاقتصاد، ودفعت الملايين إلى الاعتماد على المساعدات الخارجية، مع خراب كبير للبنى التحتية، قدرته تقارير نقلتها صحيفة «مداميك» بنحو 900 منشأة صناعية. أما على الصعيد الصحي، فقد حذرت «منظمة الصحة العالمية» يوم الأربعاء الماضي من انتشار الوبائيات الناجمة عن النزوح واللجوء، مع ضعف إمكانية الحصول على المياه والصرف الصحي والغذاء والخدمات الصحية الأساسية. وقال بيتر غراف، القائم بأعمال المنظمة في البلاد، إن الوضع في السودان بمثابة «عاصفة كاملة»، وإن «النظام الصحي لا يعمل بشكل جيد، وبرنامج تحصين الأطفال ينهار، والأمراض المعدية تنتشر». وتابع غراف أن الناس يضطرون للسير لعدة أيام للهرب من العنف والحرب، ولا يجدون إلاّ مأوى مكتظا لا تتوفر فيه المياه والصرف الصحي والغذاء والخدمة الصحية الأساسية، مضيفاً «شهدت بنفسي النزوح داخل السودان وفي تشاد المجاورة، وما رأيته مثير للقلق ومفجع». ووفقاً لتقارير صحافية سُجِّل منذ بداية الحرب أكثر من 10 آلاف إصابة بالكوليرا، و5 آلاف بالحصبة، و8 آلاف بحمى الضنك، وأكثر من 1.2 مليون حالة إصابة بالملاريا. وأوضح غراف أن 25 مليونا بحاجة لمساعدات إنسانية، بينهم 18 مليونا يواجهون الجوع الحاد، و5 ملايين بلغوا مستويات طوارئ الجوع، وتوقع «مستويات كارثية من الجوع» في مناطق الحرب، بينما يعاني 200 ألف طفل في دارفور وحدها الجوع الذي يهدد حياتهم، فيما تصطدم جهود الإغاثة الإنسانية بالعقبات البيروقراطية التي تحول دون الوصول للمحتاجين.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.