كما هو معروف، أثمرت الانتخابات الأخيرة التي أجريت في تايوان، الدولة - الجزيرة الواقعة في شرق آسيا، انتخاب الدكتور لاي تشينغ تي، المعروف كذلك باسم وليام لاي رئيساً للبلاد. ومن المقرر أن يتسلم لاي (64 سنة) منصب الرئاسة رسمياً، خلفاً للرئيسة الحالية تساي إنغ ون، التي تعذّر عليها الترشح مرة أخرى بسبب القيود القانونية على عدد فترات الولاية الرئاسية. ولقد حمل فوز الدكتور لاي - في حالة غير مسبوقة - ولاية ثالثة على التوالي للحزب التقدمي الديمقراطي، وأشاد لاي بهذا الإنجاز بعدّه «نصراً لمجتمع الديمقراطيات». وما يُذكر أن لاي، الطبيب السابق الذي تقلد تقريباً جميع المناصب السياسية الكبرى بتايوان، حصل في الانتخابات الأخيرة على أكثر من 40 في المائة من الأصوات، طبقاً لما أعلنته اللجنة المركزية للانتخابات بالبلاد. من جهة ثانية، ما يستحق الإشارة أن عدد سكان تايوان يقدر بنحو 23 مليون نسمة. وعلى الصعيد الجغرافي تقابلها الصين غرباً في البر الآسيوي، وأرخبيل اليابان من الشمال الشرقي، وأرخبيل الفلبين من الجنوب. وتطالب الصين بأحقية سيادتها على تايوان، إذ تعد الدولة - الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من «الوطن الصيني» الواحد الكبير، بحجة أنها كانت تحت حكم الأباطرة الصينيين إلى أن استعمرتها اليابان بين عام 1895 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 إلى 1945).
بخلاف معظم أفراد النخبة السياسية في تايوان، ينتمي الدكتور لاي تشينغ - تي إلى أصول متواضعة. فقد ولد لاي عام 1959 ونشأ فقيراً في قرية يعمل أهلها باستخراج الفحم في شمال تايوان. ولقي والده، الذي كان عامل منجم، حتفه جراء كارثة وقعت بالمنجم قبل أن يتجاوز ابنه الطفل عمر السنتين من عمره. وبالتالي، تولت أمه مسؤولية تربيته مع خمسة أشقاء آخرين بمفردها في قريتهم الريفية الواقعة على أطراف مدينة تايبيه الجديدة (عاصمة تايوان).
وحول خلفية الرئيس الجديد، قال البروفسور سريكانث كوندابالي، عميد كلية الدراسات الدولية بجامعة جواهر لال نهرو الهندية «يرتبط لاي بعلاقة قوية للغاية بوالدته، ويعي حجم المشقة التي واجهتها لأنها اضطرت إلى تربية ستة أطفال بينما كانت تعيش في منزل صغير بجوار المناجم». وتابع شارحاً أن ميل لاي إلى المثابرة ينبع من البيئة التي نشأ فيها. ذلك أنه بعد حصوله على درجة البكالوريوس من كلية الطب وإعادة التأهيل بجامعة تايوان الوطنية، أكمل دراساته العليا فانخرط ببرنامج ما بعد البكالوريوس في العلوم الطبية بجامعة تشينغ كونغ الوطنية. وبعد ذلك، نال درجة الماجستير في الصحة العامة من جامعة هارفارد الشهيرة في الولايات المتحدة، ما جعله واحداً من الأطباء القلائل على مستوى تايوان الذين يتمتعون بخبرة في مجالات إعادة التأهيل والرعاية السريرية والصحة العامة.
خوض المجال السياسي
عندما أنهت تايوان ما يقرب من 40 سنة من الأحكام العرفية في أواخر الثمانينات وشرعت في تنفيذ إصلاحات سياسية، تخلّى لاي تشينغ تي عن ممارسة الطب والصحة العامة من أجل التفرّغ للعمل السياسي. ونشير هنا إلى أنه، عام 1994، عندما كان لا يزال طبيباً مقيماً في مستشفى جامعة تشينغ كونغ الوطنية، وكانت تايوان تجري أول انتخابات مباشرة لمنصب حاكم مقاطعة تايوان السابقة (ما عادت موجودة رسمياً)، باشر مشاركاته في مجالات الشأن السياسي، داعماً تشن تينغ نان، مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي لمنصب الحاكم.
خلال «أزمة مضيق تايوان» عام 1996، قرّر الدكتور لاي محاكاة أسلافه في السعي لتحقيق الديمقراطية في الدولة - الجزيرة بمواجهة مطالبات السلطات الصينية في بكين. وبالفعل، تخلى عن مسيرته الطبية ودخل معترك السياسة. وفي أثناء الانتخابات البرلمانية ذلك العام، استحوذ لاي على العدد الأكبر من الأصوات في مدينة تاينان الكبيرة بجنوب غربي البلاد، وانطلق في مهمة تاريخية لإلغاء البرلمان، الذي كان يطلق عليه في حينه «الجمعية الوطنية». ثم إنه كتب في مقال رأي لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، خلال يوليو (تموز) الماضي: «جاءت اللحظة الحاسمة لي، عندما هدّدت المغامرات العسكرية الصينية شواطئنا بتدريبات الذخيرة الحية والصواريخ. حينذاك، قرّرت أنه من واجبي المشاركة في ديمقراطية تايوان، والمساعدة في حماية هذه التجربة الوليدة ممن يتربصون بها».
انتخب دكتور لاي للمرة الأولى نائباً في البرلمان التايواني عام 1998، ثم تولّى منصب عمدة مدينة تاينان عام 2010. ومن ثم، شغل منصب رئيس وزراء تايوان - الذي يعمل بمثابة المستشار الرئيسي لرئيس الجمهورية - ورئيس الحكومة المركزية - من 2017 إلى 2019. وبعدها، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أعيد انتخاب لاي نائباً للرئيس. وفي الوقت نفسه، أعيد انتخاب الرئيسة تساي إنغ ون رئيسة للجمهورية للمرة الثانية.
«الاستقلاليون» ضد «الوطنيين»
سياسياً، يحظى لاي تشينغ تي بقبول كبير بين مؤيدي الاستقلال المتشدّدين – المعارضين بقوة لفكر حزب «الكومينتانغ» (الحزب الوطني)، الذي يؤمن بالوحدة الصينية، ولكن بعد إسقاط الشيوعية فيها - بينما كان يتمتع في الماضي بشعبية واسعة بين الناخبين الوسطيين.
وبناءً عليه، بسبب تحمّس الرئيس المنتخب لفكرة الاستقلال، لا تثق السلطات الصينية بآرائه ولا بسياساته. وهو، وإن كان وصف نفسه ذات مرة بأنه «عامل من أجل استقلال تايوان»، فقد سبق له أن وعد بالالتزام بالمقولة الدقيقة التي طرحتها سلفته الرئيسة الحالية تساي «بما أن تايوان مستقلة فعلياً فهي ليست بحاجة إلى المزيد من الإعلانات». وفي هذا السياق، أعرب المحلل السياسي الهندي ماكاركاند بارانجبايي عن اعتقاده أن لاي، الذي يخلف الرئيسة رسمياً خلال الربيع المقبل: «سيواصل على الأرجح اعتماد موقف الرئيسة تساي المعتدل ولكن المبدئي أيضاً... المتمثل في رفض فكرة أن تايوان جزء من الوطن الصيني».
من جهة أخرى، ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان، مع أن فوز الرئيس المنتخب يؤكد مجدداً عبر صناديق الاقتراعات أن غالبية سكان الدولة - الجزيرة يعدون أنفسهم تايوانيين لا صينيين. وفي الخطاب الذي ألقاه لاي بمناسبة فوزه الانتخابي، عدّ النتيجة «انتصاراً لمجتمع الديمقراطيات»، كما أثنى على الناخبين لإحباطهم محاولات «قوى خارجية» التأثير على الانتخابات.
على صعيد آخر، لعب الرئيس التايواني المنتخب في وقت سابق من حياته السياسية، دوراً بارزاً في توسيع صناعة الرقائق العالية التقنية في تايوان، ما ساعد الجزيرة على الازدهار ورفع مكانتها العالمية. كذلك فإنه في أثناء فترة توليه منصب عمدة مدينة تاينان، كان أحد أهم منجزاته الكبرى بناء مصنع جديد لشركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات داخل مجمع تصنيع محلي. والواقع أن لاي عبر كل المواقع والمناصب التي شغلها، على المستويين المحلي والمركزي من الحكومة - بما في ذلك السلطة التشريعية - أثبت أنه على الرغم من هدوئه ولطفه، قادر على اتخاذ مواقف قوية حاسمة. من ذلك أنه في عام 2005 اشتبك مع أحد نواب «الكومينتانغ» داخل المجلس التشريعي، بعد مقاطعة الحزب ميزانية شراء الأسلحة بشكل متكرّر. كذلك ظهر في مقطع فيديو وهو يهاجم النائب ويصرخ: «أنتم تدمّرون الوطن». ولم يجر إقرار سوى جزء صغير من الموازنة التي تزيد قيمتها على 15 مليار دولار خلال السنوات التالية مباشرة. وأيضاً من مؤشرات نجاحه وقدراته أن انتخابه رئيساً يشكّل للمرة الأولى في تاريخ تايوان حصول حزب سياسي واحد على ثلاث فترات رئاسية متتالية.
أكثر من هذا، من المحطات اللافتة التي تعكس حقيقة شخصيته القوية - التي يصفها البعض بالعنيدة - تحديه الرئيسة تساي للمشاركة بالانتخابات السابقة، وكان ذلك خطوة مفاجئة صدمت كثرة من المراقبين الذين عدوها «تمرداً». وفي هذا الشأن، قال تشين جيه هونغ، الذي درّس لاي عندما كان يعمل في مستشفى في تاينان قبل ثلاثة عقود، إن «ما كان يقلقه في ذلك الوقت هو ما إذا كان الحزب الديمقراطي التقدمي سيخسر الانتخابات الرئاسية لعام 2020»... ولكن تساي فازت في تلك الانتخابات بغالبية ساحقة.
الحدود الممكنة للمواجهة
خلال السنوات الأخيرة بنى لاي تشينغ تي سمعته السياسية - ورصيده الشعبي - على دفاعه القوي عن فكرة تايوان المستقلة. ولم يفت هذا الأمر سلطات بكين التي لم تتردد في اتهامه بأنه «محرض على الحرب». والواضح إذن أن تولي لاي الدفة في تايوان أمر لا يروق للقيادة الصينية التي ترى فيه «انفصالياً» متشدداً. ويذهب مراقبون أبعد من ذلك، ليقولوا إن بكين ترى أنه بسبب إيمانه المطلق بـ«سيادة تايوان المستقلة» يحمل «خطراً شديداً» على العلاقات بين الصين وتايوان عبر «مضيق تايوان».
وحقاً، لا ينسى القادة الصينيون أن لاي إبان شغله منصب رئيس الوزراء كان أكثر صراحة ومباشرة من تساي بخصوص قضية الاستقلال. وهنا، يقول مراقبون إن هذه القضية باتت تثير قلق كبار الحلفاء؛ مثل الولايات المتحدة - المورِّد الرئيسي للأسلحة لتايوان - بخصوص كيفية تعامل الرئيس المنتخب مع العملاق الصيني. ولهذا لا يستغرب متابعو هذا الملف الحساس أنه من نواحٍ عديدة، أن يكون خطاب بكين تجاه لاي أكثر تشدداً وعدائية منه إلى خطابها تجاه الرئيسة تساي. والحال، أن الحكومة الصينية - ووسائل الإعلام الرسمية الصينية على حد سواء - تتعمد في مختلف المناسبات «توبيخ» لاي، ووصفه بـ«الانفصالي الخطير» و«مثير المشكلات»، و«صانع الحرب»، وترفض عروضه المتكرّرة لعقد مباحثات.
الحياة الشخصية
على الصعيد الشخصي، الرئيس المنتخب متزوج من وو مي جو منذ عام 1986. ورزق الزوجان بولدين، إلا أن زوجته حرصت على البقاء بعيداً عن الأضواء، حتى بعدما اقتحم لاي معترك السياسة في تسعينات القرن الماضي. ووفق تقارير أوردتها وسائل إعلام محلية، تقدمت وو بطلب للانتقال من مكتب شركة الطاقة التايوانية في تاينان إلى محطة هسينتا للطاقة في كاوشيونغ، بعد انتخاب زوجها عمدة لمدينة تاينان عام 2010 تجنباً لأي تضارب مصالح قد يحصل. وفي المقابل، على الرغم من حرص وو على التدخل بعمل لاي، فإنها ظلت حريصة على مرافقته ودعمه منذ التقيا إبان مرحلة الدراسة الجامعية. كما أنها عبرت وتعبر دائماً عن اعتزازها بمسيرة زوجها وما حققه. ثم إنها وإن كانت قد وصفته ذات يوم بأنه شخص «ليس رومانسياً كثيراً»، فهي تراه في المقابل «جديراً بالثقة» ويتمتع «بإحساس قوي بالمسؤولية... ولن يأبه لشيء عندما يتعلق الأمر بحماية الناس».
أخيراً، من شريط ذكريات الرئيس التايواني المنتخب، قوله خلال فعالية شارك بها في مارس (آذار) من العام الماضي: «كنت صغيراً للغاية على نحو يجعلني عاجزاً عن تذكر أبي، لكنني أدركت فجأة أن أكبر الأصول التي تركها لي أن عائلتي كانت فقيرة». واستطرد «عندما تنشأ في مثل هذه الأسرة، تصبح أكثر نضجاً، وتملك مزيداً من قوة الإرادة والشجاعة، ما يعينك على تجاوز الصعوبات». واختتم بالقول «أيضاً راودني اعتقاد بأنه في هذه الحياة، إذا تمكنت من العثور على مشروع يجعلني أشعر بالشغف للشروع فيه، فستكون لي حياة تستحق أن تعاش حقاً». ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان