رئيس تايوان الجديد لاي تشينغ تي... «استقلالي» يُقلِق الصين من دفعه «الدولة ــ الجزيرة»

وسط تخوّف دولي من تزايد التوتر الإقليمي

ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان
ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان
TT

رئيس تايوان الجديد لاي تشينغ تي... «استقلالي» يُقلِق الصين من دفعه «الدولة ــ الجزيرة»

ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان
ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان

كما هو معروف، أثمرت الانتخابات الأخيرة التي أجريت في تايوان، الدولة - الجزيرة الواقعة في شرق آسيا، انتخاب الدكتور لاي تشينغ تي، المعروف كذلك باسم وليام لاي رئيساً للبلاد. ومن المقرر أن يتسلم لاي (64 سنة) منصب الرئاسة رسمياً، خلفاً للرئيسة الحالية تساي إنغ ون، التي تعذّر عليها الترشح مرة أخرى بسبب القيود القانونية على عدد فترات الولاية الرئاسية. ولقد حمل فوز الدكتور لاي - في حالة غير مسبوقة - ولاية ثالثة على التوالي للحزب التقدمي الديمقراطي، وأشاد لاي بهذا الإنجاز بعدّه «نصراً لمجتمع الديمقراطيات». وما يُذكر أن لاي، الطبيب السابق الذي تقلد تقريباً جميع المناصب السياسية الكبرى بتايوان، حصل في الانتخابات الأخيرة على أكثر من 40 في المائة من الأصوات، طبقاً لما أعلنته اللجنة المركزية للانتخابات بالبلاد. من جهة ثانية، ما يستحق الإشارة أن عدد سكان تايوان يقدر بنحو 23 مليون نسمة. وعلى الصعيد الجغرافي تقابلها الصين غرباً في البر الآسيوي، وأرخبيل اليابان من الشمال الشرقي، وأرخبيل الفلبين من الجنوب. وتطالب الصين بأحقية سيادتها على تايوان، إذ تعد الدولة - الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من «الوطن الصيني» الواحد الكبير، بحجة أنها كانت تحت حكم الأباطرة الصينيين إلى أن استعمرتها اليابان بين عام 1895 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 إلى 1945).

بخلاف معظم أفراد النخبة السياسية في تايوان، ينتمي الدكتور لاي تشينغ - تي إلى أصول متواضعة. فقد ولد لاي عام 1959 ونشأ فقيراً في قرية يعمل أهلها باستخراج الفحم في شمال تايوان. ولقي والده، الذي كان عامل منجم، حتفه جراء كارثة وقعت بالمنجم قبل أن يتجاوز ابنه الطفل عمر السنتين من عمره. وبالتالي، تولت أمه مسؤولية تربيته مع خمسة أشقاء آخرين بمفردها في قريتهم الريفية الواقعة على أطراف مدينة تايبيه الجديدة (عاصمة تايوان).

وحول خلفية الرئيس الجديد، قال البروفسور سريكانث كوندابالي، عميد كلية الدراسات الدولية بجامعة جواهر لال نهرو الهندية «يرتبط لاي بعلاقة قوية للغاية بوالدته، ويعي حجم المشقة التي واجهتها لأنها اضطرت إلى تربية ستة أطفال بينما كانت تعيش في منزل صغير بجوار المناجم». وتابع شارحاً أن ميل لاي إلى المثابرة ينبع من البيئة التي نشأ فيها. ذلك أنه بعد حصوله على درجة البكالوريوس من كلية الطب وإعادة التأهيل بجامعة تايوان الوطنية، أكمل دراساته العليا فانخرط ببرنامج ما بعد البكالوريوس في العلوم الطبية بجامعة تشينغ كونغ الوطنية. وبعد ذلك، نال درجة الماجستير في الصحة العامة من جامعة هارفارد الشهيرة في الولايات المتحدة، ما جعله واحداً من الأطباء القلائل على مستوى تايوان الذين يتمتعون بخبرة في مجالات إعادة التأهيل والرعاية السريرية والصحة العامة.

خوض المجال السياسي

عندما أنهت تايوان ما يقرب من 40 سنة من الأحكام العرفية في أواخر الثمانينات وشرعت في تنفيذ إصلاحات سياسية، تخلّى لاي تشينغ تي عن ممارسة الطب والصحة العامة من أجل التفرّغ للعمل السياسي. ونشير هنا إلى أنه، عام 1994، عندما كان لا يزال طبيباً مقيماً في مستشفى جامعة تشينغ كونغ الوطنية، وكانت تايوان تجري أول انتخابات مباشرة لمنصب حاكم مقاطعة تايوان السابقة (ما عادت موجودة رسمياً)، باشر مشاركاته في مجالات الشأن السياسي، داعماً تشن تينغ نان، مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي لمنصب الحاكم.

خلال «أزمة مضيق تايوان» عام 1996، قرّر الدكتور لاي محاكاة أسلافه في السعي لتحقيق الديمقراطية في الدولة - الجزيرة بمواجهة مطالبات السلطات الصينية في بكين. وبالفعل، تخلى عن مسيرته الطبية ودخل معترك السياسة. وفي أثناء الانتخابات البرلمانية ذلك العام، استحوذ لاي على العدد الأكبر من الأصوات في مدينة تاينان الكبيرة بجنوب غربي البلاد، وانطلق في مهمة تاريخية لإلغاء البرلمان، الذي كان يطلق عليه في حينه «الجمعية الوطنية». ثم إنه كتب في مقال رأي لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، خلال يوليو (تموز) الماضي: «جاءت اللحظة الحاسمة لي، عندما هدّدت المغامرات العسكرية الصينية شواطئنا بتدريبات الذخيرة الحية والصواريخ. حينذاك، قرّرت أنه من واجبي المشاركة في ديمقراطية تايوان، والمساعدة في حماية هذه التجربة الوليدة ممن يتربصون بها».

انتخب دكتور لاي للمرة الأولى نائباً في البرلمان التايواني عام 1998، ثم تولّى منصب عمدة مدينة تاينان عام 2010. ومن ثم، شغل منصب رئيس وزراء تايوان - الذي يعمل بمثابة المستشار الرئيسي لرئيس الجمهورية - ورئيس الحكومة المركزية - من 2017 إلى 2019. وبعدها، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أعيد انتخاب لاي نائباً للرئيس. وفي الوقت نفسه، أعيد انتخاب الرئيسة تساي إنغ ون رئيسة للجمهورية للمرة الثانية.

«الاستقلاليون» ضد «الوطنيين»

سياسياً، يحظى لاي تشينغ تي بقبول كبير بين مؤيدي الاستقلال المتشدّدين – المعارضين بقوة لفكر حزب «الكومينتانغ» (الحزب الوطني)، الذي يؤمن بالوحدة الصينية، ولكن بعد إسقاط الشيوعية فيها - بينما كان يتمتع في الماضي بشعبية واسعة بين الناخبين الوسطيين.

وبناءً عليه، بسبب تحمّس الرئيس المنتخب لفكرة الاستقلال، لا تثق السلطات الصينية بآرائه ولا بسياساته. وهو، وإن كان وصف نفسه ذات مرة بأنه «عامل من أجل استقلال تايوان»، فقد سبق له أن وعد بالالتزام بالمقولة الدقيقة التي طرحتها سلفته الرئيسة الحالية تساي «بما أن تايوان مستقلة فعلياً فهي ليست بحاجة إلى المزيد من الإعلانات». وفي هذا السياق، أعرب المحلل السياسي الهندي ماكاركاند بارانجبايي عن اعتقاده أن لاي، الذي يخلف الرئيسة رسمياً خلال الربيع المقبل: «سيواصل على الأرجح اعتماد موقف الرئيسة تساي المعتدل ولكن المبدئي أيضاً... المتمثل في رفض فكرة أن تايوان جزء من الوطن الصيني».

من جهة أخرى، ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان، مع أن فوز الرئيس المنتخب يؤكد مجدداً عبر صناديق الاقتراعات أن غالبية سكان الدولة - الجزيرة يعدون أنفسهم تايوانيين لا صينيين. وفي الخطاب الذي ألقاه لاي بمناسبة فوزه الانتخابي، عدّ النتيجة «انتصاراً لمجتمع الديمقراطيات»، كما أثنى على الناخبين لإحباطهم محاولات «قوى خارجية» التأثير على الانتخابات.

على صعيد آخر، لعب الرئيس التايواني المنتخب في وقت سابق من حياته السياسية، دوراً بارزاً في توسيع صناعة الرقائق العالية التقنية في تايوان، ما ساعد الجزيرة على الازدهار ورفع مكانتها العالمية. كذلك فإنه في أثناء فترة توليه منصب عمدة مدينة تاينان، كان أحد أهم منجزاته الكبرى بناء مصنع جديد لشركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات داخل مجمع تصنيع محلي. والواقع أن لاي عبر كل المواقع والمناصب التي شغلها، على المستويين المحلي والمركزي من الحكومة - بما في ذلك السلطة التشريعية - أثبت أنه على الرغم من هدوئه ولطفه، قادر على اتخاذ مواقف قوية حاسمة. من ذلك أنه في عام 2005 اشتبك مع أحد نواب «الكومينتانغ» داخل المجلس التشريعي، بعد مقاطعة الحزب ميزانية شراء الأسلحة بشكل متكرّر. كذلك ظهر في مقطع فيديو وهو يهاجم النائب ويصرخ: «أنتم تدمّرون الوطن». ولم يجر إقرار سوى جزء صغير من الموازنة التي تزيد قيمتها على 15 مليار دولار خلال السنوات التالية مباشرة. وأيضاً من مؤشرات نجاحه وقدراته أن انتخابه رئيساً يشكّل للمرة الأولى في تاريخ تايوان حصول حزب سياسي واحد على ثلاث فترات رئاسية متتالية.

أكثر من هذا، من المحطات اللافتة التي تعكس حقيقة شخصيته القوية - التي يصفها البعض بالعنيدة - تحديه الرئيسة تساي للمشاركة بالانتخابات السابقة، وكان ذلك خطوة مفاجئة صدمت كثرة من المراقبين الذين عدوها «تمرداً». وفي هذا الشأن، قال تشين جيه هونغ، الذي درّس لاي عندما كان يعمل في مستشفى في تاينان قبل ثلاثة عقود، إن «ما كان يقلقه في ذلك الوقت هو ما إذا كان الحزب الديمقراطي التقدمي سيخسر الانتخابات الرئاسية لعام 2020»... ولكن تساي فازت في تلك الانتخابات بغالبية ساحقة.

الحدود الممكنة للمواجهة

خلال السنوات الأخيرة بنى لاي تشينغ تي سمعته السياسية - ورصيده الشعبي - على دفاعه القوي عن فكرة تايوان المستقلة. ولم يفت هذا الأمر سلطات بكين التي لم تتردد في اتهامه بأنه «محرض على الحرب». والواضح إذن أن تولي لاي الدفة في تايوان أمر لا يروق للقيادة الصينية التي ترى فيه «انفصالياً» متشدداً. ويذهب مراقبون أبعد من ذلك، ليقولوا إن بكين ترى أنه بسبب إيمانه المطلق بـ«سيادة تايوان المستقلة» يحمل «خطراً شديداً» على العلاقات بين الصين وتايوان عبر «مضيق تايوان».

وحقاً، لا ينسى القادة الصينيون أن لاي إبان شغله منصب رئيس الوزراء كان أكثر صراحة ومباشرة من تساي بخصوص قضية الاستقلال. وهنا، يقول مراقبون إن هذه القضية باتت تثير قلق كبار الحلفاء؛ مثل الولايات المتحدة - المورِّد الرئيسي للأسلحة لتايوان - بخصوص كيفية تعامل الرئيس المنتخب مع العملاق الصيني. ولهذا لا يستغرب متابعو هذا الملف الحساس أنه من نواحٍ عديدة، أن يكون خطاب بكين تجاه لاي أكثر تشدداً وعدائية منه إلى خطابها تجاه الرئيسة تساي. والحال، أن الحكومة الصينية - ووسائل الإعلام الرسمية الصينية على حد سواء - تتعمد في مختلف المناسبات «توبيخ» لاي، ووصفه بـ«الانفصالي الخطير» و«مثير المشكلات»، و«صانع الحرب»، وترفض عروضه المتكرّرة لعقد مباحثات.

الحياة الشخصية

على الصعيد الشخصي، الرئيس المنتخب متزوج من وو مي جو منذ عام 1986. ورزق الزوجان بولدين، إلا أن زوجته حرصت على البقاء بعيداً عن الأضواء، حتى بعدما اقتحم لاي معترك السياسة في تسعينات القرن الماضي. ووفق تقارير أوردتها وسائل إعلام محلية، تقدمت وو بطلب للانتقال من مكتب شركة الطاقة التايوانية في تاينان إلى محطة هسينتا للطاقة في كاوشيونغ، بعد انتخاب زوجها عمدة لمدينة تاينان عام 2010 تجنباً لأي تضارب مصالح قد يحصل. وفي المقابل، على الرغم من حرص وو على التدخل بعمل لاي، فإنها ظلت حريصة على مرافقته ودعمه منذ التقيا إبان مرحلة الدراسة الجامعية. كما أنها عبرت وتعبر دائماً عن اعتزازها بمسيرة زوجها وما حققه. ثم إنها وإن كانت قد وصفته ذات يوم بأنه شخص «ليس رومانسياً كثيراً»، فهي تراه في المقابل «جديراً بالثقة» ويتمتع «بإحساس قوي بالمسؤولية... ولن يأبه لشيء عندما يتعلق الأمر بحماية الناس».

أخيراً، من شريط ذكريات الرئيس التايواني المنتخب، قوله خلال فعالية شارك بها في مارس (آذار) من العام الماضي: «كنت صغيراً للغاية على نحو يجعلني عاجزاً عن تذكر أبي، لكنني أدركت فجأة أن أكبر الأصول التي تركها لي أن عائلتي كانت فقيرة». واستطرد «عندما تنشأ في مثل هذه الأسرة، تصبح أكثر نضجاً، وتملك مزيداً من قوة الإرادة والشجاعة، ما يعينك على تجاوز الصعوبات». واختتم بالقول «أيضاً راودني اعتقاد بأنه في هذه الحياة، إذا تمكنت من العثور على مشروع يجعلني أشعر بالشغف للشروع فيه، فستكون لي حياة تستحق أن تعاش حقاً». ردّت بكين على فوز لاي بزيادة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية، بالإضافة إلى محاولة فرض عزلة دولية على تايوان


مقالات ذات صلة

حاكم تكساس الأميركية يأمر أجهزة الولاية بوقف الاستثمار في الصين

الولايات المتحدة​ حاكم ولاية تكساس غريغ أبوت يتحدث خلال فعالية (رويترز-أرشيفية)

حاكم تكساس الأميركية يأمر أجهزة الولاية بوقف الاستثمار في الصين

أمر حاكم ولاية تكساس الأميركية الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري غريغ أبوت، الأجهزة المعنية بوقف استثمار أموال الولاية في الصين، وبيع هذه الاستثمارات في أقرب فرصة.

«الشرق الأوسط» (أوستن (تكساس))
شؤون إقليمية مدخل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في 3 مارس 2011 (رويترز)

الصين تدعو «الجنائية الدولية» لاتخاذ موقف «موضوعي» بشأن مذكرة توقيف نتنياهو

دعت الصين، اليوم (الجمعة)، المحكمة الجنائية الدولية إلى الحفاظ على «موقف موضوعي وعادل» بعدما أصدرت مذكرة توقيف في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.

«الشرق الأوسط» (بكين)
أوروبا لين جيان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية (موقع الخارجية الصينية)

الصين تدعو إلى «الهدوء» بعد توسيع بوتين إمكانية استخدام الأسلحة النووية

دعت الصين، الأربعاء، إلى «الهدوء» و«ضبط النفس»، غداة إصدار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يوسع إمكانية استخدام الأسلحة النووية.

«الشرق الأوسط» (بكين)
الخليج م. وليد الخريجي ترأس الجانب السعودي في الجولة الثانية من المشاورات السياسية مع «الخارجية الصينية» (واس)

مشاورات سعودية – صينية تعزز التنسيق المشترك

بحثت الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارتي الخارجية السعودية والصينية في الرياض، الاثنين، تطوير العلاقات الثنائية، وأهمية تعزيز التنسيق المشترك.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
آسيا تقديم المساعدة لضحية بعد اصطدام سيارة خارج مدرسة ابتدائية في مقاطعة هونان بالصين (رويترز) play-circle 00:35

سيارة تصدم عدداً كبيراً من الأطفال أمام مدرسة بوسط الصين (فيديو)

ذكرت وسائل إعلام رسمية اليوم (الثلاثاء) أن عدداً كبيراً من الأطفال أصيبوا عندما صدمتهم مركبة عند بوابة مدرسة في وسط الصين.

«الشرق الأوسط» (بكين )

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».