غبريال أتّال... الوزير الأول الأصغر سناً في تاريخ فرنسا

قانون حظر العباءة أهم «إنجازاته»

غبريال أتّال... الوزير الأول الأصغر سناً في تاريخ فرنسا
TT

غبريال أتّال... الوزير الأول الأصغر سناً في تاريخ فرنسا

غبريال أتّال... الوزير الأول الأصغر سناً في تاريخ فرنسا

«أصغر رئيس جمهورية في تاريخ الجمهورية يُعيّن أصغر وزير أول في تاريخ الجمهورية». هذه الجملة التي تفّوه بها غبريال أتّال، وزير التربية السابق والوزير الأول الجديد في فرنسا، على أثر مراسم حفل تسلُّم مهامّه الجديدة، تحمل دلالات قوية. الصعود المبهر والسريع للوزير الأول جاء ليُذكّر الفرنسيين بخلفية الرئيس إيمانويل ماكرون في بداياته، فهو يتمتّع بحماس الشباب والطموح الجامح والشعبية الواسعة، حتى لقّبه البعض بـ«ماكرون الجديد». ولقد جاء تعيين أتّال خلفاً لإليزابيث بورن التي قدَّمت استقالتها للرئيس - أو بالأحرى أُقيلت - على أثر تراجع شعبيّتها بشكل واضح، وفي سياق سياسي خاص اتسم بعجز حزب الرئيس ماكرون عن الحصول على الغالبية، واللجوء إلى تحالفات مع اليمين واليمين المتطرف، من أجل المصادقة على قوانين مهمة أُثير حولها كثير من الجدل. ويضاف إلى كل هذا التوقعات بنجاح ساحق لقائمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية المقبلة بقيادة السياسي الشاب جوردان برديلا، الأمر الذي سيُضعف أكثر موقف الحكومة الحالية ويجعل العهدة الثانية والأخيرة لماكرون البوابة التي ستفتح الطريق نحو وصول اليمين المتطرف إلى سُدة الحكم.

جاء الوزير الأول الفرنسي، الأصغر سناً في التاريخ، غبريال أتال (34 سنة) ليحطّم الرقم القياسي لأصغر رؤساء الحكومة سناً في فرنسا، الذي كان سابقاً بحوزة لوران فابيوس، إذ وصل الأخير إلى قصر ماتينيون؛ أي قصر الرئاسة، عام 1984 وهو يبلغ من العمر 38 سنة. كذلك كان أتّال أيضاً أصغر عضو في الحكومة حين تَقّلد منصب وزير منتدب بديوان وزارة التربية والتعليم (وهو المنصب رقم اثنين بعد الوزير) عام 2018 وهو لا يتعدّى 29 سنة.

الصحافة الفرنسية نقلت شغف الوزير الأول المبكّر بالسياسة، وكانت أول مناسبة احتكّ فيها بالسياسة حين شارك مع والديه، وهو في سن الثانية عشرة من عمره، في مسيرة احتجاجية على أثر وصول جان ماري لوبان، زعيم اليمين المتطرف، إلى الدور الثاني من الرئاسيات عام 2002. بعدها انخرط أتّال في أوساط الحزب الاشتراكي، أوائل عام 2006، ولمّا يتجاوز سن السابعة عشرة لدعم المرشحة السابقة للرئاسيات، سيغولان رويال، وكان أحد الأعضاء البارزين إلى جانب توماس هولاند؛ ابن السيدة رويال في جمعية «ديزير دافونير»، التي أُسّست في حينه لدعم ترشح الوزيرة السابقة، وكان مَثَله الأعلى في السياسة وزير الاقتصاد ورئيس «صندوق النقد الدولي» السابق دومنيك ستروس-كان.

انطلاقة مبكّرةبعد تخرّج أتّال في معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية بباريس عام 2012، اضطلع بأولى مهامّه السياسية، حين عُيّن مساعداً لوزيرة الصحة السابقة، ماري سول، وكان مكلَّفاً بتحرير خطاباتها الرسمية. إلا أنه في عام 2016 قرّر ترك صفوف الحزب الاشتراكي، والالتحاق بإيمانويل ماكرون الذي كان قد أسّس آنذاك تشكيلته السياسية «أون مارش (أو «إلى الأمام») لخوض المعركة الانتخابية، وأصبح، منذ ذلك الوقت، أحد أقرب المقرّبين للرئيس ماكرون، حتى لُقّب بـ«أوائل جيل المشاة»؛ نسبة للحاشية المقرَّبة من ماكرون وأبرز الأعضاء الذين أسهموا في تأسيس حزبه «إلى الأمام» (حالياً الـ«رونيسانس» أي «النهضة» أو «البعث»).

ولكسب الشرعية السياسية، ومزيد من الخبرة الميدانية، دخل غبريال أتّال في السنة التالية معترك الانتخابات التشريعية ليغدو نائباً عن منطقة أو دو سان في ضواحي العاصمة عام 2017، كذلك شغل منصب الناطق الرسمي للحكومة مرتين؛ الأولى في حكومة إدوارد فيليب عام 2018، والثانية في حكومة جان كاستيكس عام 2020. ويومذاك، اختير تقديراً لمهاراته في التواصل والخطاب وتعامله السلِس مع وسائل الإعلام، وبالأخص إبّان فترة انتشار جائحة «كوفيد-19»، ما أسهم في اتساع شهرته عند الرأي العام.

نحو وزارة التربيةأتال شغل أيضاً منصب وزير منتدب بوزارة التربية والتعليم والشباب بين 2018 و2020، ثم منصب وزير منتدب مكلَّف بالحسابات العامة بين 2022 و2023، إلى أن عُيّن وزيراً للتربية والتعليم، خلال يوليو (تموز) 2023، ومع أنه لم يمكث في هذا المنصب سوى ستة أشهر، تمكّن أتّال من لفت الانتباه إليه للهجته الحازمة ومواقفه اليمينية المتشددة كفرض قانون حظر لبس العباءة، ومحاربة التنمّر في المدارس، مُرفقاً تصريحاته بضجيج إعلامي كبير. وقد أسهم هذا الأمر أيضاً في سطوع نجمه، ووصوله إلى نسب قياسية من الشعبية في بلد أضحت غالبية ناخبيه تميل إلى اليمين.

وفي حوار مع صحيفة «لوبوان»، قال الصحافي الكاتب باتريس دوهاميل، مؤلف كتاب «القط والثعلب» (دار نشر لوبسرفاتوار) الذي يتناول علاقة رؤساء فرنسا بوزرائهم الأولين، ما يلي: «علاقة ماكرون بأتال تُذكِّر بالثنائي (فرنسوا) ميتران - (لوران) فابيوس، إذ كان لوران فابيوس آنذاك وزيراً أول شابّاً وقليل الخبرة، وهو كذلك عُيّن في عِزّ أزمة سياسية شديدة بعد سحب قانون «سافاري» حول المدارس الخاصة، أما الفارق فهو أن سلفه (الوزير الأول في حينه) بيار موروا كان يريد الاستقالة، بينما لم تغادر إليزابيث بورن المنصب بملء اختيارها ووفق رغبتها. على أي حال، وفق المعايير المعتادة لاختيار الوزير الأول منذ تأسيس الجمهورية، فإن غبريال أتّال يوافق كل المواصفات المطلوبة. إذ بينه وبين الرئيس ماكرون ثقة كبيرة، كما أن الولاء الذي أظهره للرئيس أمر لا جدال فيه، وإذا رجعنا لمبادئ الأيديولوجية «الماكرونية»، فإن الوزير الأول الجديد هو دون أدنى شك الأكثر انسجاماً مع «فكر» ماكرون من كل نُزلاء ماتينيون الأربعة السابقين. بَيْد أن السؤال المهم - يواصل دوهاميل - هو: هل سيترك ماكرون لغبريال أتّال المساحة الكافية ليحقق ذاته سياسياً؟ وكيف سيُصار إلى الفصل بين مهامّ الاثنين، فالمعروف عن الرئيس الفرنسي أنه يريد التحكم في كل صغيرة وكبيرة، ولا يحبُّ المنافسين؟»

وسط برجوازي وهجوم المعارضة

وُلد غبريال أتّال وترعرع وسط عائلة برجوازية غنية، فوالده إيف أتّال محامٍ ومُنتج سينمائي من أصول يهودية تونسية، أنتج أفلاماً نالت نجاحاً عالمياً كفيلم «الكعب العالي» لبيدرو ألمودوفار عام 1991، و«الوحش» لروبرتو بينيني عام 1994، و«الجمال المسروق» لبرناردو برتولوتشي عام 1996، أما والدته ماري دو كوريس فهي كاتبة سيناريو ومُنتجة من أصول مسيحية أرثوذوكسية روسية. وقد تفسِّر هذه الخلفية ميل غبريال وهو صغير إلى فنون السنيما والمسرح، إذ كان الوزير الأول الجديد شغوفاً بالتمثيل، وتابع بالفعل دروساً في المسرح والتمثيل عندما كان تلميذاً بالمرحلة الابتدائية، وكان قد صّرح، في حوار لمجلة «غالا» الفرنسية بأن مسرحيات موليير وغولدوني التي مثّل فيها تُعدّ تجارب إيجابية سمحت له بالتغلب على الخوف والقلق حين يتعلق الأمر بالكلام على الملأ.

في سياق متصل، كانت وسائل الإعلام قد كشفت عن تسجيل قديم من الأرشيف يظهر فيه غبريال أتّال في سن «التاسعة والنصف» وهو يصرّح، لصحافي كان ينجز تحقيقاً حول مدرسته، بأنه يريد أن يصبح ممثلاً مشهوراً في المستقبل، وقد نصحه والده الذي يعمل في السينما بالبدء بالمسرح. وبالفعل، حين وصل إلى المرحلة الثانوية شارك في إنتاج سينمائي بدور صغير إلى جانب النجمة ليا سيدو، قبل أن يتوجّه نهائياً إلى معترك السياسة.

أيضاً، في حوار مع صحيفة «شالنج»، صرّح غبريال أتّال بشأن عائلته قائلاً: «أنا محظوظ لأنني وُلدت في عائلة ميسورة الحال، وأنا أعلم أن هذا يجعلني عرضة لانتقادات الخصوم الذين يحاولون التشكيك في مهاراتي، لكنني لو لم أكن أعمل بجدّ لَما وصلت حيث أنا اليوم...».

هجمات يسارية و«فتور» يمينيفي المقابل، صرّح مانويل بومبار، النائب من حركة «فرنسا الأبية» اليسارية، منتقداً اختيار أتّال: «لا نستطيع أن نقول إنه عمل كثيراً، أو أنه واجه المشاكل التي يواجهها عامة الفرنسيين والفرنسيات. كيف سيواجه مشاكل الشعب التي لم يعِشها في حياته؟!». وأضافت مانو أوبري، النائبة من التشكيلة السياسية اليسارية نفسها، أن الوزير الأول الجديد «شخص وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. ومشواره السياسي يتلخص في انتقاله من الدائرة السادسة إلى الدائرة السابعة من باريس»، مُلمّحة إلى حيّين من أرقى أحياء باريس هما الدائرة السادسة حيث تلقّى تعليمه بدءاً بـ«المدرسة الألزاسية» التي لا يقصدها إلا أطفال العائلات الغنية، ثم معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، والدائرة السابعة حيث عمل في الوظائف الحكومية السامية فور تخرّجه، «الأمر الذي يوحي بقلة خبرته الميدانية... ووصوله بفضل امتيازات خاصة». وأدلت بدلوها أيضاً، زعيمة كتلة اليسار الراديكالي، ماتيلد بانو، فوصفت أتال بـ«ماكرون الصغير (جونيور) المتخصّص في الغطرسة والازدراء».

أما قوى اليمين وبعض شخصياته المعروفة أمثال فرنسوا بايرو، زعيم كتلة الموديم (وسط اليمين)، وكذلك إدوارد فيليب الوزير الأول السابق، وألكسي كوهلر السكرتير العام للإليزيه، فأبدوا معارضتهم أيضاً قرار التعيين، بل حاولوا - وفقاً لبعض وسائل الإعلام - إقناع ماكرون بالتخلي عن اختيار أتّال.

بايرو أعرب، في لقاء نُشر بصحيفة «لو باريزيان» عن شكوكه في قدرة أتّال على مواجهة المشاكل الكثيرة التي تمرّ بها الحكومة الحالية بسبب قلّة خبرته الميدانية. في سياق آخر، وجّهت بعض الأصوات اتهامات للوزير الأول الجديد بأنه اتخذ من منصب وزير التربية ذريعة للوصول إلى «قصر ماتينيون»، وبأنه لم يكن يوماً صادقاً في اهتمامه بقطاع التربية والتعليم، «والدليل أنه اكتفى بإعلان حظر العباءة، لإرضاء غالبية من الفرنسيين، والصعود في استطلاعات الرأي، دون أن يتطرق إلى المشاكل الجوهرية التي يتخبط فيها قطاع التربية والتعليم في فرنسا، كنقص الأساتذة، وتدنّي المستوى التعليمي».

غير أن الهجوم الأعنف على أتّال في وسائل التواصل جاء من المحامي والناشط السياسي جان برانكو، الذي كان زميل دراسة للوزير الأول الجديد، إذ خصّص له أربعين صفحة من كتابه «الغسق»، واصفاً إياه بـ«الانتهازي» الذي لم يتردد في خيانة مبادئه السياسية للوصول إلى مراكز السلطة السياسية والنفوذ. وهنا نشير إلى أن برانكو كان أول مَن كشف علاقة أتّال برفيق حياته السابق ستيفان سيجورني، مستشار ماكرون السابق ووزير الخارجية والشؤون الأوروبية الجديد. ومما زعمه أن سيجورني «هو مَن توسّط لغبريال أتّال عند ماكرون ليضمّه إلى فريق أعوانه المقرّبين».

الملفّات الساخنة

على صعيد عملي، في انتظار الوزير الأول الجديد عدةُ ملفات ساخنة؛ أهمها مواجهة تحدّي الانتخابات الأوروبية المقبلة، حيث يبدو الوزير الأول الجديد بشعبيته الكبيرة الشخصية الوحيدة القادرة على مواجهة خطر زحف حزب «التجمع الوطني» المتطرف، إذ توقعت عدة استطلاعات للرأي أن قائمة اليمين المتطرف، بقيادة جوردان برديلا - الرقم 2 في قيادته - ستستحوذ على أكبر نصيب من أصوات الفرنسيين، متقدّمة على حزب ماكرون بأكثر من تسعة نقاط مئوية، لذا سارع الوزير الأول الجديد فور تسلّمه مهامّه، إلى تكثيف الزيارات الميدانية؛ في محاولة لكسب ثقة الفرنسيين وأصواتهم.

ومن ثم فإن المنتظَر من الوزير الأول الجديد أيضاً إعطاء «نَفَس جديد» للعهدة الثانية لماكرون، التي تشهد انقسامات كثيرة في صفوف الغالبية، ولا سيما الجناح اليساري الذي رفض وبقوة مشروع نظام المعاشات، وقانون الهجرة المثير للجدل.

أضفْ إلى ذلك أن العهدة الماكرونية الثانية ستشهد أيضاً التحضير للألعاب الأولمبية في صيف 2024، ومشروع تعديلات قطاع التربية والتعليم وقطاع العمل، لذا فأتّال مُطالَب أيضاً بإيجاد 12 مليار يورو لقطاع الاقتصاد في مصاريف الدولة، بعدما التزمت فرنسا تجاه المجموعة الأوروبية بالحدّ من ديونها التي بلغت في عام 2023 أرقاماً قياسية وصلت إلى 3000 مليار يورو.

المراقبون يرون أن عمل أتّال سيكون صعباً جداً، فمطلوب منه التقرّب من اليمين لكسب مزيد من الأصوات، لكن دون إغضاب الجناح اليساري للغالبية. ومطلوب منه أيضاً فرض سلطته على وزراء حكومته... ومعظم هؤلاء يَكبرونه سناً، بل بعضهم أشرف على تدريبه منذ فترة قصيرة، والبعض الآخر كان يحلم بمنصبه منذ فترة طويلة، كوزير الاقتصاد برونو لومير، ووزير الداخلية جيرالد دارمانان.



كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
TT

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد الانتخابي عن تغيير حكومي واسع، وتعيين البروفسور كمال المدّوري، وهو شخصية أكاديمية وإدارية وسياسية مستقلة، على رأس الحكومة الجديدة خلفاً للمستشار القانوني المخضرم أحمد الحشّاني الذي مرت سنة واحدة على تعيينه رئيساً للوزراء. المدّوري ليس غريباً عن قصر رئاسة الحكومة، إذ سبق له أن تولى منصب مستشار قبل تعيينه في مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية تتويجاً لمسيرة أكثر من 20 سنة على رأس عدد من المؤسسات الحكومية المكلفة بملفات «الأمن الاجتماعي». والواضح أن الرئيس التونسي عبر تعيينه «صديق النقابيين» والخبير الدولي في التفاوض على رأس الحكومة، استبق محطة 6 أكتوبر (تشرين الأول) الانتخابية التي يريد أن يعبر بها إلى «الدورة الرئاسية الثانية»، وسط تزايد مخاوف المعارضة والنقابات من تسارع «تدهور أوضاع الاجتماعية للطبقات الشعبية بسبب نسب التضخم والبطالة والفقر المرتفعة».

يأتي قرار الرئيس قيس سعيّد تعيين البروفسور كمال المدّوري رئيساً جديداً للحكومة بمثابة «سحب البساط» من تحت معارضيه النقابيين والسياسيين، الذين تضاعفت انتقاداتهم مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، وتزايد الكلام عن تدهور القدرة الشرائية للعمال والمتقاعدين والفقراء، رغم القرارات الرئاسية الجديدة، ومنها ترفيع جرايات التقاعد ورواتب قطاع من الأجراء.

وبدا واضحاً وجود إرادة سياسية للتأكيد على أن القرارات المركزية للدولة، بما فيها تلك المتعلقة بالأمن الاجتماعي ومستقبل الاقتصاد «تصنع في قصر الرئاسة» في قرطاج ، بصرف النظر عن مآلات انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

مستقل من «حزب الإدارة»

لقد نوّه عدد ممّن عملوا مع المدّوري طوال السنوات العشرين الماضية، في المؤسسات الحكومية والإدارية للدولة، بخبرته في تسيير مفاوضات الحكومة مع نقابات العمال ورجال الأعمال داخلياً، وأيضاً نجاحاته الدولية عبر دوره في مفاوضات تونس مع المفوضية الأوروبية حول «سياسة الجوار الأوروبية» و«وضعية الشريك المميّز».

وفي حين كانت البعثات الأوروبية والدولية المفاوضة في بروكسل وبرشلونة وجنيف تدفع تونس ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط - كما هو مألوف - نحو «تحرير» الاقتصاد بتقليص العمالة، وتخفيف «الأعباء الاجتماعية للدولة»، و«خفض نسبة الرواتب في ميزانية الدولة»، صمد المدّوري ومعه الفريق الحكومي التونسي في وجه هذا الدفع. بل مارس هو ورفاقه دفعاً مضاداً ضاغطاً على «الشركاء الأوروبيين» والمؤسسات الدولية من أجل إبعاد تونس عن تجرّع مرارة الاقتطاعات الخدمية المرتجلة والمؤلمة شعبياً التي قد تفجّر اضطرابات أمنية اجتماعية سياسية وأعمال عنف، كالأحداث الدامية والمواجهات التي عرفتها تونس مطلع عامي 1978 و1984، ثم منذ 2010 - 2011.

هذا الرصيد كان على يبدو أحد أسباب اختيار رئيس الدولة لهذا الأكاديمي والإداري المجرّب لترؤّس الحكومة. وبالمناسبة، كان المدّروي أحد طلبة سعيّد في كلية الحقوق والعلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، قبل أن ينضم إلى «حزب الإدارة»، أي إلى صفّ «كبار الموظفين في جهاز الدولة» الذين ليست لديهم انتماءات حزبية أو سياسية، بل تميّزوا باستقلاليتهم وحيادهم وولائهم «للوظيفة الحكومية» بصرف النظر عن الحاكم.

ابن «الجهات المهمشة»

من جهة ثانياً، بخلاف معظم رؤساء الحكومات منذ 1955، فإن المدّوري من مواليد «الجهات الزراعية المهمّشة»، وتحديداً مدينة تبرسق الجبلية الصغيرة، الواقعة على مسافة 100 كيلومتر جنوب غربي العاصمة تونس، والغنية بمياهها العذبة ومزارعها الجميلة.

هذه المدينة الصغيرة أسّست قبل أكثر من 2000 سنة في عصر «اللوبيين» قرب مدن تاريخية قرطاجنية رومانية ونوميدية شهيرة مثل دقة وباجة والكاف، ناهيك من بلاريجيا، عاصمة «النوميديين»، حسب المؤرخ والمفكر التونسي محمد حسين فنطر. وكان اسمها الأصلي القديم «تبرسوكوم»، أي «سوق الجلود»، باعتبار تلك المنطقة الواقعة شمال غربي تونس غنية فلاحياً، وتنتشر فيها الزراعات الكبرى للحبوب وتربية المواشي. غير أنها صارت مهمشة منذ 70 سنة.

ويبدو أن الرئيس سعيّد - وهو من مواليد تونس العاصمة، لكن أصوله تعود إلى الأرياف الزراعية بمحافظة نابل (100 كيلومتر شرق العاصمة) - أراد باختيار تلميذه السابق توجيه رسالة ردّ اعتبار لأبناء الجهات الفقيرة والمهمّشة. وهي الرسالة ذاتها التي ربما أراد توجيهها عندما عيّن هشام المشيشي ابن بلدة بوسالم، في محافظة جندوبة الحدودية مع الجزائر، وزيراً للداخلية ثم رئيساً للحكومة في 2020 و2021.

«تكنوقراط» وسياسي

في أي حال، منذ الإعلان عن تعيين المدّوري رئيساً للحكومة تفاوتت التقييمات لشخصيته ومؤهلاته. إذ انتقد بعض الساسة والكتّاب، بينهم وزير التربية السابق وعالم الاجتماع سالم الأبيض، تعيين شخصية «غير سياسية» على رأس الحكومة. وقال الأبيض إن تعلّم السياسة «ليس أمراً يسيراً بالنسبة لتكنوقراطي» يخلو رصيده من تجارب مع الأحزاب والحركات السياسية القانونية وغير القانونية وأخرى مع مؤسسات المجتمع المدني.

ولكن، في المقابل، ثمّن آخرون «ثراء تجربة» رئيس الحكومة الجديد، ولا سيما كونه طوال أكثر من 20 سنة من أبرز كوادر الإدارة والدولة الذين تفاوضوا مع قيادات نقابات العمال ورجال الأعمال والمزارعين وهيئات صناديق «الضمان الاجتماعي والتقاعد» التي تهم ملايين الموظفين والمتقاعدين في القطاعين العام والخاص في البلاد. وللعلم، شملت تلك المفاوضات الملفات «السياسية والاجتماعية الحارقة»، بينها القضايا الخلافية التي كانت تتسبب في تنظيم آلاف الإضرابات العمالية وغلق مئات الشركات أو نقل جانب من أنشطتها خارج تونس.

وبناءً عليه، عندما وقع عليه اختيار الرئيس سعيّد يوم 25 مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم يوم 7 أغسطس (آب) رئيساً للحكومة، فإنه لا بد أنه أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية. ثم إن تعيين المدّوري الآن يؤكد تزايد البُعد السياسي الاستراتيجي لقطاع «الأمن الاجتماعي»، وأيضاً اعتماد «نظام رئاسي مركزي» منذ 2021.

خلفيات أكاديمية وصلات خارجية

أكاديمياً، تخرّج المدّوري أولاً في الجامعة التونسية، وتحديداً في كلية الحقوق والعلوم السياسية والقانونية بتونس، التي كانت مناهجها الأقرب إلى مناهج الجامعات الفرنسية. وفي الوقت نفسه، تابع دراساته العليا في جامعات أوروبية، وحصل على شهادة «دكتوراه الحلقة الثالثة» في قانون المجموعة الأوروبية والعلاقات المغاربية الأوروبية. وأهّلته هذه الشهادة الجامعية الأوروبية لاحقاً للعب دور بارز خلال مفاوضات تونس مع الاتحاد الأوروبي ومع الدول المغاربية حول «المنطقة الحرة الأورو متوسطية» والشراكة الاقتصادية وبرامج «سياسة الجوار».

بالتوازي، يُعد الرجل من جيل «المخضرمين» كونه حصل أيضاً على شهادات عُليا من مؤسسات جامعية خاصة بكبار الكوادر السياسية للدولة، بينها شهادة ختم الدراسات بالمرحلة العليا في «المدرسة الوطنية للإدارة» في تونس، وأخرى من معهد الدفاع الوطني. ولقد مكّنته هذه الشهادات والخبرة من التدريس في جامعات إدارية مدنية وأمنية وعسكرية، منها المدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي. وأيضاً، ساعدته هذه الخبرة المزدوجة الإدارية السياسية الأمنية العسكرية كي يكون «مفاوضاً دولياً»، بما في ذلك مع مؤسسات «مكتب العمل الدولي» في سويسرا ومكاتب العمل وصناديق التنمية العربية والإقليمية وغيرها من المؤسسات التي تجمع في الوقت عيّنه ممثلي الحكومات ومنظمات رجال الأعمال ونقابات العمال.

وبحكم خصوصية الشراكة بين تونس مع ليبيا والجزائر والمغرب، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً، ساهم المدّوري مطولاً في المفاوضات مع الشركاء المغاربيين حول ملفات «الأمن الاجتماعي».

مسؤوليات

من جانب آخر، نظراً لما تشكو منه آلاف المؤسسات العمومية والخاصة في تونس منذ عهد الرئيس زين العابدين بن علي من صعوبات مالية وعجز عن تسديد مساهماتها في «الصناديق الاجتماعية»، عيّن كمال المدّوري خلال العقدين الماضيين الماضية ليرأس «الإدارة العامة للضمان الاجتماعي» في وزارة الشؤون الاجتماعية ثم مؤسسات صناديق التقاعد والتأمين على المرض. وكانت مهمته سياسية بامتياز: إبرام اتفاقات بين الحكومة والقطاع الخاص والنقابات وتجنيب البلاد مزيداً من الإضرابات والاضطرابات، ثم إنقاذ الصناديق الاجتماعية من سيناريوهات الإفلاس والعجز عن دفع مستحقاتها لملايين العمال والموظفين والمتقاعدين.

وفعلاً أبرمت الصناديق الاجتماعية والنقابات والحكومة بفضل تلك الجهود، قبل سنوات، اتفاقيات أثمرت «إصلاحات جذرية» تخلّت الدولة بفضلها عن «الحلول السهلة»، وبينها سياسة «التداين من البنوك التونسية» بصفة دورية بهدف تسديد رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين.

صعوبات وأوراق سياسية

في المقابل، لا يختلف اثنان على حجم المخاطر الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الأمنية التي ستواجهها الحكومة الجديدة ورئيسها، في مرحلة تعمقت فيها التناقضات بين النقابات والمعارضات والسلطات المركزية، وتوشك أن تزداد عمقاً بعد انتخابات 6 أكتوبر.

ولا شك أن الرئيس سعيّد أدرك ذلك، ولذا أبعد شخصيات «مثيرة للجدل» من قصري قرطاج والقصبة، وغيّر أكثر من ثلثي الفريق الحكومي. وفي المقابل، اختار مزيداً من «التكنوقراط» الذين ليست لهم «صفة آيديولوجية وحزبية»، وطالبهم بالانسجام في الحكومة الجديدة. وبالفعل، أسفر «التعديل الحكومي الأول» الذي أجراه سعيّد ورئيس حكومته الجديد قبل أيام عن إبعاد مزيد من رموز المشهد السياسي والآيديولوجي القديم، وتعيين مزيد من «الخبراء المستقلين» الأكثر انسجاماً مع «دستور 2022»، الذي نصّ على كون مهمة رئيس الحكومة وكامل الفريق الحكومي «مساعدة رئيس الجمهورية» على إنجاز برامجه وسياسته، لا العكس.