«بلدان عدم الانحياز» أمام تحديات عالم الغد

اجتمعت في «قمة كمبالا» بعدما عاشت شريطاً زمنياً رافق أحداث العالم منذ 1955

لقطة جامعة للقيادات المشاركة في قمة "حركة بلدان عدم الانحياز" بالعاصمة الأوغندية كمبالا (آ ب)
لقطة جامعة للقيادات المشاركة في قمة "حركة بلدان عدم الانحياز" بالعاصمة الأوغندية كمبالا (آ ب)
TT

«بلدان عدم الانحياز» أمام تحديات عالم الغد

لقطة جامعة للقيادات المشاركة في قمة "حركة بلدان عدم الانحياز" بالعاصمة الأوغندية كمبالا (آ ب)
لقطة جامعة للقيادات المشاركة في قمة "حركة بلدان عدم الانحياز" بالعاصمة الأوغندية كمبالا (آ ب)

شهدت العاصمة الأوغندية كمبالا طوال الأسبوع الفائت انعقاد القمة التاسعة عشرة لـ«حركة بلدان عدم الانحياز»، وذلك بمشاركة ممثلين عن 120 دولة، وحضور لافت للأمين العام للأم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي دعا من منبر القمة إلى إصلاح النظام العالمي والمنظمات الاقتصادية والسياسية التي يقوم عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي طليعتها مؤسستي «بريتون وودز» و«مجلس الأمن الدولي». غوتيريش قال إن هذه المنظمات لم تعد تعكس الواقع الدولي الراهن والتوازنات الجيوسياسية، كما لم تعد صالحة لمعالجة الأزمات ومواجهة التحديات العالمية. وبالفعل، تكفي مراجعة سريعة لتصريحات زعماء بلدان الحركة منذ القمة الأولى، التي انعقدت في بلغراد عام 1961 إلى اليوم، ليتبيّن أنها ما زالت تسعى وراء سراب الطموحات ذاتها التي حددها الآباء المؤسسون منذ ما يزيد على 65 سنة. بل تتراكم الصعاب على طريق تحقيقها، بدءاً بالنزاعات التي تكاد لا تحصى بين أطرافها، ووصولاً إلى المعادلات الجيوسياسية الجديدة التي تتشكّل على وقع صراعات إقليمية ودولية... غالباً ما تفرض على أعضاء الحركة مواقف وتجاذبات متضاربة مع أهدافها.

أسّست «حركة بلدان عدم الانحياز» بوصفها منظمة دولية للدفاع عن مصالح دول العالم الثالث وطموحاتها مع احتدام «الحرب الباردة» التي شطرت العالم قسمين تحت تأثير، وأحياناً هيمنة، القوتين العظميين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

يومذاك كانت بلدان العالم الثالث في أوج نضالها من أجل التخلّص من الاستعمار ونيل استقلالها السياسي والاقتصادي. ولقد وُضع الحجر الأساس للحركة في «مؤتمر باندونغ» (في المدينة الإندونيسية) عام 1955، عندما قرّرت مجموعة من الدول النامية، التي كانت في معظمها قد استقلّت حديثاً، بناء تحالف خارج دائرة نفوذ الدول الكبرى التي كانت تتهمها بالإمبريالية. وتضمّ الحركة حالياً 120 دولة منتشرة في القارات الخمس؛ دفاعاً عن مبادئ السيادة السياسية، وتسوية النزاعات الدولية من دون اللجوء إلى استخدام القوة، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. كذلك تسعى بلدان الحركة منذ عقود إلى إلغاء حق النقض «الفيتو» الذي تحتكره الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا)، وإحقاق توازن فعلي بين الدول في المنظمات والمؤسسات العالمية.

لمحة تاريخيةعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، واحتدمت المواجهة بين القوتين العسكريتين الكبريين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تشكّلت كتلة الدول الغربية تحت نفوذ واشنطن، وكتلة الدول الشرقية تحت هيمنة موسكو. وعلى الأثر، انطلقت موجة حركات استقلال دول العالم الثالث - تحديداً في آسيا وأفريقيا - التي كانت ما زالت ترزح تحت نير استعمار الدول الأوروبية. وساعد الضعف الذي أصابها بسبب الحرب وتداعياتها على تكاثر الحركات القومية المناضلة من أجل التحرّر، وعلى نجاحها في تحقيق أهدافها.

انطلاق تلك الموجة في خمسينات وستينات القرن الفائت أدى إلى «ولادة» العديد من الدول الأفريقية والآسيوية التي أطلق عليها يومذاك لقب «العالم الثالث» أو «البلدان النامية»، وهذا إلى جانب دول أميركا اللاتينية التي نالت استقلالها السياسي عن الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. وكان القاسم المشترك الذي يجمع بين كل تلك الدول حاجتها الماسّة إلى تحقيق الاستقرار السياسي، والنهوض من أوضاعها الاقتصادية الصعبة الموروثة من الدول التي كانت تخضع لاستعمارها واستغلالها.

في ذلك السياق، الذي كان يخضع لمقتضيات «الحرب الباردة» وتجاذباتها، أدركت بلدان «العالم الثالث» أهمية تحالفها بغية الدفاع عن مصالحها في مواجهة الدول الكبرى التي كانت تتنازع النفوذ العالمي ومراكزه. وبدأت تنعقد المؤتمرات التحالفية الأولى بفضل مبادرات زعماء كانوا قد نجحوا في صدّ التمدد الاستعماري في بلدانهم، والخروج عن استقطاب الكتلتين الغربية والشرقية، مثل الزعيم الهندي جواهر لال نهرو، واليوغوسلافي جوزيب بروز تيتو، والمصري جمال عبد الناصر، والإندونيسي أحمد سوكارنو، والغاني كوامي نكروما... الذي كان أول زعيم في أفريقيا السوداء يقود بلاده إلى الاستقلال.

مؤتمر باندونغفي عام 1955 تداعى زعماء خمسة بلدان آسيوية نالت استقلالها حديثاً، هي: الهند وباكستان وإندونيسيا وسيلان (سريلانكا حالياً) وبورما (ميانمار حالياً)، بدفع من رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، إلى عقد مؤتمر في مدينة باندونغ الإندونيسية. ولقد ضمّ ذلك المؤتمر التاريخي التأسيسي 29 دولة من آسيا وأفريقيا هي: المملكة العربية السعودية وأفغانستان وبورما (ميانمار) وكمبوديا وسيلان (سريلانكا) والصين ومصر وإثيوبيا والفيليبين والهند وإندونيسيا وإيران والعراق واليابان والأردن وليبيا ولبنان وليبيريا ونيبال وباكستان (قبل تقسيمها وولادة بنغلاديش) وسوريا والسودان وتركيا وتايلاند وفيتنام الشمالية وفيتنام الجنوبية (قبل إعادة توحيدهما) واليمن. ومن جهة ثانية، شارك في ذلك المؤتمر مندوبون عن بلدان كانت لا تزال تحت الاستعمار، مثل قبرص ودول المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا)، في حين لم يوجّه المؤتمر يومها دعوة للمشاركة إلى الصين الوطنية (تايوان الحالية) ولا إلى إسرائيل، خشية مقاطعة الصين الشعبية والدول العربية، وأيضاً لم يُدع نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا.

تفاهمات وتبايناتهذا، وخرج مؤتمر باندونغ بإدانة جماعية للاستعمار ونظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، وبتعهد للنضال ضد التخلف والفقر في بلدان العالم الثالث. واتفق المجتمعون حول خمسة مبادئ وضعها الرئيسان سوكارنو ونهرو، وتحولت فيما بعد إلى المبادئ المؤسِّسة لـ«حركة بلدان عدم الانحياز»، وهي: احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، والمساواة بين الأعراق والأمم، ومنع الاعتداءات، ومنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واعتماد مبدأ التعايش السلمي.

غير أنه، على الرغم من الإجماع الأوّلي حول هذه المبادئ الخمسة المشتركة، بدا واضحاً منذ تأسيس الحركة أن ثمّة تيارات ثلاثة قوية تتصارع داخلها:

- التيّار الأول تقوده الهند ومصر، ويُدين سياسة الكتل والمحاور العسكرية ويُعرف بـ«تيار عدم الانحياز».

- التيار الثاني هو تيار الدول الموالية للغرب بقيادة تركيا وباكستان والعراق، الذي يدعم حق كل دولة في الانضمام إلى أحلاف عسكرية إقليمية. وقد سعت تلك الدول إلى أن يوافق المؤتمر على قرار يُدين كل أشكال الإمبريالية، لكنها فشلت في مسعاها.

- التيار الثالث، شيوعي، تقوده الصين وفيتنام الشمالية، ونجح في احتواء المبادرات التي صدرت عن التيار الموالي للدول الغربية.

مؤتمر بلغراد 1961بعدها، في نهاية الأسبوع الأول من سبتمبر (أيلول) 1961، شهدت العاصمة اليوغوسلافية بلغراد انعقاد المؤتمر الرسمي الأول - أو «القمة الأولى» - لـ«حركة بلدان عدم الانحياز»، بمشاركة 25 دولة، وحضور ثلاثة بلدان بصفة مُراقب. وتقرّر في هذا المؤتمر تحديد المبادئ الأساسية للحركة وشروط الانضمام إليها التي كان سبق اعتمادها في مؤتمر باندونغ قبل ست سنوات. ولقد تعهدت الدول المؤسِّسة بالدفاع عن المصالح المشتركة لجميع الأعضاء، وتعزيز تأثيرها في مجريات السياسة الدولية، وتعميق التعاون بينها من أجل تحسين أوضاعها الاقتصادية. وشدّد البيان الختامي الأول لمؤتمر بلغراد على:

- دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها.

- مساعدة البلدان التي كانت لا تزال تحت الاستعمار لنيل استقلالها.

- إدانة السياسة العنصرية في جنوب أفريقيا.

- السعي إلى نزع السلاح.

- تعزيز الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وإصلاح طرائق عملها لمزيد من الديمقراطية.

وأيضاً دعا البيان إلى زيادة حضور الحركة وتقوية تأثيرها في المحافل الدولية، وتوثيق الروابط مع بلدان أميركا اللاتينية، التي لم يشارك منها في ذلك المؤتمر الأول سوى كوبا.

الستينات والسبعيناتوفيما بعد، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، عزّزت الحركة حضورها ودورها في المحافل الدولية. وساهمت في تأسيس «منظمة الوحدة الأفريقية» التي أصبحت لاحقاً «الاتحاد الأفريقي». وما يستحق الذكر أنه في عام 1964 استضافت القاهرة «القمة الثانية لبلدان عدم الانحياز»، بمشاركة 47 دولة عضواً وثلاثين ممثلاً عن حركات التحرير في البلدان التي كانت لا تزال تحت الاستعمار. وفي عام 1970، ارتفع عدد الدول الأعضاء إلى 54 في القمة التي استضافتها لوساكا، عاصمة زامبيا. ثم ارتفع العدد إلى مائة قبل حلول عام 1980.

غير أن ازدياد عدد الأعضاء لم يساهم - توازياً - في تعزيز حضور الحركة دولياً وتفعيل دورها، بل غالباً ما كان عائقاً أمام توسيع دائرة نفوذها وتأثيرها على الصعيد الدولي. وبسبب التزامها مبدأ الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أحجمت الحركة عن التوسّط لحل أزمات ومعالجة أوضاع حساسة، مثل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحرب فيتنام؛ إذ كانت تكتفي فقط بإصدار بيانات تدعو إلى تسوية النزاعات سلمياً، والدفاع عن حقوق الإنسان.

نهاية «الحرب الباردة»

ولكن الوضع اختلف خلال ثمانينات القرن الفائت، ففي هذه الحقبة مرّت الحركة بأصعب مراحلها وأكثرها حراجة مع تراجع تأثير الكتلة الشرقية، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي. ومع هذا، في عام 1992 لعبت إندونيسيا - إحدى الدول المؤسّسة - دوراً بارزاً خلال «قمة جاكارتا» في إعادة توجيه البوصلة الاستراتيجية للحركة وتحديد أهدافها في سياق «العولمة» والمشهد الدولي عقب نهاية «الحرب الباردة» (ولادة «النظام العالمي الجديد»)، وعلى ضوء تراجع اقتصادات بلدان العالم الثالث وضعف أنظمتها السياسية.

التوجه الجديد ركّز على توطيد سبل التعاون بين الدول الأعضاء، والحفاظ على وحدة الحركة بمواجهة الدول الكبرى في المحافل والمنظمات الدولية. ونجحت الحركة فعلياً خلال القمم الأخيرة (عقدت في كل من قرطاجنة بكولومبيا عام 1995، ودوربان بجنوب أفريقيا عام 1998، وكوالالمبور بماليزيا عام 2003، وهافانا بكوبا عام 2006) في تجاوز أزمتها وترسيخ مسارها الاستراتيجي الجديد.

«الحركة» بين العجز عن تسوية الصراعات... والتخوف من السياسات الاقتصادية الحمائية

الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني مستضيف القمة (رويترز)

> ركّزت «حركة بلدان عدم الانحياز»، منذ تأسيسها، على الدفاع عن الحقوق السياسية الأساسية للشعوب، وحرية تقرير المصير، وصون السلم، ومنع وقوع حرب نووية. ولكن مع انعقاد «قمة هافانا الأولى» عام 1979 اتجه التركيز إلى تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء؛ بهدف تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك عن طريق تنسيق التكامل في استغلال الموارد الطبيعية، وتبادل الخبرات العلمية والتكنولوجية، الذي كان عنوان القمة الثانية، التي استضافتها العاصمة الكوبية أخيراً. كثيرة هي الانتقادات التي تُوجّه إلى «حركة بلدان عدم الانحياز» وعجزها عن تسوية الصراعات والخلافات بين أعضائها منذ سنوات، وضعف تأثيرها في مسار السياسة الدولية. وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليعزّز مواقف أولئك الذين يعارضون مبدأ «عدم الانتماء» إلى تحالفات عسكرية، لا سيما، بعدما قررت كل من الدنمارك والسويد التخلي عن سياسة «الحياد» التقليدية، وطلبتا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)؛ خشية من مصيرٍ على غرار مصير أوكرانيا. أيضاً، مع صعود السياسات القومية الاقتصادية، خصوصاً في الولايات المتحدة إبان ولاية دونالد ترمب لمواجهة التمدّد الصيني، وجدت الدول الأعضاء في «حركة بلدان عدم الانحياز» نفسها في وضع صعب لجهة مواجهة مُغريات ومقتضيات الدخول في تحالفات دولية لصون مصالحها والحفاظ على أمنها. وإزاء احتمال عودة ترمب إلى البيت الأبيض مطلع العام المقبل، وما يرجح أن تحمله ولايته الثانية من عودة إلى السياسات الحمائية ورفض للنظام المتعدد الأطراف، تتجه الصين راهناً إلى تعديل عروضها وشروط تحالفاتها مع الدول النامية. والملاحظ أن هذه الأخيرة تسعى إلى توثيق الروابط مع الصين عن طريق زيادة حضورها بصفتها مراقباً في «حركة بلدان عدم الانحياز» ودورها الفاعل في «قمة الجنوب»، التي جاء انعقادها، في العاصمة الأوغندية كمبالا فور انتهاء أعمال قمة الحركة، بمثابة تكملة أو امتداد لها.

ظلال أحداث غزة... والتنافس الصيني ـ الهندي

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (أ.ف.ب)

> بينما تتجه بعض الدول الأعضاء في «حركة بلدان عدم الانحياز» إلى تسويق مبدأ «التحالفات المحدودة» مع الدول الكبرى - مستعينة بحجة استفادة الدول الأوروبية الغربية من تحالفها مع الولايات المتحدة في «الحرب الباردة» لإعادة بناء اقتصاداتها - ترى دول أخرى أن عدم الانحياز يمكن أن يدفع الدول الكبرى والغنية إلى التنافس بين بعضها للاستثمار في البلدان النامية، ونقل التكنولوجيا إليها، ومساعدتها على تحسين أوضاعها الاقتصادية. إلا أن المأخذ الرئيس على الحركة يبقى عجزها عن تسوية النزاعات الثنائية العديدة بين أعضائها. وهذا ما «عوّضه» جزئياً في قمة كمبالا إجماع الحركة حول الموقف من الحرب الدائرة في غزة، ودعم قيام الدولة الفلسطينية، ومحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي، وتأييد المبادرة التي اتخذتها جنوب أفريقيا بتقديم الشكوى أمام محكمة العدل الدولية. وهنا نشير إلى أن الهند، التي كانت قد عارضت بإصرار استخدام عبارة «إبادة» في البيان النهائي للإشارة إلى العمليات الحربية الإسرائيلية، اضطرت إلى التراجع عن موقفها عندما تيقّنت أنها ستبقى وحدها خارج الإجماع. هذا، ووفق المراقبين، يمكن تفسير موقف الهند لدى النظر إلى التقارب الذي شهدته العلاقات بين نيودلهي وتل أبيب منذ وصول رئيسي حكومتي البلدين ناريندرا مودي وبنيامين نتنياهو إلى الحكم في البلدين، فهما زعيمان ينتميان إلى تيار اليمين القومي – الديني، كلٌّ في بلده. غير أن ثمة بُعداً آخر لتراجع اللحظات الأخيرة في الموقف الهندي، لعله يتمثّل بمخاوف الحكومة الهندية من ازدياد نفوذ الصين وتأثيرها بين أعضاء الحركة عبر دورها الفاعل بوصفها دولة مراقبة، وعن طريق «قمة الجنوب» التي تكاد تتماهى عضويتها مع عضوية «حركة بلدان عدم الانحياز». وكان نائب رئيس الوزراء الصيني ليو غوزهونغ قد شدّد في القمتين على ضرورة تضافر جهود البلدان النامية من أجل إصلاح منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية المنبثقة عن اجتماع «بريتون وودز»، وهو الأمر الذي شدد عليه أيضاً أمام القمتين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ولكن في المقابل، لم يتطرق غوزهونغ إلى «إصلاح» مجلس الأمن الذي حضّ عليه الأمين العام، مستغرباً كيف أن القارة الأفريقية ليس لها مقعد دائم فيه. وكان نائب رئيس الوزراء الصيني قد شكّك في قدرة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومواءمتهما على مواجهة التحديات العالمية، ومعالجة الأزمات العالمية الراهنة، كما دعا إلى إعادة النظر في بقاء مقرّيْهما الموجود في واشنطن. ولم يغب عن بال كثيرين من المشاركين في قمة كمبالا ما شدد عليه الرئيس الدوري للحركة، الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، عندما ذكّر في كلمته الختامية بأن الصين «اليوم هي الشريك التجاري الأول لما يزيد على 140 دولة في مختلف أنحاء العالم». وفي انتظار تظهير الصورة النهائية لتوازن النفوذ العالمي التي ستستقر عليها المنافسة المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة، وبينما تتواصل جهود بكين الحثيثة لاجتذاب أعضاء الحركة إلى معسكرها، تنبّهت بعض الدول الأعضاء في الحركة إلى أن هاتين القوتين العظميين تواجهان تحديات سياسية داخلية من شأنها أن تؤثر على علاقاتهما الخارجية. وتدعو هذه الدول إلى الثبات على مبدأ عدم الانحياز، ورفض الانجرار وراء القوى الكبرى؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد نحو عالم أكثر إنصافاً.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.