الملكة مارغريته الثانية... حقبة فاصلة في تاريخ الدنمارك امتدت 52 سنة

تنحيها يعني أنْ لا نساء على عروش أوروبا حالياً

الملكة مارغريته الثانية
الملكة مارغريته الثانية
TT

الملكة مارغريته الثانية... حقبة فاصلة في تاريخ الدنمارك امتدت 52 سنة

الملكة مارغريته الثانية
الملكة مارغريته الثانية

عام 2016 وقبيل زيارة لها لألمانيا، سُئلت ملكة الدنمارك مارغريته الثانية، خلال مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» عمّا إذا كانت لديها خطط للتخلي عن العرش لصالح ابنها الأمير فريدريك، وكان ردها آنذاك أنه «سيصبح ملكاً عندما لا أعود موجودة». ثم إن رفض الملكة مارغريته التنحي عن العرش قبل مماتها كررته أكثر من مرة منذ تنصيبها في مطلع عام 1972، ولهذا كان إعلانها في خطاب ليلة رأس السنة الماضية أنها قرّرت التخلى عن العرش لصالح ابنها، مفاجئاً لكثيرين وتبعته حملة تخمينات حول الأسباب التي دفعتها إلى هذا القرار. ذلك أنها ما زالت بصحة جيدة نسبياً لسيدة في عمرها البالغ 83 سنة. وواقع الأمر أنها لا تزال نشيطة في تلبية التزامات رسمية، ولقد أعلنت أنها ستبقى تؤديها حتى بعد تنحيها عن العرش. كثيرون قالوا إن المخاوف من انفصال وشيك بين ولي العهد فريدريك، وزوجته الأميرة ماري، الأسترالية الأصل، كان السبب الأساسي الذي دفع الملكة إلى التنحي. وما يجدر ذكره هنا، أن شائعات الخيانة تلاحق الأمير منذ أشهر، وبالأخص بعدما التُقطت صورٌ له مع الممثلة المكسيكية جينوفيفا كازانوفا. وعلى الرغم من نفي الممثلة وجود علاقة بينها وبين الأمير، ورفض القصر الملكي التعليق على «الشائعات»، ازدادت المخاوف من قرب نهاية زواجه ومغادرة الأميرة ماري عائدةً إلى أستراليا... حتى جاء إعلان الملكة مارغريت المفاجئ تنحيها عن العرش لصالحه. ولقد فسّر كثيرون الخطوة بأنها جاءت لإنقاذ زواجه.

أياً تكن الأسباب التي دفعت مارغريته الثانية إلى إعلان اعتزامها التنحّي عن العرش في آخر أيام العام المنصرم، فإنها ستكون آخر ملكة تحكم حالياً في أوروبا، فبمغادرتها موقعها لن يتبقى في «القارة العجوز» إلا الملوك، وإن كانت ولاية العهد في السويد، «جارة» الدنمارك، تشغلها الأميرة فيكتوريا، بكر أبناء الملك كارل الـ16 غوستاف، وفي هولندا للأميرة كاترينا آماليا، بكر بنات الملك فيلهلم ألكسندر.

52 سنة على العرش

تغادر الملكة مارغريته موقعها بعد 52 سنة أمضتها على العرش الدنماركي، وهي ما زالت محبوبة من الدنماركيين الذين يعدّونها «والدة الأمة». ومع أن العائلة المالكة في الدنمارك لا تتدخل في السياسة، مثلها في ذلك مثل كل العائلات المالكة في أوروبا، فإن مارغريته الثانية لم تتردّد في الانضمام إلى النقاش الدائر منذ سنوات في الدنمارك حول الهجرة، الذي تحول إلى مادة سياسية أساسية توصل الأحزاب أو تُسقطها.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه حتى الحزب الاشتراكي الحاكم تبنّى سياسات يمينية متطرفة مناوئة للهجرة منذ وصوله إلى السلطة عام 2019، على الرغم من أن أحزاب يسار الوسط –مثله- تعتمد تاريخياً سياسات منفتحة ومتعاطفة تجاه المهاجرين واللاجئين. ففي ظل حكومة ميته فريدريكسون الاشتراكية تحوّلت الدنمارك إلى إحدى أكثر دول أوروبا تشدداً فيما يتعلق بالهجرة، إذ تبنت قوانين صارمة مثل سحب الإقامات من السوريين وإعادة ترحيلهم إلى بلادهم.

أكثر من هذا، أصبحت الدنمارك أول دولة أوروبية ترحّل إلى سوريا، رغم المخاطر هناك، وشملت أوامر الترحيل نحو 100 لاجئ كانوا قد حصلوا على إقامات في الدنمارك. وأيضاً، تبنى البرلمان قوانين جديدة أدت إلى وقف العمل باتفاقيات الأمم المتحدة الخاصة بقبول عدد معين من اللاجئين. وجرى تشديد قوانين لمّ الشمل للاجئين، و«شرعنة» سحب ممتلكات مثل الذهب والأموال من المتقدّمين للحصول على طلبات لجوء لدفع نفقاتهم.

موجة رفض الهجرة

في هذا الصدد، لا بد من القول، إنه حتى قبل وصول الاشتراكيين إلى السلطة وإدخالهم هذه التغييرات الجذرية، كان المزاج الشعبي العام في الدنمارك قد تحوّل إلى عداء واضح تجاه المهاجرين طالبي اللجوء. ولقد ركبت الملكة مارغريته الثانية نفسها الموجة لتنضم في التعبير عن المزاج السلبي تجاه المهاجرين وتتبناه علانية.

إذ أعلنت الملكة في عام 2016 خلال مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية أن «الدنمارك ليس بلداً متعدد الثقافات، بل هو بلد يعيش فيه أشخاص لديهم جذور وخلفيات وديانات مختلفة، منذ أكثر من 30 سنة».

وجاء هذا الكلام تعليقاً على سؤال حول ما إذا كانت ترى بلادها بالشكل نفسه الذي يرى ملك النرويج هارالد بلاده، كما وصفه في خطاب قبل فترة بأنه «حديث» ويضم مَن «يؤمن بالرّب ومَن يؤمن بالله» في إشارة إلى المسلمين.

مقابلة صريحة جداً

وتبع ذلك بأيام كتاب نشره الصحافي توماس لارسن، استناداً إلى مقابلات مع الملكة انتقدت فيها إخفاق بعض اللاجئين والمهاجرين في الاندماج في المجتمع الدنماركي. إذ قالت: «ليس قانون الطبيعة أن يصبح المرء دنماركياً بمجرد العيش في الدنمارك». وأردت القول إن «بعض الجماعات» أفضل من غيرها على صعيد الاندماج، وعدّدت على سبيل المثال المهاجرين الوافدين من جنوب شرقيّ آسيا، بينما «نجد آخرين يجدون صعوبة أكبر في التأقلم وإيجاد إيقاعهم في الدنمارك».

ومن ثمّ وصفت الملكة الدنماركيين بأنهم كانوا «سذّجاً» عندما توهموا أن «الاندماج ليس صعباً على الطرفين... لقد اعتقدنا أن هذه الأمور تحصل بشكل تلقائي، وأنه إذا سار المرء في شوارع كوبنهاغن وشرب من مياه البلدية وركب الحافلة، فإنه سيصبح دنماركياً. لقد كان الأمر بدهياً بالنسبة إلينا واعتقدنا أنه سيكون أيضاً بدهياً للوافدين إلينا من أجل العيش هنا، لكنّ الأمر لم يكن كذلك».

وفيما يمكن عدّه تحريضاً ضد المهاجرين، تابعت مارغريته الثانية كلامها، حسب الكتاب، قائلةً إنه «لا يجوز للمرء الاستسلام للمبالغة في الآداب، بل يجب أحياناً التجرؤ على إبداء ملاحظات إرشادية... ويجب من وقت إلى آخر أن تضع الأشخاص جانب الحائط وتقول: إنَّ هذا غير مقبول!». واستطردت: «عندما تصل أعداد كبيرة من الأشخاص بخلفيات مختلفة وديانة معينة، فإنهم يخاطرون بأن يعزلوا أنفسهم بغضّ النظر عن الإرادة».

هذه التصريحات غير الاعتيادية للملكة أثارت انتقادات وتساؤلات حول ما إذا كانت قد بدأت تتدخل في السياسة، وهو ما يشكّل خروجاً عن العُرف بل حتى عن الدستور. وفي حينه، صرّح لارس هوفباكي سورنسن، أستاذ التاريخ المتخصص في العائلة الملكية الدنماركية، في تصريحات تلفزيونية، بأن «الملكة أصبحت حادة أكثر فأكثر في تعليقاتها»، وباتت «تتحرك مباشرة نحو حافة التدخل السياسي، وأنها تشير بالإصبع إلى بُعد المشكلات الاجتماعية وتدفعنا إلى التفكير بها بطرق جديدة من دون أن تتكلّم عن حلول لهذه المشكلات. وإذا بدأت ذلك فعلاً، فإنها ستكون قد تجاوزت الخط نحو التدخل السياسي الصريح».

في المقابل، ثمة جهات ودوائر أيّدت كلام الملكة، ورأت فيه تعبيراً عن توجهات الدنماركيين. فقد كتبت صحيفة «برلينسكه» اليمينية افتتاحية تساءلت فيها عما إذا كانت الملكة «تتشارك الآراء حول الاندماج مع حزب الشعب الدنماركي (وهو حزب يميني متطرف)». وتابعت الصحيفة لترد على سؤالها بالقول: «على الأرجح لا، غير أن الملكة تعبّر عن صوت معظم الدنماركيين... وآراؤها تدلّ على موهبة متميزة لجهة قياس درجة الحرارة السياسية».

عائلة متنوعة الأصول

والمفارقة في مواقف الملكة مارغريته من الهجرة أن عائلتها المالكة نفسها -مثل سائر العائلات المالكة الأوروبية - متنوعة الأصول بشكل كبير. ذلك أن زوجها الملك هنريك (توفي عام 2018) مواطناً فرنسياً، وغيّر اسمه من هنري إلى هنريك ليصبح أكثر «دنماركية»، والأميرة ماري زوجة ابنها فريدريك، ولي العهد، أسترالية، والزوجة الأولى لابنها الثاني يواكيم، من هونغ كونغ، وزوجته الثانية والحالية فرنسية. ثم إن الملكة نفسها تتحدر من عائلة كلوغسبورغ المتفرعة من عائلة أولدنبورغ الألمانية التي تنتمي إليها معظم العائلات الملكية في أوروبا ومنها العائلات المالكة في بريطانيا والنرويج والسويد واليونان.

ومع أن زوج الملكة مارغريته تعلّم اللغة الدنماركية بسرعة نسبياً، فإن الدنماركيين لطالما سخروا من لكنته وانتقدوه بسبب قلة إتقانه اللغة الدنماركية كما يجب بنظرهم، والحال أن الملك هنريك كان يتكلمها بلكنة فرنسية ثقيلة.

تعارُف الزوجين

عندما تعرّفت مارغريته على زوجها عام 1965، كان هنري دو لابورد دو مونبيزا -وهذا اسمه الأصلي- دبلوماسياً يعمل في السفارة الفرنسية بالعاصمة البريطانية لندن. وكانت مارغريته يومذاك تبلغ من العمر 25 سنة وتدرس العلوم السياسية في «معهد لندن للاقتصاد والعلوم السياسية»، وكانت قبلاً قد درست في جامعتَي كمبريدج والسوربون.

وبعد سنتين من لقائهما، تزوّجا وانتقل هنري إلى الدنمارك متخلياً عن مهنته ومتفرغاً لتمضية بقية حياته إلى جانب ولية العهد آنذاك. وخلال هذه الفترة تعلم اللغة الدنماركية وغيّر اسمه إلى هنريك واعتنق مذهب العائلة الملكية، وهو البروتستانتية اللوثرية، متخلياً عن مذهبه الكاثوليكي. وأنجب الزوجان ولدَين هما فريدريك (المولود عام 1968) ويواكيم (عام 1969).

... مارغريته ملكة

جرى تنصيب مارغريته ملكة وهي في سن الـ31، بعد وفاة أبيها الملك فريدريك التاسع في يناير (كانون الثاني) 1972، لتغدو أول ملكة للدنمارك. ولكن، ما يجدر ذكره أنه عندما وُلدت مارغريته ما كان من المفترض أن تَخْلُف أباها، إذ إن القوانين آنذاك لم تكن تسمح للإناث بتولي العرش. بل كان من المفترض أن يعتلي العرش عمُّها (شقيق الملك). لكنَّ فريديريك عوضاً عن ذلك، عمل مع الحكومة على تغيير القوانين وهو ما استغرق موافقة من برلمانَين متتاليين ثم استفتاءً شعبياً. وبعد تغيير القانون تمكن فريديك من أن يورِّث ابنته العرش، لتصبح أول امرأة تحكم الدنمارك، ويصير هنري أول أمير من دون مهام واضحة، وهو ما عقّد عليه تقبّله دوره زوجاً للملكة من دون لقب ملك ولا وظائف واضحة ومحدّدة.

وبالطبع، زاد ذلك من شعور هنري العام بأنه سيبقى دائماً «غريباً» في الدنمارك انتقادات الصحافة الدائمة له، والتركيز المستمر على لكنته. وكان يعبّر عن استيائه بشكل علنيّ بعيد عن الدبلوماسية. وفي عام 2002 غادر إلى فرنسا مستاءً بعد أن كلّفت الملكة ابنها فريدريك بأن يمثّلها في حفل رسمي، الأمر الذي أغضب زوجها الذي قال إنه شعر بـ«الإهانة والإذلال»، وبأنه أصبح «ثالثاً» في العائلة المالكة.

وحقاً، أعلن هنري أنه سيعود إلى فرنسا لـ«التفكير» في دوره ضمن العائلة الملكية. وبقي هناك 3 أسابيع عاد بعدها إلى الدنمارك متغيباً عن حضور حفل زفاف ملكي في هولندا إلى جانب زوجته. وفي عام 2008، أعلنت الملكة «خلق» لقب جديد للذكور في العائلة يأخذ اسم عائلة زوجها هنريك، وهو «كونت مونبيزا»، اعترافاً بجذور زوجها الفرنسية.

مع هذا بقي هنري-هنريك يشكو حرمانه لقب «ملك» لدرجة أنه أعلن في عام 2017 أنه لا يريد أن يُدفَن إلى جانب زوجته في التابوت الزجاجي الذي كلَّفت مارغريته فناناً بتصميمه ليصبح نصباً تذكارياً واستغرق إعداده داخل كاتدرائية روسكيلده 20 سنة. إذ قال في تصريحات لمجلة دنماركية في أغسطس (آب) 2017، إنه لا يريد أن يُدفَن بالقرب من الملكة، «وإذا أرادت أن أُدفن بالقرب منها، عليها أن تمنحني لقب ملك». وبعد شهر من كلامه هذا، أعلن القصر الملكي في سبتمبر (أيلول) أن الأمير هنريك يعاني الخَرَف وأنه سيتوقف عن أداء مهامه الرسمية.

وبعد أشهر قليلة، توفي هنريك في فبراير (شباط) 2018، واحترمت الملكة قراره ألا يُدفن في التابوت الزجاجي، كاسرةً الأعراف الدنماركية السارية بدفن الملك وزوجته متجاورين. وعوضاً عن ذلك، أُحرق جثمانه ونُثر نصف الرماد في البحر ووضع النصف الآخر في مكان خاص داخل حدائق قصر فريدينسبورغ الملكي.

شرخٌ عائليٍّ ثانٍ

أخيراً، لم تُغضب الملكة مارغريته فقط زوجها برفضها منحه لقب ملك طوال حياتها، بل أحدثت أيضا شرخاً مع ابنها الأصغر يواكيم وعائلته عندما أعلنت عام 2022 أن نسل يواكيم، أي أطفاله الثلاثة وأولادهم في المستقبل، لن يتمكنوا من استخدام لقب أمير وأميرة ابتداءً من مطلع عام 2023، وأنه لن يسمح لهم باستخدام إلا لقب «كونت مونبيزا» أو «كونتسية مونبيزا». وبرّرت الملكة قرارها بأنه سيُسمح لأبناء يواكيم بالعيش «حياة طبيعية من دون أن يكونوا مقيّدين باعتبارات وواجبات قد يربطهم بها انتماؤهم للعائلة الملكية». وفي أي حال، تسبب قرار الملكة في غضب يواكيم وعائلته، مما دفع بالملكة إلى إصدار بيان تُعرب فيه عن أسفها لـ«الحزن» الذي تسبب به قرارها، ولكن من دون التراجع عنه. ومن ثمّ، دفع قرار الملكة تجريد أبناء يواكيم من ألقابهم، بيواكيم إلى الإعلان أنه هو وحده الذي سيحضر مراسم تنصيب شقيقه ملكاً، من دون عائلته.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.