ظلال ثقيلة لحرب غزة على الداخل العراقي

وسط فشل ضبط قواعد الاشتباك بين واشنطن والفصائل المسلّحة

قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)
قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)
TT

ظلال ثقيلة لحرب غزة على الداخل العراقي

قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)
قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)

لم تصمد المساعي التي بذلها رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني في ضبط قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة والفصائل العراقية المسلّحة التي تُواصل قصف القواعد والمنشآت التي تتمركز فيها قوات مسلّحة أميركية في كل من العراق وسوريا. وفي حين يسعى السوداني إلى أن يجعل من العام الجديد (2024) «عام منجزات»، كما وعد العراقيين، وسط وفرة مالية عبر موازنة ثلاثية نجح في تمريرها داخل البرلمان - وهذا أمر يحصل للمرة الأولى - فإن التحديات التي بدأت تفرضها تداعيات «حرب غزة»، وتفاعل عدد من الفصائل العراقية المسلَّحة القريبة من إيران معها، أخذت تُلقي بظلالها على الداخل العراقي، وسط انقسام سياسي ومجتمعي في كيفية التعامل معها.

كان رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، قد سقف تحدّيه للفصائل المسلّحة التي استهدفت، الشهر الماضي، مقر السفارة الأميركية في بغداد. فيومذاك وصف ما فعلته تلك الفصائل، التي باتت معروفة وتعلن صراحةً ما تقوم به، بأنه «عمل إرهابي». وحقّاً، حاز هذا الوصف رضا واشنطن، وفي المقابل لم يلقَ ممانعة في الداخل، بما في ذلك قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي التي يحسبها البعض على طهران.

إلا أنه في النهاية لم يؤدِّ إلى منع تلك الفصائل من مواصلة استهداف القواعد؛ حيث تتمركز القوات الأميركية بصفة «مستشارين» - مثلما تقول الحكومة العراقية - في قاعدتيْ عين الأسد بمحافظة الأنبار، وحرير بمحافظة أربيل، ولا إلى قدرة الحكومة على اعتقال العناصر التي تعلن دائماً، وطبقاً للبيانات الرسمية، أنها ستقدّمهم إلى العدالة.

الجانب الوحيد الذي التزمت به تلك الفصائل هو تجنّبها توجيه ضربات أخرى إلى مجمع السفارة الأميركية، وهو ما يعني أنها، طبقاً لتصريحات صدرت عن بعض قيادات الفصائل، ستحترم رؤية الدولة بشأن حماية البعثات الدبلوماسية الأجنبية، بما فيها السفارة الأميركية. بيد أن نوبات القصف للمواقع والمنشآت الأميركية، التي أدت إلى وقوع إصابات في صفوف العسكريين الأميركيين داخل مواقع استهدفتها تلك الفصائل على الحدود العراقية السورية أدّت إلى ردّ فعل أميركي لم يكن متوقّعاً إلى حد كبير، إذ جاء الرد عبر استهداف مقر لقوات «الحشد الشعبي» نتج عنه وقوع قتلى وجرحى عراقيين.

ما يستحق الذكر أن رئيس الوزراء العراقي كان قد أخذ موافقة قوى «الإطار التنسيقي» إزاء كيفية التعامل مع عناصر يُطلق عليها أحياناً مسمى «خارجين على القانون»، وأحياناً أخرى مسمى «إرهابيين». إلا أن الوصف الأخير بات يطلَق للمرة الأولى على فصائل لها عناوين واضحة وتعتبر نفسها «فصائل مقاومة»، الأمر الذي يعكس طبيعة الانقسام داخل قوى «الإطار التنسيقي» التي تسيطر على الحكم الآن؛ كون محمد شيّاع السوداني ينتمي إليها.

في هذا الصدد، فإن رؤية السوداني، سواءً لجهة طريقة إدارة الدولة في الداخل أم على صعيد التعامل مع ملفّات الخارج، بدأت تختلف عما يراه عدد من قادة قوى «الإطار التنسيقي». لكن إقدام القوات الأميركية على ضرب مقرّ لـ«الحشد الشعبي» في منطقة جرف الصخر، جنوب بغداد، كان «المتغير» الذي أدى إلى إحداث خلل بموازين العلاقة بين بغداد وواشنطن. وهنا نشير إلى أن الأخيرة كانت قد أعربت عن رضاها على خطوات السوداني حيال استهداف السفارة الأميركية من قِبل الفصائل المسلّحة، بما في ذلك إطلاقه وصف «العمل الإرهابي» على ما حدث.

من جهة ثانية، صحيح أن الحكومة العراقية أدانت عملية جرف الصخر، لكن الإدانة ظلّت دون مستوى تقديم احتجاج، كما علّقت أطراف عراقية مناوئة للوجود الأميركي في العراق. ثم إن «اللغة الدبلوماسية» التي كُتب بها البيان، توحي وكأن هذه الحكومة تسير على «حبل مشدود» بين واشنطن من جهة، والفصائل المسلَّحة من جهة أخرى، ولا سيما في ظل التأكيد الدائم للحكومة العراقية بحاجتها إلى التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، ناهيك عن التمسك بـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي» الموقَّعة بين بغداد وواشنطن عام 2009. وبالفعل، فإن البيان الحكومي يقول: «نُدين بشدة الهجوم الذي استهدف منطقة جُرف الصخر، الذي جرى دون علم الجهات الحكومية العراقية؛ ما يُعدّ انتهاكاً واضحاً للسيادة، ومحاولة للإخلال بالوضع الأمني الداخلي المستقر، فالحكومة العراقية هي المعنية حصراً بتنفيذ القانون، ومحاسبة المخالفين».

«رسالتا احتجاج وطمأنة»هذا يعني أن الهجوم شُنّ دون علم الحكومة العراقية، وبدا، من ناحية، كما لو كان «رسالة احتجاج» موجهة إلى واشنطن، لإحجامها عن التنسيق مع بغداد، رغم أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي تُلزمها بذلك، ومن ناحية ثانية بدا بمثابة «رسالة طمأنة» للفصائل المسلَّحة بأن الحكومة لم تعطِ واشنطن «الضوء الأخضر» بأي شكل من الأشكال، وهو ما عدّته انتهاكاً للسيادة.

ليس هذا فحسب، بل إن البيان الحكومي كرّر الترحيب بالتحالف الدولي، عندما نصّ على أن «وجود التحالف الدولي في العراق هو وجود داعم لعمل قواتنا المسلّحة عبر مسارات التدريب والتأهيل وتقديم الاستشارة، وأن ما جرى يُعدّ تجاوزاً واضحاً للمهمة التي توجد من أجلها عناصر التحالف الدولي لمحاربة (داعش) على الأراضي العراقية؛ لذلك فإنها مدعوّة إلى عدم التصرف بشكل منفرد، وأن تلتزم سيادة العراق التي لا تهاون إزاء خرقها بأي شكل كان».

مجمع السفارة الأميركية في بغداد (آ ف ب / غيتي)

ومع هذا، حسم رئيس الوزراء الحالي محمد شيّاع السوداني، بخلاف كل رؤساء الوزراء العراقيين السابقين، العلاقة الملتبسة بين الدولة والفصائل المسلَّحة، التي دأبت طوال السنوات الماضية، على استهداف المصالح الأميركية في العراق، إذ إن هذه الفصائل، التي تربط غالبيتها علاقات تحالفية مع إيران، ركّزت هجماتها على القواعد؛ حيث الوجود العسكري الأميركي في البلاد، كقاعدتيْ عين الأسد وحرير، بجانب مقر السفارة الأميركية، من منطلق رفضها بقاء القوات الأميركية في العراق. غير أن تلك الهجمات تكرّرت، طوال السنوات الماضية، وارتفعت وتيرتها على عهد حكومة رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، ولم تتبنَّ أية جهة المسؤولية عن تنفيذها.

«عملية المطار»

ثم إن الحكومة العراقية نفسها، حينذاك، ما كانت تجرؤ لا على تحديد هوية تلك الفصائل، ولا إطلاق أوصاف تتجاوز وصف «الخارجين عن القانون»، في بيانات الإدانة. وكانت في الغالب تكتفي بالقول إنها تمكنت من العثور على منصات إطلاق الصواريخ. وفي حين كان الكاظمي يعلن الاتفاق مع الأميركيين على جدولة انسحابهم من العراق، والقول إن ما سيبقى منهم لن يزيد على نحو 2000 مستشار تحتاج إليهم الحكومة العراقية بموجب «اتفاقية الإطار الاستراتيجي» - التي كان العراق قد وقّعها مع الولايات المتحدة عام 2009 على عهد حكومة نوري المالكي - فإن الفصائل كانت تهاجم الكاظمي بشدة، وثمة مَن اتهمه بأنه هو من سهّل «عملية المطار»، التي وقعت يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020 أيام كان رئيساً لجهاز المخابرات خلال فترة تصريف الأعمال لحكومة عادل عبد المهدي. وكما هو معروف، نفّذت في تلك العملية طائرة حربية أميركية ضربة، بالقرب من مطار بغداد الدولي، أدت إلى مقتل قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني»، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» العراقي، وأدت، من ثم، إلى تصعيد غير مسبوق، سواء في الهجمات أم المواقف السياسية. وحقّاً، خلال ثلاثة أيام من العملية، أصدر البرلمان العراقي قراراً غير مُلزِم للحكومة العراقية بإخراج الأميركيين من العراق، لكن هذا القرار تَحوّل إلى شمّاعة تُعلّق عليه القوى السياسية المناوئة للوجود الأميركي كل خلافاتها مع الحكومة التي كان يرأسها مصطفى الكاظمي في الشهر الخامس من عام 2020.

وبينما ازدادت الهجمات، ومعها تعقيد العلاقة مع الكاظمي، إلى حد تنفيذ بعض الفصائل ضربة على منزله بهدف اغتياله، فإن التداعيات اللاحقة فاقمت تعقيدات الموقف حتى ظهور نتائج الانتخابات التي أُجريت أواخر عام 2021، ونتج عنها إخراج الكاظمي ومطاردته مع فريقه، والمجيء بحكومة شكّلتها قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي التي رشحت السوداني لرئاستها.لا حياد مع الدولةعلى صعيد آخر، بعد اندلاع حرب غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أعلنت فصائل عراقية أطلقت على نفسها «المقاومة الإسلامية في العراق»؛ من بينها حركة «النجباء»، و«كتائب حزب الله» العراقي، أنها قرّرت استهداف المواقع والأهداف الأميركية، سواءً في العراق أم سوريا، من منطلق أن واشنطن تقف بالكامل خلف إسرائيل في حربها ضد غزة وحركة «حماس»، وأيضاً أعلنت بشكل واضح أنها جزء من «وحدة الساحات» في مواجهة إسرائيل.

إقدام القوات الأميركية على ضرب مقرّ لـ«الحشد الشعبي» في منطقة جرف الصخر كان «المتغير» الذي أدى إلى إحداث خلل في موازين العلاقة بين بغداد وواشنطن

في الداخل العراقي، على صعيد القوى الرئيسة التي شكّلت الحكومة الحالية؛ وهي قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي، بدا أن الأمر أضحى مُحرجاً لجهة كون بعض قوى «الإطار التنسيقي» جزءاً من الحكومة، مثلما لبعضها تمثيل برلماني، وإن كانت تَعتبر نفسها جزءاً من محور «المقاومة». ومع كشف الفصائل، التي باتت تستهدف القوات الأميركية في العراق أو السفارة الأميركية، عن اسمها الصريح، غدا واضحاً أن القوى الأخرى التي هي جزء من «الإطار التنسيقي» الذي يقود الحكومة، وفي الوقت عينه تَعدُّ نفسها جزءاً من المقاومة، صارت تشعر بالحرج لجهة كيفية التوفيق بين مسارين لا يلتقيان. فالحكومة العراقية، وعلى لسان رئيسها، أعلنت موقفاً رسمياً واضحاً حيال حرب غزة تَعدُّه القوى السياسية المؤيدة لرئيس الوزراء موقفاً قوياً. ومع استمرار الحكومة في هذا الموقف، صار استهداف الفصائل المسلَّحة المصالح الأميركية - وبأسمائها الصريحة – واقعاً محرجاً للحكومة نفسها ولداعميها من داخل «الإطار التنسيقي»، وذلك لجهة الفصل بين ضرورة احترام سيادة الدولة، وبين البعد العاطفي في سياق الحرب على غزة وما تفرضه من سياقات دعم.

وفي محاولة من رئيس الوزراء لعقد تسوية مع الأطراف المسلَّحة عن طريق القوى التي تصنِّف نفسها بأنها «مقاومة» مثلها، لكنها جزء من الحكومة للتخفيف من استهداف القواعد العراقية التي تضم قوات التحالف الدولي، أدى استمرار الضربات إلى تصاعد الرفض الرسمي لعمليات الاستهداف، وإن كان من دون أن يبلغ مدًى يمكن أن تترتب عليه مواقف سياسية حادّة. لكن استهداف السفارة الأميركية في قلب بغداد كان «القشّة التي قصمت ظهر بعير» العلاقة بين الحكومة وتلك الفصائل.

ففي بيان حكومي يُعدّ الأقوى لجهة التوصيف، أطلق محمد شيّاع السوداني وصف «عمل إرهابي» على ما فعلته الفصائل باستهدافها السفارة الأميركية. إلا أن هذا الوصف بقدر ما أدى إلى مزيد من المواقف المحرِجة داخل تلك الفصائل، كان محل قبول من قِبل الأميركيين الذين بدا أنهم كانوا ينتظرون مثل هذه الخطوة، وبالأخص، أنهم كانوا يلامون عراقياً لجهة إدراجهم بعض هذه الفصائل في خانة «الإرهاب». ولهذا فإن هذا التوصيف، وخصوصاً أنه جاء على لسان الناطق العسكري باسم القائد العام للقوات المسلّحة، له دلالاته العميقة.

السوداني لم يكتف بذلك، بل أخذ موافقة قوى «الإطار التنسيقي» التي اجتمع معها ليلة الحادث، لكي تعلن دعمها إياه في سياق حماية البعثات الأجنبية في البلاد. وعلى صعيد هذا التوصيف بدا أن قواعد الاشتباك اختلفت بين الفصائل المسلّحة وواشنطن التي سعى رئيس الوزراء إلى ضبط إيقاعها قدر الإمكان. ومع أن العلاقة ظلت طبيعية بين السوداني والفصائل المسلّحة، من منطلق أنها قريبة من الحكومة - ما أدى إلى حصول هدنة طويلة امتدت لسنة تقريباً - فإن تكثيف العمليات العسكرية في سياق حرب غزة، وتصاعد عمليات الاستهداف للمصالح الأميركية في العراق، أنهيا الهدنة بين الطرفين.

 

محمد شيّاع السوداني (آ ف ب)

هل سيكون 2024 «عام المنجزات» في العراق؟

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، في إطار برنامجه الحكومي، الذي بدا شاملاً وطَموحاً، مع مطلع العام الجديد، أن هذا العام سيكون «عام المنجزات».السوداني كتب، في سياق تهئنته للعراقيين بمناسبة دخول العام الجديد: «ندخل عاماً جديداً نحمل فيه تطلعات شعبنا، ونعقد الأمل والعزيمة، ونجدد الإصرار على أن يكون عاماً مفعماً بالتقدّم والعمل والعطاء، والمُضيّ بما التزمت به الحكومة في برنامجها وأولوياته التنفيذية، بأنها حكومة خدمات وإصلاح وتحقيق المتطلبات والاحتياجات، التي تلاقي تطلعات المواطنين في كل مكان من هذا الوطن الغالي». وتابع: «عامنا الجديد سيكون (عام الإنجازات) بإذن الله تعالى، سيكون عام تحويل الخُطط إلى واقع عمل، وقطف ثمار الجهد وحصاده، بما يلبّي طموح مواطنينا في كلّ مكان. حفظ الله العراق عزيزاً قوياً مُعافى». وفعلاً، في مارس (آذار) الماضي، أعلن السوداني أن 2023 سيكون «عام المشاريع». وتعهّد رئيس الوزراء، في كلمة له بمناسبة إطلاق الحزمة الأولى من المشاريع الخاصة بفك الاختناقات المرورية في العاصمة العراقية بغداد، خلال احتفالية أقامتها وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامة، بأن «الحكومة وضعت أولويات الخدمات في مقدمة برنامجها، وبغداد اليوم بحاجة ماسّة إلى مشاريع خِدمية». وأردف أن «اليوم كل موظف بحاجة إلى ساعتين للوصول إلى مكان عمله، بسبب الاختناقات المرورية... وعام 2023 سيكون عام المشاريع». السوداني أوضح أن «مشاريع المجسّرات تُعدّ ضرورية في العاصمة، وبغداد تستحق تنفيذ حلول دائمة لمسألة الزحامات المرورية»، مبيناً أن «المشاريع التي ستطلَق، اليوم، تحصل للمرة الأولى في بغداد». ومن ثم أضاف أن «الحلول موجودة رغم التأخير والمركز، وأطراف بغداد ستكون واحدة لسهولة التنقل... وهذه المشاريع لن تذهب مع المشاريع المتلكئة، وأي جهة تعرقل تنفيذ المشاريع فأنا موجود»، إلى أن قال: «هذه المشاريع تأتي التزاماً وإيفاءً بما وعدنا به شعبنا، وما سبق أن أدرجناه في البرنامج الحكومي، ضمن حزمة الخدمات التي هي جزء أساس من واجبنا واستحقاقات شعبنا».وطبقاً للمراقبين والمتابعين، فإن ما تحقَّق من منجزات، خلال السنة الأولى من عمر حكومة السوداني، ما كان يمكن أن يتحقق لولا الاستقرار السياسي الذي كان أحد العوامل المساعِدة للعمل. ففي خلال العام كله، وبخلاف الأعوام الماضية، لم تحدث إلا تظاهرات مطلبية بسيطة من قِبل الموظفين أو العاطلين عن العمل أو المفسوخة عقودهم. وحتى حين حاولت بعض القوى المدنية المعارِضة رفع سقف المعارضة والخروج إلى الشارع بتظاهرات، فإنها بسبب تغيب «التيار الصدري» عنها، لم تتمكن من حشد الأعداد المطلوبة التي كان يمكن أن تشكل خطراً تستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية في مواجهتها. «التيار الصدري»، على الرغم من زخمه الجماهيري الكبير، لم يتحرك في الشارع ضد الحكومة، مع أنه بقي رافضاً لها، فقد درج زعيم «التيار» مقتدى الصدر على إطلاق تسمية حكومة «بني العباس» عليها، في مقابل «العلويين» الذين يعلن أنه مَن يمثلهم. غير أنه مع دخول العام الجديد الذي يريده السوداني أن يكون «عام المنجزات»، تظل المخاوف قائمة إذا ما واصلت الفصائل المسلَّحة ضرب المواقع المرافقية والعسكرية الأميركية. كذلك هناك خشية من أن يأتي الرد الأميركي قوياً في المرات المقبلة. وما يزيد من وتيرة المخاوف أكثر هو الخشية من انخراط إسرائيل في المواجهة مع تلك الفصائل داخل العراق، ما يسبب إحراجاً كبيراً للحكومة، وللسوداني شخصياً، في ظل تركيبة سياسية غير متجانسة في ملفات عدة، رغم كونها تشكل ائتلافاً كبيراً داعماً للحكومة اسمه «ائتلاف إدارة الدولة».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.