ظلال ثقيلة لحرب غزة على الداخل العراقي

وسط فشل ضبط قواعد الاشتباك بين واشنطن والفصائل المسلّحة

قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)
قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)
TT

ظلال ثقيلة لحرب غزة على الداخل العراقي

قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)
قاسم سليماني و"ابو مهدي المهندس" (رويترز)

لم تصمد المساعي التي بذلها رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني في ضبط قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة والفصائل العراقية المسلّحة التي تُواصل قصف القواعد والمنشآت التي تتمركز فيها قوات مسلّحة أميركية في كل من العراق وسوريا. وفي حين يسعى السوداني إلى أن يجعل من العام الجديد (2024) «عام منجزات»، كما وعد العراقيين، وسط وفرة مالية عبر موازنة ثلاثية نجح في تمريرها داخل البرلمان - وهذا أمر يحصل للمرة الأولى - فإن التحديات التي بدأت تفرضها تداعيات «حرب غزة»، وتفاعل عدد من الفصائل العراقية المسلَّحة القريبة من إيران معها، أخذت تُلقي بظلالها على الداخل العراقي، وسط انقسام سياسي ومجتمعي في كيفية التعامل معها.

كان رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، قد سقف تحدّيه للفصائل المسلّحة التي استهدفت، الشهر الماضي، مقر السفارة الأميركية في بغداد. فيومذاك وصف ما فعلته تلك الفصائل، التي باتت معروفة وتعلن صراحةً ما تقوم به، بأنه «عمل إرهابي». وحقّاً، حاز هذا الوصف رضا واشنطن، وفي المقابل لم يلقَ ممانعة في الداخل، بما في ذلك قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي التي يحسبها البعض على طهران.

إلا أنه في النهاية لم يؤدِّ إلى منع تلك الفصائل من مواصلة استهداف القواعد؛ حيث تتمركز القوات الأميركية بصفة «مستشارين» - مثلما تقول الحكومة العراقية - في قاعدتيْ عين الأسد بمحافظة الأنبار، وحرير بمحافظة أربيل، ولا إلى قدرة الحكومة على اعتقال العناصر التي تعلن دائماً، وطبقاً للبيانات الرسمية، أنها ستقدّمهم إلى العدالة.

الجانب الوحيد الذي التزمت به تلك الفصائل هو تجنّبها توجيه ضربات أخرى إلى مجمع السفارة الأميركية، وهو ما يعني أنها، طبقاً لتصريحات صدرت عن بعض قيادات الفصائل، ستحترم رؤية الدولة بشأن حماية البعثات الدبلوماسية الأجنبية، بما فيها السفارة الأميركية. بيد أن نوبات القصف للمواقع والمنشآت الأميركية، التي أدت إلى وقوع إصابات في صفوف العسكريين الأميركيين داخل مواقع استهدفتها تلك الفصائل على الحدود العراقية السورية أدّت إلى ردّ فعل أميركي لم يكن متوقّعاً إلى حد كبير، إذ جاء الرد عبر استهداف مقر لقوات «الحشد الشعبي» نتج عنه وقوع قتلى وجرحى عراقيين.

ما يستحق الذكر أن رئيس الوزراء العراقي كان قد أخذ موافقة قوى «الإطار التنسيقي» إزاء كيفية التعامل مع عناصر يُطلق عليها أحياناً مسمى «خارجين على القانون»، وأحياناً أخرى مسمى «إرهابيين». إلا أن الوصف الأخير بات يطلَق للمرة الأولى على فصائل لها عناوين واضحة وتعتبر نفسها «فصائل مقاومة»، الأمر الذي يعكس طبيعة الانقسام داخل قوى «الإطار التنسيقي» التي تسيطر على الحكم الآن؛ كون محمد شيّاع السوداني ينتمي إليها.

في هذا الصدد، فإن رؤية السوداني، سواءً لجهة طريقة إدارة الدولة في الداخل أم على صعيد التعامل مع ملفّات الخارج، بدأت تختلف عما يراه عدد من قادة قوى «الإطار التنسيقي». لكن إقدام القوات الأميركية على ضرب مقرّ لـ«الحشد الشعبي» في منطقة جرف الصخر، جنوب بغداد، كان «المتغير» الذي أدى إلى إحداث خلل بموازين العلاقة بين بغداد وواشنطن. وهنا نشير إلى أن الأخيرة كانت قد أعربت عن رضاها على خطوات السوداني حيال استهداف السفارة الأميركية من قِبل الفصائل المسلّحة، بما في ذلك إطلاقه وصف «العمل الإرهابي» على ما حدث.

من جهة ثانية، صحيح أن الحكومة العراقية أدانت عملية جرف الصخر، لكن الإدانة ظلّت دون مستوى تقديم احتجاج، كما علّقت أطراف عراقية مناوئة للوجود الأميركي في العراق. ثم إن «اللغة الدبلوماسية» التي كُتب بها البيان، توحي وكأن هذه الحكومة تسير على «حبل مشدود» بين واشنطن من جهة، والفصائل المسلَّحة من جهة أخرى، ولا سيما في ظل التأكيد الدائم للحكومة العراقية بحاجتها إلى التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، ناهيك عن التمسك بـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي» الموقَّعة بين بغداد وواشنطن عام 2009. وبالفعل، فإن البيان الحكومي يقول: «نُدين بشدة الهجوم الذي استهدف منطقة جُرف الصخر، الذي جرى دون علم الجهات الحكومية العراقية؛ ما يُعدّ انتهاكاً واضحاً للسيادة، ومحاولة للإخلال بالوضع الأمني الداخلي المستقر، فالحكومة العراقية هي المعنية حصراً بتنفيذ القانون، ومحاسبة المخالفين».

«رسالتا احتجاج وطمأنة»هذا يعني أن الهجوم شُنّ دون علم الحكومة العراقية، وبدا، من ناحية، كما لو كان «رسالة احتجاج» موجهة إلى واشنطن، لإحجامها عن التنسيق مع بغداد، رغم أن اتفاقية الإطار الاستراتيجي تُلزمها بذلك، ومن ناحية ثانية بدا بمثابة «رسالة طمأنة» للفصائل المسلَّحة بأن الحكومة لم تعطِ واشنطن «الضوء الأخضر» بأي شكل من الأشكال، وهو ما عدّته انتهاكاً للسيادة.

ليس هذا فحسب، بل إن البيان الحكومي كرّر الترحيب بالتحالف الدولي، عندما نصّ على أن «وجود التحالف الدولي في العراق هو وجود داعم لعمل قواتنا المسلّحة عبر مسارات التدريب والتأهيل وتقديم الاستشارة، وأن ما جرى يُعدّ تجاوزاً واضحاً للمهمة التي توجد من أجلها عناصر التحالف الدولي لمحاربة (داعش) على الأراضي العراقية؛ لذلك فإنها مدعوّة إلى عدم التصرف بشكل منفرد، وأن تلتزم سيادة العراق التي لا تهاون إزاء خرقها بأي شكل كان».

مجمع السفارة الأميركية في بغداد (آ ف ب / غيتي)

ومع هذا، حسم رئيس الوزراء الحالي محمد شيّاع السوداني، بخلاف كل رؤساء الوزراء العراقيين السابقين، العلاقة الملتبسة بين الدولة والفصائل المسلَّحة، التي دأبت طوال السنوات الماضية، على استهداف المصالح الأميركية في العراق، إذ إن هذه الفصائل، التي تربط غالبيتها علاقات تحالفية مع إيران، ركّزت هجماتها على القواعد؛ حيث الوجود العسكري الأميركي في البلاد، كقاعدتيْ عين الأسد وحرير، بجانب مقر السفارة الأميركية، من منطلق رفضها بقاء القوات الأميركية في العراق. غير أن تلك الهجمات تكرّرت، طوال السنوات الماضية، وارتفعت وتيرتها على عهد حكومة رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، ولم تتبنَّ أية جهة المسؤولية عن تنفيذها.

«عملية المطار»

ثم إن الحكومة العراقية نفسها، حينذاك، ما كانت تجرؤ لا على تحديد هوية تلك الفصائل، ولا إطلاق أوصاف تتجاوز وصف «الخارجين عن القانون»، في بيانات الإدانة. وكانت في الغالب تكتفي بالقول إنها تمكنت من العثور على منصات إطلاق الصواريخ. وفي حين كان الكاظمي يعلن الاتفاق مع الأميركيين على جدولة انسحابهم من العراق، والقول إن ما سيبقى منهم لن يزيد على نحو 2000 مستشار تحتاج إليهم الحكومة العراقية بموجب «اتفاقية الإطار الاستراتيجي» - التي كان العراق قد وقّعها مع الولايات المتحدة عام 2009 على عهد حكومة نوري المالكي - فإن الفصائل كانت تهاجم الكاظمي بشدة، وثمة مَن اتهمه بأنه هو من سهّل «عملية المطار»، التي وقعت يوم 3 يناير (كانون الثاني) 2020 أيام كان رئيساً لجهاز المخابرات خلال فترة تصريف الأعمال لحكومة عادل عبد المهدي. وكما هو معروف، نفّذت في تلك العملية طائرة حربية أميركية ضربة، بالقرب من مطار بغداد الدولي، أدت إلى مقتل قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني»، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» العراقي، وأدت، من ثم، إلى تصعيد غير مسبوق، سواء في الهجمات أم المواقف السياسية. وحقّاً، خلال ثلاثة أيام من العملية، أصدر البرلمان العراقي قراراً غير مُلزِم للحكومة العراقية بإخراج الأميركيين من العراق، لكن هذا القرار تَحوّل إلى شمّاعة تُعلّق عليه القوى السياسية المناوئة للوجود الأميركي كل خلافاتها مع الحكومة التي كان يرأسها مصطفى الكاظمي في الشهر الخامس من عام 2020.

وبينما ازدادت الهجمات، ومعها تعقيد العلاقة مع الكاظمي، إلى حد تنفيذ بعض الفصائل ضربة على منزله بهدف اغتياله، فإن التداعيات اللاحقة فاقمت تعقيدات الموقف حتى ظهور نتائج الانتخابات التي أُجريت أواخر عام 2021، ونتج عنها إخراج الكاظمي ومطاردته مع فريقه، والمجيء بحكومة شكّلتها قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي التي رشحت السوداني لرئاستها.لا حياد مع الدولةعلى صعيد آخر، بعد اندلاع حرب غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أعلنت فصائل عراقية أطلقت على نفسها «المقاومة الإسلامية في العراق»؛ من بينها حركة «النجباء»، و«كتائب حزب الله» العراقي، أنها قرّرت استهداف المواقع والأهداف الأميركية، سواءً في العراق أم سوريا، من منطلق أن واشنطن تقف بالكامل خلف إسرائيل في حربها ضد غزة وحركة «حماس»، وأيضاً أعلنت بشكل واضح أنها جزء من «وحدة الساحات» في مواجهة إسرائيل.

إقدام القوات الأميركية على ضرب مقرّ لـ«الحشد الشعبي» في منطقة جرف الصخر كان «المتغير» الذي أدى إلى إحداث خلل في موازين العلاقة بين بغداد وواشنطن

في الداخل العراقي، على صعيد القوى الرئيسة التي شكّلت الحكومة الحالية؛ وهي قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي، بدا أن الأمر أضحى مُحرجاً لجهة كون بعض قوى «الإطار التنسيقي» جزءاً من الحكومة، مثلما لبعضها تمثيل برلماني، وإن كانت تَعتبر نفسها جزءاً من محور «المقاومة». ومع كشف الفصائل، التي باتت تستهدف القوات الأميركية في العراق أو السفارة الأميركية، عن اسمها الصريح، غدا واضحاً أن القوى الأخرى التي هي جزء من «الإطار التنسيقي» الذي يقود الحكومة، وفي الوقت عينه تَعدُّ نفسها جزءاً من المقاومة، صارت تشعر بالحرج لجهة كيفية التوفيق بين مسارين لا يلتقيان. فالحكومة العراقية، وعلى لسان رئيسها، أعلنت موقفاً رسمياً واضحاً حيال حرب غزة تَعدُّه القوى السياسية المؤيدة لرئيس الوزراء موقفاً قوياً. ومع استمرار الحكومة في هذا الموقف، صار استهداف الفصائل المسلَّحة المصالح الأميركية - وبأسمائها الصريحة – واقعاً محرجاً للحكومة نفسها ولداعميها من داخل «الإطار التنسيقي»، وذلك لجهة الفصل بين ضرورة احترام سيادة الدولة، وبين البعد العاطفي في سياق الحرب على غزة وما تفرضه من سياقات دعم.

وفي محاولة من رئيس الوزراء لعقد تسوية مع الأطراف المسلَّحة عن طريق القوى التي تصنِّف نفسها بأنها «مقاومة» مثلها، لكنها جزء من الحكومة للتخفيف من استهداف القواعد العراقية التي تضم قوات التحالف الدولي، أدى استمرار الضربات إلى تصاعد الرفض الرسمي لعمليات الاستهداف، وإن كان من دون أن يبلغ مدًى يمكن أن تترتب عليه مواقف سياسية حادّة. لكن استهداف السفارة الأميركية في قلب بغداد كان «القشّة التي قصمت ظهر بعير» العلاقة بين الحكومة وتلك الفصائل.

ففي بيان حكومي يُعدّ الأقوى لجهة التوصيف، أطلق محمد شيّاع السوداني وصف «عمل إرهابي» على ما فعلته الفصائل باستهدافها السفارة الأميركية. إلا أن هذا الوصف بقدر ما أدى إلى مزيد من المواقف المحرِجة داخل تلك الفصائل، كان محل قبول من قِبل الأميركيين الذين بدا أنهم كانوا ينتظرون مثل هذه الخطوة، وبالأخص، أنهم كانوا يلامون عراقياً لجهة إدراجهم بعض هذه الفصائل في خانة «الإرهاب». ولهذا فإن هذا التوصيف، وخصوصاً أنه جاء على لسان الناطق العسكري باسم القائد العام للقوات المسلّحة، له دلالاته العميقة.

السوداني لم يكتف بذلك، بل أخذ موافقة قوى «الإطار التنسيقي» التي اجتمع معها ليلة الحادث، لكي تعلن دعمها إياه في سياق حماية البعثات الأجنبية في البلاد. وعلى صعيد هذا التوصيف بدا أن قواعد الاشتباك اختلفت بين الفصائل المسلّحة وواشنطن التي سعى رئيس الوزراء إلى ضبط إيقاعها قدر الإمكان. ومع أن العلاقة ظلت طبيعية بين السوداني والفصائل المسلّحة، من منطلق أنها قريبة من الحكومة - ما أدى إلى حصول هدنة طويلة امتدت لسنة تقريباً - فإن تكثيف العمليات العسكرية في سياق حرب غزة، وتصاعد عمليات الاستهداف للمصالح الأميركية في العراق، أنهيا الهدنة بين الطرفين.

 

محمد شيّاع السوداني (آ ف ب)

هل سيكون 2024 «عام المنجزات» في العراق؟

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، في إطار برنامجه الحكومي، الذي بدا شاملاً وطَموحاً، مع مطلع العام الجديد، أن هذا العام سيكون «عام المنجزات».السوداني كتب، في سياق تهئنته للعراقيين بمناسبة دخول العام الجديد: «ندخل عاماً جديداً نحمل فيه تطلعات شعبنا، ونعقد الأمل والعزيمة، ونجدد الإصرار على أن يكون عاماً مفعماً بالتقدّم والعمل والعطاء، والمُضيّ بما التزمت به الحكومة في برنامجها وأولوياته التنفيذية، بأنها حكومة خدمات وإصلاح وتحقيق المتطلبات والاحتياجات، التي تلاقي تطلعات المواطنين في كل مكان من هذا الوطن الغالي». وتابع: «عامنا الجديد سيكون (عام الإنجازات) بإذن الله تعالى، سيكون عام تحويل الخُطط إلى واقع عمل، وقطف ثمار الجهد وحصاده، بما يلبّي طموح مواطنينا في كلّ مكان. حفظ الله العراق عزيزاً قوياً مُعافى». وفعلاً، في مارس (آذار) الماضي، أعلن السوداني أن 2023 سيكون «عام المشاريع». وتعهّد رئيس الوزراء، في كلمة له بمناسبة إطلاق الحزمة الأولى من المشاريع الخاصة بفك الاختناقات المرورية في العاصمة العراقية بغداد، خلال احتفالية أقامتها وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامة، بأن «الحكومة وضعت أولويات الخدمات في مقدمة برنامجها، وبغداد اليوم بحاجة ماسّة إلى مشاريع خِدمية». وأردف أن «اليوم كل موظف بحاجة إلى ساعتين للوصول إلى مكان عمله، بسبب الاختناقات المرورية... وعام 2023 سيكون عام المشاريع». السوداني أوضح أن «مشاريع المجسّرات تُعدّ ضرورية في العاصمة، وبغداد تستحق تنفيذ حلول دائمة لمسألة الزحامات المرورية»، مبيناً أن «المشاريع التي ستطلَق، اليوم، تحصل للمرة الأولى في بغداد». ومن ثم أضاف أن «الحلول موجودة رغم التأخير والمركز، وأطراف بغداد ستكون واحدة لسهولة التنقل... وهذه المشاريع لن تذهب مع المشاريع المتلكئة، وأي جهة تعرقل تنفيذ المشاريع فأنا موجود»، إلى أن قال: «هذه المشاريع تأتي التزاماً وإيفاءً بما وعدنا به شعبنا، وما سبق أن أدرجناه في البرنامج الحكومي، ضمن حزمة الخدمات التي هي جزء أساس من واجبنا واستحقاقات شعبنا».وطبقاً للمراقبين والمتابعين، فإن ما تحقَّق من منجزات، خلال السنة الأولى من عمر حكومة السوداني، ما كان يمكن أن يتحقق لولا الاستقرار السياسي الذي كان أحد العوامل المساعِدة للعمل. ففي خلال العام كله، وبخلاف الأعوام الماضية، لم تحدث إلا تظاهرات مطلبية بسيطة من قِبل الموظفين أو العاطلين عن العمل أو المفسوخة عقودهم. وحتى حين حاولت بعض القوى المدنية المعارِضة رفع سقف المعارضة والخروج إلى الشارع بتظاهرات، فإنها بسبب تغيب «التيار الصدري» عنها، لم تتمكن من حشد الأعداد المطلوبة التي كان يمكن أن تشكل خطراً تستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية في مواجهتها. «التيار الصدري»، على الرغم من زخمه الجماهيري الكبير، لم يتحرك في الشارع ضد الحكومة، مع أنه بقي رافضاً لها، فقد درج زعيم «التيار» مقتدى الصدر على إطلاق تسمية حكومة «بني العباس» عليها، في مقابل «العلويين» الذين يعلن أنه مَن يمثلهم. غير أنه مع دخول العام الجديد الذي يريده السوداني أن يكون «عام المنجزات»، تظل المخاوف قائمة إذا ما واصلت الفصائل المسلَّحة ضرب المواقع المرافقية والعسكرية الأميركية. كذلك هناك خشية من أن يأتي الرد الأميركي قوياً في المرات المقبلة. وما يزيد من وتيرة المخاوف أكثر هو الخشية من انخراط إسرائيل في المواجهة مع تلك الفصائل داخل العراق، ما يسبب إحراجاً كبيراً للحكومة، وللسوداني شخصياً، في ظل تركيبة سياسية غير متجانسة في ملفات عدة، رغم كونها تشكل ائتلافاً كبيراً داعماً للحكومة اسمه «ائتلاف إدارة الدولة».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».