غزالي عثماني... «الديمقراطي العميق» الطامح إلى ولاية ثالثة رغم المعارضة

رئيس جزر القُمُر رفع شعار «الضربة القاضية»... وتعهّد «مواصلة البناء»

قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
TT

غزالي عثماني... «الديمقراطي العميق» الطامح إلى ولاية ثالثة رغم المعارضة

قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية

متعهداً بـ«مواصلة بناء البلاد»، اعتلى رئيس جمهورية جزر القُمُر غزالي عثماني مسرحاً في أول مهرجان انتخابي له، أقيم في ملعب لكرة القدم بمسقط رأسه ميتسودغي الواقعة على بُعد بضعة كيلومترات عن موروني عاصمة «القُمُر الكبرى» أكبر جزر الأرخبيل المكون للدولة العضو في جامعة الدول العربية، والواقعة في عمق المحيط الهندي في منتصف الطريق بين جزيرة مدغشقر والساحل الأفريقي. عثماني عقيد الجيش السابق الذي حكم البلاد للمرة الأولى إثر انقلاب عسكري عام 1999، ثم حكمها بزي مدني عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2002، قبل أن يبعد عن السلطة عِقداً من الزمان ليعود رئيساً عام 2016 ويفوز بولاية ثانية عام 2019، يسعى اليوم للفوز بولاية ثالثة في الانتخابات المقرر إجراؤها في 14 يناير (كانون الثاني) الحالي؛ ما يمكنه من البقاء على قمة السلطة حتى 2029.

وقف غزالي عثماني بين أنصاره في ملعب كرة القدم مرتدياً بزة زرقاء بنفس لون حزب «اتفاقية تجديد جزر القُمُر» الحاكم، ليكرّر شعار «الضربة القاضية»، الذي روّجت له أغنية الحملة الانتخابية. وفي الخطاب عن حالة الاتحاد أمام مجلس الأمة، أخيراً، طالب عثماني منافسيه في الانتخابات الرئاسية بالانضمام إليه لـ«الحفاظ على التناوب السياسي السلمي والديمقراطي للسلطة». ودعا إلى «السلام وترسيخ الديمقراطية والتماسك الاجتماعي». ثم تعهد بـ«العمل مع جميع الجهات السياسية الفاعلة والمجتمع المدني؛ لضمان إجراء انتخابات حرة وشفافة وديمقراطية».

نشأة عسكرية

وُلد غزالي عثماني في الأول من يناير (كانون الثاني) 1959 في مدينة ميتسودغي، بجنوب غرب جزر القُمُر. واختار المسار العسكري في سن الثامنة عشرة؛ إذ درس في الكلية الملكية العسكرية المغربية بمدينة مكناس، في جناح المظليين، خلال الفترة من 1977 حتى 1980. وبعد العودة من المغرب، خدم عثماني في القوات المسلحة القُمُرية. وفي نهاية الثمانينات أصبح واحداً من الضباط الكبار بالجيش.

بعدها، عام 1996 التحق عثماني بدورة عسكرية في الأكاديمية الحربية بفرنسا، ورقّي لاحقاً إلى رتبة عقيد، ثم عُيّن رئيساً لأركان الجيش عام 1998. ولقد مكّنه موقعه البارز من الدخول إلى معترك السياسة؛ إذ تُعرف جزر القُمُر بأنها أرض خصبة للانقلابات العسكرية، إذ شهدت عشرين انقلاباً ومحاولة انقلابية في الفترة ما بين عامي 1975 و1999.

غير أن العقيد الطموح تعرّض لانتقادات خلال تلك الفترة، واتُهم بالتخلي عن رجاله، إبان محاولة انقلاب نفّذها المرتزق الفرنسي بوب دينارد عام 1995. ويومها، زعم منتقدوه أنه قال لدينار ورجاله: «انتظروا... سأحصل على تعزيزات»، لكنه بدلاً من ذلك لجأ إلى السفارة الفرنسية في العاصمة موروني. لكن هذه الاتهامات ينكرها عثماني جملةً وتفصيلاً.

الانقلاب على السلطة

يوم 30 أبريل (نيسان) 1999 قاد غزالي عثماني انقلاباً عسكرياً، أطاح الرئيس تاج الدين بن سعيد، وتولّى مقاليد الحكم. وفي حينه برّر عثماني الانقلاب بكونه «ضرورة لمنع اندلاع حرب أهلية»؛ لأن البلاد كانت تشهد أزمة قوية إثر تنامي النزعة الانفصالية بجزيرة أنجوان، ثاني كبرى الجزر الثلاث المكوّنة لاتحاد جزر القُمُر. وبالفعل، بقي عثماني على رأس الدولة لمدة ثلاث سنوات، أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية وتبني دستور جديد للبلاد يمنح حكماً ذاتياً واسعاً لكل من الجزر الثلاث (القُمُر الكبرى - نكازيجا وأنجوان - حنزوان وموهيلي - موحيلي)، ويضمن تناوب الرئاسة دورياً بينها.

ولكن إثر رفض الأحزاب السياسية للحكم العسكري، اضطر عثمان إلى القبول بإجراء انتخابات رئاسية، فترشح وفاز بها، وأُعلن رئيساً مدنياً عام 2002. ومن ثم، ظل في هذا المنصب حتى أُعلن فوز أحمد عبد الله سامبي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 14 مايو (أيار) 2006. واكتفى عثماني بولاية واحدة ورفض حينها البقاء في السلطة.

وفي كتاب صدر عام 2009 تحت عنوان «عندما كنت رئيساً»، سلّط عثماني الضوء على «هوسه بترك السلطة بكرامة»، كما كتبت يومذاك مجلة «جون أفريك». وقال رداً على منتقديه: إن «الغالبية تؤمن بالديمقراطية فقط عندما يمكن أن تقودهم إلى السلطة». وحقاً، ظل عثماني يتباهى بتلك الفترة من حياته، بكونه «حمى البلاد من الغرق في حرب أهلية، ووضع دستوراً أسّس للتناوب السلمي على السلطة؛ ما أفضى إلى مصالحة وطنية». غير أن معارضيه يتهمونه بالتساهل مع فرنسا بشأن النزاع حول جزيرة مايوت. ومايوت هذه هي رابع جزر الأرخبيل القُمُري الأربع، لكنها رفضت في تصويت شعبي خيار الاستقلال مع «جاراتها»، مفضلة البقاء تابعة لفرنسا وهي اليوم الدائرة الفرنسية رقم 101.

الديمقراطي العميق

الرجل الذي تباهى لفترة بتخليه عن السلطة، قرّر بعد عشر سنوات الترشح في انتخابات رئاسية أجريت يوم 10 أبريل 2016. واستطاع التقدم على منافسيه في الجولة الأولى، وأجريت جولة انتخابية ثانية للحسم بينه والمرشح المدعوم من السلطة محمد علي صويلحي، استطاع فيها عثماني التقدم أيضاً وإن شاب تلك الجولة عنف وفوضى.

بعد ذلك أمرت المحكمة بجولة ثالثة في بعض المناطق، أسفرت عن تأكيد فوز عثماني، لتعلنه المحكمة العليا رئيساً للبلاد في 15 مايو 2016، فيعود مجدداً إلى مقر الحكم «قصر دار السلام». وخلال حملته الانتخابية تلك حرص عثماني على أن يؤم الناس في صلاة الجمعة، مشدداً على نزعته الإيمانية، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) عن أحد مستشاريه حينها قوله: إن «عثماني يعتقد أن ما يحدث له أمر إلهي... ويعدّ الإسلام عنصراً مؤسساً للأمة».

لكن عثماني الذي سبق له أن تخلى عن السلطة وقدم نفسه بوصفه «ديمقراطياً عميقاً»، أقدم عقب فوزه بالرئاسة على حل المحكمة الدستورية العليا، وعدّل الدستور عبر استفتاء عام 2018. ومنح الدستور الجديد عثماني فرصة تمديد الحكم إلى فترتين رئاسيتين، مدة كل منهما خمس سنوات، متجاوزاً نص تناوب الحكم بين الجزر الثلاث الكبرى (القُمُر الكبرى وموهيلي وأنجوان)، الذي نص عليه دستور 2002.

إذ كان من المقرر أن يتولى مرشح من أنجوان الرئاسة في عام 2021، ولكن بموجب تعديل الدستور أُنهي مفعول الرئاسة الدورية؛ ما تسبّب وقتها في اضطرابات ومظاهرات في جزيرة أنجوان التي هي ثاني كبرى جزر الأرخبيل. وبالفعل، قاطعت المعارضة الاستفتاء على الدستور، إلا أن ذلك لم يمنع تمريره، ليدعو عثماني بعد ذلك إلى انتخابات مبكرة في مارس (آذار) 2019، فاز فيها بأكثر من 60 في المائة من الأصوات، وسط احتجاجات من المعارضة التي زعمت وجود مخالفات، بما في ذلك منع المراقبين المستقلين وإجراء الاقتراع المسبق.

في تلك الانتخابات أعلنت الحملة الانتخابية للرئيس، نجاته من محاولة اغتيال في أنجوان، خُطط لها بـ«وضع متفجرات فوق قمة جبل لتسبب انزلاقاً حين تنفجر وقت مرور موكب الرئيس». بيد أن المعارضة شككت في أمر الحادث، وقال إبراهيم محمد سولي، المرشح الرئاسي عن حزب «جوا»، وقتذاك: إن حملة الرئيس الحالي «تختلق هجمات وأحداثاً مزيفة لردع الناس عن المشاركة في الانتخابات بحرية».

معارضة منقسمةثم أن عثماني اتُهم باعتقال خصومه السياسيين، ونددت المعارضة بـ«نزعته السلطوية وفساد نظامه وعجزه عن الحد من الفقر المدقع الذي يعاني منه سكان البلاد البالغ عددهم 870 ألف نسمة». وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس القُمُري السابق أحمد عبد الله سامبي يقبع في السجن بتهمة «الخيانة العظمى»، وبعد أربع سنوات من الحبس الاحتياطي، حُكم عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بالسجن المؤبد، في ختام محاكمة وُصفت بـ«الظالمة». وفي القضية ذاتها حوكم غيابياً نائب الرئيس السابق محمد علي صويلح، المقيم حالياً في باريس.

وراهناً، تشهد ساحة المعارضة في جزر القُمُر انقساماً واضحاً قبيل الانتخابات الرئاسية، فبينما يؤيد أحمد عبد الله سامبي الانتخابات، يدعم محمد علي صويلح مقاطعتها. وخلال الأيام الأخيرة برزت على الساحة السياسية شخصية «مثيرة للجدل» هي زعيم «الحزب البرتقالي» محمد داود الذي تبوأ منصب وزير الداخلية بين 2016 و2021 إبان عهد عثماني. ونقلت وكالة «أ.ف.ب» عن داود، اقتراحه بـ«توافق مرشحي المعارضة على مرشح واحد فقط»، معلناً استعداده «قيادة الحملة الانتخابية للمرشح الذي سيصار إلى اختياره». وأعلنت حركة «غزالي ارحل» المدعومة من حزب «جوا» الذي يتزعمه الرئيس السابق سامبي، عن مرشحها وهو سليم عيسى عبد الله، الذي يقول إنه «يجسّد العلاج الطبي الذي تحتاج إليه البلاد»، ملمحاً بذلك إلى عمله جراح عظام. وفي المقابل، تعهد بعض أنصار وزعماء المعارضة بمقاطعة الانتخابات؛ لأن «العملية الانتخابية تفتقر إلى الشفافية»، وطالبوا السلطات بالإفراج غير المشروط عن سامبي وجميع السجناء السياسيين الآخرين.

كذلك تريد قوى المعارضة أن تعيد الحكومة تشكيل الهيئة الانتخابية لضمان استقلالها ومنع القوات المسلحة من المشاركة في العملية الانتخابية. وكان عثماني، الذي ترأس بلاده حالياً الاتحاد الأفريقي، قد أقال في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عضواً في المحكمة العليا هي حريمية أحمد التي كانت ترأس القسم المعني بالانتخابات.

طموح عثماني الابن

خلال المؤتمر الانتخابي الأول للرئيس عثماني، حضر نجله الأكبر نور الفتح غزالي، البالغ من العمر 39 سنة، مرتدياً قميص بولو أزرق اللون عليه صورة المرشح الرئاسي. وللعلم، يشغل نور الفتح منصب مستشار خاص للرئيس منذ 2019، وعُيّن أخيراً نائباً للأمين العام للجنة المعنية بتمويل الحملة الانتخابية. كذلك تردد اسم نور الفتح بكثرة في أغسطس (آب) الماضي إبان اجتماع الحزب الحاكم الخاص بتعيين أمين عام جديد له، واعتقد كثيرون أن المنصب سيذهب إليه، وهذا دور يبدو نجل الرئيس منفتحاً عليه؛ إذ قال في حديث سابق: «إذا طلب مني الحزب سأقبل قراره».

غير أن حزب «اتفاقية تجديد جزر القُمُر» الحاكم منح في النهاية فترة ولاية جديدة لأمينه العام السياسي المخضرم يوسف محمد علي، وحسب مراقبين ربما يكون تطلع عثماني الأب للبقاء في السلطة السبب وراء تأجيل تولي الابن منصب أمين عام الحزب.

في أي حال، بصفته مستشاراً رئاسياً، غالباً ما يشاهَد نور الفتح عثماني بجوار الوزراء في المؤتمرات الصحافية المتلفزة، وكان له دور فاعل في تنظيم عدد من الأحداث. وهو يقول عن نفسه دائماً إنه «يسعى للكمال». ويرى مراقبون أنه «نظراً لميول عثماني الأب إلى البقاء في السلطة؛ من المتوقع أنه يعد ابنه ليحل محله مستقبلاً».

هذا، وظهر نور الفتح على الساحة السياسية، عقب فوز والده بانتخابات عام 2019، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال، وحاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال في التمويل الدولي من الولايات المتحدة، لكن صعوده السياسي لا يحظى برضا الجميع، فبينما يصفه البعض بأنه «زعيم حقيقي، صاحب رؤية»، يرى آخرون أنه «متعجرف، يطبق استراتيجية الأرض المحروقة، ويحاول القضاء على أنصار والده من الساحة السياسية».أخيراً، يأمل أنصار الرئيس عثماني أن تتكرر يوم 14 يناير الحالي نتائج انتخابات 2019 التي فاز عثماني بها من الدورة الأولى، لا سيما في ظل ضعف المعارضة وانقسامها بين فريق مؤيد للانتخابات وآخر يدعو إلى مقاطعتها. وفي حين تخشى المعارضة من «تزوير الانتخابات» وتدعو إلى «ضمان نزاهتها»، يقول مدير حملة عثماني الانتخابية: «يجري الحديث عن تزوير في كل بلد تُجرى فيه انتخابات. وجزر القُمُر ليست استثناءً»، مضيفاً: «أنا متأكد من أننا سنفوز. ونعمل على تعبئة مواطني جزر القُمُر أينما ذهبنا».



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.