غزالي عثماني... «الديمقراطي العميق» الطامح إلى ولاية ثالثة رغم المعارضة

رئيس جزر القُمُر رفع شعار «الضربة القاضية»... وتعهّد «مواصلة البناء»

قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
TT

غزالي عثماني... «الديمقراطي العميق» الطامح إلى ولاية ثالثة رغم المعارضة

قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية

متعهداً بـ«مواصلة بناء البلاد»، اعتلى رئيس جمهورية جزر القُمُر غزالي عثماني مسرحاً في أول مهرجان انتخابي له، أقيم في ملعب لكرة القدم بمسقط رأسه ميتسودغي الواقعة على بُعد بضعة كيلومترات عن موروني عاصمة «القُمُر الكبرى» أكبر جزر الأرخبيل المكون للدولة العضو في جامعة الدول العربية، والواقعة في عمق المحيط الهندي في منتصف الطريق بين جزيرة مدغشقر والساحل الأفريقي. عثماني عقيد الجيش السابق الذي حكم البلاد للمرة الأولى إثر انقلاب عسكري عام 1999، ثم حكمها بزي مدني عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2002، قبل أن يبعد عن السلطة عِقداً من الزمان ليعود رئيساً عام 2016 ويفوز بولاية ثانية عام 2019، يسعى اليوم للفوز بولاية ثالثة في الانتخابات المقرر إجراؤها في 14 يناير (كانون الثاني) الحالي؛ ما يمكنه من البقاء على قمة السلطة حتى 2029.

وقف غزالي عثماني بين أنصاره في ملعب كرة القدم مرتدياً بزة زرقاء بنفس لون حزب «اتفاقية تجديد جزر القُمُر» الحاكم، ليكرّر شعار «الضربة القاضية»، الذي روّجت له أغنية الحملة الانتخابية. وفي الخطاب عن حالة الاتحاد أمام مجلس الأمة، أخيراً، طالب عثماني منافسيه في الانتخابات الرئاسية بالانضمام إليه لـ«الحفاظ على التناوب السياسي السلمي والديمقراطي للسلطة». ودعا إلى «السلام وترسيخ الديمقراطية والتماسك الاجتماعي». ثم تعهد بـ«العمل مع جميع الجهات السياسية الفاعلة والمجتمع المدني؛ لضمان إجراء انتخابات حرة وشفافة وديمقراطية».

نشأة عسكرية

وُلد غزالي عثماني في الأول من يناير (كانون الثاني) 1959 في مدينة ميتسودغي، بجنوب غرب جزر القُمُر. واختار المسار العسكري في سن الثامنة عشرة؛ إذ درس في الكلية الملكية العسكرية المغربية بمدينة مكناس، في جناح المظليين، خلال الفترة من 1977 حتى 1980. وبعد العودة من المغرب، خدم عثماني في القوات المسلحة القُمُرية. وفي نهاية الثمانينات أصبح واحداً من الضباط الكبار بالجيش.

بعدها، عام 1996 التحق عثماني بدورة عسكرية في الأكاديمية الحربية بفرنسا، ورقّي لاحقاً إلى رتبة عقيد، ثم عُيّن رئيساً لأركان الجيش عام 1998. ولقد مكّنه موقعه البارز من الدخول إلى معترك السياسة؛ إذ تُعرف جزر القُمُر بأنها أرض خصبة للانقلابات العسكرية، إذ شهدت عشرين انقلاباً ومحاولة انقلابية في الفترة ما بين عامي 1975 و1999.

غير أن العقيد الطموح تعرّض لانتقادات خلال تلك الفترة، واتُهم بالتخلي عن رجاله، إبان محاولة انقلاب نفّذها المرتزق الفرنسي بوب دينارد عام 1995. ويومها، زعم منتقدوه أنه قال لدينار ورجاله: «انتظروا... سأحصل على تعزيزات»، لكنه بدلاً من ذلك لجأ إلى السفارة الفرنسية في العاصمة موروني. لكن هذه الاتهامات ينكرها عثماني جملةً وتفصيلاً.

الانقلاب على السلطة

يوم 30 أبريل (نيسان) 1999 قاد غزالي عثماني انقلاباً عسكرياً، أطاح الرئيس تاج الدين بن سعيد، وتولّى مقاليد الحكم. وفي حينه برّر عثماني الانقلاب بكونه «ضرورة لمنع اندلاع حرب أهلية»؛ لأن البلاد كانت تشهد أزمة قوية إثر تنامي النزعة الانفصالية بجزيرة أنجوان، ثاني كبرى الجزر الثلاث المكوّنة لاتحاد جزر القُمُر. وبالفعل، بقي عثماني على رأس الدولة لمدة ثلاث سنوات، أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية وتبني دستور جديد للبلاد يمنح حكماً ذاتياً واسعاً لكل من الجزر الثلاث (القُمُر الكبرى - نكازيجا وأنجوان - حنزوان وموهيلي - موحيلي)، ويضمن تناوب الرئاسة دورياً بينها.

ولكن إثر رفض الأحزاب السياسية للحكم العسكري، اضطر عثمان إلى القبول بإجراء انتخابات رئاسية، فترشح وفاز بها، وأُعلن رئيساً مدنياً عام 2002. ومن ثم، ظل في هذا المنصب حتى أُعلن فوز أحمد عبد الله سامبي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 14 مايو (أيار) 2006. واكتفى عثماني بولاية واحدة ورفض حينها البقاء في السلطة.

وفي كتاب صدر عام 2009 تحت عنوان «عندما كنت رئيساً»، سلّط عثماني الضوء على «هوسه بترك السلطة بكرامة»، كما كتبت يومذاك مجلة «جون أفريك». وقال رداً على منتقديه: إن «الغالبية تؤمن بالديمقراطية فقط عندما يمكن أن تقودهم إلى السلطة». وحقاً، ظل عثماني يتباهى بتلك الفترة من حياته، بكونه «حمى البلاد من الغرق في حرب أهلية، ووضع دستوراً أسّس للتناوب السلمي على السلطة؛ ما أفضى إلى مصالحة وطنية». غير أن معارضيه يتهمونه بالتساهل مع فرنسا بشأن النزاع حول جزيرة مايوت. ومايوت هذه هي رابع جزر الأرخبيل القُمُري الأربع، لكنها رفضت في تصويت شعبي خيار الاستقلال مع «جاراتها»، مفضلة البقاء تابعة لفرنسا وهي اليوم الدائرة الفرنسية رقم 101.

الديمقراطي العميق

الرجل الذي تباهى لفترة بتخليه عن السلطة، قرّر بعد عشر سنوات الترشح في انتخابات رئاسية أجريت يوم 10 أبريل 2016. واستطاع التقدم على منافسيه في الجولة الأولى، وأجريت جولة انتخابية ثانية للحسم بينه والمرشح المدعوم من السلطة محمد علي صويلحي، استطاع فيها عثماني التقدم أيضاً وإن شاب تلك الجولة عنف وفوضى.

بعد ذلك أمرت المحكمة بجولة ثالثة في بعض المناطق، أسفرت عن تأكيد فوز عثماني، لتعلنه المحكمة العليا رئيساً للبلاد في 15 مايو 2016، فيعود مجدداً إلى مقر الحكم «قصر دار السلام». وخلال حملته الانتخابية تلك حرص عثماني على أن يؤم الناس في صلاة الجمعة، مشدداً على نزعته الإيمانية، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) عن أحد مستشاريه حينها قوله: إن «عثماني يعتقد أن ما يحدث له أمر إلهي... ويعدّ الإسلام عنصراً مؤسساً للأمة».

لكن عثماني الذي سبق له أن تخلى عن السلطة وقدم نفسه بوصفه «ديمقراطياً عميقاً»، أقدم عقب فوزه بالرئاسة على حل المحكمة الدستورية العليا، وعدّل الدستور عبر استفتاء عام 2018. ومنح الدستور الجديد عثماني فرصة تمديد الحكم إلى فترتين رئاسيتين، مدة كل منهما خمس سنوات، متجاوزاً نص تناوب الحكم بين الجزر الثلاث الكبرى (القُمُر الكبرى وموهيلي وأنجوان)، الذي نص عليه دستور 2002.

إذ كان من المقرر أن يتولى مرشح من أنجوان الرئاسة في عام 2021، ولكن بموجب تعديل الدستور أُنهي مفعول الرئاسة الدورية؛ ما تسبّب وقتها في اضطرابات ومظاهرات في جزيرة أنجوان التي هي ثاني كبرى جزر الأرخبيل. وبالفعل، قاطعت المعارضة الاستفتاء على الدستور، إلا أن ذلك لم يمنع تمريره، ليدعو عثماني بعد ذلك إلى انتخابات مبكرة في مارس (آذار) 2019، فاز فيها بأكثر من 60 في المائة من الأصوات، وسط احتجاجات من المعارضة التي زعمت وجود مخالفات، بما في ذلك منع المراقبين المستقلين وإجراء الاقتراع المسبق.

في تلك الانتخابات أعلنت الحملة الانتخابية للرئيس، نجاته من محاولة اغتيال في أنجوان، خُطط لها بـ«وضع متفجرات فوق قمة جبل لتسبب انزلاقاً حين تنفجر وقت مرور موكب الرئيس». بيد أن المعارضة شككت في أمر الحادث، وقال إبراهيم محمد سولي، المرشح الرئاسي عن حزب «جوا»، وقتذاك: إن حملة الرئيس الحالي «تختلق هجمات وأحداثاً مزيفة لردع الناس عن المشاركة في الانتخابات بحرية».

معارضة منقسمةثم أن عثماني اتُهم باعتقال خصومه السياسيين، ونددت المعارضة بـ«نزعته السلطوية وفساد نظامه وعجزه عن الحد من الفقر المدقع الذي يعاني منه سكان البلاد البالغ عددهم 870 ألف نسمة». وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس القُمُري السابق أحمد عبد الله سامبي يقبع في السجن بتهمة «الخيانة العظمى»، وبعد أربع سنوات من الحبس الاحتياطي، حُكم عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بالسجن المؤبد، في ختام محاكمة وُصفت بـ«الظالمة». وفي القضية ذاتها حوكم غيابياً نائب الرئيس السابق محمد علي صويلح، المقيم حالياً في باريس.

وراهناً، تشهد ساحة المعارضة في جزر القُمُر انقساماً واضحاً قبيل الانتخابات الرئاسية، فبينما يؤيد أحمد عبد الله سامبي الانتخابات، يدعم محمد علي صويلح مقاطعتها. وخلال الأيام الأخيرة برزت على الساحة السياسية شخصية «مثيرة للجدل» هي زعيم «الحزب البرتقالي» محمد داود الذي تبوأ منصب وزير الداخلية بين 2016 و2021 إبان عهد عثماني. ونقلت وكالة «أ.ف.ب» عن داود، اقتراحه بـ«توافق مرشحي المعارضة على مرشح واحد فقط»، معلناً استعداده «قيادة الحملة الانتخابية للمرشح الذي سيصار إلى اختياره». وأعلنت حركة «غزالي ارحل» المدعومة من حزب «جوا» الذي يتزعمه الرئيس السابق سامبي، عن مرشحها وهو سليم عيسى عبد الله، الذي يقول إنه «يجسّد العلاج الطبي الذي تحتاج إليه البلاد»، ملمحاً بذلك إلى عمله جراح عظام. وفي المقابل، تعهد بعض أنصار وزعماء المعارضة بمقاطعة الانتخابات؛ لأن «العملية الانتخابية تفتقر إلى الشفافية»، وطالبوا السلطات بالإفراج غير المشروط عن سامبي وجميع السجناء السياسيين الآخرين.

كذلك تريد قوى المعارضة أن تعيد الحكومة تشكيل الهيئة الانتخابية لضمان استقلالها ومنع القوات المسلحة من المشاركة في العملية الانتخابية. وكان عثماني، الذي ترأس بلاده حالياً الاتحاد الأفريقي، قد أقال في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عضواً في المحكمة العليا هي حريمية أحمد التي كانت ترأس القسم المعني بالانتخابات.

طموح عثماني الابن

خلال المؤتمر الانتخابي الأول للرئيس عثماني، حضر نجله الأكبر نور الفتح غزالي، البالغ من العمر 39 سنة، مرتدياً قميص بولو أزرق اللون عليه صورة المرشح الرئاسي. وللعلم، يشغل نور الفتح منصب مستشار خاص للرئيس منذ 2019، وعُيّن أخيراً نائباً للأمين العام للجنة المعنية بتمويل الحملة الانتخابية. كذلك تردد اسم نور الفتح بكثرة في أغسطس (آب) الماضي إبان اجتماع الحزب الحاكم الخاص بتعيين أمين عام جديد له، واعتقد كثيرون أن المنصب سيذهب إليه، وهذا دور يبدو نجل الرئيس منفتحاً عليه؛ إذ قال في حديث سابق: «إذا طلب مني الحزب سأقبل قراره».

غير أن حزب «اتفاقية تجديد جزر القُمُر» الحاكم منح في النهاية فترة ولاية جديدة لأمينه العام السياسي المخضرم يوسف محمد علي، وحسب مراقبين ربما يكون تطلع عثماني الأب للبقاء في السلطة السبب وراء تأجيل تولي الابن منصب أمين عام الحزب.

في أي حال، بصفته مستشاراً رئاسياً، غالباً ما يشاهَد نور الفتح عثماني بجوار الوزراء في المؤتمرات الصحافية المتلفزة، وكان له دور فاعل في تنظيم عدد من الأحداث. وهو يقول عن نفسه دائماً إنه «يسعى للكمال». ويرى مراقبون أنه «نظراً لميول عثماني الأب إلى البقاء في السلطة؛ من المتوقع أنه يعد ابنه ليحل محله مستقبلاً».

هذا، وظهر نور الفتح على الساحة السياسية، عقب فوز والده بانتخابات عام 2019، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال، وحاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال في التمويل الدولي من الولايات المتحدة، لكن صعوده السياسي لا يحظى برضا الجميع، فبينما يصفه البعض بأنه «زعيم حقيقي، صاحب رؤية»، يرى آخرون أنه «متعجرف، يطبق استراتيجية الأرض المحروقة، ويحاول القضاء على أنصار والده من الساحة السياسية».أخيراً، يأمل أنصار الرئيس عثماني أن تتكرر يوم 14 يناير الحالي نتائج انتخابات 2019 التي فاز عثماني بها من الدورة الأولى، لا سيما في ظل ضعف المعارضة وانقسامها بين فريق مؤيد للانتخابات وآخر يدعو إلى مقاطعتها. وفي حين تخشى المعارضة من «تزوير الانتخابات» وتدعو إلى «ضمان نزاهتها»، يقول مدير حملة عثماني الانتخابية: «يجري الحديث عن تزوير في كل بلد تُجرى فيه انتخابات. وجزر القُمُر ليست استثناءً»، مضيفاً: «أنا متأكد من أننا سنفوز. ونعمل على تعبئة مواطني جزر القُمُر أينما ذهبنا».



متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
TT

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)
من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد، نظراً لحجم الشحن و«التسقيط» (الاستهداف السلبي) السياسي والضخّ المالي والتصعيد الطائفي. غير أن أهمية هذه الانتخابات، المقرّرة في نهاية العام الحالي، لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل لكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، خصوصاً أن هناك متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب العراقية في موسم الانتخابات.

في ظل المتغيرات الإقليمية المحيطة بالعراق، ينشغل السياسيون العراقيون مبكراً بالتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المحددة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي يتوقع أن تحدث تغييراً جوهرياً في أوزان الأحزاب.وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد التي عقدت في مايو (أيار) الماضي، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار. وأهمية هذه الانتخابات لا تنحصر بكونها مجرد استحقاق انتخابي يتكرّر كل 4 سنوات، بل بكونها تحوّلت الآن إلى أشبه بمحاولة خروج من عنق زجاجة أزمة الحكم في العراق، فيما يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى إحداث تغيير عبر خوضه الانتخابات مع أوسع تحالف.وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية، يكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية لخوض الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. فالسوداني يرى أن دور بغداد يكمن في «جمع الأشقاء، كما هو دورها التاريخي، من أجل صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل تضمن الأمن والاستقرار والتنمية والتكامل بين شعوبنا الشقيقة». وفي المقابل، وجدت القوى السياسية التي تخاصمه وحكومته أن «نجاح» السوداني في القمة العربية سيكسبه مزيداً من النقاط الإيجابية وسط تأهب العراق خلال شهور لإجراء الانتخابات البرلمانية السادسة، التي تأتي بعد عام 2003، وسط انقسام غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين. مع هذا، بينما نجح خصوم السوداني في خلق جوّ مشحون أدّى في النهاية إلى تغيّب عدد من الزعماء العرب، فإن بغداد الرسمية التي هيّأت كل مستلزمات نجاح القمة نجحت في الخروج بقرارات مهمة على صعيد العمل العربي المشترك، في ظل تحديات غير مسبوقة.

وعلى الجانب الآخر، كان ضمن الإيجابيات ما كتبت عنه مئات من وسائل الإعلام العربية التي شاركت في القمة. إذ توزّع الإعلاميون العرب على 3 فنادق كبرى بالعاصمة العراقية بغداد، هي «الرشيد» و«قلب العالم» و«موفنبيك»، وتمكّنوا من تغطية وقائع القمة، من «القصر الرئاسي»، بفضل تسهيلات غير مسبوقة قدّمتها لهم الجهات العراقية الرسمية.

وكذلك غطّوا أجواء بغداد، التي لم تعد تنام الليل وسط حالة من الأمن والأمان بالقياس إلى فترات سابقة، خصوصاً أيام قمة بغداد السابقة عام 2012، حين أغلقت العاصمة تماماً، وفرض حظر التجوال لمدة 3 أيام تجنباً للتفجيرات والخروق الأمنية.

ملاعق القمة!

من جهة ثانية، عمليات «التسقيط» السياسي، التي سبقت القمة بأيام، استمرت بعدها بأيام، وكانت من قبل نوعين من الجهات داخل العراق. الجهة الأولى، هي التي لا تريد أي انفتاح عراقي على محيطه العربي أو أي انفتاح عربي على العراق. والجهة الثانية، هي التي لديها خصومات مع محمد شيّاع السوداني وحكومته نظراً لما تحقق خلال السنتين ونصف السنة الماضية من «لمسات»، سواء في بغداد أو في عدد من المحافظات، وهو ما قد يرفع أسهم رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية نهاية العام الحالي.

الجهة الأولى فشلت في تحقيق هدفها، أي منع أي انفتاح متبادل بين العراق ومحيطه العربي، نظراً لما تحقق خلال القمة التي لم تقاطعها أي دولة عربية، بصرف النظر عن مستوى التمثيل. أما الجهة الثانية، فراحت في سياق «حربها» ضد القمة إلى البحث عن تفاصيل لا تعني أحداً، كالكلام عن استيراد ملاعق طعام (باللهجة العراقية «خواشيق») بنحو 12 مليون دولار أميركي. وللعلم، عندما قدّمت وجبة الطعام الوحيدة للزعماء العرب بعد الجلسة الأولى لم يكن لافتاً وجود ملاعق ذات ميزة مختلفة عما يقدم من ملاعق في أي وجبة طعام رئاسية أو ملوكية.

وطبعاً، كان الجانب الآخر من مساعي هذه الجهة زعمها أنها هي التي «منعت مشاركة عدد من الزعماء العرب» الذين تناوئهم أطرافها في بغداد، وفي مقدمهم الرئيس السوري أحمد الشرع، فضلاً عن الرئيس اللبناني جوزيف عون، الذي زار العراق بعد القمة، إثر تسوية، ما بدا أنها تصريحات أثارت لغطاً داخل العراق عن «الحشد الشعبي».

أجواء «التسخين»

في أي حال، لا يمرّ شيء مروراً عابراً في العراق. فبعد انتهاء القمة، وعودة الأجواء إلى طبيعتها، تلقت بغداد الرسمية عشرات التقارير عمّا يمكن عدّه وقائع مهمّة، إن كان على صعيد الرصد الإعلامي، أو المواقف السياسية. هذا الأمر بات يهيئ لمخرجات جديدة، تمثلت أساساً في رهانات بغداد لربطها جذرياً مع محيطها العربي والإقليمي في شراكات سياسية أو اقتصادية. وفي الوقت عينه، بدأت معركة موازية، بدأت بين مختلف الأطراف المناوئة لتطلعات السوداني للفوز بولاية ثانية. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي، التي يراد من خلالها تحقيق نتائج كبيرة بنتيجة تحالف سياسي كبير، يستفيد من وقائع عديدة. أهمها أولاً مخرجات قمة بغداد، وثانياً طريق التنمية، وثالثاً جلب الشركات والدول للاستثمار.

أزمة حكم أم سلطة؟

في الواقع، ثمة «أزمة حكم» في العراق يراها مراقبون الآن «أزمة سلطة». والسبب تعدد الولاءات، وكون الآيديولوجيات والعقائد ليست وليدة الظروف الراهنة التي يمرّ بها العراق لدى تأهبه للاستحقاق الانتخابي السادس، بل أضحت عنواناً بارزاً لكل المراحل السابقة بعد عام 2003. وخصوصاً مع إسقاط دبابة أميركية تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد، صبيحة 9 أبريل (نيسان) 2003. مع سقوط التمثال، انتهت حقبة من أزمة الحكم والسلطة الفردية في العراق، لتبدأ البلاد جولة جديدة من الأزمات السياسية.

هذه الجولة احتوت ظاهراً كل عناصر النجاح؛ من تداول سلمي للسلطة، وإجراء انتخابات في موعدها، وانتخاب برلمان، وتشكيل حكومة. إلا أنها حقّاً حملت وتحمل كثيراً من بذور الفشل بسبب الديمقراطية المشوهة والانقسامين الطائفي والعرقي، ما انعكس في توزيع المناصب على ضوء هذه المعادلة المذهبية العرقية، بدءاً من منصب رئيس الجمهورية، وصولاً إلى «فرّاشي» المدارس الابتدائية.

لذا، مع بدء التحضير للجولة السادسة من الانتخابات، باتت أزمة الحكم تلقي بظلالها الثقيلة على إمكانية تعديل طبيعة النظام الديمقراطي الذي توافق عليه العراقيون بعد عام 2003. ومع أن الانتخابات المقبلة، وهي السادسة بعد أول انتخابات عام 2005، إثر إقرار أول دستور دائم في العام ذاته، فإن التحضيرات لإجرائها تبدو اختباراً حاسماً يثير سؤالاً محورياً في مختلف الأوساط، هو؛ هل ستكون هذه الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير... أم مجرّد حلقة إضافية في تكريس أزمة الحكم؟

للطائفية عنوان

المؤشرات المتاحة، ولغة الأرقام بشأن حجم الأموال التي تضخّ في هذه الانتخابات، والتصاعد الواضح في الخطابين الطائفي والعرقي، كلها ترجّح كفة التشاؤم. إذ تبدو فرص التغيير أمنية بعيدة المنال، بينما تزداد المؤشرات على استمرار «سمات الفشل» التي حكمت المشهد السياسي في العقدَيْن الماضيين.

ويضاعف من حجم التساؤلات غياب التغيير الحقيقي، حتى في أبسط الجوانب الخدمية، كملف الكهرباء، وهو الشريان الحيوي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. فمع أن العراق يُعدّ من أغنى دول المنطقة من حيث الموارد المالية، تشير التقارير الرسمية إلى أنه ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أُنفق على هذا القطاع منذ عام 2003 نحو 200 مليار دولار، من دون تحقيق تحسّن ملموس.

وإلى جانب أزمة الكهرباء، تعاني بقية القطاعات الخدمية والإنتاجية من ركود واضح، باستثناء تطوّرات محدودة شهدتها السنتان الأخيرتان من عمر حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. إذ نجحت هذه الحكومة في إحداث تحوّل ملحوظ في البنية الخدمية للعاصمة بغداد، نال إشادة واسعة من أوساط سياسية وإعلامية، خصوصاً خلال القمة العربية الأخيرة في بغداد.

وعلى الرغم من ذلك، للصورة جانب آخر، يتمثّل في طبيعة إدارة الحكم وآليات توزيع السلطة والمناصب في العراق، فضلاً عن التداخل بين القوات الرسمية للدولة وقوى مسلحة أخرى، بعضها اكتسب صفة رسمية مثل «الحشد الشعبي»، رغم استمرار الجدل حول موقع الفصائل المسلحة داخله، ومدى خضوعها للقيادة الرسمية. وأيضاً، هناك «فصائل مسلحة» لا تتلقى أوامرها من الحكومة العراقية، بل تعدّ نفسها مرتبطة بتكليف «شرعي» صادر عن القيادة الإيرانية، خصوصاً إبان مرحلة ما عُرف بـ«محور الممانعة» المنهار بعد نحو سنتين من عملية «طوفان الأقصى». واستطراداً، لا يمكن إغفال وجود قوات «البيشمركة» الكردية التي تُعدّ جزءاً آخر من هذا التعدد الأمني والعسكري المعقّد.

وهكذا، من أبرز الإشكاليات البنيوية التي تواجه السلطة العراقية، تعدّد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات، في ظل دستور عام 2005 الذي لم يمنح وضوحاً كافياً في توزيع السلطات والأدوار بين مختلف مستويات الحكم. وكمثال، لا يتعلق الخلاف بين بغداد وأربيل، بمسألة تحويل الأموال أو دفع رواتب موظفي إقليم كردستان فقط، بل يعود أساساً إلى إشكالية دستورية أعمق، ترتبط بطبيعة النظام الفيدرالي نفسه.

فعقب التغيير في عام 2003، كان الكرد والشيعة، لكونهما أبرز أطراف المعارضة لنظام صدام حسين، على توافق شبه كامل، تُرجم في صياغة سريعة لدستور عام 2005، وفي تبني نموذج فيدرالي للحكم من دون التعمّق في تبعاته المستقبلية، ومن دون أن يُحسب حساب ما قد تؤول إليه الأمور لاحقاً. ولكن بعد مرور عقدَيْن، تحولت العلاقة الثنائية من تحالف إلى خصومة مستحكمة دائمة.

الخلل في الدستور

السبب الجوهري لذلك يكمن في بنية النظام السياسي. إذ تبيّن أن الدستور الذي كان ثمرة اتفاق مرحلي، أصبح اليوم عبئاً مشتركاً بين الطرفَيْن. ثم إن الفيدرالية، التي منحت للكرد مرونة سياسية من قِبل الأطراف الشيعية في تلك المرحلة، تحولت إلى أزمة حكم، ولا سيما بعدما أحكمت القوى الشيعية، بحكم غالبيتها السكانية، سيطرتها الكاملة على مؤسسات الدولة، ما هزّ التوازن السياسي تماماً. في ظل هذه الأجواء يتجه العراقيون نحو الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقررة بنهاية العام الحالي، وسط أجواء مشحونة بالمال، باتت موضع جدل واسع حتى داخل أروقة الطبقة السياسية، ولا سيّما قيادات الصفّ الأول.

لكن التمويل الانتخابي لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل امتدّ ليشمل التحريض الطائفي والعرقي، واستثمار قضايا اجتماعية وثقافية قابلة للتسييس، بهدف التأثير على جمهور متنوّع في وعيه وثقافته وانتماءاته، ما يجعله عرضة للاختراق والتوجيه.

كذلك يميّز المشهد الحالي، للمرة الأولى منذ 2003، أن الطبقة السياسية بدأت تشعر بوجود تهديد فعلي لمواقعها ونفوذها، في ضوء متغيرات إقليمية لافتة في محيط العراق، عربياً وإيرانياً. وعليه، تُشكل الانتخابات المقبلة نقطة مفصلية؛ فإما تكون فرصة لبعض القوى لإحداث تغيير حقيقي في معادلة توزيع المناصب السيادية العليا، أو تتحول كالعادة إلى «محطة» أخرى على «سكة» تكريس أزمة الحكم، التي لا تتجاوز كونها توزيعاً تقنياً لمقاعد البرلمان، تُبنى عليه محاصصة سياسية للوزارات والمناصب، من دون أي مساس جوهري ببنية النظام أو الدستور، ما يعني في نهاية المطاف بقاء الوضع على ما هو عليه.

محمد شياع السوداني (رووداو)

بغداد وأربيل... الإشكالية الدائمة

> في ضوء كل ما يمكن تسليط الضوء عليه عراقياً، يستحيل تخطي العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الحكومة العراقية وسلطة إقليم كردستان العراق. فهي تمثّل جوهر أزمة الحكم في ظل دولة تعددية اختارت طبقاً للدستور النظام الفيدرالي، لكنها أخفقت في تطبيقه كما يجب. وفي حين يقال إن القوى السياسية المهيمنة في بغداد تستغل الخلافات الحزبية - الحزبية في أربيل، فإنه وبالتزامن مع تحذير رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني لبغداد - مذكراً إياها بنتائج «سياسة التجويع» - دخلت واشنطن على خط الأزمة، وإن بمنظور مختلف نسبياً. بغداد تراهن على خلافات بدأت تطفو على السطح بين الأحزاب الكردية بشأن أزمة الرواتب، بينما تراهن أربيل على المواقف الدولية، وخصوصاً موقف واشنطن الداعم، ولقد جاءت دعوة وزارة الخارجية الأميركية بشأن أزمة الرواتب موجهة، ليست للحكومة الاتحادية فقط، بل لحكومة الإقليم. وفي حين بدا موقف «الاتحاد الوطني الكردستاني» بزعامة بافل طالباني بشأن الأزمة مع بغداد مختلفاً عن موقف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم، قررت بغداد عدم إرسالها الوفد الرسمي الحكومي والحزبي للتباحث بشأن أزمة الرواتب، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزمها على إرسال وفد رفيع المستوى بزعامة هادي العامري زعيم منظمة «بدر» المقرّب من الزعيم الكردي مسعود بارزاني. وفي سياق الجدل بين الطرفين، الذي يبدو أنه آخذ بالتصاعد، وبينما تنشط أطراف من «الإطار التنسيقي» في اللعب على وتر الخلاف بين الحزبين الكرديين الكبيرين في السليمانية وأربيل، دعا الموقف الأميركي الرسمي الطرفين إلى حل الخلاف، ورآه مراقبون حيادياً من شأنه تعزيز أوراق بغداد في سياق أي مباحثات رسمية أو موازية بين الجانبين.