غزالي عثماني... «الديمقراطي العميق» الطامح إلى ولاية ثالثة رغم المعارضة

رئيس جزر القُمُر رفع شعار «الضربة القاضية»... وتعهّد «مواصلة البناء»

قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
TT

غزالي عثماني... «الديمقراطي العميق» الطامح إلى ولاية ثالثة رغم المعارضة

قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية
قاد عثماني انقلاباً عام 1999 وبقي على رأس الدولة لمدة 3 سنوات أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية

متعهداً بـ«مواصلة بناء البلاد»، اعتلى رئيس جمهورية جزر القُمُر غزالي عثماني مسرحاً في أول مهرجان انتخابي له، أقيم في ملعب لكرة القدم بمسقط رأسه ميتسودغي الواقعة على بُعد بضعة كيلومترات عن موروني عاصمة «القُمُر الكبرى» أكبر جزر الأرخبيل المكون للدولة العضو في جامعة الدول العربية، والواقعة في عمق المحيط الهندي في منتصف الطريق بين جزيرة مدغشقر والساحل الأفريقي. عثماني عقيد الجيش السابق الذي حكم البلاد للمرة الأولى إثر انقلاب عسكري عام 1999، ثم حكمها بزي مدني عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2002، قبل أن يبعد عن السلطة عِقداً من الزمان ليعود رئيساً عام 2016 ويفوز بولاية ثانية عام 2019، يسعى اليوم للفوز بولاية ثالثة في الانتخابات المقرر إجراؤها في 14 يناير (كانون الثاني) الحالي؛ ما يمكنه من البقاء على قمة السلطة حتى 2029.

وقف غزالي عثماني بين أنصاره في ملعب كرة القدم مرتدياً بزة زرقاء بنفس لون حزب «اتفاقية تجديد جزر القُمُر» الحاكم، ليكرّر شعار «الضربة القاضية»، الذي روّجت له أغنية الحملة الانتخابية. وفي الخطاب عن حالة الاتحاد أمام مجلس الأمة، أخيراً، طالب عثماني منافسيه في الانتخابات الرئاسية بالانضمام إليه لـ«الحفاظ على التناوب السياسي السلمي والديمقراطي للسلطة». ودعا إلى «السلام وترسيخ الديمقراطية والتماسك الاجتماعي». ثم تعهد بـ«العمل مع جميع الجهات السياسية الفاعلة والمجتمع المدني؛ لضمان إجراء انتخابات حرة وشفافة وديمقراطية».

نشأة عسكرية

وُلد غزالي عثماني في الأول من يناير (كانون الثاني) 1959 في مدينة ميتسودغي، بجنوب غرب جزر القُمُر. واختار المسار العسكري في سن الثامنة عشرة؛ إذ درس في الكلية الملكية العسكرية المغربية بمدينة مكناس، في جناح المظليين، خلال الفترة من 1977 حتى 1980. وبعد العودة من المغرب، خدم عثماني في القوات المسلحة القُمُرية. وفي نهاية الثمانينات أصبح واحداً من الضباط الكبار بالجيش.

بعدها، عام 1996 التحق عثماني بدورة عسكرية في الأكاديمية الحربية بفرنسا، ورقّي لاحقاً إلى رتبة عقيد، ثم عُيّن رئيساً لأركان الجيش عام 1998. ولقد مكّنه موقعه البارز من الدخول إلى معترك السياسة؛ إذ تُعرف جزر القُمُر بأنها أرض خصبة للانقلابات العسكرية، إذ شهدت عشرين انقلاباً ومحاولة انقلابية في الفترة ما بين عامي 1975 و1999.

غير أن العقيد الطموح تعرّض لانتقادات خلال تلك الفترة، واتُهم بالتخلي عن رجاله، إبان محاولة انقلاب نفّذها المرتزق الفرنسي بوب دينارد عام 1995. ويومها، زعم منتقدوه أنه قال لدينار ورجاله: «انتظروا... سأحصل على تعزيزات»، لكنه بدلاً من ذلك لجأ إلى السفارة الفرنسية في العاصمة موروني. لكن هذه الاتهامات ينكرها عثماني جملةً وتفصيلاً.

الانقلاب على السلطة

يوم 30 أبريل (نيسان) 1999 قاد غزالي عثماني انقلاباً عسكرياً، أطاح الرئيس تاج الدين بن سعيد، وتولّى مقاليد الحكم. وفي حينه برّر عثماني الانقلاب بكونه «ضرورة لمنع اندلاع حرب أهلية»؛ لأن البلاد كانت تشهد أزمة قوية إثر تنامي النزعة الانفصالية بجزيرة أنجوان، ثاني كبرى الجزر الثلاث المكوّنة لاتحاد جزر القُمُر. وبالفعل، بقي عثماني على رأس الدولة لمدة ثلاث سنوات، أشرف خلالها على عملية المصالحة الوطنية وتبني دستور جديد للبلاد يمنح حكماً ذاتياً واسعاً لكل من الجزر الثلاث (القُمُر الكبرى - نكازيجا وأنجوان - حنزوان وموهيلي - موحيلي)، ويضمن تناوب الرئاسة دورياً بينها.

ولكن إثر رفض الأحزاب السياسية للحكم العسكري، اضطر عثمان إلى القبول بإجراء انتخابات رئاسية، فترشح وفاز بها، وأُعلن رئيساً مدنياً عام 2002. ومن ثم، ظل في هذا المنصب حتى أُعلن فوز أحمد عبد الله سامبي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 14 مايو (أيار) 2006. واكتفى عثماني بولاية واحدة ورفض حينها البقاء في السلطة.

وفي كتاب صدر عام 2009 تحت عنوان «عندما كنت رئيساً»، سلّط عثماني الضوء على «هوسه بترك السلطة بكرامة»، كما كتبت يومذاك مجلة «جون أفريك». وقال رداً على منتقديه: إن «الغالبية تؤمن بالديمقراطية فقط عندما يمكن أن تقودهم إلى السلطة». وحقاً، ظل عثماني يتباهى بتلك الفترة من حياته، بكونه «حمى البلاد من الغرق في حرب أهلية، ووضع دستوراً أسّس للتناوب السلمي على السلطة؛ ما أفضى إلى مصالحة وطنية». غير أن معارضيه يتهمونه بالتساهل مع فرنسا بشأن النزاع حول جزيرة مايوت. ومايوت هذه هي رابع جزر الأرخبيل القُمُري الأربع، لكنها رفضت في تصويت شعبي خيار الاستقلال مع «جاراتها»، مفضلة البقاء تابعة لفرنسا وهي اليوم الدائرة الفرنسية رقم 101.

الديمقراطي العميق

الرجل الذي تباهى لفترة بتخليه عن السلطة، قرّر بعد عشر سنوات الترشح في انتخابات رئاسية أجريت يوم 10 أبريل 2016. واستطاع التقدم على منافسيه في الجولة الأولى، وأجريت جولة انتخابية ثانية للحسم بينه والمرشح المدعوم من السلطة محمد علي صويلحي، استطاع فيها عثماني التقدم أيضاً وإن شاب تلك الجولة عنف وفوضى.

بعد ذلك أمرت المحكمة بجولة ثالثة في بعض المناطق، أسفرت عن تأكيد فوز عثماني، لتعلنه المحكمة العليا رئيساً للبلاد في 15 مايو 2016، فيعود مجدداً إلى مقر الحكم «قصر دار السلام». وخلال حملته الانتخابية تلك حرص عثماني على أن يؤم الناس في صلاة الجمعة، مشدداً على نزعته الإيمانية، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) عن أحد مستشاريه حينها قوله: إن «عثماني يعتقد أن ما يحدث له أمر إلهي... ويعدّ الإسلام عنصراً مؤسساً للأمة».

لكن عثماني الذي سبق له أن تخلى عن السلطة وقدم نفسه بوصفه «ديمقراطياً عميقاً»، أقدم عقب فوزه بالرئاسة على حل المحكمة الدستورية العليا، وعدّل الدستور عبر استفتاء عام 2018. ومنح الدستور الجديد عثماني فرصة تمديد الحكم إلى فترتين رئاسيتين، مدة كل منهما خمس سنوات، متجاوزاً نص تناوب الحكم بين الجزر الثلاث الكبرى (القُمُر الكبرى وموهيلي وأنجوان)، الذي نص عليه دستور 2002.

إذ كان من المقرر أن يتولى مرشح من أنجوان الرئاسة في عام 2021، ولكن بموجب تعديل الدستور أُنهي مفعول الرئاسة الدورية؛ ما تسبّب وقتها في اضطرابات ومظاهرات في جزيرة أنجوان التي هي ثاني كبرى جزر الأرخبيل. وبالفعل، قاطعت المعارضة الاستفتاء على الدستور، إلا أن ذلك لم يمنع تمريره، ليدعو عثماني بعد ذلك إلى انتخابات مبكرة في مارس (آذار) 2019، فاز فيها بأكثر من 60 في المائة من الأصوات، وسط احتجاجات من المعارضة التي زعمت وجود مخالفات، بما في ذلك منع المراقبين المستقلين وإجراء الاقتراع المسبق.

في تلك الانتخابات أعلنت الحملة الانتخابية للرئيس، نجاته من محاولة اغتيال في أنجوان، خُطط لها بـ«وضع متفجرات فوق قمة جبل لتسبب انزلاقاً حين تنفجر وقت مرور موكب الرئيس». بيد أن المعارضة شككت في أمر الحادث، وقال إبراهيم محمد سولي، المرشح الرئاسي عن حزب «جوا»، وقتذاك: إن حملة الرئيس الحالي «تختلق هجمات وأحداثاً مزيفة لردع الناس عن المشاركة في الانتخابات بحرية».

معارضة منقسمةثم أن عثماني اتُهم باعتقال خصومه السياسيين، ونددت المعارضة بـ«نزعته السلطوية وفساد نظامه وعجزه عن الحد من الفقر المدقع الذي يعاني منه سكان البلاد البالغ عددهم 870 ألف نسمة». وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس القُمُري السابق أحمد عبد الله سامبي يقبع في السجن بتهمة «الخيانة العظمى»، وبعد أربع سنوات من الحبس الاحتياطي، حُكم عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بالسجن المؤبد، في ختام محاكمة وُصفت بـ«الظالمة». وفي القضية ذاتها حوكم غيابياً نائب الرئيس السابق محمد علي صويلح، المقيم حالياً في باريس.

وراهناً، تشهد ساحة المعارضة في جزر القُمُر انقساماً واضحاً قبيل الانتخابات الرئاسية، فبينما يؤيد أحمد عبد الله سامبي الانتخابات، يدعم محمد علي صويلح مقاطعتها. وخلال الأيام الأخيرة برزت على الساحة السياسية شخصية «مثيرة للجدل» هي زعيم «الحزب البرتقالي» محمد داود الذي تبوأ منصب وزير الداخلية بين 2016 و2021 إبان عهد عثماني. ونقلت وكالة «أ.ف.ب» عن داود، اقتراحه بـ«توافق مرشحي المعارضة على مرشح واحد فقط»، معلناً استعداده «قيادة الحملة الانتخابية للمرشح الذي سيصار إلى اختياره». وأعلنت حركة «غزالي ارحل» المدعومة من حزب «جوا» الذي يتزعمه الرئيس السابق سامبي، عن مرشحها وهو سليم عيسى عبد الله، الذي يقول إنه «يجسّد العلاج الطبي الذي تحتاج إليه البلاد»، ملمحاً بذلك إلى عمله جراح عظام. وفي المقابل، تعهد بعض أنصار وزعماء المعارضة بمقاطعة الانتخابات؛ لأن «العملية الانتخابية تفتقر إلى الشفافية»، وطالبوا السلطات بالإفراج غير المشروط عن سامبي وجميع السجناء السياسيين الآخرين.

كذلك تريد قوى المعارضة أن تعيد الحكومة تشكيل الهيئة الانتخابية لضمان استقلالها ومنع القوات المسلحة من المشاركة في العملية الانتخابية. وكان عثماني، الذي ترأس بلاده حالياً الاتحاد الأفريقي، قد أقال في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عضواً في المحكمة العليا هي حريمية أحمد التي كانت ترأس القسم المعني بالانتخابات.

طموح عثماني الابن

خلال المؤتمر الانتخابي الأول للرئيس عثماني، حضر نجله الأكبر نور الفتح غزالي، البالغ من العمر 39 سنة، مرتدياً قميص بولو أزرق اللون عليه صورة المرشح الرئاسي. وللعلم، يشغل نور الفتح منصب مستشار خاص للرئيس منذ 2019، وعُيّن أخيراً نائباً للأمين العام للجنة المعنية بتمويل الحملة الانتخابية. كذلك تردد اسم نور الفتح بكثرة في أغسطس (آب) الماضي إبان اجتماع الحزب الحاكم الخاص بتعيين أمين عام جديد له، واعتقد كثيرون أن المنصب سيذهب إليه، وهذا دور يبدو نجل الرئيس منفتحاً عليه؛ إذ قال في حديث سابق: «إذا طلب مني الحزب سأقبل قراره».

غير أن حزب «اتفاقية تجديد جزر القُمُر» الحاكم منح في النهاية فترة ولاية جديدة لأمينه العام السياسي المخضرم يوسف محمد علي، وحسب مراقبين ربما يكون تطلع عثماني الأب للبقاء في السلطة السبب وراء تأجيل تولي الابن منصب أمين عام الحزب.

في أي حال، بصفته مستشاراً رئاسياً، غالباً ما يشاهَد نور الفتح عثماني بجوار الوزراء في المؤتمرات الصحافية المتلفزة، وكان له دور فاعل في تنظيم عدد من الأحداث. وهو يقول عن نفسه دائماً إنه «يسعى للكمال». ويرى مراقبون أنه «نظراً لميول عثماني الأب إلى البقاء في السلطة؛ من المتوقع أنه يعد ابنه ليحل محله مستقبلاً».

هذا، وظهر نور الفتح على الساحة السياسية، عقب فوز والده بانتخابات عام 2019، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال، وحاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال في التمويل الدولي من الولايات المتحدة، لكن صعوده السياسي لا يحظى برضا الجميع، فبينما يصفه البعض بأنه «زعيم حقيقي، صاحب رؤية»، يرى آخرون أنه «متعجرف، يطبق استراتيجية الأرض المحروقة، ويحاول القضاء على أنصار والده من الساحة السياسية».أخيراً، يأمل أنصار الرئيس عثماني أن تتكرر يوم 14 يناير الحالي نتائج انتخابات 2019 التي فاز عثماني بها من الدورة الأولى، لا سيما في ظل ضعف المعارضة وانقسامها بين فريق مؤيد للانتخابات وآخر يدعو إلى مقاطعتها. وفي حين تخشى المعارضة من «تزوير الانتخابات» وتدعو إلى «ضمان نزاهتها»، يقول مدير حملة عثماني الانتخابية: «يجري الحديث عن تزوير في كل بلد تُجرى فيه انتخابات. وجزر القُمُر ليست استثناءً»، مضيفاً: «أنا متأكد من أننا سنفوز. ونعمل على تعبئة مواطني جزر القُمُر أينما ذهبنا».



خوسيه مانويل آلباريس... الوجه الشاب البارز للدبلوماسية الإسبانية

آلباريس، واجه انتقادات شديدة في مجلس النواب لدى مرافعته عن قرار الاصطفاف إلى جانب المغرب في أزمة «الصحراء»
آلباريس، واجه انتقادات شديدة في مجلس النواب لدى مرافعته عن قرار الاصطفاف إلى جانب المغرب في أزمة «الصحراء»
TT

خوسيه مانويل آلباريس... الوجه الشاب البارز للدبلوماسية الإسبانية

آلباريس، واجه انتقادات شديدة في مجلس النواب لدى مرافعته عن قرار الاصطفاف إلى جانب المغرب في أزمة «الصحراء»
آلباريس، واجه انتقادات شديدة في مجلس النواب لدى مرافعته عن قرار الاصطفاف إلى جانب المغرب في أزمة «الصحراء»

عندما اجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي مساء الثلاثاء الفائت في آخر دورة للمجلس قبل بداية العطلة الصيفية، توافقوا على أن الوضع الإنساني في غزة ما زال «لا يطاق»، وأن إسرائيل انتهكت التزاماتها في مجال حقوق الإنسان. لكنهم، في المقابل، لم يتفقوا على أي خطوة لمعاقبة حكومة بنيامين نتنياهو التي كان وزير خارجيتها قد أكّد مطلع هذا الأسبوع في بروكسل أن الاتحاد لن يفرض أي عقوبات على بلاده، وكرّر أن التقرير الذي كانت وضعته الدائرة القانونية في المجلس الأوروبي، وأكّد الانتهاكات الإسرائيلية بموجب المادة الثانية من اتفاقية الشراكة بين الطرفين، ليس سوى سلسلة من الافتراءات التي لا أساس لها وتعدٍّ على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. معظم العواصم الأوروبية اختارت الصمت أمام هذا الرد الإسرائيلي «الفج» - كما وصفه أحد الدبلوماسيين الأوروبيين - الذي حمل في طياته اتهاماً للاتحاد الأوروبي بالتواطؤ مع أعداء إسرائيل والتحريض على معاداة السامية. وحده وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل آلباريس عاد ليرفع الصوت مندّداً بما وصفه بأنه «نيل من كرامة الاتحاد»، وطالب مرة أخرى بتعليق اتفاقية الشراكة مع الدولة العبرية.

أبصر خوسيه مانويل آلباريس النور في العاصمة الإسبانية مدريد عام 1972، أي قبل ثلاث سنوات من رحيل الديكتاتور الإسباني فرنشيسكو فرنكو، ونشأ في كنف أسرة متواضعة جداً كانت تسكن واحداً من أفقر أحياء المدينة. وكان العديد من أفراد الأسرة قد هاجر إلى المنافي بعد نهاية الحرب الأهلية، بينما تعرّض الباقون، ومنهم والده، لملاحقات النظام العسكري ومضايقاته.

كان تفوق آلباريس لافتاً في مرحلة الدراسة الثانوية، ونال منحة للالتحاق بكلية الحقوق في جامعة دوستو الخاصة العريقة التي يديرها الآباء اليسوعيون في بلاد الباسك، بينما كانت الشرطة السياسية تسجن والده بتهمة التحريض على مظاهرات ضد نظام فرنكو الذي كان بدأ يخطط لمرحلة انتقال السلطة وتنصيب الأمير خوان كارلوس خلفاً له.

طموح... ويساري

بعد نيل الشاب الطموح إجازة الحقوق حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الإدارية، والتحق بجامعة باريس - السوربون الفرنسية حيث تخصّص في إدارة التراث الثقافي. ثم عاد إلى مدريد ليفوز بالمركز الأول في امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الدبلوماسية الذي كان حِكراً على أبناء الدبلوماسيين والعائلات الميسورة الموالية للنظام. ويذكر آلباريس في إحدى المقابلات أن تجربته في ذلك المعهد كانت «صادمة»، وأنها أيقظت لديه الرغبة في النشاط السياسي، فقرر الانخراط في الحزب الاشتراكي العمالي الذي كان والده ناشطاً في صفوف النقابة العمالية التابعة له.

وقبيل تخرجه في المعهد الدبلوماسي، أسّس آلباريس «منتدى البحوث الدولية» في مدريد مع مجموعة صغيرة من زملائه شكّلوا لاحقاً الدائرة الضيّقة لمستشاري بيدرو سانشيز عندما فاز بزعامة الحزب الاشتراكي. وبعد تولّيه عدة مناصب دبلوماسية في أميركا اللاتينية وأوروبا، كان آخرها سفيراً لدى فرنسا، استدعاه سانشيز ليكون مستشاره الخاص للعلاقات الدولية بعد وصوله المفاجئ إلى رئاسة الحكومة عام 2018.

الطريق إلى الواجهة

في المؤتمر الذي عقده الحزب الاشتراكي في بلنسية عام 2020، وتكرّست فيه زعامة سانشيز رغم معارضة العديد من القيادات الوازنة في الحزب، كُلّف آلباريس وضع الإطار العام لسياسة الحزب الدولية والأوروبية، وانتُخب عضواً في اللجنة الفيدرالية. وخلال تلك الفترة، توطّدت علاقته بسانشيز الذي كانت تخلّت عنه وجوه بارزة في الحزب وراحت تخطّط لإسقاطه.

وفي صيف عام 2021، بعدما كان سانشيز قد كلّف آلباريس تنسيق العلاقات الخارجية للحزب، عيّنه وزيراً للخارجية في حكومته الثانية، ثم عاد وثبّته في المنصب نفسه عند تشكيل حكومته الثالثة عام 2023.

أحد المقربين من الوزير الشاب يقول إنه بعد إعادة تكليفه حقيبة الخارجية في حكومة سانشيز الثالثة، حرص على أن تكون زيارته الرسمية الأولى إلى بريطانيا. وحقاً كان قد خصّص جزءاً كبيراً من جهوده إبان ولايته الأولى لتحضير الأجواء المناسبة من أجل التوصل إلى اتفاق بين إسبانيا وبريطانيا حول جبل طارق، الذي منذ قرون يشكّل الملفّ الأصعب بالنسبة للدبلوماسية الإسبانية.

أيضاً، أجرى آلباريس جولات عديدة من المفاوضات والاتصالات مع السلطات المحلية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة المحيطة بجبل طارق. وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي اجتمع في بروكسل مع نظيره البريطاني، رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية ماروس سيفكوفيتش، لتوقيع الاتفاق الذي كان يحضّر له منذ سنوات، لكن بعض الشروط التي وضعها الجانب البريطاني في اللحظات الأخيرة أجهضت تلك الخطوة.

ولكن بعد استقالة الحكومة البريطانية، عاد آلباريس ليعقد جولات جديدة من المفاوضات مع نظيره البريطاني (الحالي) ديفيد لامي، إلى أن توصّل الطرفان إلى اتفاق سياسي نهائي حول جبل طارق في 12 يونيو (حزيران) الفائت وصفته مدريد ولندن بـ«التاريخي». وكان من أبرز بنوده إلغاء «البوابة» التي كانت لقرون تفصل بين المستعمرة البريطانية والأراضي الإسبانية المحيطة بها، بحيث تتولّى إسبانيا إجراءات المراقبة الأساسية وفقاً لاتفاقية «شينغن» في مطار وميناء جبل طارق.

ملف الصحراء

تمشيّاً مع التشكيلات الحكومية الثلاثة التي قادها سانشيز، حيث أعضاؤها مناصفة بين الرجال والنساء، حرص آلباريس أيضاً على أن تكون المساواة بين الجنسين من العلامات المميزة للدبلوماسية الإسبانية، وعيّن عدداً من السفيرات في مناصب حساسة، أبرزها الولايات المتحدة والصين.

ومن الملفات الأخرى الحساسة التي نجح آلباريس في معالجتها العلاقات مع المغرب والجزائر، التي كانت دائماً تقتضي من إسبانيا حرصاً شديداً على تحاشي الانحياز لأي من الطرفين على حساب الآخر، خاصة فيما يتعلّق بالنزاع على الصحراء، التي كانت مستعمرة إسبانية وتخلّت عنها مدريد للمغرب بعد «المسيرة الخضراء» الشهيرة التي قادها العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني في أواخر عهد فرنكو. وللعلم، كانت العلاقات بين مدريد والرباط قد تدهوَرت فجأة عندما استقبلت إسبانيا الزعيم الصحراوي إبراهيم غالي ليتعالج في أحد مستشفيات مدريد. لكن بعد التصريحات التي صدرت عن الطرفين المغربي والإسباني على أرفع المستويات، وعدد من اللقاءات الثنائية على مستوى رئيسي الحكومة، توطّّدت العلاقات الثنائية بين مدريد والرباط ضمن إطار واسع من الاتفاقات التي شملت سياسة الهجرة من المنظور «الدائري» الذي استحدثته إسبانيا، ثم واصلت تطبيقه مع دول أخرى، وعدد من البروتوكولات المالية التي تربو قيمتها على المليار يورو، فضلاً عن مشاريع للتعاون الثقافي والتأهيل المهني والتعليم العالي.

وفي مارس (آذار) من عام 2022، وجّه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز رسالة إلى العاهل المغربي أكد فيها أن الاقتراح الذي تقدّمت به الرباط لحل أزمة الصحراء، هو «الأكثر جديّة وصدقية وواقعية»، ما أدّى إلى ردة فعل شديدة من الجزائر التي قرّرت استدعاء سفيرها في مدريد، وعلّقت اتفاقية الصداقة والتعاون وحسن الجوار مع إسبانيا، وتراجعت عن إعطاء الأولوية في علاقاتها التجارية الخارجية مع إسبانيا لصالح إيطاليا، الأمر الذي تسبّب في خسائر لمدريد قدّرها الخبراء بمليارات الدولارات.

خلال تلك الأزمة، تعرّض آلباريس لحملة انتقادات شخصية قاسية جداً من الجزائر، كما واجه أيضاً انتقادات شديدة في مجلس النواب لدى مرافعته عن قرار الاصطفاف إلى جانب المغرب في أزمة «الصحراء»، بعد موجات الهجرة الكثيفة التي تدفقت على إسبانيا من السواحل المغربية.

غير أنه، في خريف عام 2023، قررت الجزائر تعيين سفير جديد لها في مدريد وأعادت علاقاتها الطبيعية مع إسبانيا. وأيضاً قرّرت إلغاء جميع القيود التي كانت فرضتها على الصفقات المالية مع المصارف الإسبانية التي كانت تسببت في خفض المبادلات التجارية بين الطرفين من 3.7 مليار يورو عام 2022 إلى 332 مليون يورو عام 2023.

وفي قمة «مجموعة العشرين» التي استضافتها جنوب أفريقيا في فبراير (شباط) الفائت، تحدث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون عن إسبانيا بوصفها «دولة صديقة»، وقال إن العلاقات بين الطرفين «عادت إلى طبيعتها». وكذلك، بعد ذلك بشهرين، وصف وزير الخارجية المغربي علاقات بلاده بإسبانيا بأنها تمرّ بأحسن فتراتها التاريخية.

حرب غزة

لكن، مع نشوب «حرب غزة» في خريف عام 2023، وتدهور الوضع الإنساني في القطاع بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية، برز آلباريس لاعباً أساسياً على الصعيدين المحلي والأوروبي. وكان في طليعة من أدانوا الانتهاكات التي ترتكبها حكومة بنيامين نتانياهو، وطالبوا بفرض عقوبات على بعض أعضائها وعلى المستوطنين الضالعين في اعتداءات على سكان الضفة الغربية.وعلى الصعيد الإسباني الداخلي أقنع آلباريس رئيس الحكومة سانشيز بوضع القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني في طليعة أولوياته، انطلاقاً من «اعتقاده الراسخ» - كما قال في إحدى المقابلات - بأن «الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني ليس فحسب موقفاً أخلاقياً تمليه أحكام القانون الدولي والمصالح الأمنية الأوروبية، بل هو أيضاً ما تؤيده الغالبية الساحقة من المواطنين الإسبان، بمن فيهم نسبة كبيرة من أنصار الأحزاب اليمينية».