فيليكس تشيسيكيدي... «وريث المعارضة» الطامح إلى ولاية ثانية رغم التحديات

تفشّي «العنف» يلاحق رئيس الكونغو الديمقراطية

فيليكس تشيسيكيدي... «وريث المعارضة» الطامح إلى ولاية ثانية رغم التحديات
TT

فيليكس تشيسيكيدي... «وريث المعارضة» الطامح إلى ولاية ثانية رغم التحديات

فيليكس تشيسيكيدي... «وريث المعارضة» الطامح إلى ولاية ثانية رغم التحديات

وسط مجموعة من مؤيديه احتشدت في ساحة ملعب رياضي بمدينة غوما، حاملين الأعلام ومرتدين قبعات وملابس بيضاء، وقف رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي حاثاً الشعب على انتخابه لولاية ثانية من أجل «تعزيز إنجازاته»، ومحذّراً من «العودة إلى نقطة الصفر». يطمح تشيسيكيدي «وريث المعارضة التاريخية» في أن يمدّ حكمه 5 سنوات أخرى، ويبقى على رأس الكونغو الديمقراطية، في قلب أفريقيا، التي يعاني سكانها البالغ عددهم نحو 112 مليون نسمة من الفقر، إلى جانب اضطرابات أمنية، خصوصاً في شرق البلاد. ويتنافس في الانتخابات، المقرّر إجراؤها يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أكثر من 20 مرشحاً، بينهم مويس كاتومبي رجل الأعمال والحاكم السابق لولاية كاتانغا، الذي سبق أن مُنع من الترشّح في انتخابات 2018، والسياسي المعارض مارتن فايولو، وحامل جائزة «نوبل» للسلام دينيس موكويغي. ومع أن بين المرشحين شخصيات سياسية بارزة، فإن افتقار المعارضة لـ«وحدة الصف» ربما يعزز استمرار تشيسيكيدي.

أثار وصول فيليكس تشيسيكيدي إلى الحكم في جمهورية الكونغو الديمقراطية قبل 5 سنوات آمالاً عريضة، بناءً على جذوره المعارضة، وكونه جاء في أول انتقال سلمي للسلطة في الكونغو منذ استقلالها عن بلجيكا عام 1960، غير أن قوى المعارضة تطالب اليوم بإعادة النظر في ما حقّقه كرئيس، ومراجعة وعوده بالحد من البطالة واستعادة الأمن قبل منحه ولاية ثانية.

نشأة سياسية معارضة

ينتمي فيليكس أنطوان تشيسيكيدي لإثنية اللوبا (البالوبا)، في إقليم كاساي بوسط جنوب الكونغو. بيد أنه ولد عام 1963 في العاصمة كينشاسا لعائلة منخرطة في المعارضة. وهو الابن الثالث بين 5 أبناء للسياسي المعارض إتيان تشيسيكيدي وا مولومبا، الذي أسّس حزب «الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدّم الاجتماعي» (يسار الوسط)، وخدم كرئيس وزراء لـ3 فترات قصيرة خلال تسعينات القرن الماضي.

في سنّ التاسعة عشر، تبع فيليكس، الذي يلقبه أصدقاؤه بـ«فاتشي»، والده المُلاحَق من قبل الرئيس اليميني الأسبق موبوتو سيسي سيكو إلى قريته في كاساي، حيث عاش مع عائلته تحت الإقامة الجبرية. وفي الثانية والعشرين من عمره، وتحديداً عام 1985، لجأ تشيسيكيدي وعائلته إلى بلجيكا، وهناك يُقال إن «فاتشي» مارس عدة مهن واعتاد التردد على النوادي الليلية، بيد أنه سرعان مع عاد إلى عالم السياسة مرة أخرى وأصبح من أهم المؤيدين لحزب والده. وهذا التأييد دفعه للدخول في صراع مع مقربين من موبوتو، ومع الشرطة البلجيكية نفسها إثر منع والده من العودة لكينشاسا.

حصل فيليكس في العاصمة البلجيكية بروكسل على شهادة في الأعمال والاتصالات، أثيرت شائعات بشأن صحتها، وهو متزوج وله 5 أبناء. وفي ظل والده، دخل معترك السياسة في سن صغيرة واختبر العمل كمعارض في ظل نظام قمعي، مشاركاً والده النضال ضد موبوتو. وأيضاً في ظلّ والده، تدرّج في مناصب عدة بـ«الاتحاد من أجل الديمقراطية». إذ انتخب عام 2011 نائباً عن منطقة مبوجي مبايي (بكوانغا، سابقاً) لكنه لم يدخل مجلس النواب احتراماً لوالده الذي عارض إعادة انتخاب جوزيف كابيلا في العام نفسه، مدعياً تزوير فوزه.

أيضاً رفض فيليكس تشيسيكيدي عام 2013 منصب مقرر اللجنة الانتخابية في الكونغو، وقال آنذاك: «لا أريد أن أجمد مسيرتي السياسية وأضعها رهن الانتظار». لكنه في نهاية عام 2016، وقبل وقت قصير من وفاة والده عام 2017، شارك في مفاوضات بين السلطة والمعارضة تحت رعاية الكنيسة، أثمرت اتفاق «سان سيلفستر»، الذي بموجبه تأجلت الانتخابات.

استفاد تشيسيكيدي وما زال من شعبية والده، وانتخب رئيساً لحزب «الاتحاد من أجل الديمقراطية» خلفاً له. ولكن بينما كان الأب «عنيداً ومعتزاً بنفسه» يرى مراقبون أن الابن «أكثر دبلوماسية، فهو مستمع جيد للآخرين ومهذب». وقبيل انتخابه في الولاية الأولى أثناء زيارة للولايات المتحدة، أجرى حواراً سئل خلاله عما إذا كان يمتلك قدرة ليحل محل والده، فأجاب بلغة فرنسية واضحة إنه «ليس لديه طموح لمنافسة والده. فهو سيدي... ولا أحد يرغب في منافسة سيده». في المقابل، يرى منتقدو فيليكس تشيشيكيدي أنه «اعتمد على شعبية والده وتاريخه، لكنه يفتقر إلى الخبرة ومؤهلات القيادة». وعلى هذا الكلام يدافع عن نفسه بأنه لا يمتلك خبرة في الحكم السيئ أو نهب ثروات البلاد، لكنه خبير في احترام حقوق الإنسان.

مواقف حادة

عُرف فيليكس تشيسيكيدي بصلابته ومواقفه الحادة. إذ وقف على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر (أيلول) الماضي، مطالباً بالانسحاب التدريجي لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، واصفاً ذلك بأنه «مرحلة ضرورية لتعزيز التقدم الذي حققته بلاده بالفعل».

وقال تشيسيكيدي إن «الشعوب الأفريقية في كثير من الأحيان لا تفهم الموقف الملتبس والمعايير المزدوجة في العمل، والغموض والمماطلة التي تتسم بها الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن بشأن بعض الأزمات السياسية والأمنية، التي تعصف بأفريقيا... ولقد آن الأوان لتتولى بلادي مصيرها بالكامل».

في الواقع، أسست بعثة الأمم المتحدة في الكونغو الديمقراطية «مونوسكو» عام 1966. وفي المقابل، أصدر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بالتزامن مع تصريحات تشيسيكيدي، بياناً أعرب خلاله عن «القلق البالغ بشأن مقتل 43 شخصاً على الأقل، بمن فيهم شرطي، وإصابة 56 بجراح أثناء مظاهرات في غوما». وهي مظاهرات خرجت ضد بعثة الأمم المتحدة للسلام. ويرجح مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في تقرير حديث أن يطالب أي حاكم للكونغو الديمقراطية بانسحاب بعثة حفظ السلام الأممية «استجابة لمشاعر الإحباط والغضب الشعبي إزاءها».

دولياً، تثير تصريحات فيليكس تشيسيكيدي الجدل والتوتر. ففي مارس (آذار) الماضي، إبان زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعاصمة الكونغولية كينشاسا، تكلم تشيسيكيدي في مؤتمر صحافي مشترك عن «ازدواجية المعايير في التعامل مع أفريقيا، والكلام عن تسويات سياسية عندما يتعلق الأمر بأفريقيا، بينما لا يحدث ذلك إذا ما شابت الانتخابات في أميركا أو أوروبا مخالفات». وأضاف مخاطباً ماكرون: «هذا يجب أن يتغير... انظروا لنا بطريقة مختلفة ... انظروا لنا كشركاء، وليس بنظرة أبوية وإملاءات». جاء هذا الموقف تعقيباً على كلام لوزير الخارجية الفرنسي الأسبق جان إيف لودريان، عام 2019، ورد فيه أن نتائج انتخابات الرئاسة في الكونغو الديمقراطية كانت «بترتيب مسبق».

تساؤلات الشرعية

وحقاً، أثار إعلان فوز تشيسيكيدي بالانتخابات الرئاسية عام 2018 تساؤلات عدة، بشأن شرعية الفوز، ولا سيما أن مؤيدي منافسه مارتن فايولو اتهموه بـ«التواطؤ مع الرئيس السابق جوزيف كابيلا في انقلاب انتخابي». ودعم هذه الاتهامات تحليل أجرته «مجموعة أبحاث الكونغو» و«الفاينانشال تايمز» ادعى «فوز فايولو»، مع أن المحكمة أيّدت فوز تشيسيكيدي. كذلك عزز تلك الادعاءات ما تكشف لاحقاً عن «صفقة» عقدت بين تشيسيكيدي وجوزيف كابيلا، الرئيس المنتهية ولايته بعد 18 سنة من الحكم، فيها أعلن الأخير دعمه لتشيسيكيدي، داعياً شعب الكونغو إلى «التوحد خلفه». وهكذا استقر تشيسيكيدي في «قصر الأمة»، المقر الرئاسة الحالي على ضفة نهر الكونغو.

ملامح الصفقة ترجع إلى «اتفاق سياسي» وقّعه الطرفان يحصل بموجبه كابيلا وأنصاره على مناصب وزارية تجعله شريكاً في الحكم. الأمر الذي أثار شكوكاً إزاء النتيجة، دفعت فرنسا للإعراب عن قلقها مما وصفته بـ«نتيجة غير مطابقة للحقيقة». إلا أن باريس سرعان مع عادت فاعترفت بالرئيس الجديد أسوة بالاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وفي حين تطرق تشيسيكيدي عام 2017 إلى تشكيل «لجنة حقيقة ومصالحة» لمحاسبة كابيلا، حال استلامه السلطة، فإنه بعد إعلان فوزه بالرئاسة أشاد بكابيلا، عادّاً إياه «شريكاً».

مواجهة العنف المسلح

في مجال آخر، ورث فيليكس تشيسيكيدي بلداً غارقاً في الأزمات والصراعات، سبق له أن عانى ويلات حربين أهليتين. واتسمت فترته الرئاسية الأولى بصعوبات اقتصادية، فاقمتها جائحة «كوفيد 19»، ووباء «إيبولا». ويضاف إلى كل ذلك انعدام الأمان، خصوصاً في شرق البلاد، الذي شهد تصاعداً لأحداث العنف منذ عام 2022. وبالفعل، تشهد مناطق شرق الكونغو نشاطاً لما لا يقل عن 120 جماعة مسلحة، أهمها حركة «23 مارس». ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا»، فإن «نحو 500 ألف شخص أجبروا على النزوح خلال الشهرين الماضيين». وعليه، يعتقد مراقبون أن «مخاطر الصراع بعد الانتخابات ستكون أكبر».

في المواجهة ضد حركة «23 مارس» يضع تشيسيكيدي جمهورية رواندا، «جارة الكونغو الصغيرة» (إلى الشمال الشرقي)، في منزلة العدو الأول، مستعيداً نزاعاً قديماً بين الدولتين غزت خلاله رواندا الأراضي الكونغولية. وكانت حكومتا الدولتين قد اتفقتا في محاولة لرأب الصراع بنهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وبوساطة أميركية، على تقليص الوجود العسكري على حدودهما المشتركة. غير أن العداء السياسي تجدّد منذ 9 ديسمبر الحالي، بعدما شبّه تشيسيكيدي نظيره الرواندي بول كاغامي بـ«هتلر»، مع العلم أن تشيسيكيدي الذي كان في طليعة وعوده في الولاية الأولى استعادة الأمن... وقف بعد 5 سنوات ليشير إلى «انعدام الأمن بشرق البلاد». وأمام البرلمان، حاول خلال الشهر الماضي الدفاع عن سياسة الحصار التي فرضها على المنطقة الشرقية عام 2021، قائلاً إنها «سمحت للسلطات بخنق مصادر تمويل المتمردين». ولكن على الأرض كانت حركة «23 مارس» توسّع سيطرتها، بينما سبّب الحصار «تفاقم حالة حقوق الإنسان». وإضافة إلى حركة «23 مارس»، تواجه الكونغو الديمقراطية هجمات من جماعات مسلحة متحالفة مع «داعش»، ولا تزال علاقاتها مشحونة مع «جارتيها» الشرقيتين الأخريين؛ بوروندي وأوغندا.

إنجازات وتحديات

في الحملة الرئاسية الحالية، يركز فيليكس تشيسيكيدي على «الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي حققتها إدارته»، بدلاً من التركيز على الوضع الأمني في شرق البلاد. وحقاً، على الصعيد الاقتصادي، رغم انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للكونغو إبان جائحة «كوفيد 19»، فإنه حقق انتعاشاً متواضعاً، ليرتفع إلى 8.92 في المائة عام 2022، مقارنة بـ6.20 في المائة عام 2021.

ولتعزيز النمو الاقتصادي سعى الرئيس الكونغولي لتعزيز العلاقات التجارية مع دول الجوار. ولكن رغم ذلك لا يبدو سجله الاقتصادي «إيجابياً بشكل كامل». إذ يتوقع البنك الدولي أن تؤدي الانتخابات إلى اتساع العجز المالي للبلاد ليصل إلى 1.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، خصوصاً مع انخفاض قيمة الفرنك الكونغولي بنسبة 20 في المائة.

أما على الصعيد الاجتماعي، فيتباهى تشيسيكيدي بإنجازاته في قطاع التعليم، حيث أقرّ مجانية التعليم الابتدائي في سبتمبر (أيلول) 2019، وما تلا ذلك من زيادة في عدد المدارس والطلاب. غير أن تحقيقاً أجري عام 2020 «كشف مخالفات في قطاع التعليم، وتحدث عن مدارس وهمية وموظفين وهميين».

وعود جديدة

في مطلق الأحوال، فإن تشيسيكيدي، الذي وصل إلى السلطة بمساعدة كابيلا، كرّس الكثير في بداية حكمه سعياً إلى تقليص نفوذ سلفه. ومع أنه نجح في ذلك إلى حد كبير، ظل انعدام الأمن في مناطق شرق الكونغو، يستنزف موارد البلاد. ولكن، في الحصيلة النهائية يعدّ مراقبون التزام تشيسيكيدي بإجراء الانتخابات في موعدها «أمراً إيجابياً» في حد ذاته، ولا سيما أن البعض كان يخشى أن يعتمد سياسة المماطلة التي انتهجها سلفه كابيلا. كذلك، وفق مراقبين متابعين، قد تحول الظروف الأمنية دون إقبال كثيرين على صناديق الاقتراع... لكن في ما يخص تشيسيكيدي فهو يخوض السباق الرئاسي طامحاً بالحصول على فرصة أخرى لتنفيذ تعهداته السابقة، وتحقيق وعوده بـ«مستقبل تُتاح فيه الفرصة أمام كل الكونغوليين للتمتع بالازدهار».


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة

صحتك طفل مصاب بجدري القردة يتلقى الرعاية الصحية (أ.ب)

«الصحة العالمية»: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة

قالت منظمة الصحة العالمية، اليوم الجمعة، إن تفشي جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
رياضة عالمية منتخب سيدات المغرب من المرشحات لجائزة الأفضل في القارة الأفريقية (الشرق الأوسط)

«كاف» يعلن قوائم المرشحات للفوز بجوائز السيدات 

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف)، اليوم (الأربعاء)، القوائم المرشحة للحصول على جوائزه لعام 2024 في فئة السيدات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية كولر مدرب الأهلي المصري ينافس 4 مدربين لمنتخبات على الأفضل في أفريقيا (أ.ف.ب)

«كاف»: 5 مرشحين لجائزة أفضل مدرب في أفريقيا

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) عن القائمة النهائية للمرشحين لجائزة أفضل مدرب في القارة السمراء في عام 2024.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية أشرف حكيمي (أ.ب)

حكيمي يتصدر قائمة المرشحين لجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

ينافس المغربي الدولي أشرف حكيمي بقوة على جائزة أفضل لاعب في أفريقيا للعام الثاني على التوالي بعد دخوله القائمة المختصرة للمرشحين، التي أعلنها الاتحاد الأفريقي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.