بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

الرئيس الجديد احتاج لدعم اليمين التقليدي وسيعتمد عليه أكثر مستقبلاً

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
TT

بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)

عندما ذهب الأرجنتينيون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، كانوا يعرفون أن حظوظ مرشح اليمين المتطرف خافيير ميلي كانت قد ارتفعت بعد التأييد الذي حصل عليه من الحزب الليبرالي اليميني الذي يتزعمه الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، وهذا، مع أن ماكري كان في مرمى الانتقادات القاسية والشتائم التي أغدقها ميلي على جميع أقطاب الطبقة السياسية التي حكمت الأرجنتين في العقود الثلاثة المنصرمة، والتي كان توعّد بإفنائها في حال وصوله إلى السلطة. إلا أن أحداً لم يكن يتوقع مع بزوغ فجر الاثنين أن ميلي سيحقق ذلك الفوز الساحق بفارق يزيد على ثلاثة ملايين صوت على منافسه وزير الاقتصاد الحالي سيرجيو ماسّا الذي يمثّل الجناح المعتدل في الحركة البيرونية، الذي سبق له أن خسر الانتخابات الرئاسية لصالح ماكري عام 2015. وعندما تأكدت نتائج الانتخابات، شعر كثيرون بأن الأرجنتين أصبحت بلداً آخر غير الذي كانوا يعرفونه، أو أنها كانت هكذا، لكنهم ما كانوا يدركون ذلك. لقد كانوا يشعرون باعتزاز مفرط متأصل في هويتهم، رغم أنظمة الاستبداد والقمع التي تعاقبت عليهم والأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة الممتدة منذ سنوات. ويحسبون أنهم حالة مميزة في محيطهم الإقليمي ترقى إلى المستوى الأوروبي. غير أنهم اكتشفوا بين ليلة وضحاها أن الأرجنتين أيضاً أصبحت في دائرة المجتمعات اليائسة التي لا تتردد في تسليم قيادها إلى مغامر مثل ميلي أعطى براهين أكثر من كافية على جموحه وتطرفه الفظيع وطروحاته المتهورة.

ليس المراقب في حاجة إلى قراءة معمّقة في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية لكي يتبيّن أن فوز المرشح اليميني المتطرف خافيير ميلي لم يكن بفضل برنامجه الذي يقتصر على مجموعة من العناوين التي لم يتوقّف عن تغييرها طوال الحملة الانتخابية، بل هو النتيجة الطبيعية لانسداد أفق الحلول أمام كثرة من الأرجنتينيين.

هؤلاء، كما يبدو، فقدوا الأمل بالنهوض من الأزمات المتلاحقة التي أنهكتهم مادياً ونفسياً. ولذا راهنوا - ربما بنوع من اليأس - على سياسي شعبوي عرف كيف يجسّد الغضب الذي تولّد من حقد مواطنيه على الطبقة الحاكمة التي أوصلت الأرجنتين إلى هذه الكارثة، والتي كانوا هم ينتخبونها مرة غبّ المرة.

التصويت لـ«الضد»

الغالبية الساحقة من الأرجنتينيين ذهبت لتصوّت «ضد» الآخر المألوف، ولم يكن أمامها - مرئياتها - أفضل من ميلي الذي يجسّد الحقد على كل الآخرين. وللعلم، بنى الرجل أسس حملته الانتخابية على شعار بسيط واحد، هو: «لا بد من تدمير كل شيء والانطلاق من البداية... وأنا القادر على ذلك».

كثيرون استسلموا لمغريات هذا الشعار ولأسلوب صاحبه، من غير أن يعرفوا كيف سيخفّف من معاناتهم هذا الذي يطلق على نفسه لقب «ملك الغاب».

وبينما يراقب العالم الآن من كثب الخطوات الأولى التي سيتخذها الرئيس الجديد بعدما أدخلت الأرجنتين نفسها دائرة الأنظمة اليمينية المتطرفة، وقفزت بإرادتها نحو «المجهول» بعد هذا الفوز الكاسح الذي حققه مرشح كان مغموراً لأشهر خلت، بل ويعترف بأنه لا يفقه شيئاً عن الحكم. وفي حين يسود التوجّس من الحلول التي وعد بتنفيذها لمعالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي المعقّد، كشف خافيير ميلي عن أنه سيقوم خلال الأيام القليلة المقبلة، أي قبل تسلمه مهامه في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بزيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل اللقاء بعدد من الحاخامات اليهود في مدينتي نيويورك وميامي، واللافت أنه ليس من المقرّر أن يعقد لقاءات مع إدارة الرئيس جو بايدن التي كانت من أوائل الذين سارعوا إلى تهنئته منوّهة بـ«ديمقراطية العملية الانتخابية ونزاهتها».

الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها ميلي تشكّل حالة فريدة ضمن اليمينية الراديكالية

«طابع روحاني» ...ويمين متطرف

ميلي قال في مقابلة إذاعية فجر الثلاثاء الماضي إن زيارته الأميركية هذه سيكون لها طابع «روحاني»، وتندرج في سياق زيارات مماثلة قام بها في السابق حين كان يجتمع بزعماء روحيين يهود ويتابع تعاليمهم. ومن ثم، أكّد الرئيس المنتخب أنه سيتوجّه بعد ذلك من نيويورك إلى إسرائيل التي كان وعد خلال حملته الانتخابية بأنه في حال فوزه سيكون أول قرار يتخذه على صعيد العلاقات الخارجية هو نقل سفارة بلاده إليها من تل أبيب إلى القدس، وإنه سيركّز سياسته الخارجية على ما أسماه «المحور الأميركي - الإسرائيلي»، وفي المقابل، شدد ميلي على أنه لن يتفاوض مع الأنظمة الشيوعية مثل البرازيل والصين. وفي هذا المجال، كانت تصريحات لبعض المقرّبين منه بأنه يفكّر في «إعادة النظر في العلاقات مع الصين» قد استدعت تنبيهاً له من الخارجية الصينية بأنه خطأ فادح، وقالت إنه سيلحق ضرراً كبيراً بمصالح الأرجنتين.

جانب لافت آخر يعني ما يعنيه، أن كان أوّل مهنئي ميلي بفوزه سياسي يميني متطرف آخر، هو الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، الذي سبق له هو ايضاً أن أجرى بُعيد انتخابه زيارة إلى إسرائيل، حيث أعلن نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. ومما قاله بولسونارو إنه سيحضر شخصياً حفل تنصيب الرئيس الأرجنتيني الجديد أواسط الشهر المقبل في بوينس آيرس.

كذلك، من رسائل التهنئة اللافتة التي تلقاها ميلي تلك التي بعث بها رئيسان يمينيان سابقان للمكسيك هما فيسنتي فوكس وفيليبي كالديرون الذي قال: «لقد أثبتت الأرجنتين إرادتها في صون النظام الديمقراطي، بعكس المكسيك التي تجنح بسرعة إلى وأد هذا النظام».

من جهة ثانية، بينما تتوقع الأوساط الدبلوماسية مرحلة من التوتّر في العلاقات الإقليمية بوصول ميلي إلى الرئاسة، يسود القلق أيضاً في أوساط الاتحاد الأوروبي الذي تريّث في تهنئة الرئيس الجديد واكتفى برسالة مقتضبة بعث بها شارل ميشال، رئيس الاتحاد، اقتصرت على قوله: «الشعب الأرجنتيني قال كلمته في انتخابات حرة وديمقراطية». واليوم، يقول مسؤولون أوروبيون صراحةً: إن وصول ميلي إلى الرئاسة يطرح علامات استفهام كبيرة حول المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة بلدان «ميركوسور» (الأرجنتين، والبرازيل، والباراغواي والأوروغواي)، وأيضاً حول العلاقات مع «كتلة بلدان أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي» بعد الانفراج الذي سادها عقب خروج بولسونارو من السلطة في البرازيل وانتخاب ألبرتو فيرنانديز في الأرجنتين. وفي المقابل، ترى الأحزاب اليمينية المتطرفة في فوز ميلي فرصة لعودة الموجة المحافظة في الأميركتين التي قادها دونالد ترمب وجايير بولسونارو في السنوات الماضية، وتجسدها اليوم جيورجيا ميلوني في إيطاليا.

الحركة البيرونية... تعرضت لنكسة موجعة (رويترز)

تنوّع رغم الوحدة

في سياق متصل مع ما سبق، إذا كان «زئير» النقمة الشعبية على الأنظمة الحاكمة، وما تحمله من طروحات وأساليب تقليدية، هو الذي دفع بالمشاريع الشعبوية المتطرفة إلى السلطة في أكثر من موقع على المشهد السياسي العالمي - ورغم القواسم المشتركة بين معظم هذه المشاريع - فإن لكل منها خاصياته وأسباب نجاحه المختلفة.

وبما يتعلّق بالأرجنتين، فإن الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها خافيير ميلي تشكّل حالة فريدة متميّزة ضمن الأممية اليمينية الراديكالية. إذ يثير الفوز الكاسح الذي حققه قدراً كبيراً من الدهشة والقلق والاستغراب في الأوساط التقدمية والليبرالية المعتدلة، وتخشى أن يكون ذلك نذيراً لموجة أوسع على الصعيدين الإقليمي والدولي في ظل الظروف الدولية المضطربة بشكل غير مسبوق على الصعيدين الأمني والاقتصادي. ولعل أكثر ما يثير القلق في «ظاهرة» ميلي أن طروحاته تكاد تكون نوعاً من المزايدة لما فيها من تطرف استثنائي وغير مألوف، في الوقت الذي لا يخفى على أحد حقيقة أنها لا ترتكز إلى أي مسوّغ فكري أو علمي، فضلاً عن أنها تشكّل تراجعاً كبيراً عن منجزات اجتماعية وسياسية كثيرة.

هذا الغضب الذي يحرّك الموجة الشعبية الناقمة على المنظومة السياسية، محملاً إياها مسؤولية الفساد والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، هو الذي يولّد الإحباط ويغذّي الرغبة في التغيير الجذري، ويرفع إلى السلطة قيادات تزعم أنها «متنوّرة» وتحمل وعوداً بالعودة إلى ما يشبه لكثيرين أنه كان عالماً أفضل.

ولعلّ أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تمتطي صهوة الإمكانات الهائلة التي تتيحها وسائل التواصل التكنولوجي الحديثة. فهذه أضحت تحمل السياسة إلى بحر العواطف والمشاعر التي يصعب أن يستقيم فيها العقل والمنطق على أعتاب الذكاء الاصطناعي الذي يطرح تساؤلات كبيرة لا يجرؤ أحد بعد على الإجابة عنها. لكن هذا الجذع الذي تتشاركه الحالات الشعبوية المتطرفة التي وصلت إلى السلطة، لا يخفي أن وصول ميلي كان في الدرجة الأولى تعبيراً مباشراً عن الرفض التام لحكم الحركة البيرونية، تماماً كما كان وصول بولسونارو تعبيراً عن رفض حكم حزب العمال البرازيلي... إذ خسر التقدميون في الحالتين بسبب إخفاقاتهم الاقتصادية المدوّية وسلسلة فضائح الفساد المالي الذي عشّش في صفوف قياداتهم.

أما في حالات أخرى، فيعود صعود الحركات الشعبوية المتطرفة بنسبة كبيرة إلى «النزعة الحمائية في مواجهة الظواهر العالمية، مثل الآثار السلبية لبعض أساليب التجارة الحرة، وموجات الهجرة، والتكنولوجيا الحديثة التي تقتصر منافعها على نسبة ضئيلة من الناس، والتداعيات الناجمة عن التغيّر المناخي. في هذه الحالات تتحمّل الحركات الاجتماعية الديمقراطية - أو الاشتراكية المعتدلة - قدراً من المسؤولية بسبب من الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي القريب، وأبرزها اعتناق بعض القيم والمبادئ الليبرالية التي جعلت من الصعب تمييزها عن اليمين المعتدل.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».