هرتسي هاليفي... «المستوطن» الذي يقود الحرب على غزة

ضابط «كوماندوز» من سلاح المظليين شارك في «حصار عرفات»

 يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
TT

هرتسي هاليفي... «المستوطن» الذي يقود الحرب على غزة

 يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»

متوسطاً عدداً من الجنود في مقر سرب «أدير» لمقاتلات الـ«إف 35» (F35)، ظهر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، وهو يتوعد ويهدد ويباهي بقوة سلاح الجو الإسرائيلي، قائلاً: «هذه القاعدة قادرة على الوصول لكل مكان في الشرق الأوسط». وأشار ضابط «الكوماندوز» القادم من سلاح المظليين إلى أن قواته «تسدّد منذ شهر ضربات قاسية ضد حركة (حماس)، وتضرب البنية التحتية لها في غزة، وهي على أهبة الاستعداد بشكل مستمر للتعامل مع مناطق أخرى». وهي تصريحات عززت المخاوف من اتساع رقعة الصراع في المنطقة، وهو ما تحذّر منه دول عدة.

طوال شهر مضى منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رداً على عملية «طوفان الأقصى» التي شنتها حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، برز اسم الجنرال «هرتسي» هاليفي الذي لم يكمل بعد سنته الأولى في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي.

جاء هذا البروز رغم اعترافه بأن قواته «أخطأت» بعجزها عن منع هجوم «حماس»؛ إذ قال في حينه: «جيش الدفاع الإسرائيلي مسؤول عن الدفاع عن البلاد ومواطنيها، وصباح السبت (7 أكتوبر)، في المنطقة المحيطة بغزة، لم نلتزم بذلك. سنتعلم ونحقق، ولكن الآن هو وقت الحرب»، وبعدها هدد بأن «قواته ستخلق واقعاً جديداً في غزة... والقطاع لن يعود كما كان أبداً».

نشأة عائلية دينية

هرتسل «هرتسي» هاليفي، الرئيس الثالث والعشرين لهيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، ولد يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 1967 بمدينة القدس، بعد أشهر قليلة من حرب 1967، التي تطلق عليها إسرائيل اسم «حرب الأيام الستة». وأطلق عليه اسمه نسبة إلى عمه الذي قتل في تلك الحرب.

ينتمي هاليفي لأسرة متشددة دينياً، فوالده حاييم شلومو هاليفي جاء من روسيا واستوطن فلسطين عام 1926 قبل قيام إسرائيل، وهو من نسل الحاخام اليهودي الأرثوذكسي أفراهام كوك، الذي ينظر إليه باعتباره «مؤسس حركة الاستيطان الحديثة».

درس هرتسي في مدارس دينية، وكان عضواً في كشافة «تسوفيم» الدينية. ومع أنه توقف عن ارتداء القلنسوة اليهودية، في مرحلة ما خلال خدمته العسكرية، فإنه أكد في إحدى مقابلاته أنه «لا يزال ملتزماً دينياً». بجانب ذلك، فإنه يحرص على التوجه إلى الكنيس كل سبت.

وعلى صعيد التعليم، حصل هاليفي، وهو أب لأربعة أبناء، على بكالوريوس الفلسفة من الجامعة العبرية بالقدس، كما حاز درجة الماجستير في إدارة الموارد الوطنية من جامعة الدفاع الوطني في الولايات المتحدة، وذلك قبل أن يلتحق بالجيش عام 1985.

كانت أولى محطات خدمته العسكرية في «قوات الناحال» داخل إحدى المستوطنات شمال إسرائيل. وبعدها تطوع في لواء المظليين، واجتاز دورات تدريبية بوصفه ضابطاً مقاتلاً.

مسيرته العسكرية حتى رئاسة الأركانشغل هاليفي مناصب عدة، بينها نائب رئيس الأركان، وقائد المنطقة الجنوبية، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وقائد كلية القيادة والأركان، وقائد تشكيلة الجليل، ورئيس قسم التشغيل العملياتي التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، وقائد لواء المظليين، وقائد لواء «ميناشيه»، وقائد وحدة «سايريت متكال»، وهي وحدة كوماندوز نخبوية تابعة لرئاسة الأركان.

ولقد نفذ في مسيرته العسكرية عمليات وراء الحدود منذ 2011 وحتى 2014، خلال فترة توليه رئاسة قسم العمليات الميدانية، كما كان مسؤولاً عن رصد الإعلام العربي. عين رئيساً للأركان في شهر سبتمبر (أيلول) 2022، وتسلم مهام منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) 2023.

مهام قتالية «فاشلة»

من جهة ثانية، شارك هرتسي هاليفي في عدة عمليات عسكرية، بيد أن معظمها لم يحقق الهدف منها؛ منها عملية «اللدغة السامة» عام 1994 التي جرى خلالها اختطاف مصطفى الديراني، القيادي اللبناني في «حزب الله» آنذاك، وخُطّط للعملية بهدف الحصول على معلومات عن مصير ملاّح سلاح الجو الإسرائيلي رون أراد، لكن العملية لم تسفر عن تحقيق ذلك الهدف.

وفي العام نفسه، شارك في عملية لتحرير جندي كانت خطفته حركة «حماس»، ومرة أخرى فشلت العملية، وانتهت بمقتل الجندي المخطوف نحشون فاكسمان، وقائد الوحدة العسكرية التي شاركت في عملية التحرير وجندي ثالث.

أيضاً شارك هاليفي في عمليات «الكوماندوز» خلال اجتياح الضفة الغربية وقطاع غزة إبان الانتفاضة الثانية. وتحديداً عام 2002، قاد عملية محاصرة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله، التي استهدفت إخضاع عرفات ودفعه لتسليم مطلوبين إلى إسرائيل. إلا أن مخاوف أثارها هاليفي بشأن خطة للقبض على عرفات، دفعت إلى إلغاء العملية. وفعلاً، لم تحقق إسرائيل الهدف من الحصار لينتهي الأمر بصفقة نقل فيه المطلوبون إلى أريحا وبقي عرفات في رام الله.

علاقته بغزة

علاقة هاليفي مع قطاع غزة قديمة؛ إذ سبق أن قاد إبان فترة خدمته قائداً للواء المظليين عملية «الرصاص المصبوب» على القطاع عام 2008. كما أنه تولى مسؤولية المعارك في شمال قطاع غزة، خصوصاً في بيت حانون وبيت لاهيا. وعن دوره في تلك العملية، قال العقيد آفي بلوث - أحد قادة كتيبته في تلك الفترة - إن هاليفي كان «أذكى من معظم الضباط في الجيش الإسرائيلي، وهو متواضع يحب الكلام عن التاريخ والفلسفة أو الكتاب المقدس أكثر من الكلام عن كيفية التغلب على العدو».

«الفيلسوف»

بفضل دراسة هرتسي هاليفي الفلسفة لقبته وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية بـ«الفيلسوف»، ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عنه قوله إن «الناس اعتادوا أن يقولوا لي إن إدارة الأعمال للحياة العملية والفلسفة للروح... ولكن على مر السنين وجدت أن الأمر عكس ذلك تماماً، حيث أعتمد الفلسفة بشكل عملي أكثر». وأضاف، نقلاً عن أفلاطون وسقراط، أن «الفلاسفة تحدثوا عن كيفية التوازن، وكيفية تحديد أولويات المبادئ بطريقة صحيحة. هذا شيء أجده مفيداً جداً».

من الناحية العسكرية، يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»، حتى إن أسلوب قيادته يوصف بأنه «مربك للجنود»؛ إذ إنه، وفق وصف بعض من عملوا تحت إمرته، «يجد صعوبة في التواصل مع الجنود، كونه شخصية معقدة للغاية».

تحديات وانتقادات

وبالفعل، واكبت الانتقادات قرار تعيينه رئيساً للأركان؛ إذ جاء القرار في وقت تتولى فيه حكومة يمينية متطرفة قيادة إسرائيل، تعد الأكثر تشدداً في تاريخها. لكن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وعد بتسهيل مهمة رئيس أركانه الجديد، وقال خلال حفل تسليم هاليفي مهام منصب، إنه «سيحرص على التأكد من أن الضغوط الخارجية السياسية والقانونية وغيرها ستتوقف عنده، ولن تصل إلى أبواب الجيش».

في ذلك اليوم أيضاً خرج هاليفي مهدداً الجميع، فقال: «طوال 75 سنة، تحولت إسرائيل من دولة محاطة بالأعداء إلى دولة تحيط بأعدائها بقوتها وقدراتها المتقدمة. مع ذلك ما زال هناك العديد من التحديات حولنا، من إيران وقطاع غزة والضفة الغربية»، متعهداً بأنه «سيجهز الجيش للحرب على ساحات بعيدة وقريبة».

وحقاً، أثار تعيين هاليفي صراعات داخلية بين الحكومة والمعارضة، فقد كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يفضل تعيين إيال زمير، سكرتيره العسكري السابق. غير أن وزير الدفاع السابق بيني غانتس أصر على اختيار هاليفي.

كان لدى هاليفي مع بداية عمله قائداً لمنطقة شمال الجليل عام 2011، يقين بأن «حرب إسرائيل المقبلة مع لبنان ستندلع في عهده». وعندما ترك ذلك المنصب نهاية عام 2013، قال لـ«نيويورك تايمز»، إنه «يتوقع حدوث تلك الحرب في عهد خليفته». وتابع: «لا يوجد حرب أو عملية يمكن أن تحل المشكلة... لكن المهم هو خلق فجوة أطول بين الحروب».

هاليفي لا يؤمن بأن «هناك حرباً بسيطة»، لكنه دائماً ما يشدد على أنه «مستعد لدفع الثمن لإطالة تلك الفجوة المرجوة بين الحروب». والواقع أنه لم يخطط للعمل العسكري، لكنه قرر البقاء بعد انتهاء خدمته الإلزامية «طالما كان ذلك مهماً لدولة إسرائيل، وطالما يرى أنه يفعل ذلك بطريقة جيدة». على حد قوله.

من مستوطن إلى رئيس للأركان

يُعد هرتسي هاليفي أول مستوطن يتولّى منصب رئيس الأركان، ما جعل البعض يرى أن تعيينه سيسهم في تعميق العلاقة التاريخية بين الجيش والمستوطنين؛ كونه سيصبح المسؤول عن تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية.

والواقع أن صعود هاليفي تزامن وتحول مع حركة المستوطنين خلال عقود من مجموعة صغيرة من الآيديولوجيين الدينيين إلى قوة متنوعة ومؤثرة في قلب الساحة الإسرائيلية، بلغ أعضاؤها أعلى المراتب في الحكومة والمؤسسات الرئيسية. لكن البعض يرى أن التأثير السياسي الكبير للمستوطنين يهدد أي أمل في قيام دولة فلسطينية مستقلة، ويعرض مستقبل إسرائيل للخطر، في حين يكشف تعيين هاليفي ارتباطاً وثيقاً بين المستوطنين والجيش.

للعلم، يعيش هاليفي في مستوطنة «كفار هاورانيم»، وهي مستوطنة متاخمة للخط الأخضر غير المرئي بين إسرائيل والضفة الغربية. وربما ينجذب البعض إلى «كفار هاورانيم» بسبب أسعار المساكن الرخيصة في موقع مركزي بين القدس وتل أبيب، لا إيماناً بآيديولوجية متطرفة. ولكن في أي حال، يؤشر اختياره العيش في مستوطنة إلى بعض الميول السياسية.

أكثر من هذا، أسعد تعيينه حركة المستوطنين، وأعرب يسرائيل غانز، رئيس المجلس الاستيطاني الإقليمي، عن اعتزازه بأن رئيس الأركان الجديد من المستوطنين، وعن «أن أي رئيس أركان يجب أن يعمل مع الإيمان بعدالة الاستيطان وتعميق جذور المستوطنين».

أيضاً، منذ عام 1967، ارتفع عدد المستوطنين إلى نحو 500 ألف شخص، يعيشون في أكثر من 130 مستوطنة في الضفة الغربية، بينما يعيش ما يقرب من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية. ومع أن المجتمع الدولي يعتبر المستوطنات «غير شرعية وتشكل عقبة أمام السلام»، رغم أنه لم ترد تصريحات أو مواقف رسمية لهاليفي تشير إلى موقفه من الاستيطان، فإن كثيرين يرون أن اختياره رئيساً للأركان سيعزّز من دعم الجيش للمستوطنين.


مقالات ذات صلة

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جوية لمدينة هرجيسا (من منصة أكس)

«أرض الصومال»... إقليم «استراتيجي» يبحث عن هدف صعب

بين ليلة وضحاها، غزا إقليم «أرض الصومال» - «الصومال البريطاني» سابقاً - عناوين الأخبار، ودقّ ذاكرة المتابعين، إثر إعلان توقيعه مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا منفذاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في


دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».