هرتسي هاليفي... «المستوطن» الذي يقود الحرب على غزة

ضابط «كوماندوز» من سلاح المظليين شارك في «حصار عرفات»

 يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
TT

هرتسي هاليفي... «المستوطن» الذي يقود الحرب على غزة

 يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»
يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»

متوسطاً عدداً من الجنود في مقر سرب «أدير» لمقاتلات الـ«إف 35» (F35)، ظهر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، وهو يتوعد ويهدد ويباهي بقوة سلاح الجو الإسرائيلي، قائلاً: «هذه القاعدة قادرة على الوصول لكل مكان في الشرق الأوسط». وأشار ضابط «الكوماندوز» القادم من سلاح المظليين إلى أن قواته «تسدّد منذ شهر ضربات قاسية ضد حركة (حماس)، وتضرب البنية التحتية لها في غزة، وهي على أهبة الاستعداد بشكل مستمر للتعامل مع مناطق أخرى». وهي تصريحات عززت المخاوف من اتساع رقعة الصراع في المنطقة، وهو ما تحذّر منه دول عدة.

طوال شهر مضى منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رداً على عملية «طوفان الأقصى» التي شنتها حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، برز اسم الجنرال «هرتسي» هاليفي الذي لم يكمل بعد سنته الأولى في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي.

جاء هذا البروز رغم اعترافه بأن قواته «أخطأت» بعجزها عن منع هجوم «حماس»؛ إذ قال في حينه: «جيش الدفاع الإسرائيلي مسؤول عن الدفاع عن البلاد ومواطنيها، وصباح السبت (7 أكتوبر)، في المنطقة المحيطة بغزة، لم نلتزم بذلك. سنتعلم ونحقق، ولكن الآن هو وقت الحرب»، وبعدها هدد بأن «قواته ستخلق واقعاً جديداً في غزة... والقطاع لن يعود كما كان أبداً».

نشأة عائلية دينية

هرتسل «هرتسي» هاليفي، الرئيس الثالث والعشرين لهيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، ولد يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عام 1967 بمدينة القدس، بعد أشهر قليلة من حرب 1967، التي تطلق عليها إسرائيل اسم «حرب الأيام الستة». وأطلق عليه اسمه نسبة إلى عمه الذي قتل في تلك الحرب.

ينتمي هاليفي لأسرة متشددة دينياً، فوالده حاييم شلومو هاليفي جاء من روسيا واستوطن فلسطين عام 1926 قبل قيام إسرائيل، وهو من نسل الحاخام اليهودي الأرثوذكسي أفراهام كوك، الذي ينظر إليه باعتباره «مؤسس حركة الاستيطان الحديثة».

درس هرتسي في مدارس دينية، وكان عضواً في كشافة «تسوفيم» الدينية. ومع أنه توقف عن ارتداء القلنسوة اليهودية، في مرحلة ما خلال خدمته العسكرية، فإنه أكد في إحدى مقابلاته أنه «لا يزال ملتزماً دينياً». بجانب ذلك، فإنه يحرص على التوجه إلى الكنيس كل سبت.

وعلى صعيد التعليم، حصل هاليفي، وهو أب لأربعة أبناء، على بكالوريوس الفلسفة من الجامعة العبرية بالقدس، كما حاز درجة الماجستير في إدارة الموارد الوطنية من جامعة الدفاع الوطني في الولايات المتحدة، وذلك قبل أن يلتحق بالجيش عام 1985.

كانت أولى محطات خدمته العسكرية في «قوات الناحال» داخل إحدى المستوطنات شمال إسرائيل. وبعدها تطوع في لواء المظليين، واجتاز دورات تدريبية بوصفه ضابطاً مقاتلاً.

مسيرته العسكرية حتى رئاسة الأركانشغل هاليفي مناصب عدة، بينها نائب رئيس الأركان، وقائد المنطقة الجنوبية، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وقائد كلية القيادة والأركان، وقائد تشكيلة الجليل، ورئيس قسم التشغيل العملياتي التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، وقائد لواء المظليين، وقائد لواء «ميناشيه»، وقائد وحدة «سايريت متكال»، وهي وحدة كوماندوز نخبوية تابعة لرئاسة الأركان.

ولقد نفذ في مسيرته العسكرية عمليات وراء الحدود منذ 2011 وحتى 2014، خلال فترة توليه رئاسة قسم العمليات الميدانية، كما كان مسؤولاً عن رصد الإعلام العربي. عين رئيساً للأركان في شهر سبتمبر (أيلول) 2022، وتسلم مهام منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) 2023.

مهام قتالية «فاشلة»

من جهة ثانية، شارك هرتسي هاليفي في عدة عمليات عسكرية، بيد أن معظمها لم يحقق الهدف منها؛ منها عملية «اللدغة السامة» عام 1994 التي جرى خلالها اختطاف مصطفى الديراني، القيادي اللبناني في «حزب الله» آنذاك، وخُطّط للعملية بهدف الحصول على معلومات عن مصير ملاّح سلاح الجو الإسرائيلي رون أراد، لكن العملية لم تسفر عن تحقيق ذلك الهدف.

وفي العام نفسه، شارك في عملية لتحرير جندي كانت خطفته حركة «حماس»، ومرة أخرى فشلت العملية، وانتهت بمقتل الجندي المخطوف نحشون فاكسمان، وقائد الوحدة العسكرية التي شاركت في عملية التحرير وجندي ثالث.

أيضاً شارك هاليفي في عمليات «الكوماندوز» خلال اجتياح الضفة الغربية وقطاع غزة إبان الانتفاضة الثانية. وتحديداً عام 2002، قاد عملية محاصرة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله، التي استهدفت إخضاع عرفات ودفعه لتسليم مطلوبين إلى إسرائيل. إلا أن مخاوف أثارها هاليفي بشأن خطة للقبض على عرفات، دفعت إلى إلغاء العملية. وفعلاً، لم تحقق إسرائيل الهدف من الحصار لينتهي الأمر بصفقة نقل فيه المطلوبون إلى أريحا وبقي عرفات في رام الله.

علاقته بغزة

علاقة هاليفي مع قطاع غزة قديمة؛ إذ سبق أن قاد إبان فترة خدمته قائداً للواء المظليين عملية «الرصاص المصبوب» على القطاع عام 2008. كما أنه تولى مسؤولية المعارك في شمال قطاع غزة، خصوصاً في بيت حانون وبيت لاهيا. وعن دوره في تلك العملية، قال العقيد آفي بلوث - أحد قادة كتيبته في تلك الفترة - إن هاليفي كان «أذكى من معظم الضباط في الجيش الإسرائيلي، وهو متواضع يحب الكلام عن التاريخ والفلسفة أو الكتاب المقدس أكثر من الكلام عن كيفية التغلب على العدو».

«الفيلسوف»

بفضل دراسة هرتسي هاليفي الفلسفة لقبته وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية بـ«الفيلسوف»، ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عنه قوله إن «الناس اعتادوا أن يقولوا لي إن إدارة الأعمال للحياة العملية والفلسفة للروح... ولكن على مر السنين وجدت أن الأمر عكس ذلك تماماً، حيث أعتمد الفلسفة بشكل عملي أكثر». وأضاف، نقلاً عن أفلاطون وسقراط، أن «الفلاسفة تحدثوا عن كيفية التوازن، وكيفية تحديد أولويات المبادئ بطريقة صحيحة. هذا شيء أجده مفيداً جداً».

من الناحية العسكرية، يحرص هاليفي على حضور الفعاليات الخاصة بالجنود الذين سقطوا في المعارك، ما يجعله يحظى بإعجاب بعض المقربين منه، وإن كان آخرون يرونه «منعزلاً أو معتداً بنفسه»، حتى إن أسلوب قيادته يوصف بأنه «مربك للجنود»؛ إذ إنه، وفق وصف بعض من عملوا تحت إمرته، «يجد صعوبة في التواصل مع الجنود، كونه شخصية معقدة للغاية».

تحديات وانتقادات

وبالفعل، واكبت الانتقادات قرار تعيينه رئيساً للأركان؛ إذ جاء القرار في وقت تتولى فيه حكومة يمينية متطرفة قيادة إسرائيل، تعد الأكثر تشدداً في تاريخها. لكن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وعد بتسهيل مهمة رئيس أركانه الجديد، وقال خلال حفل تسليم هاليفي مهام منصب، إنه «سيحرص على التأكد من أن الضغوط الخارجية السياسية والقانونية وغيرها ستتوقف عنده، ولن تصل إلى أبواب الجيش».

في ذلك اليوم أيضاً خرج هاليفي مهدداً الجميع، فقال: «طوال 75 سنة، تحولت إسرائيل من دولة محاطة بالأعداء إلى دولة تحيط بأعدائها بقوتها وقدراتها المتقدمة. مع ذلك ما زال هناك العديد من التحديات حولنا، من إيران وقطاع غزة والضفة الغربية»، متعهداً بأنه «سيجهز الجيش للحرب على ساحات بعيدة وقريبة».

وحقاً، أثار تعيين هاليفي صراعات داخلية بين الحكومة والمعارضة، فقد كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يفضل تعيين إيال زمير، سكرتيره العسكري السابق. غير أن وزير الدفاع السابق بيني غانتس أصر على اختيار هاليفي.

كان لدى هاليفي مع بداية عمله قائداً لمنطقة شمال الجليل عام 2011، يقين بأن «حرب إسرائيل المقبلة مع لبنان ستندلع في عهده». وعندما ترك ذلك المنصب نهاية عام 2013، قال لـ«نيويورك تايمز»، إنه «يتوقع حدوث تلك الحرب في عهد خليفته». وتابع: «لا يوجد حرب أو عملية يمكن أن تحل المشكلة... لكن المهم هو خلق فجوة أطول بين الحروب».

هاليفي لا يؤمن بأن «هناك حرباً بسيطة»، لكنه دائماً ما يشدد على أنه «مستعد لدفع الثمن لإطالة تلك الفجوة المرجوة بين الحروب». والواقع أنه لم يخطط للعمل العسكري، لكنه قرر البقاء بعد انتهاء خدمته الإلزامية «طالما كان ذلك مهماً لدولة إسرائيل، وطالما يرى أنه يفعل ذلك بطريقة جيدة». على حد قوله.

من مستوطن إلى رئيس للأركان

يُعد هرتسي هاليفي أول مستوطن يتولّى منصب رئيس الأركان، ما جعل البعض يرى أن تعيينه سيسهم في تعميق العلاقة التاريخية بين الجيش والمستوطنين؛ كونه سيصبح المسؤول عن تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية.

والواقع أن صعود هاليفي تزامن وتحول مع حركة المستوطنين خلال عقود من مجموعة صغيرة من الآيديولوجيين الدينيين إلى قوة متنوعة ومؤثرة في قلب الساحة الإسرائيلية، بلغ أعضاؤها أعلى المراتب في الحكومة والمؤسسات الرئيسية. لكن البعض يرى أن التأثير السياسي الكبير للمستوطنين يهدد أي أمل في قيام دولة فلسطينية مستقلة، ويعرض مستقبل إسرائيل للخطر، في حين يكشف تعيين هاليفي ارتباطاً وثيقاً بين المستوطنين والجيش.

للعلم، يعيش هاليفي في مستوطنة «كفار هاورانيم»، وهي مستوطنة متاخمة للخط الأخضر غير المرئي بين إسرائيل والضفة الغربية. وربما ينجذب البعض إلى «كفار هاورانيم» بسبب أسعار المساكن الرخيصة في موقع مركزي بين القدس وتل أبيب، لا إيماناً بآيديولوجية متطرفة. ولكن في أي حال، يؤشر اختياره العيش في مستوطنة إلى بعض الميول السياسية.

أكثر من هذا، أسعد تعيينه حركة المستوطنين، وأعرب يسرائيل غانز، رئيس المجلس الاستيطاني الإقليمي، عن اعتزازه بأن رئيس الأركان الجديد من المستوطنين، وعن «أن أي رئيس أركان يجب أن يعمل مع الإيمان بعدالة الاستيطان وتعميق جذور المستوطنين».

أيضاً، منذ عام 1967، ارتفع عدد المستوطنين إلى نحو 500 ألف شخص، يعيشون في أكثر من 130 مستوطنة في الضفة الغربية، بينما يعيش ما يقرب من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية. ومع أن المجتمع الدولي يعتبر المستوطنات «غير شرعية وتشكل عقبة أمام السلام»، رغم أنه لم ترد تصريحات أو مواقف رسمية لهاليفي تشير إلى موقفه من الاستيطان، فإن كثيرين يرون أن اختياره رئيساً للأركان سيعزّز من دعم الجيش للمستوطنين.


مقالات ذات صلة

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

حصاد الأسبوع من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد،

شوقي الريّس (بروكسل)
حصاد الأسبوع أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

لسنوات عدة، كان الحزب الجمهوري الأميركي يمرّ بتغيير جذري، حيث يتبنى بشكل متزايد الشعبوية الاقتصادية في الداخل والانعزالية في الخارج، ويغيّر مواقفه في العديد من

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع الرئيس ترمب وزوجته ميلانيا وجي دي فانس وزوجته أوشا خلال مؤتمر الحزب الجمهوري في ميلووكي (أ.ف.ب)

«حزب ترمب الجمهوري»... جديد الأولويات ومتعدد الأعراق

> أورين كاس، المستشار الاقتصادي السابق لحملة المرشح الجمهوري الرئاسي السابق السيناتور ميت رومني الرئاسية، توقّع في سنوات سابقة «نشوء تيار محافظ متعدّد الأعراق

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

يتوجه الأردنيون في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل لاختيار مجلسهم النيابي العشرين، الذي خصص من مقاعده 41 مقعداً للأحزاب من أصل 138 مقعداً، في تجربة هي الأولى من

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع ميلونشون يحيي مناصريه اليساريين (آ ف ب /غيتي)

«صراع الأضداد» في فرنسا يحمى وطيسه

فرنسا غارقة اليوم في أزمة سياسية - مؤسساتية لم تعرف مثيلاً لها منذ ستينات القرن الماضي التي أفضت وقتها وتحديداً يوم 28 أبريل (نيسان) 1969 إلى استقالة رئيس الجمهورية، الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة» الذي كان في السلطة في عامه الحادي عشر. وما بين ذلك التاريخ واليوم، تَعاقب على السلطة سبعة رؤساء: جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرنسوا ميتران والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي انتُخب لولاية أولى ربيع عام 2017. وخلال هذه العهود، استقر في قصر الأليزيه رؤساء من اليمين ومن اليسار وعرفت فرنسا ثلاث مراحل مما يسمى «التعايش» أو «المساكنة» بين رئيس للجمهورية ينتمي إلى معسكر سياسي ورئيس حكومة من معسكر آخر.


روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.