مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

الجمهوريون المعتدلون انضموا للمتشددين بعدما سئموا من المشاحنات والخلل الوظيفي

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة
TT

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

عد انتخاب النائب الجمهوري اليميني المتشدد، مايك جونسون، رئيسا لمجلس النواب الأميركي، مفاجأة لم يكن يتوقعها، حتى الديمقراطيون أنفسهم. وكان هؤلاء قد شاركوا عمداً في جهود حفنة من النواب الجمهوريين اليمينيين المتشددين، في عزل رئيس المجلس السابق كيفن مكارثي، قبل شهر. كان الديمقراطيون يعتقدون أن من شأن استمرار تعطيل المجلس تعميق انقسامات الجمهوريين وإظهار ضعفهم ويحولهم إلى أضحوكة أمام قاعدتهم والرأي العام الأوسع. ومن ثم، تحميلهم المسؤولية عن إبقاء ثالث أرفع منصب سياسي في البلاد في حالة شغور غير مسبوقة، تمهيدا لإعادة سيطرتهم على المجلس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. لكن الجمهوريين تمكنوا من تجاوز انقساماتهم، بعد 3 جولات انتخابية فاشلة، أطاحت برموز وازنة في حزبهم، ليستسلم مؤتمرهم ويوافق على انتخاب يميني «هادئ» وقيادي من الدرجة السابعة، ليصبح فجأة رقم 2 في خط الخلافة الرئاسية، بعد نائب الرئيس. الكرة أضحت الآن في ملعب الديمقراطيين، عليهم الخروج من مأزقهم في ظل رهانات سياسية خاطئة تتعلق بتقديراتهم لقوة التيار اليميني الذي يواصل صعوده في البلاد.

خلال صيف عام 2012، قال الرئيس الأميركي الديمقراطي باراك أوباما لمؤيديه، إنه إذا فاز بالبيت الأبيض مرة أخرى، فإن ذلك «سيكسر الحمّى اليمينية» بين الجمهوريين. ولكن، بدلا من ذلك، بعد خسارة المرشح الجمهوري المعتدل ميت رومني سباق الرئاسة أمامه، تبنى الحزب نسخة أكثر تشدداً عبر ترشيح دونالد ترمب في عامي 2016 و2020. وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2020، قال جو بايدن إنه مع رحيل ترمب، يأمل أن يتمكّن الحزب الجمهوري هذه المرة من كسر هذه «الحمى» أخيراً. لكن الحزب الجمهوري ذهب هذه المرة إلى عمق أكبر، حيث أشاد بمحاولة الرئيس السابق الفاشلة للبقاء في منصبه، ودافع عنه مرارا وتكرارا. وها هو اليوم، ينتخب مايك جونسون، أحد أكبر المُنكرين لنتائج انتخابات 2020، الذي كتب بنفسه المذكرة التي رفعت إلى المحكمة العليا لدعم مراجعة تلك الانتخابات.

الأمر إذاً ليس حمّى بقدر ما هو مسار، لا يزال الحزب الجمهوري يختطّه في عملية انزياح نحو اليمين، بعدما كان يُعد حزب الدفاع عن التقاليد والاستقرار السياسي. فاليوم، لا يوجد أي سبب للاعتقاد بأنه سيعود إلى ما كان عليه، مع انتخاب جونسون. فكيف تمكن هذا الرجل «المغمور»، الذي بالكاد كان معروفاً داخل الولايات المتحدة نفسها بحسب صحيفة «بوليتيكو»، ويجهد الدبلوماسيين الأجانب في واشنطن والعواصم الأجنبية للبحث عنه في محرك البحث «غوغل»؟

المتشدّدون حصلوا على رجُلهم عملياً،

حصل المتشدّدون الجمهوريون في النهاية على رجلهم، رغم أنه لم يكن هو الشخص الأكثر تطرفاً الذي كان خيارهم الأول. وقال النائب اليميني، ماثيو غايتس، الذي قاد عملية إقصاء مكارثي، لصحيفة «وول ستريت جورنال» في هذا الصدد «أعتقد أن التاريخ سيقيّم الأسابيع الثلاثة (المدة التي بقي فيها المجلس من دون رئيس) باعتبارها الأسابيع الأكثر إنتاجية للكونغرس الـ118، لأنه لدينا الآن رجل وخطة».

ثم إنه إذا كان الجمهوريون المعتدلون هم من أسقطوا النائب جيم جوردان، الأب الروحي لليمين المتطرف - ويرجع ذلك جزئياً إلى اعتراضهم على دوره في محاولة إلغاء انتخابات 2020 - فلماذا إذاً انضموا إلى التيار اليميني لصالح جونسون، الذي كتب المذكرة إلى المحكمة العليا لإلغائها؟

يقول البعض إن المعتدلين، نظراً لأعدادهم المحدودة، «لم يروا أي طريق آخر للخروج من الاضطرابات التي يشهدها حزبهم، بعدما سئموا من المشاحنات والخلل الوظيفي وأرادوا العودة إلى العمل». ومع ذلك، بدا من الضروري مراجعة المسار الذي أدى في النهاية إلى صعود جونسون، الذي لم يكن يحظى بشهرة وطنية، ليظهر في نهاية المطاف، المرشح الرئيسي لمنصب رئيس البرلمان. وما يستحق الذكر هنا، أنه حتى السيناتورة الجمهورية المعتدلة المخضرمة سوزان كولينز، قالت إنها اضطرت للبحث عنه على موقع غوغل.

أكثر من هذا، بجانب كون جونسون عضواً «من الدرجة الثانية» في قيادة مجلس النواب، إذ انتخب لأول مرة عام 2016، فهو يعد أيضاً المشرّع الأكثر غموضاً الذي وصل إلى رئاسة المجلس منذ انتزع المنصب النائب السابق دينيس هاسترت، الذي جاء من المقاعد الخلفية عام 1998، خلفا لنيوت غينغريتش، بعد تغلبه على توم ديلاي، الذي كان يعد نسخة جيم جوردان في ذلك الوقت. فكيف أصبح هذا الغموض المحيط بالرجل ميزة بالنسبة له؟

أعداء جونسون قليلون

جونسون، على عكس المرشحين الثلاثة الفاشلين لمنصب رئيس مجلس النواب الذين سبقوه، لديه عدد قليل من الأعداء بين الجمهوريين في مجلس النواب. ووفق كتابات عدة، فإن السمة المميّزة له هي «الجمع بين وجهات نظره المتشددة والأسلوب الشخصي اللطيف». غير أن طبيعة جونسون اللطيفة لا تعني أنه مرشح يحظى بالإجماع. وهذا ما حصل في الواقع، حين خسر تصويت الحزب أمام توم أيمير، الذي استقال بعد 4 ساعات فقط، ليحظى لاحقاً بشبه إجماع ويصبح الرئيس الـ56 لمجلس النواب.

في الحقيقة، مايك جونسون ليس معتدلاً ولا مؤسساتياً بل هو العكس تماماً. إنه أحد «تلامذة» جوردان، الآتي من الجناح اليميني المتشدد المناهض للمؤسساتية في الحزب الجمهوري والكونغرس. ومع أنه لم يكن عضواً في «تجمّع الحرية» الذي يرأسه جوردان، إلا أنه قاد لجنة الدراسة الجمهورية التي جعلت مقولة «أن أي دولار يُنفَق على الضمان الاجتماعي هو إنفاق أكثر من اللازم» شعارا لعملها ضد دور الحكومة.

أيضاً، عدّ الكثير من وسائل الإعلام انتخاب جونسون «حدثاً تاريخياً»، وتوقعت أنه قد يكون رئيس المجلس الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة. بيد أن وقائع عدة تظهر أن صعوده لم يأت مصادفةً، بل كان تتويجاً لسلسلة متعمّدة من التحركات التي مكّنته من وضع نفسه في موضع قوة أكبر. ذلك أنه - مثلاً - يعارض حقوق الإجهاض وزواج المثليين، كما أنه لم يعارض أبداً «قاعدة» الحزب الجمهوري... وفي الوقت نفسه، كان يبني صدقيته باعتباره من الموالين لترمب. ومما قاله لصحيفة «الديلي بيست» عام 2018 إنه سعى جاهداً للحفاظ على العلاقات مع كل من «تجمع الحرية» وقيادة الحزب. واستمرت هذه التوجّهات مع تحرك المتشددين ضد سلفه رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي، إذ صوّت جونسون ضد تمويل أوكرانيا والإنفاق المؤقت في 30 سبتمبر (أيلول)، وأيد صفقة مكارثي مع الديمقراطيين للحد من الديون، مما منحه المصداقية كلاعب جماعي. وفيما وصفته حملة الرئيس بايدن لعام 2024 بأنه «ماغا مايك» (شعار ترمب اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، قال عنه ترمب بأنه «سيقوم بعمل رائع».

من هو جونسون؟

نشأ مايكل «مايك» جونسون، (51 سنة) في مدينة شريفيبورت بولاية لويزيانا. وكان والده رجل إطفاء كاد أن يُقتل عام 1984 في انفجار مصنع أدى إلى إعاقته. وقال جونسون لصحيفة مسقط رأسه لاحقاً «لقد غيّرت هذه الحادثة مسار حياة عائلتنا». وذكر أنه كان يحلم بأن يصبح رجل إطفاء، إلا أنه بدلاً من ذلك التحق بجامعة ولاية لويزيانا وأصبح محامياً دستورياً.

ثم إنه قال في خطابه بعيد انتخابه رئيساً لمجلس النواب بشيء من الاعتزاز «أنا أول خريج جامعي في عائلتي»، وفي حينه، سجلت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنه «بدا لطيفاً وخفيف الظل وذكياً».

بعدما خدم جونسون لفترة وجيزة في المجلس التشريعي لولاية لويزيانا، وقبل ترشحه كنائب عن ولاية لويزيانا في مجلس النواب الأميركي، وفوزه عام 2016، دافع جونسون أمام المحكمة العليا في لويزيانا عن الحظر الذي فرضته الولاية على زواج المثليين.

والواقع أن جونسون مسيحي إنجيلي محافظ ومتشدد، يعتز بأن «إيمانه يحدد كل ما يفعله». وهو متزوّج من كيلي لاري ولديهما أربعة أطفال. وفي نفي مُسبق لأي شعور عنصري، قال إنه في وقت مبكّر من حياته الزوجية تبنّى وزوجته صبياً أميركياً من أصل أفريقي يبلغ من العمر 14 سنة واعتبراه جزءاً من عائلتهما. وللعلم، فإنه يقدّم وزوجته «بودكاست» عن الدين والسياسة تحت مسمى «الحقيقة تُقال».

قناعاته الاقتصادية اليمينية

عام 2018، قال جونسون إن ضابط الإنفاق العام هو «أولويته الأولى»، مضيفا أن تخفيضات «تقديمات الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والمساعدات الطبية والفوائد على الديون... كان من الواجب أن تحدث بالأمس (أي إنها تأخرت كثيراً عن الوقت الملائم)» لأنها (أي التقديمات) تشكل «تهديداً وجودياً للتجربة الأميركية».

وحقاً، في عامي 2019 و2021، عارض جونسون قانون رفع الحد الأدنى للأجور، إلى 15 دولاراً في الساعة، باعتباره «تشريعاً مدمّراً للوظائف». ومن جهة ثانية، أيّد الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2017 بحظر الهجرة من سبع دول ذات غالبية مسلمة، قائلاً «هذه ليست محاولة لحظر أي دين، بل هي بالأحرى محاولة لحماية وطننا بشكل مناسب. نحن نعيش في عالم خطير، وهذا الإجراء المهم سيساعدنا على تحقيق التوازن بين الحرية والأمن».

رفضه نتائج انتخابات 2020

في سياق متصل، وبعيداً عن نزعته المحافظة بشأن قضايا السياسة، انضم مايك جونسون بشكل وثيق إلى جهود ترمب لإلغاء نتائج انتخابات عام 2020، ولعب دوراً ريادياً بارزاً في حث الجمهوريين على التوقيع على مذكرة إلغاء النتائج. وأيضاً حشد الدعم لدعوى قضائية في ولاية تكساس سعت إلى إلغاء النتائج في أربع ولايات متأرجحة فاز بها جو بايدن، ورفضت المحكمة العليا تلك القضية.

جونسون، يُعد بالفعل أحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين يثيرون قلق العديد من خبراء الديمقراطية، بسبب رفضه تقبّل ما يدعونه «أحد المبادئ الأساسية للنظام الأميركي»... أي الاستعداد لقبول هزيمة حزبهم. وفي هذا الاتجاه اعتبر العالم السياسي خوان لينز شخصيات مثله بأنهم «الجهات الفاعلة شبه المخلصة من السياسيين الذين لا يبادرون إلى شن هجمات (مباشرة) على الديمقراطية، لكنهم ينسجمون معها».

وهنا نشير إلى أن جونسون «ابتكر» نظرية قانونية لتبرير اعتراض ترمب على نتائج 2020، وأيدها العديد من زملائه في مجلس النواب، تزعم أن فنزويلا متورّطة بطريقة ما في العبث بآلات التصويت في الولايات المتحدة. وبسبب مواجهة جائحة «كوفيد - 19» التي فرضت تغييرات في طريقة التصويت، حثّ الجمهوريين على منع المصادقة على نتيجة الانتخابات بحجة أنها كانت غير شرعية وغير دستورية. وعندما سُئل، خلال مؤتمره الصحافي الأول كرئيس للمجلس، عما إذا كان لا يزال متمسكاً بجهوده لإلغاء انتخابات 2020، تجاهل السؤال، وصرخت النائبة فيرجينيا فوكس من ولاية نورث كارولينا على الصحافيين طالبة منهم بأن يصمتوا.

هذا عن الانتخابات الفائتة... ولكن إذا خسر ترمب مرة أخرى انتخابات 2024، وادعى حصول تزوير، قد يكون مايك جونسون في وضع أفضل لمساعدته. وبحسب موقع «بوليتيكو»، تساءل مايكل والدمان الباحث في «مركز برينان للعدالة» عن نيات رئيس مجلس النواب قائلاً «هل سيدافع هذا الرجل عن الدستور؟ أم أنه سيفعل ما فعله في المرة السابقة؟».


مقالات ذات صلة

بعد تهديده باستعادة القناة... هل يدفع ترمب بنما لمزيد من التقارب مع الصين؟

الولايات المتحدة​ الرئيس البنمي حينها خوان كارلوس فاريلا يتحدث مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال اجتماع في المكتب البيضوي بالبيت الأبيض في العاصمة واشنطن... 19 يونيو 2017 (رويترز)

بعد تهديده باستعادة القناة... هل يدفع ترمب بنما لمزيد من التقارب مع الصين؟

حذّر مسؤولون أميركيون سابقون من أن تهديد الرئيس الأميركي المنتخب ترمب بالقوة العسكرية لاستعادة قناة بنما قد ينفّر الحكومة البنمية ويدفعها للاقتراب من الصين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الولايات المتحدة​ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (أ.ف.ب)

غوتيريش: البشرية أطلقت العنان للشرور

اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الأربعاء، أن البشرية «أطلقت العنان لكل الشرور»، متحدثاً عن «التقنيات الخارجة عن السيطرة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

ترمب يحتفي بإنجاز «اتفاق غزة»: بداية لأشياء عظيمة قادمة

أعلن الرئيس الأميركي المنتخبب دونالد ترمب اليوم (الأربعاء) عبر منصته «تروث سوشيال» التوصل الى اتفاق لإطلاق سراح الرهائن في الشرق الأوسط.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ صورة تظهر أيقونتي تطبيقي الهواتف الذكية «تيك توك» و«شاوهونغشو» في بكين... 14 يناير 2025 (أ.ب)

«لاجئو تيك توك» في أميركا يجتاحون تطبيق «شاوهونغشو» الصيني المنافس

في ظل القلق من احتمال حظر تطبيق «تيك توك» الصيني في أميركا، يُقبل مستخدمون أميركيون للإنترنت بأعداد كبيرة على تحميل تطبيق صيني آخر هو «شاوهونغشو».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ إيفانكا ترمب وزوجها جاريد كوشنر (رويترز)

إيفانكا ترمب تكشف سبب عدم رغبتها في العودة للبيت الأبيض

أصبح من الواضح أن إيفانكا ترمب، ابنة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، لا تخطط للعودة إلى البيت الأبيض لمساعدة والدها في إدارة البلاد خلال ولايته الثانية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.