إسرائيل تدفع خطر الديموغرافيا بمحاولة تغيير الجغرافيا

لا تمل من طرح «تهجير غزة»... ومصر لا تكل في رفضه

الرئيس عبد الفتاح السيسي مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ب)
الرئيس عبد الفتاح السيسي مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ب)
TT

إسرائيل تدفع خطر الديموغرافيا بمحاولة تغيير الجغرافيا

الرئيس عبد الفتاح السيسي مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ب)
الرئيس عبد الفتاح السيسي مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ب)

في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» عام 2019، قال المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، وهو من أوائل من فضح بالتوثيق وجود خطة إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين عام 1948: «لا أعرف كيف سنخرج من هذا المأزق الديموغرافي، فهناك اليوم عدد أكبر من العرب مقارنة باليهود بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن. إننا نسير نحو دولة واحدة ذات غالبية عربية، وهو وضع نحكم بموجبه شعباً محتلاً من دون حقوق. هذا وضع لن يسود في القرن الحادي والعشرين».

مع دويّ صوت القصف الإسرائيلي بلا انقطاع على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وعلى وقع عودة الحشود العسكرية الأميركية إلى المنطقة في استعراض لافت للقوة، تبرز مخاوف من نكبة فلسطينية جديدة. إلا أن وجهة المنكوبين لن تكون كما في عامي 1948 و1967 شرقاً أو شمالاً، بل يخطط لها أن تكون هذه المرة باتجاه شبه جزيرة سيناء المصرية.

سيناء التي لم تفارقها الأطماع الإسرائيلية رغم مرور 50 سنة على تحريرها بالسلاح، واستكمال المهمة لاحقاً بالسلام. والأطماع الإسرائيلية هذه المرة في سيناء تتجه إليها كوجهة أخيرة وأبدية لتصفية «التحدي الديمغرافي الفلسطيني» الذي طالما أرّق الإسرائيليين. فاليمين الصهيوني لا يرغب في إقامة دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني، ويفعل كل ما بوسعه لتهجير أصحاب القضية من أرضهم والاستيلاء على كامل الأرض ومنع وجود غالبية فلسطينية عليها، لكن الصمود الفلسطيني على الأرض يبدو تحدّياً كبيراً.

آريئيل شارون (آ ب)

«طوفان الأقصى»

عملية «طوفان الأقصى» بدت فرصة يسعى اليمينيون في إسرائيل لانتهازها من أجل التخلص من ذلك التحدّي «مرة واحدة وإلى الأبد» وفق أحد واضعي مشاريع تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار. وهو المشروع الذي يخرج من أدراج حكومة نتنياهو - الأخيرة على ما يبدو - كمحاولة لإحراز نصر يبقيه في ذاكرة التاريخ الإسرائيلي، قبل أن يتوارى طويلاً وراء أسوار السجن والنسيان.

واللافت أن مشاريع تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء، التي لم تملّ دوائر إسرائيلية من طرحها بصيغ مختلفة، والتي تقابل في كل مرة برفض مصري لا يكلّ، برزت كذلك كمحاولات من جهات غير إسرائيلية أحياناً. وحقاً، تبدو المحاولة الحالية «الأخطر»، ربما لأنها ترتبط بأجواء دولية تراها إسرائيل «مواتية»، وظروف إقليمية «ملبّدة بالغيوم»، ما استوجب التصدي لذلك الخطر تعاملاً مصرياً مغايراً من حيث الوسائل، وإن لم يختلفْ من حيث الغايات.

تهجير بصبغة دولية

أول مشاريع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء جاء في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، بعد فرار 200 ألف لاجئ فلسطيني من فلسطين التاريخية إلى غزة بحلول مارس (آذار) 1949، ويومها وُضع مخطط أمني بواجهة اقتصادية واجتماعية لتوطين عشرات آلاف الفلسطينيين في سيناء، ونوقشت الفكرة مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

الولايات المتحدة دفعت حينذاك عبر جون بلاندفورد، وهو صانع سياسات أميركي مخضرم، باتجاه اقتراح للأمم المتحدة لإعادة توطين عشرات الآلاف في صحراء سيناء. وكانت «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) المؤسسة حديثاً أجرت مسوحاً في تلك الفترة لاستكشاف مخططات استصلاح الصحراء في سيناء، شرق قناة السويس مباشرة، كوجهة مقترحة لتوطين الفلسطينيين. وتضمّنت الخطة أن يشارك اللاجئون في مشاريع التنمية الزراعية الجديدة و«يُعاد إدماجهم» في الاقتصاد المصري.

وبالفعل، خصّصت واشنطن الجزء الأكبر من التمويل للمشروع، الذي قدر بنحو 30 مليون دولار عام 1955، لكن انتفاضة الفلسطينيين فيما عُرف بـ«هبّة مارس» أجهضت المشروع قبل أن ترفضه مصر.

بعدها، إبّان احتلال إسرائيل لسيناء (1967 - 1973) حاولت إسرائيل استغلال سيطرتها على الأرض، في تهجير آلاف الفلسطينيين من غزة إلى الأراضي المصرية المحتلة آنذاك، فيما عُرف بـ«مشروع العريش» عام 1970. ووفق تقرير نشره جوناثان أدلر، الباحث في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تحت عنوان «جنوباً إلى سيناء... هل ستجبر إسرائيل الفلسطينيين على الخروج من غزة؟»، سعى قائد المنطقة الجنوبية بجيش الاحتلال الإسرائيلي أرئيل شارون - الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء - إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه الذين كان عددهم آنذاك 400 ألف مواطن، فنقل نحو 16 ألف فلسطيني من عائلات غزة في حافلات تابعة للجيش إلى سيناء.

الرئيس الراحل السابق حسني مبارك (آب)

عروض سنوات السلام

لم تفلح سنوات السلام بين مصر وإسرائيل في إبعاد الرغبة الإسرائيلية القديمة المتجدّدة في التخلّص من عبء قطاع غزة بإلقائه على مصر. بل ربما كانت سنوات ما بعد مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1977 بزيارة القدس، وإطلاق عملية السلام، فرصة سعت إسرائيل لانتهازها.

وكما يشير الدكتور سعيد عكاشة، خبير الشؤون الإسرائيلية في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» لـ«الشرق الأوسط»، عرضت إسرائيل والولايات المتحدة على الرئيس السادات خلال مباحثات السلام فكرة توطين سكان قطاع غزة في جزء من أراضي سيناء مقابل الحصول على مساحة مقابلة من صحراء النقب، فأبدى الرئيس المصري موافقة مبدئية شريطة أن يختار هو الموقع المناسب لتبادل الأراضي، فوافقوا. وعندها اختار السادات منطقة ميناء إيلات، الميناء الوحيد لإسرائيل على البحر الأحمر، فلم يعُدْ الإسرائيليون لطرح الفكرة مجدّداً.

ووفق وثائق بريطانية متعددة أفرِج عنها خلال السنوات الماضية، ونشرت شبكة «البي بي سي» جزءاً منها، تعدّدت «مشاريع» تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وبعضها جاء في سياق لقاءٍ بين الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ورئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر، في طريق عودة الأول إلى مصر بعد لقائه مع الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في فبراير (شباط) 1983، والبعض الآخر جاء من إسرائيل مباشرة، مثل مشروع عام 2000، عندما قدّم غيورا أيلاند - اللواء في الاحتياط الذي ترأس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي - مشروعاً باسم «البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين»، ونشرت أوراقه في «مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية».

بموجب ذلك المشروع تتنازل مصر عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المقترحة، وتمتد بطول الساحل من مدينة رفح غرباً حتى حدود مدينة العريش، مقابل حصولها على مساحة مساوية في صحراء النقب. لكن، حسب عكاشة، رفض الرئيس المصري (وقتها) حسني مبارك المشروع. وتجدّد الأمر عام 2010، خلال لقاء لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع الرئيس المصري، لكن الأخير قال في تسريب صوتي نُسب إليه عام 2017، إنه رفض فكرة توطين الفلسطينيين في مصر رفضاً قاطعاً.

ومع وصول تنظيم «الإخوان» إلى الحكم عام 2013، أشارت مجلة «فورين بوليسي» إلى أن الرئيس الأسبق محمد مرسي قبل عرضاً أميركياً حمله وزير الخارجية (آنذاك) جون كيري، يقضي بموافقة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي على شطب الديون الخارجية لمصر مقابل توطين الفلسطينيين في سيناء، وهو ما أكده الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال كلمة ألقاها أمام الدورة الـ23 للمجلس الوطني التي عُقدت في مقر الرئاسة برام الله مطلع مايو (أيار) 2018.

تنفيذ «نكبة ثانية»

اليوم، وسط حالة الغضب التي تسيطر على العقل الإسرائيلي منذ هجمات 7 أكتوبر الماضي، يبدو أن الهدف المعلن بشأن القضاء على «حماس» لم يكن الوحيد في «بنك الأهداف» الإسرائيلية. إذ يقول جوناثان أدلر: «من الواضح على نحو متزايد أن الحرب تسعى إلى تحقيق هدف ثانٍ؛ الطرد الجماعي للفلسطينيين من قطاع غزة». لقد دعا سياسيون إسرائيليون ومسؤولون من مؤسسة الدفاع الإسرائيلية إلى تنفيذ «نكبة ثانية» وحثوا الجيش على تسوية غزة بالأرض. واقترح البعض، ومنهم العميد السابق أمير أفيفي والسفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة داني أيالون، على الفلسطينيين الفرار من غزة عبر معبر رفح مع مصر والبحث عن ملجأ في شبه جزيرة سيناء.

ويصر أفيفي وأيالون على أن إجلاء الفلسطينيين من غزة مجرد «إجراء إنساني»، لحماية المدنيين، بينما تشن إسرائيل عملياتها العسكرية. لكن تقارير أخرى - وفق أدلر- تشير إلى أن المنوي إعادة توطين الفلسطينيين بشكل دائم خارج غزة في عملية «تطهير عرقي». وفي 17 أكتوبر، نشر «معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية»، وهو مركز أبحاث إسرائيلي أسسه ويرأسه مسؤولون سابقون في مجال الدفاع والأمن، ورقة بحثية تحث الحكومة الإسرائيلية على الاستفادة من «الفرصة الفريدة والنادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله» وإعادة توطين الفلسطينيين في مصر بمساعدة الحكومة المصرية.

كذلك ظهرت تدوينة للصحافي الإسرائيلي إيدي كوهين - الذي يوصف بأنه مقرّب من دوائر الاستخبارات الإسرائيلية - يدعو فيها سكان غزة للهروب إلى مصر والنجاة بحياتهم، وتطرّق في تدوينة أخرى إلى إمكانية «توطين الفلسطينيين في سيناء مقابل حذف ديون مصر».

وبشكل منفصل، أوصت وثيقة مسرّبة من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية يوم 13 أكتوبر، بإعادة توطين الفلسطينيين من غزة قسراً في شمال سيناء، وبناء منطقة عازلة على طول الحدود الإسرائيلية لمنع عودتهم. وتزامنت الوثيقة مع حملة قادها أمير وايتمان - وهو بحسب تقرير نشرته صحيفة «كالكاليست» الإسرائيلية الأسبوع الماضي، زعيم الليبراليين في حزب الليكود الذي يترأسه نتنياهو - وتدعو حملة وايتمان إلى نقل سكان غزة إلى مصر، إذ يقترح أن «تستثمر إسرائيل مليارات الدولارات في شراء شقق بمصر لصالح سكان غزة»، معتبراً المال بمثابة «ثمن تدفعه إسرائيل لشراء غزة».

رفض مصري صارم

لئن كان الرفض هو الموقف المصري الدائم، فإنه كان دائماً غير معلن، ولم يكشف النقاب عنه إلا بعد سنوات. غير أن الرفض المصري هذه المرة «علني ومتكرّر» وجاء في غير مناسبة، بعضها في مواجهة مسؤولين أميركيين بارزين، كما عندما استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. إذ كانت جلسة المباحثات علنية، وأكد الرئيس المصري الرفض الحاسم لأي مشروع لتصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار عبر تهجير السكان في الأراضي المحتلة إلى مصر والأردن. وتحول هذا الرفض والموقف الصارم إلى أحد ثوابت الخطاب السياسي المصري خلال الأسابيع الأخيرة، وخاصة في الاتصالات المصرية إقليمياً ودولياً. ومنها الاتصال الثالث للرئيس المصري خلال أقل من أسبوعين مع نظيره الأميركي جو بايدن، الذي أكد فيه رفض واشنطن تهجير الفلسطينيين.

إلا أن هذا الموقف لم يطمئن المسؤولين المصريين، الذين واصلوا التحرك المناهض لمشروع التهجير على أكثر من مستوى وجبهة. وهنا يقول الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، إن تحرك الدولة المصرية لمواجهة مساعي تهجير الفلسطينيين «يبدو منسقاً». ويتابع في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن تحركات القاهرة السياسية والعملية على الأرض «أتت ثمارها»، ونجحت في انتزاع مواقف أميركية واضحة بشأن رفض تهجير الفلسطينيين.

أيضاً، حسب فهمي، استفادت التحركات المصرية من استعدادات وتحركات مسبقة شهدتها السنوات العشر الماضية، من خلال تحديث القوات المسلحة وتطوير تسليحها، وتعمير سيناء وإطلاق أكبر مشاريع التنمية التي عرفتها عبر تاريخها، فضلاً عن بسط سيطرتها على كل مناطق سيناء بعد اجتثاث التنظيمات الإرهابية منها، وهو ما منح الإدارة المصرية «القدرة على مواجهة مشاريع التهجير بتماسك ظاهر وسيطرة على الأرض».

كذلك تحركت مصر عبر التصعيد المبكر لرفض الفكرة قبل تحولها إلى واقع، وتنويع أدوات التعبير عن ذلك من خلال تصريحات رسمية مباشرة أو مواقف تُنسب إلى «مصادر مسؤولة»، إضافة إلى نزع فتيل الذريعة الإنسانية لتبرير تدفق الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، خاصة في ظل الحصار الخانق الذي فرضته إسرائيل على القطاع. وفعلاً، سعت القاهرة إلى لعب دور إنساني سريع ومكثف، بالتنسيق مع المنظمات الدولية.

واتخذ التحرك المصري كذلك خطوات على الأرض، منها حشد الجبهة الداخلية لإبراز تماسك الموقف المصري رسمياً وشعبياً وراء قرار رفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، وسُمح بمظاهرات شعبية في كثير من المحافظات المصرية.

وزار رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي شمال سيناء، بصحبة عشرات المسؤولين والسياسيين، وبينهم شخصيات تنتمي لأحزاب معارضة، إضافة إلى شخصيات إعلامية وفنية لإطلاق المرحلة الثانية من مشروع تنمية سيناء، التي ستتكلف أكثر من 360 مليار جنيه (نحو 12 مليار دولار) في رسالة واضحة على إصرار البلاد على استكمال تنمية سيناء، وقدرتها الاقتصادية على تحقيق ذلك. ولقد جدد مدبولي التأكيد على الرفض المصري لأي أفكار أو مخططات بشأن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، مشدداً خلال لقائه شيوخ وعواقل سيناء بمقر الكتيبة 101 بالعريش، أن سيناء «ستبقى بقعة غالية في قلب كل مواطن»، وأعرب عن «استعداد الشعب المصري لبذل ملايين الأرواح لحماية سيناء». كما أكدت مصر جاهزيتها العسكرية في أكثر من مناسبة، منها اصطفاف تفتيش حرب الفرقة الرابعة المدرعة بالسويس للجيش الثالث الميداني، الذي شهده الرئيس السيسي في 25 أكتوبر الماضي، وأكد في كلمة له أن «الجيش المصري بقوته وقدرته المتعقلة والرشيدة والحكيمة لا يطغى ولا يسعى خلف أوهام، وأن هدفه حماية مصر وأمنها القومي دون تجاوز».


مقالات ذات صلة

جنود إسرائيليون يحتجزون عشرات الفلسطينيين جُرّدوا من ملابسهم بغزة (صور)

المشرق العربي عشرات الفلسطينيين المعتقلين في غزة يظهرون شبه عراة (تويتر) play-circle 00:49

جنود إسرائيليون يحتجزون عشرات الفلسطينيين جُرّدوا من ملابسهم بغزة (صور)

أظهرت صور من غزة تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي أمس (الخميس) اعتقالاً جماعياً من قبل الجيش الإسرائيلي لرجال أُجبروا على خلع ملابسهم

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي مشيعون يحملون جثمان فلسطيني قُتل خلال مواجهات بعد عملية إسرائيلية في مخيم الفارعة خلال جنازته في طوباس بالضفة (إ.ب.أ)

مقتل 6 فلسطينيين برصاص القوات الإسرائيلية في الضفة

قتل 6 فلسطينيين اليوم (الجمعة) برصاص القوات الإسرائيلية خلال اقتحامها مخيم الفارعة في شمال الضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (الضفة الغربية)
المشرق العربي رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية (رويترز)

«بلومبرغ»: السلطة الفلسطينية تعمل مع أميركا على خطة لما بعد الحرب

ذكرت وكالة «بلومبرغ»، نقلاً عن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، أن السلطة الفلسطينية تعمل مع مسؤولين أميركيين على خطة لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.

«الشرق الأوسط» (الضفة الغربية)
المشرق العربي نزوح الفلسطينيين من خان يونس في جنوب غزة نحو رفح فراراً من القصف الإسرائيلي (أ.ب)

الجيش الإسرائيلي يواصل دفع سكان غزة جنوباً

واصل الجيش الإسرائيلي تغوله في جنوب قطاع غزة، دافعاً آلاف السكان إلى الفرار تجاه رفح بعدما حاصر مدينة خان يونس، كبرى مدن الجنوب.

«الشرق الأوسط» (غزة) كفاح زبون (رام الله)
المشرق العربي نازحون فلسطينيون فروا من منازلهم للاحتماء في مخيم برفح (رويترز)

حرب غزة... مصر تشدد على رفض التهجير

شددت مصر على «الرفض البات» لسياسة «التهجير القسري»، التي تقوم بها إسرائيل لأبناء غزة داخل القطاع، ولمحاولات «تهجير سكان القطاع نحو سيناء».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الغضب الشعبي والرسمي يكشف مخاوف الأردنيين

غزة ... بمواجهة آلة الحرب الإسرائيلية (رويترز)
غزة ... بمواجهة آلة الحرب الإسرائيلية (رويترز)
TT

الغضب الشعبي والرسمي يكشف مخاوف الأردنيين

غزة ... بمواجهة آلة الحرب الإسرائيلية (رويترز)
غزة ... بمواجهة آلة الحرب الإسرائيلية (رويترز)

تنّبه الأردن الرسمي مبكراً لمخاطر الحرب التي شنّتها إسرائيل على غزة بذريعة ما وصفته بـ«حق الدفاع عن النفس» بعد عملية «طوفان الأقصى». وفي حسابات الأردن الرسمي أن الحرب التي راح ضحيتها أكثر من 15 ألف شهيد غزي نصفهم من الأطفال والنساء، هي حرب «ترويع» تهدف إلى تنفيذ مخططات «التهجير القسري» للسكان الأصليين، وإعادة بناء المعادلة الديمغرافية لصالح «يهودية الدولة» على حساب وجود «فلسطين الدولة»، واجتثاث خيار «حل الدولتين» من جذور مبادرات السلام. هذا الطرح لا يدعمه اليمين الإسرائيلي في دفع تهجير الغزيين إلى ناحية سيناء المصرية فقط، بل أيضاً هو خيار مطروح بقوة تجاه الدفع بسكان الضفة الغربية إلى تهجير آخر نحو الأردن، وهو ما اعتبره رئيس الوزراء بشر الخصاونة طرحاً إسرائيلياً «يشكل تهديداً للأمن القومي الأردني، وهو بمثابة إعلان حرب على بلاده، باعتباره مساً مادياً لبنود من معاهدة السلام بين البلدين».

حتمية اشتداد الحرب على غزة، واحتمالات توسع نطاق الصراع الحالي في الأراضي الفلسطينية إلى الضفة الغربية، مخاوف أردنية حقيقية تتكشف مع التطورات اليومية؛ إذ تخشى عمّان من أن تكون أهداف تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء خيار «حل الدولتين»، وقطع الطريق على أي فرص لمفاوضات سياسية جادة تؤدي إلى إعلان قيام «الدولة الفلسطينية على ترابها الوطني وعاصمتها القدس المحتلة»، في صميم ما تسعى تل أبيب لاستثماره في تصفية حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في غزة، وأيضاً تصفية أي حركة مقاومة في الضفة الغربية بعد حملة اعتقالات لنشطاء فلسطينيين تجاوزت ثلاثة آلاف معتقل، وأمام استشهاد أكثر من 300 فلسطيني في مدن عدة من الضفة.

موقف أردني حاسم

إزاء هذا الوضع، عبّرت السلطات الأردنية بقوة، وبتصريحات رسمية حادة، عن مواقفها، وفي رأسها رفض استهداف المدنيين في غزة، ورفض سياسات العقاب الجماعي التي تنفذها إسرائيل، ورفض الحصار الجائر الذي قطع سلاسل الغذاء والدواء والوقود من الوصول إلى القطاع، وضرب المرافق الحيوية والبنى التحتية، ومنع الجرحى والمصابين والمرضى من حق العلاج بعد استهداف المستشفيات وقصفها، وكذلك ضرب المجمعات السكنية، وتوسع العدوان على مناطق في جنوب غزة بعد إفراغ شمالها من السكان. وبنظر الأردن، التأسيس لهُدن يومية لن يفضي بالضرورة إلى وقف دائم لإطلاق النار، وحتى اليوم لا تزال جهود الإغاثة وإيصال المساعدات إلى غزة أقل من المتطلبات اليومية للسكان الخارجين تواً من قصف استمر إلى نحو أكثر من 50 يوماً.

إيمن الصفدي (آ ف ب)

انقسام النخب حيال المصلحة الأردنية

اليوم، قد يصح الوصف بأن «سباق التعبير عن الغضب بين الجانب الرسمي والساحات الشعبية أردنياً» كان واضحاً حيال تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة. فقد عاشت الساحة الأردنية جملة من ردود الفعل بتصريحات رسمية «قاسية»، وبنبرة ملكية حادة، ومحاولات شعبية مستمرة لتنفيذ اعتصامات في محيط السفارة الإسرائيلية في عمّان طمعاً بالوصول والاقتحام، ووسط ترحيب رسمي في توسع نطاق المظاهرات الشعبية في مختلف مناطق ومحافظات المملكة. وهنا تبرز أسئلة عن المخاوف من مستقبل الحرب الآنية ومدى اتساع نطاقها، متى يمكن أن تدخل الضفة الغربية رسمياً على خط تدهور الأوضاع وتطور الأحداث وصولاً لحرب مفتوحة، لا يمكن التقدير لمدى انتشار نيرانها وتوسع حلقاتها.

حقاً، لا يختلف المحللون على حقيقة أن هناك انقساماً حاداً في صفوف النخب الرسمية في تقييمها للموقف. وثمة مخاوف من أن تؤدي تصريحات وزير الخارجية أيمن الصفدي، إلى رفع سقف طموحات الشارع الغاضب، لا سيما بعد وصفه لقانون معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية بأنها «وثيقة على رفٍّ يعلوها الغبار». ولقد جاء كلام الصفدي هذا في سياق إعلانه عن تجميد المفاوضات على اتفاقية تبادل المياه والكهرباء بين عمّان وتل أبيب، وبعد موقف الحكومة من استدعاء السفير الأردني من تل أبيب، والطلب بعدم عودة السفير الإسرائيلي إلى عمّان. وحسب مراقبين، تسبب هذا الأمر في فتح شهية المعارضة الإسلامية ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين - غير المرخصة - وذراعها السياسية حزب «جبهة العمل الإسلامي»، وذراعها البرلمانية كتلة «تحالف الإصلاح الوطني»، تجاه تنفيذ ما صدر عن الصفدي من تصريحات.

الانقسام في صفوف النخب توزّع على موقفين:

الموقف الأول، يجد أن الصفدي، الذي لا يغرد خارج السرب الملكي في مواقفه وتصريحاته، ربما استعجل في تنفيذ الخطة الرسمية في اتباع سياسة «التصعيد المتدرج» في المواقف؛ إذ وضع مركز القرار الرسمي جملة «جميع الخيارات مفتوحة» أمام سؤال: كيف سيتعامل الأردن مع العدوان الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزة؟ وكيف سيواجه الأردن خطر حكومة نتنياهو وتهديداتها المستمرة لمستقبل السلام مع عمّان؟ ويتساءل أصحاب هذا الرأي عن ماهية الأوراق المتبقية في يد الأردن الرسمي في حال تطورت الأحداث واتسع نطاق الاعتداءات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية، خاصة أن الصفدي لم يضع جدولاً زمنياً لتنفيذ خطة المواقف الرسمية، بل ترك الجدل المحلي خلف ظهره وهو جالس أمام شاشات شبكات البث التلفزيوني عربياً وأميركياً وأوروبياً، الأمر الذي تسبب في حالة ارتباك دفعت بمجاميع من السفارات الغربية في عمّان لزيارة وزارة الخارجية والاستفسار عن مضامين تصريحات الوزير والموقف الأردني.

الموقف الثاني، أيّد رفع سقف الغضب الأردني الرسمي تجاه إسرائيل، واعتبر أن تقدّم الموقف الرسمي أسهم في تهدئة غضب الشارع، مع أن احتواء أي تطور على المستوى الشعبي قد يخدم شعبية المعارضة الإسلامية، التي لا تزال على ارتباطها بحركة المقاومة الإسلامية «حماس». فقد طالبت قيادات «حمساوية» الأردنيين بالخروج إلى الشوارع تأييداً لموقف المقاومة وتنديداً بالعدوان الإسرائيلي، وهو ما دفع وزير الإعلام الأردني الأسبق سميح المعايطة لاتهام الدعوات بأنها «غير بريئة»، لأنها خصت الشارع الأردني دون غيره في الشارع العربي. وفي هذا الصف من النخب هناك مراكز دراسات وحلقات نقاشية تتردد عليها النخب التقليدية تطالب بتقييم الواقع الجديد باعتبار أن «انتصار (حماس)» في الحرب الأخيرة «كسر لهيبة الاستعراضات الإسرائيلية بالقوة وتحالفها مع الولايات المتحدة». والتقييم من وجهة نظر هؤلاء يتمثل في اعتبار ما سبق مصلحة أردنية عليا. ويضاف إلى ذلك «نجاح سكان غزة، في مقاومة خطة التهجير الثالث الذي تسعى إسرائيل لتنفيذه على مراحل»، في ظل ما تعده عمان تهديداً جاداً بهدف حل أزمة حكومة اليمين الإسرائيلية على حساب دول الجوار، ونجاح مخطط تفريغ الأرض من سكانها الأصليين.

ومن هؤلاء أيضاً من يرسم ملامح علاقة مختلفة جذرياً بين عمّان وتل أبيب بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) بدء معركة «طوفان الأقصى»، وقبل ذلك اليوم؛ إذ ضرب العدوان على غزة العلاقة بين الأردن وإسرائيل بشرخ لن يعالجه سوى مبادرة بحجم استئناف العملية السياسية، وضمانات توفر ظروفاً جادة للوصول لحل يُفضي لقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وفق تصريحات متلاحقة لوزير الخارجية الأسبق وأول سفير أردني في تل أبيب بعد توقيع معاهدة السلام مروان المعشّر.

بشر الخصاونة (آ ف ب / غيتي)

قراءات الخصاونة

التباين في تقييم النخب الرسمية للموقف الأردني سعى لحسمه رئيس الوزراء بشر الخصاونة في ظهورين إعلاميين. ولعله نجح في تقديم جملة من التعريفات والاستخلاصات المحددة للموقف الرسمي ومستويات التنفيذ وارتباطها بحجم التصعيد الإسرائيلي، في محاولة «عقلنة» تفسير السقف الرسمي والغضب على مستوى مراكز القرار. ومن جملة التعريفات التي وضعها الخصاونة كان مفهوم «إعلان الحرب»، فأوضح أن أي «خطة تهجير للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، هي بمثابة «إعلان الحرب» من الجانب الإسرائيلي على الأردن، بعد التعدي على قانون المعاهدة الذي يمنع أي مساعٍ إسرائيلية لتهجير قسري للسكان، بمعنى المس المادي بواحد من أهم بنود اتفاقية السلام المبرمة بين البلدين عام 1994.

وحول الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدين، ومع تأكيده تعليق المفاوضات على اتفاقية الماء والكهرباء، أشار رئيس الوزراء إلى أن اتفاقية الغاز لا تزال نافذة؛ لكونها اتفاقاً بين شركتين خاصتين، وأن تدفق الغاز مستمر، غير أنه شدد على تحوط المملكة ببدائل عن الغاز الإسرائيلي بعد السؤال عن جاهزية دولتين عربيتين لبيع الغاز للأردن، لافتاً إلى أن ذلك سيرتب كلفاً عالية على الموازنة، وسيزيد من نسب عجزها التي لا يمكن تغطيتها إلا برفع أسعار الطاقة وقتها.

أما حول العلاقة مع «حماس»، فتجنب الخصاونة التعليق مباشرة، لكنه أكد أن المملكة ملتزمة بقرار «قمة الرباط» عام 1974، القاضي بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، ومخرجات «اتفاق أوسلو» المبرم عام 1993، ومرجعية تمثيل السلطة الوطنية الفلسطينية للقرار السياسي الفلسطيني. وهو ما يقضي حتماً بعدم التعامل مع أي فصيل سياسي أو عسكري خارج نطاق السلطة الفلسطينية.

المخاوف من أخطار وشيكة

في هذه الأثناء، تتعاظم المخاوف من الحرب وتقدمها في أي لحظة تجاه جنوب غزة أو إلى مناطق الضفة الغربية؛ إذ تدرك عمّان أن إسرائيل تُفرط باستخدام القوة، وتتوسّع في نطاق عدوانها مستهدفة المدنيين بقصد بث الذعر بينهم، ودفعهم باتجاه وحيد هو مغادرة غزة نحو مصر، أو الضفة الغربية باتجاه الأردن، ولا تستبعد دوائر قرار محلية أن تكون حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل هي صاحبة السبق في إشعال جبهة الضفة.

بالنسبة للأردن، هذا يعني حصول ثالث تهجير بحق الفلسطينيين بعد نكبة اللجوء عام 1948، ونكسة النزوح عام 1967. وهو مخطط تهجير جديد يُفرغ الأرض من سكانها الأصليين على حساب دول جوار، وطبعاً سيكون العبء الأكبر على حساب الأردن، الأمر الذي تعده عمّان «خطراً أمنياً كبيراً؛ من جهة ينجح اليمين الإسرائيلي في تحقيق غايته في تفريغ الأرض، ومن جهة أخرى يعود شبح خطة (الوطن البديل) للفلسطينيين، خصوصاً في ظل معادلة ديمغرافية أردنية يمثل الفلسطينيون طرفاً ثابتاً فيها بوصفها حملة أرقام وطنية».

وهكذا، أمام الأخطار المحدقة جاء إصرار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في واحد من لقاءاته مع ساسة أردنيين بارزين، على رفض «أي تفكير في إعادة احتلال أجزاء من غزة أو إقامة مناطق عازلة فيها»، مشدداً على أن «أي سيناريو أو تفكير بإعادة احتلال أجزاء من غزة أو إقامة مناطق عازلة فيها سيفاقم الأزمة، هذا أمر مرفوض ويعد اعتداء على الحقوق الفلسطينية»، كما شدد على أن «الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس ستدفع إلى انفجار الأوضاع في المنطقة واتساع رقعة الصراع».

أيضاً، يرفض الأردن الرسمي الفصل بين مصير غزة والضفة الغربية، ويعتبر أن أي «سيناريو» يتناول قضية غزة وحدها، خدمة لأهداف إسرائيلية، في حين ترفض المراجع السياسية في البلاد أي حديث يسوّق لـ«سيناريوهات» ما بعد الحرب في قطاع غزة، وترى أن ما يطرح في هذا السياق «غير واقعي ومرفوض ولا يتعامل معها الأردن».

وبالتالي، يمكن القول إن جوهر المخاوف الأردنية دفع الموقف الرسمي إلى الإعلان عن «خياراته المفتوحة» في مواجهة مخططات إسرائيلية نحو دفع المدنيين الفلسطينيين تجاه تهجير جديد. وفي ظل خصوصية العلاقة الأردنية الفلسطينية، وضع مركز القرار جملة «سيناريوهات» للتعامل مع هذا الخطر. وقال مصدر مطلع «الشرق الأوسط»، إن «ثمة إعداداً جيداً لضمان تقديم الدعم والمساعدة للفلسطينيين على أرضهم، كما أن هناك إعداداً جيداً يرسم تصورات عملية للتعامل مع إدارة المشاعر الوطنية في حال وجود تهديد تهجير حقيقي».

المعنى هنا هو: «إمساك العصا من المنتصف»، ضمن حتمية الحفاظ على المصالح الوطنية الأردنية، وإفشال أي مخطط إسرائيلي لتنفيذ تهجير فلسطيني ثالث، وتثبيت مبدأ منع تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين، وهذا مع رفض استقبال موجات جديدة من الفلسطينيين في المملكة. فهذا ليس أمراً يضر بمصالح الأردنيين فقط، بل يخدم الرواية الإسرائيلية في إحياء خططها لضم المزيد من الأرض، وإنجاح مخطط «الوطن البديل» للفلسطينيين خارج أرضهم التاريخية. وعطفاً على حديث المصدر، توجد مخاوف أردنية حقيقية من تفاقم أزمة السلطة الوطنية الفلسطينية وتزايد إحباط قادتها أمام «العجز الحاصل» في وقف العدوان على غزة وغياب آفاق التهدئة. ثم إن تقييم الهُدن بنظام «المياومة» سيبقيها تحت تأثير الهشاشة وعودة أصوات القصف والمدافع، في ظل الدعم الأميركي لإسرائيل، وتبني الرواية الإسرائيلية مهما كان حجم تجاهلها لمصالح السلطة.

تصريحات تعيد تعبئة الشارع

في أي حال، بدا لافتاً كلام العين خالد الكلالدة عندما نقل لـ«الشرق الأوسط»، أنه يدعم اليوم ويطالب من موقعه التشريعي بعودة تدريس «منهاج القضية الفلسطينية في المدارس الأردنية»، وعودة «التدريب العسكري لطلاب الجامعات الأردنية بوصفه جزءاً من النشاطات الطلابية المنهجية». وبرأيه أن مثل هذه السياسات من شأنها أن تبعث برسائل قلق لدولة الاحتلال، «فلا يجوز أن يُعاقب الأردن على اعتداله وسط جنون المنطقة وتفجر أزماتها».

في المقابل، دعت نخب تقليدية إلى «الإدراك المبكر لخطر وشيك». وحظيت تصريحات النائبين والوزيرين الأسبقين ممدوح العبادي وسمير الحباشنة والأكاديمي صبري ربيحات، بقبول شعبي واسع عندما طالبوا في مناسبات مختلفة بـ«تسليح الشعب الأردني»، وتهيئة الرأي العام «لمواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل التي لا تلتزم بقيم معاهدة السلام مع الأردن، بل إنها تحاول العبث بالمصالح العليا للدولة الأردنية، مستمرة في فرض حلول لأزمتها على حساب الاستقرار الوطني».

وهنا تعود الأزمة المحلية إلى السباق في مخاطبة الشارع المُلتهب، فالاعتدال ولغة التحليل الهادئ لأزمة ساخنة، قد لا يحققان - بالنسبة للبعض - الغاية منهما، على الرغم من إدراك مركز القرار بأن اتساع نطاق الحرب سيُجبر المملكة على مواجهات مفتوحة. وتلفت مصادر سياسية أردنية مطلعة تحدثت إلى «الشرق الأوسط»، إلى أن تهديدات ميليشيات إيران و«حزب الله» على الحدود الشمالية لا تزال قائمة، وكذلك الأنباء عن تحركات «الحشد الشيعي» العراقي بين الحدود الشرقية واتصاله البرّي مع حلفائه الإيرانيين في سوريا، وسط مستقبل مجهول تنتظره عمّان على حدودها الغربية مع دولة الاحتلال. الأردن: التأسيس لهُدن يومية في غزة لن يفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار

بايدن في زيارته التضامنية مع إسرائيل (غيتي)

تفهّم لرفع حدة التصريحات الأردنية

> وصف مصدر سياسي أردني، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، التي أطلقها لحظة وصوله إلى إسرائيل في زيارته «التضامنية» بعد أيام من الحرب على غزة، بأنها «مخيبة للآمال»، وتابع: «كان حرياً بالقادة الأميركيين مراعاة حجم الحرج لحلفائهم بعد تلك التصريحات، التي دعمت الرواية الإسرائيلية المزعومة وقتلها للمدنيين بذريعة (محاربة الإرهاب والدفاع عن النفس)». وأمام ما تصفه المصادر الدبلوماسية الأردنية من «تفهم» أميركي لموقف عمّان الرسمي وظروفه المركبة، لا يخفي الأردن صدمته مما عدّه «تماهياً» أميركياً، و«انجرافاً» غير مبرّر وراء الأهداف الإسرائيلية، ودعماً لقرار تل أبيب، والهرولة وراء سردية «المسار الجديد لمكافحة الإرهاب، حتى تحت يافطة المظلومية الفلسطينية». وهنا لا تبدو عمّان الرسمية تقف في صف «حماس» المقاومة، لكنها لا تستطيع الصمت حيال معاقبة اعتدال السلطة الفلسطينية ومنح أوراق مضاعفة لنقيضها في «المقاومة المتصلة بأجندات وأطراف خارجية ولها مصالح متناقضة مع المصلحة الفلسطينية في الحرب الدائرة»، مما يهدد بترك المدنيين عرضة للاستهداف في حرب لا تبدو أنها ستتوقف قريباً، ويجعل خطر «التهجير» قائماً كـ«خطر وشيك».


خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا

خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا
TT

خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا

خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا

قد يكون النائب الهولندي خيرت فيلدرز من أكثر الوجوه السياسية شهرة في أوروبا منذ عقود، رغم أنه لم يتولَّ مناصب رسمية حتى الآن. شهرة الرجل نابعة من أفكاره اليمينية الشديدة التطرف، وكرهه المعلن للإسلام والمسلمين. ومع أن فيلدرز حاضر على الساحة السياسية في أوروبا منذ عام 1998 عندما دخل البرلمان للمرة الأولى، بالكاد نُظر إليه - قبل الآن - على أنه لاعب سياسي قوي قادر على الوصول للسلطة وحكم هولندا. ولذا شكل فوز حزبه «الحرية» بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، حصد فيها 37 مقعداً من أصل 150 (أي ربع مقاعد البرلمان) مفاجأة كبيرة وصدمة خاصة للمسلمين في هولندا الذين بدأوا فعلاً يخشون على مستقبلهم هناك. ولكن، فوز حزب فيلدرز في الانتخابات الأخيرة لا يعني أنه سيصبح تلقائياً رئيس الحكومة المقبلة. ذلك أنه، في غياب الغالبية المطلقة، سيكون مُجبراً على إقناع أحزاب أخرى بالمشاركة معه في حكومة يرأسها هو، ما قد يكون مهمة صعبة. ولكن الثابت الآن هو استحالة تجاهل قوة هذا الحزب، ولا المليوني ونصف المليون شخص تقريباً الذين صوتوا له رغم أفكاره الشديدة التطرّف حول المسلمين والمهاجرين والاتحاد الأوروبي وغيرها الكثير. أمر آخر، لا يخلو من الخطورة، هو أن إنجاز متطرفي هولندا أعطى أملاً جديداً للأحزاب الأخرى الشعبوية واليمينية المتطرفة في أوروبا التي بدأت صعودها أصلاً في السنوات الماضية، ووصل بعضها إلى السلطة مثل حزب رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، والحزب اليميني المتطرف في فنلندا الذي بات جزءاً من الحكومة الائتلافية. ذلك أنه في فرنسا يتقدم اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبين في استطلاعات الرأي باعتباره أكبر حزب في البلاد. وفي ألمانيا يصعد حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف بوتيرة مقلقة في بلد تعهدت كل الأحزاب الأساسية فيه بألا تشاركه الحكم. ولكن الكثير قد يتغير حتى موعد الانتخابات المقبلة في عام 2025، خاصة في حال نجح فيلدرز بإقناع أحزاب هولندية وسطية بالمشاركة معه في حكومة ائتلافية.

كرّر السياسي الهولندي اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، خلال حملته الانتخابية الأخيرة، الكلام عن الخطط التي اعتمدها ويريد تطبيقها في حال وصوله للسلطة. ووضع على رأس تلك الخطط حظر القرآن والحجاب في الأبنية الرسمية، وإقفال المساجد والمدارس الدينية المسلمة. وللعلم، تتماشى هذه الأفكار مع ما عُرف به فعلاً هذا السياسي المتطرف المعادي للإسلام والمسلمين منذ بداية صعوده؛ إذ سبق له أن وصف المواطنين الهولنديين المتحدرين من أصول مغاربية بأنهم «حثالة». وفي عام 2004 تسبّب بجدل كبير عندما سأل المتجمهرين في أحد التجمعات الانتخابية: «هل تريدون مغاربة أقل في هولندا؟»، فردّوا: «نعم ...نعم...»، وعلى الفور أعلن وهو يبتسم بأنه يستطيع أن يفعل ذلك. وفي حينه، حوكم فيلدرز بسبب تلك التصريحات التي اعتبرت تحريضاً على الكراهية والتمييز ضد المغاربة، وأدين بغرامة مالية مقدارها 5 آلاف يورو.

خلفية العداء

يدّعي فيلدرز أن أفكاره المعادية للإسلام ترسّخت بعد قتل المخرج الهولندي تيو فان كوخ عام 2004 على يد شاب هولندي من أصل مغربي بعد إخراج فان كوخ فيلم «الخضوع» للكاتبة الهولندية الصومالية المعادية للمسلمين أعيان حرسي علي، الذي يصوّر الإسلام بصورة سلبية للغاية. ثم في العام نفسه أسس فيلدرز حزبه «الحرية» في أعقاب انفصال عن حزب «الشعب للحرية والديمقراطية» اليميني المعتدل الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة الهولندي الحالي مارك روته.

ما يستحق الذكر أن فيلدرز امتهن لفترة التأمين الصحي، كما درس لنيل شهادات في القانون من جامعة هولندا المفتوحة، قبل أن يتفرّغ للسياسة. ولقد التحق بصفوف حزب روته منذ عام 1989، وانطلق منه في حياته السياسية. بيد أنه منذ ذلك الحين، عُرف داخل الحزب بأفكاره المتطرّفة، وبصفة خاصة تجاه المسلمين.

بعدها، برز الاختلاف الكبير بين فيلدرز وأعضاء الحزب الآخرين في أعقاب تعيينه عام 2002 ناطقاً باسم الكتلة البرلمانية لحزبه. وحقاً، تسبّب العديد من تصريحاته المتطرفة ضد الإسلام والمسلمين، آنذاك، بتوتر شديد داخل الكتلة البرلمانية، ويضاف إلى ذلك، أنه كان غالباً ما يتكلّم في مواضيع خارج الخطوط الأساسية لسياسة الحزب.

غير أن «القشة التي قصمت ظهر البعير» تمثّلت في رفض فيلدرز العنيد تأييد موقف حزبه من بدء مفاوضات قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. هذا، كانت نقطة الخلاف الحاسمة والأخيرة التي أدت إلى قراره الانفصال عن الحزب وتأسيسه «حزب الحرية». وهنا تجدر الإشارة، إلى أن السبب الأبرز لمعارضة فيلدرز الشديدة القبول بإطلاق مفاوضات الانضمام مع تركيا كون الأخيرة «دولة مسلمة»، وهي بالتالي - وفق قناعاته - «لا تنتمي إلى العائلة الأوروبية» وقيَمها وثقافتها.

كاثوليكي العائلة والنشأة

فيلدرز نفسه ولد لعائلة كاثوليكية، هو ابنها الأصغر وله 3 أخوة آخرين، إلا أنه يزعم حالياً أنه لا ينتمي لأي ديانة على الرغم من أنه يعتبر أن المسيحيين هم «حلفاء» له. واللافت أن الرجل الذي تحول إلى أحد أهم الرموز المعادية للإسلام في أوروبا وأبعد، هو نفسه يتحدّر جزئياً من عائلة ذات أصول إندونيسية مسلمة يحاول إخفاءها... ونادراً ما يتطرّق إليها.

ذلك أن جدّته لوالدته إندونيسية تزوّجت والده الهولندي أيام حقبة الاستعمار الهولندي على إندونيسيا، عندما كان يعمل في تلك البلاد التي كانت تُعرف بـ«جزر الهند الشرقية الهولندية»، وذلك قبل أن تتحوّل إلى جمهورية إندونيسيا بعد الاستقلال عن هولندا عام 1949 بقيادة أحمد سوكارنو.

وفي عام 2009، نشرت مجلة «أمستردام الخضراء» تحقيقاً مفصلاً عن فيلدرز نبشت فيه إرثه العائلي، مستندة إلى وثائق في «الأرشيف الوطني» أظهرت تفاصيل حول جده لوالدته يوهان أوردينغ الذي كان يعمل موظفاً حكومياً تابعاً لسلطة «جزر الهند الشرقية الهولندية»، ونجح هناك بكسب أموال من أعمال كان يقوم بها في المستعمرة الهولندية السابقة. وهناك أيضاً، تعرف على زوجته الإندونيسية جوهانا التي أنجب منها 7 أولاد بينهم والدة فيلدرز، ولدوا جميعهم في جزيرة جاوة، كبرى الجزر الإندونيسية من حيث تعداد السكان، وفيها العاصمة جاكارتا.

وبحسب المجلة، طُرد جد فيلدرز من وظيفته ومنع من العودة إلى جاوة عام 1934 عندما كان في إجازة في الخارج بعدما تبيّن أنه قد أفلس. وهكذا، حُرم الرجل من معاشه التقاعدي، واضطر على الأثر للانتقال مع زوجته - التي لم تكن تتكلم اللغة الهولندية - وعائلتهما للعيش في منزل صغير، وفق المجلة، في هولندا مع 7 أطفال، تاركين وراءهم منزلاً كبيراً وخدماً وحياة رفاهية ما عادت متوافرة لهم.

وتروي مجلة «أمستردام الخضراء» في تحقيقها أن العائلة مرّت بأيام شديدة الصعوبة، وعانت من الفقر الشديد. وأكملت لتشير إلى أن أوردينغ نجح فيما بعد بإعادة بناء حياته العملية بعدما وجد وظيفة له حارسَ سجن. ومن ثم، استقر مع عائلته في مدينة فينلو الصغيرة، بجنوب شرقي هولندا قرب الحدود الألمانية، وهي المدينة حيث ولد خيرت عام 1962 وفيها نشأ. ولقد نسبت الصحيفة إلى خيرت فيلدرز نفسه القول إن جدّيه كانا يعيشان على بعد نصف كيلومتر من منزله، وأنه كان غالباً ما يزورهما. وفي حين توفي أوردينغ عندما كان خيرت في الثامنة عشرة من عمره، توفيت زوجته بعده بست سنوات.

مرارة التجربة وأزمة الهوية

بناءً على ما سبق، استنتجت «أمستردام الخضراء» أن إبعاد عائلة فيلدرز عن إندونيسيا، وما تعرّض له أفرادها وكثيرون غيرهم من معاملة مشابهة بعد استقلال المستعمرة السابقة ذات الغالبية الإسلامية الكبيرة عن هولندا، ترك الكثير من الاستياء لدى سكانها السابقين من الهولنديين... الذين خسروا بعد أفول نجم الاستعمار كل شيء، ولم يعد بإمكانهم العودة إلى ديارهم.

أيضاً، تتطرّق المجلة المذكورة إلى «تيار سياسي» نشأ في هولندا منذ ذلك الحين، في بداية الخمسينات، يضم أولئك المستوطنين المستائين من إقصائهم مع العلم أن هولندا لم تسهّل عودة كثيرين منهم إليها؛ لأنها لم تعتبرهم «هولنديين» لكونهم «شرقيي الهوى». وفي المقابل، لم تعتبرهم إندونيسيا من جهتها «إندونيسيين». ومن ثم، تشير المجلة إلى أن كثرة من هؤلاء انتهى بهم الأمر مهاجرين إلى الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا بسبب رفض كل من هولندا وإندونيسيا قبولهم مواطنين فيها. وفي هذا السياق، ترى المجلة الهولندية أن أفكار فيلدرز «تتماشى مع الخطاب الاستعماري والأفكار المحافظة النابعة من تلك الحقبة، التي تأثر بها على ما يبدو، بسبب ما عاناه جدّاه».

من جانب آخر، نقلت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية عن المؤرخ والباحث الهولندي إيان بوروما قوله، إن «بعض الهولنديين المتحدّرين من أصول إندونيسية يحاولون التعويض عن إرثهم المختلط بأن يكونوا هولنديين أكثر من الهولنديين»، وأن البعض الآخر «يظهر ازدراءً كبيراً للإسلام وهو ما كان يمارسه المستعمرون الهولنديون في مستعمرتهم الآسيوية السابقة».

وقبل سنوات كتبت مجلة «نيوزويك» الأميركية قصة عن خيرت فيلدرز تناولت فيها إرثه الإندونيسي، ونقلت عن عالمة الأنثروبولوجيا الهولندية ليزي فان لوفن - التي تتحدر بدورها من إرث إندونيسي هولندي مختلط - تفاصيل حول بحث أجرته وعثرت فيه على إرث فيلدرز العائلي المختلط. وكما تقول فان لوفن إن كثيرين من جيل والدة فيلدرز ووالدتها يختزنون غضباً ضد المسلمين الإندونيسيين «على طردهم إياهم من بلدهم، وأيضاً لعجزهم هم عن العودة، وما تبع ذلك من فقر عاشوه بعدما اضطروا للعيش في هولندا». وهذا الأمر تفسره فان لوفن على أنه «محرّك أساسي» خلف كراهية فيلدرز للمسلمين. ثم تفسّر كذلك تسريحة شعره وصبغته الشقراء دائماً بأن غايته منهما إخفاء معالمه الإندونيسية التي قد تظهر في شعره الطبيعي الأسود اللون الذي كانت جذوره تظهر عندما كان أصغر سناً قبل أن تتحول الآن بفعل الشيب إلى جذور بيضاء.

نفور من إندونيسيا وانجذاب لإسرائيل

في المقابل، ثمة من يقول إن «كراهية» خيرت فيلدرز للإسلام والمسلمين لا تقتصر على إرث استعمار إندونيسيا، بل يعود كذلك إلى فترة من مراهقته - عندما بلغ سن السابعة عشرة - أمضى خلالها سنة كاملة وهو يعمل في موشاف (تجمع قروي زراعي) إسرائيلي في الضفة الغربية. ثم، أمضى سنوات لاحقاً متنقلاً في الشرق الأوسط بين عدة دول عربية مثل الأردن وسوريا ومصر.

وفي أعقاب عودة فيلدرز - المتزوّج من سيدة من أصول مجرية يهودية - إلى هولندا من الشرق الأوسط، نقل عنه أنه حمل معه «شعوراً مميّزاً بالتضامن مع إسرائيل». وبالفعل، في الأسابيع الماضية، علّق على الحرب الحالية على قطاع غزة داعياً إلى نقل الفلسطينيين إلى الأردن، وتحويل الأردن إلى فلسطين بديلة، ما أثار سيلاً من الإدانات الواسعة والشديدة من كل من الأردن والسلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية.

ولكن، بغضّ النظر عن أسباب كراهية فيلدرز للإسلام، فإن مواقفه المحرّضة على الكراهية ضد الإسلام، والتي تمثلت خصوصاً في الفيلم الذي أنتجه عام 2008 باسم «فتنة»، جعلته شخصاً معزولاً يعيش تحت حماية أمنية دائمة. وفي الواقع، كان الرجل قد تعرّض عام 2004 لمحاولة اغتيال إلى جانب حليفته النائبة الصومالية أعيان حرسي علي. ويومذاك، حاول رجلان مسلحان بقنابل يدوية قتلهما داخل مبنى في مدينة لاهاي، ولكنه قبض عليهما ولم ينجحا في تنفيذ مأربهما. ومنذ ذلك الحين، يعيش فيلدرز بحماية دائمة ولا يتحرك من دون حراسة مشددة، بل إنه نادراً ما يغادر منزله باستثناء الانتقال للمشاركة في تجمعات انتخابية، وأيضاً، إلى مكتبه في البرلمان الذي يقع في زاوية معزولة يسهل مراقبتها وحمايتها. كذلك، لا يتحرك فيلدرز من دون سترة واقية من الرصاص.

مارك روته (رويترز)

تطرف حزب فيلدرز... عامل منفّر لمعظم شركاء الحكم المحتملين

> ذكر بول فيلدرز، الشقيق الأكبر للزعيم الهولندي اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، في مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية قبل سنوات، أن راديكالية شقيقه جاءت تدريجية.

وأوضح بول، الذي ينتقد شقيقه بشكل كبير بسبب تطرفه، أن عيش خيرت في موشاف إسرائيلي، حيث كان شاهداً على التوتر مع الفلسطينيين، ثم انتقاله إلى مدينة أوتريخت الهولندية؛ حيث انتقل أتراك ومغاربة بشكل متكاثر إلى منطقته عبر السنوات، من العوامل التي أسهمت بزيادة تطرفه. ثم أضاف أنه بعد «أحداث 11 سبتمبر (أيلول) واغتيال المخرج تيو فان غوخ بدأ أخوه يكسب صيتاً لنفسه على أنه معادٍ للإسلام ووجد أن هناك متلقين لذلك».

تيو فان غوخ (أ.ب)

من جهة أخرى، حتى قبل أن يصبح فيلدرز قريباً من المشاركة في الحكومة، كان شقيقه بول ينتقد دعواته لحظر القرآن وإقفال المدارس الإسلامية والمساجد. ولقد وصف تلك الدعوات في مقابلته مع «دير شبيغل» بأنها تشكّل خرقاً للدستور الهولندي، وبأن تطبيقها سيكون بحاجة لموافقة غرفتي البرلمان (السلطة التشريعية) وبغالبية كبيرة.

شعار «حزب الحرية»

ومن ثم، يتابع بول فيلدرز القول إنه «بسبب التركيبة السياسية لهولندا، فهو - أي شقيقه خيرت - لن ينجح أبداً في تحقيق ذلك». ويستنتج أنه إذا أراد أن يصبح رئيس حكومة سيكون عليه التفاوض مع عدد من الشركاء للدخول في حكومة ائتلافية أو تشكيل حكومة أقلية، ما يعني أنه «سيضطر إلى تقديم تنازلات وكسر الكثير من الوعود الانتخابية».

وحقاً، تبدو الكثير من أفكار فيلدرز عاملاً سياسياً سلبياً يبعد الأحزاب الأخرى عن التفكير في التحالف معه. ذلك أن أفكاره المتطرفة لا تتوقف فقط عند المسلمين بل تتخطاها إلى مسائل تتعلق بـ«اتفاقية شينغن»؛ حيث يريد - مثلاً - إعادة العمل بنظام تأشيرات العمل حتى للقادمين من داخل الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يخالف مبدأ «حرية التحرك» داخل دول الاتفاقية.

ثم إن أفكاره المتطرفة تمتد لتمسّ الاتحاد الأوروبي نفسه، إذ يريد طرح استفتاء على خروج هولندا منه أسوة ببريطانيا. وهو يرى الكثير من القوانين الأوروبية «مقيّدة» لهولندا؛ منها قوانين «التغير المناخي»، الذي لا يؤمن به، كما أنه يسعى إلى وقف الاستثمارات بالطاقة الخضراء الرفيقة بالبيئة وإعادة العمل بالفحم والغاز وغيرهما. بل أكثر من هذا، يؤيد فيلدرز بقوة حتى الانسحاب من «اتفاقية باريس للمناخ» التي كان قد انسحب منها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. وطبعاً، من الخطط التي تكلّم عنها خلال حملته الانتخابية وخطّها في وثيقة نُشرت على صفحة الحزب وقف قبول اللاجئين، ووقف السماح بازدواجية الجنسية، وتجريد المدانين بجرائم منها وترحيلهم.

أما بالنسبة للحرب الأوكرانية، فيريد خيرت فيلدرز إنهاء الدعم العسكري لأوكرانيا، ووقف كل المساعدات الخارجية المتعلقة بالتنمية. وفيلدرز مثل معظم قيادات اليمين المتطرف في أوروبا يُعد اليوم مقرّباً من موسكو، ويبدي تحمساً لإعادة العلاقات معها كما كانت قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهو غالباً ما يتكلم باستنكار عن وجود عن «فوبيا (رهاب) من روسيا» في أوروبا، ولذا فهو يدعو إلى إعادة علاقات الشراكة مع موسكو عوضاً عن العداوة.

كل هذه الأفكار، بلا شك، صعبة التقبل بالنسبة لأي حزب آخر قد يريد مشاركة اليمين الهولندي المتطرف في الحكومة العتيدة. ومع أن حزب رئيس الوزراء المودّع، مارك روته، نفسه حزب محافظ، وقد لا يعارض نقاطاً تتعلق بالهجرة والحد من المهاجرين واللاجئين، فإن النقاط الأخرى مثل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومعاداة المسلمين، ستجد حتى أكثر الأحزاب المحافظة صعوبة في السير بها.

وفي أي حال، قد تستغرق عملية التشاور لتشكيل حكومة هولندية جديدة أشهراً طويلة. وكانت هولندا قد اضطرت للانتظار نحو السنة قبل تشكيل إحدى الحكومات، علماً بأنه لم يكن آنذاك حزب يميني متطرف «محور» المفاوضات.


تحدّيات الداخل والخارج تُربك الاستقرار السياسي في العراق

محمد شيّاع السوداني مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ف ب)
محمد شيّاع السوداني مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ف ب)
TT

تحدّيات الداخل والخارج تُربك الاستقرار السياسي في العراق

محمد شيّاع السوداني مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ف ب)
محمد شيّاع السوداني مستقبلاً وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ف ب)

في حين يراهن رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، وفريقه الحكومي، على الزمن القليل المتبقي لإنجاز عدد من المشروعات الاستراتيجية المهمة، طبقاً لما تعهّد به في المنهاج الوزاري، فإن الاستقرار السياسي الذي شهده العراق، خلال العام الأول للحكومة، بات يواجه الآن سلسلة من التحديات في الداخل والخارج. التحدي الأول، الذي واجه السوداني، بدأ فجر السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي باندلاع حرب غزة (طوفان الأقصى)، الذي كان المؤشر الأول على خلخلة الاستقرار السياسي عبر الهدنة غير المكتوبة بين الحكومة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعي المشكلة لها، وبين الفصائل العراقية المسلَّحة القريبة من إيران. ويذكر أن السوداني، وهو مهندس زراعي عمل، في زمن النظام السابق الذي أعدم والده بتهمة الانتماء إلى حزب الدعوة، مديراً لفرع الزراعة في مسقط رأسه محافظة ميسان. وبعد احتلال العراق عام 2003 من قِبل الولايات المتحدة الأميركية، شغل مناصب رفيعة بدأت بتولّيه منصب قائمقام، ثم عُيّن محافظاً لميسان، فوزيراً لنحو 5 وزارات، قبل أن يتولى يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 منصب رئيس الوزراء، على أثر تغلُّبه على نحو 14 مرشحاً من جيل «القادة الشباب» الشيعة.

يوصَف رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، بأنه إداري ناجح وحازم، ولم تظهر عليه، طوال فترة تولّيه مناصبه الوزارية، أي مؤشّرات فساد، بل يرى راصدو مسيرته أنه أظهر، بعد تولّيه رئاسة الوزراء، قدرات سياسية لافتة عبر التعامل مع ملفات سياسية واقتصادية طرحها بقوة عبر ما سمّاه «الدبلوماسية المنتجة».

وعلى الرغم من أن التحدي السياسي الأول الذي كانت كل التوقعات تشير إلى أنه سيواجهه، هو انسحاب «التيار الصدري»، بزعامة رجل الدين الشيعي الشاب والراديكالي مقتدى الصدر، فإن المفاجأة التي لم يكن يتوقّعها أحد هو صمت الصدر وتياره عن استهداف السوداني وحكومته، إذ استمر الصمت بينما لم تتوقف الانتقادات الحادّة التي دأب الصدر على توجيهها إلى قيادات «الإطار التنسيقي» الشيعي، الذي يُعدّ الكتلة البرلمانية الأكبر حجماً التي شُكلت منها حكومة السوداني.

أكثر من هذا، مع أن الصدر ذهب بعيداً في إطلاق الأوصاف على «الإطار التنسيقي»، بما في ذلك إطلاق لقب «بني العباس» على قيادات تلك الكتلة، فإنه لم يوجه أي نقد مباشر للسوداني وحكومته. وللعلم، كان الصدر، قبل انسحابه المدوّي من البرلمان في شهر يونيو (حزيران) 2022، قد خاض مع قوى «الإطار التنسيقي» معركة بدت وكأنها «معركة كسر عظم» داخل «المنطقة الخضراء»، وأعلن على الأثر انسحابه الكامل من العملية السياسية.

ازدحام وسط العاصمة العراقية بغداد (آ ف ب)

نار تحت الرماد

في أية حال، انسحاب الصدر وتياره، وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات، بقي بمثابة «نار تحت الرماد» تهدّد الحكومة التي شكّلها «الإطار التنسيقي» الشيعي بوصفه الكتلة البرلمانية الأكثر نواباً، وبعد ذلك تحالف مع حلفاء الصدر السابقين ضمن تحالف «إنقاذ وطن»، وهما «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني، وحزب «تقدّم» بزعامة محمد الحلبوسي. غير أنه طوال سنة كاملة لم يكن هناك أي احتكاك بين جمهور الصدر العريض، وبين الحكومة أو داعميها، وفي مقدمتهم ائتلاف «إدارة الدولة» الذي أصبح أكبر كتلة داعمة لحكومة السوداني في البرلمان بعدد نواب يبلغ 180 نائباً من مجموع أعضاء البرلمان العراقي، البالغ عددهم 329 عضواً.

التحدي الثاني

أما التحدي الثاني، الذي كان متوقعاً، والذي كانت تتحسّب له قوى «الإطار التنسيقي» من خَصمها القوي التيار الصدري وزعيمه، بدا بمثابة تحدٍّ مؤجَّل حتى حان وقت تفعيله قبل أقل من شهر، وعندها تحوَّل إلى البند الثاني في سلسلة التحديات التي تواجه حكومة السوداني وداعميها. فالقوى السياسية التي بدا أنها استفادت من انسحاب الصدر، ومن ثم صمته، وفي مقدمتها خصومه الشيعة (أي قوى الإطار التنسيقي) عملت بقوة على تأخير إجراء الانتخابات البرلمانية، والتركيز على الانتخابات البديلة التي هي مجالس المحافظات.

هذه المجالس، التي توقّف العمل بها منذ نحو 7 سنوات، أعادتها إلى العمل «المحكمة الاتحادية العليا»، مع أن إلغاءها كان أحد مطالب التظاهرات الجماهيرية الكبرى التي اندلعت في العراق، في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، والتي أدت، في وقت لاحق، إلى إسقاط حكومة عادل عبد المهدي. إلا أن «المحكمة الاتحادية» أفتت فيما بعد بجواز عودتها بوصفها واردة بالنص في الدستور العراقي.

والواقع أن تأجيل الانتخابات البرلمانية بدا خياراً أساسياً لمعظم القوى السياسية، ولا سيما الشيعية منها، التي حصلت على 73 مقعداً إضافياً بعد انسحاب الصدر، وهو ما لا يمكنها الحصول عليه في حال أُجريت انتخابات جديدة. وبناءً عليه، رأت هذه القوى أن مِن مصلحتها إجراء انتخابات المجالس المحلية لكي تهيمن على الحكم المحلي بالكامل، عبر هيمنتها على مجالس المحافظات، بما في ذلك إقصاء عدد من المحافظين الذين لم يدخلوا في معطف أي من هذه القوى.

لذا غَدَت الرهانات المتقابلة والتداعيات المحتملة، مع اقتراب موعد إجراء تلك الانتخابات يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) 2023 الحالي، ثم مع إعلان الصدر لجمهوره بمقاطعة تلك الانتخابات، التحدي الثاني أمام حكومة السوداني. أضف إلى ذلك أن الحكومة تُعِد العُدة بعد أقل من شهرين من قطف ثمار عدد من المشروعات المهمة التي أمكنها إنجازها، ومن بينها عدد من مشروعات فك الاختناقات المرورية في العاصمة بغداد، التي تحوّلت الآن إلى ورشة عمل من أجل إكمال تلك المشروعات.

في المقابل، مع أنه لا توجد مؤشرات على إمكانية إقدام «التيار الصدري» بتصعيد قد يؤدي إلى عرقلة إجرء تلك الانتخابات، تظل المخاوف قائمة من إمكانية حصول أمر قد يؤدي إلى خلط الأوراق، وربما يضع الحكومة في مأزق سياسي لا تريد الوقوع فيه، ما دامت تجد نفسها قطعت شوطاً مهماً على صعيد إنجاز ما وعدت به الناس.

أمر آخر مهم هو أنه بينما تُراهن الحكومة على إحجام الصدر عن محاولة عرقلة هذا المسار، وهو الذي يرفع شعار الإصلاح ومحاربة الفاسدين الذي تقول الحكومة الحالية إنها تلتزم به، فإن خصوم الصدر في قوى «الإطار التنسيقي» ليسوا مطمئنين إلى إمكانية سماحه لهم بالهيمنة على مجالس المحافظات، كما هيمنوا على البرلمان بعد انسحابه.

ومن ثم، فبين الرهانات على ألا يحصل عرقلات وتسير الانتخابات بصورة طبيعية... وبين التداعيات المحتملة لأية عرقلة قد تعني اضطرار الحكومة لتطبيق القانون الضعيف أصلاً في العراق، تجد حكومة السوداني نفسها أمام مأزق سياسي على صعيد مواجهة هذا التحدي.

الفصائل أم «أمراء الحرب»؟

وأخيراً نصل إلى التحدي الثالث.

التحدي الثالث الذي بات يواجه حكومة السوداني، بل مجمل الأوضاع العامة في العراق - سياسياً واقتصادياً - هو المتغيّر الذي لم يكن محسوباً حتى يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما اندلعت حرب غزة وبدأت الفصائل العراقية المسلّحة تتحرك، بعد «هدنة» استمرت أكثر من سنة.

هذه «الهدنة» كانت قد جعلت الحكومة تشرع في اتخاذ مزيد من الإجراءات على صعيد تطبيق البرنامج الحكومي. ومع أن موقف الفصائل المسلَّحة حيال الوجود الأميركي في العراق، وطريقة التعامل معه بعد أحداث غزة، ما كان موحّداً... فإنه أضحى الآن موضع قلق، وبالأخص، لجهة الرد الأميركي المحتمل ضد هذه الفصائل، أو الحكومة العراقية بشكل عام، أو كيفية احتواء الأزمة في حال حصلت تداعيات في الشارع.

حقيقة الأمر أن العراق الآن على مشارف انتخابات محلية تبدو مصيرية لغالبية القوى السياسية. والفصائل التي أعلنت أنها «حرّرت العراق عسكرياً»، طبقاً لبيان صَدَر عن قيادة إحدى هذه الفصائل - وهي «النجباء» - بدأت بقصف القواعد الأميركية في العراق، بينما تكرر الحكومة العراقية تحمُّلها مسؤوليتها حيال حماية البعثات الدبلوماسية والمستشارين الأميركيين الموجودين في العراق بطلب من الحكومة العراقية. وما يجدر ذكره، في هذا السياق، أنه بينما بَدَت الفصائل المسلَّحة التي لديها تمثيل سياسي في البرلمان والحكومة مثل «عصائب أهل الحق»، و«بدر»، وغيرها أكثر انسجاماً مع موقف الحكومة، يلاحَظ أن فصائل أخرى تلتزم بموقف الحكومة؛ أبرزها «النجباء»، و«كتائب حزب الله»، و«كتائب سيد الشهداء»... وفصائل أخرى تحت عناوين وذرائع مختلفة.

في ضوء هذا الواقع، لعل الانقسام الحاصل بين الفصائل التي تؤيد موقف الحكومة حيال حرب غزة، فضلاً عن تأكيدها الدائم حماية البعثات الدبلوماسية والتحالف الدولي في العراق، والفصائل التي أعلنت الحرب على الأميركيين داخل العراق، شجع مستشار رئيس الوزراء للشؤون الخارجية على تصنيف بعض قادة هذه الفصائل «أمراء حرب»، وهذه تسمية جديدة ما كانت تُستخدم في السابق.

وفي مقابل ما ذُكر، فإن حكومة السوداني أدانت أخيراً عملية قصف الطيران الحربي الأميركي مواقع عدد من هذه الفصائل في منطقة جرف الصخر، جنوب بغداد، لكن اللافت أن تلك الإدانة لم ترْقَ إلى مستوى تقديم الإحتجاج الرسمي، مثلما علّقت أطراف عراقية مناوئة للوجود الأميركي في العراق. ذلك أن «اللغة الدبلوماسية» التي كُتب بها البيان بدقة وعناية بدت كما لو كانت تسير على حبل مشدود بين واشنطن من جهة، والفصائل المسلّحة من جهة أخرى. وربما يفسَّر هذا الأمر بتأكيد الحكومة العراقية المستمر حاجتها إلى التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، فضلاً عن تمسك الحكومة باتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقَّعة بين بغداد وواشنطن عام 2008.

من جانب آخر، لا تستطيع الحكومة المُضي قدماً باتجاه مزيد من التصعيد مع هذه الفصائل؛ لأسباب عاطفية تتصل مرةً بالحرب في غزة، ومرة ثانية بتداخل المواقف بين ما يتخذه العراق من إجراءات لدعم الشعب الفلسطيني، وموقفه من الوجود الأميركي في العراق، وهذا على الرغم من الانحياز الأميركي الكامل لإسرائيل في أحداث غزة.

وحقاً، اكتفت اللهجة التي تضمّنها البيان الحكومي العراقي بما هو وارد في بيانات ذات لمسة دبلوماسية معتادة بين الدول... حتى وإن بَدَت شديدة أحياناً، ذلك أن البيان يقول: «ندين بشدة الهجوم الذي استهدف منطقة جُرف الصخر، والذي جرى دون علم الجهات الحكومية العراقية؛ ما يُعدّ انتهاكاً واضحاً للسيادة، ومحاولة للإخلال بالوضع الأمني الداخلي المستقر، فالحكومة العراقية هي المَعنية حصراً بتنفيذ القانون، ومحاسبة المخالفين». وهنا، القول بأن الهجوم وقع دون علم الحكومة العراقية بدا رسالة احتجاج لواشنطن، فمن جهة يثير مسألة أنه وقع دون علمها رغم أن اتفاقية الإطار الإستراتيجي تُلزمها بذلك. ومن جانب آخر، بدا أشبه برسالة «طمانة» للفصائل المسلَّحة بأن الحكومة لم تمنح واشنطن «الضوء الأخضر» بأي شكل من الأشكال، وهو ما عدّته انتهاكاً للسيادة.

ليس هذا فحسب، بل إن البيان الحكومي كان قد كرَّر الترحيب بالتحالف الدولي، في سياق القول إن «وجود التحالف الدولي في العراق هو وجود داعم لعمل قواتنا المسلَّحة عبر مسارات التدريب والتأهيل وتقديم الاستشارة، وأن ما جرى يُعدّ تجاوزاً واضحاً للمهمة التي توجد من أجلها عناصر التحالف الدولي لمحاربة (داعش) على الأراضي العراقية؛ لذلك فإنها مدعوّة إلى عدم التصرف بشكل منفرد، وأن تلتزم سيادة العراق التي لا تهاون إزاء خرقها بأي شكل كان».

فؤاد حسين (رويترز)

تعايش حرج ومحيّر بين سلطات بغداد والوجود العسكري الأميركي

> في حالات ومواقف كتلك التي يشهدها العراق، غالباً ما تُصدر القوى السياسية بيانات هي الأقرب لما يمكن تسميته «إسقاط الفرض» أكثر مما يعبر عن حقيقة مواقفها، وذلك ما دامت الحاجة قائمة للتعبير عن مواقف معينة أمام وسائل الإعلام والرأي العام.

وبناء عليه، فإن البيانات التي صدرت أخيراً عن عدد من القيادات العراقية الشيعية تحديداً، تراوحت بين أمرين:

- شدة اللهجة عبر تكرار الدعوة للحكومة بتنفيذ قرار البرلمان الصادر عام 2020 بإخراج القوات الأميركية من البلاد.

- محاولة التوفيق بين التنديد والدبلوماسية.

هادي العامري، زعيم تحالف «الفتح»، وقيس الخزعلي زعيم «عصائب أهل الحق»، كانا في طليعة الداعين إلى إخراج الأميركيين. وهذه الدعوة تكررت عشرات المرات، طوال السنوات الماضية. وفي المقابل، حاول زعيم ائتلاف «دولة القانون» نوري المالكي - ولا يزال - بين التنديد وبين ترك مساحة للعمل الدبلوماسي، وهذا ما ظهر عبر تأكيده، في البيان الذي أصدره، أن «الحكومة العراقية ملتزمة بحماية البعثات الدبلوماسية»، وهو ما يعني أن التعهد قائم لجهة حماية البعثات، ولكن ليس بالضرورة القواعد التي يتمركز فيها الأميركيون.

أما على صعيد البعثات الدبلوماسية، فإن السفارة الأميركية، التي تحتل المساحة الأكبر داخل «المنطقة الخضراء» المحصَّنة والمُطلّة على نهر دجلة، لم تتعرض لأي قصف من أي نوع، طوال فترة التصعيد الأخيرة، ثم إن السفارة نفسها لم تُطلق، ولو من باب التجريب، منظومة «سيرام» التي تحمي مقر السفارة، مثلما كانت تفعل سابقاً حين كانت هدفاً للفصائل التي كانت تنفي مسؤوليتها وعلمها بتلك الضربات، ولا سيما أيام حكومة رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي.

من جهته، بدا وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين حائراً حين استقبل السفيرة الأميركية في بغداد، إلينا رومانسكي، بل إن رومانسكي بدت هي الأخرى حائرة في كيفية التعامل مع أزمة التصعيد الأخيرة، بعدما وسّعت الفصائل المسلَّحة نطاق هجماتها، وإن كانت لم تطاول السفارة، ولا سيما، بعدما وسّعت واشنطن، في مقابل ذلك، نطاق الضربات لتصل إلى عقر دار تلك الفصائل.

الوزير حسين، وفق البيان الذي صدر عقب لقائه مع السفيرة رومانسكي، لم يُسلّمها رسالة احتجاج دبلوماسية، وهذا جانب أخذه عليه عدد من الأطراف السياسية العراقية المقرَّبة من الفصائل، ما يوحي بأن بغداد، وإن كانت قد أدانت الهجمات، فإن لهجتها الدبلوماسية لم تبلغ حد الاحتجاج الرسمي. والحقيقة أن البيان، الذي صدر، الخميس الماضي، اكتفى بالقول إن وزير الخارجية فؤاد حسين أكد رفض بلاده «التصعيد الأميركي الأخير»، المتمثل بقصف موقعين تابعين للفصائل المسلَّحة ضمن «الحشد الشعبي»، معتبراً ذلك «تجاوزاً لسيادة العراق». وهذا بينما هاجمت الفصائل مجدداً قاعدة حرير، التي تضم جنوداً أميركيين في أربيل بإقليم كردستان. وجاء في نص البيان أن «الوزير أكد للسفيرة رفضه التصعيد الأخير الذي شهدته الساحة العراقية، خلال اليومين الماضيين». وشدد على أنه «تصعيد خطير، وفيه تجاوز على السيادة العراقية، التي نلتزم بصونها وحفظها، وفق الواجبات الدستورية والقانونية للحكومة». وأكد «إدانة حكومة العراق الهجوم الذي استهدف منطقة جُرف الصخر، والذي جرى دون علم الجهات الحكومية العراقية»، عادّاً ذلك انتهاكاً واضحاً للسيادة العراقية، وأنه «مرفوض بالاستناد للسيادة الدستورية العراقية والقانون الدولي».‏


معبر رفح... «شريان حياة» غزة المتخثر

معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)
معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)
TT

معبر رفح... «شريان حياة» غزة المتخثر

معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)
معبر رفح ... أهمية استراتيجية وضرورة إنسانية (آف ب)

تريد مصر، ومعها دول عدة، معبر رفح مساراً منتظماً لإنقاذ سكان القطاع ودعم صمودهم على أراضيهم، عبر إدخال مساعدات إغاثية بكميات وأنواع تعين أبناء أكبر مناطق العالم ازدحاماً سكانياً على تحدي إجراءات القتل اليومي والحصار الخانق التي تمارسها بحقهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

وفي المقابل، لا تخفي إسرائيل - أو على الأقل قطاعات نافذة فيها - رغبتها في أن يكون عمل ذلك المعبر في اتجاه واحد فقط، يخرج منه سكان غزة بلا عودة، فيما العراقيل والعقبات، بذرائع أمنية غالباً، كفيلة بتعطيل حركة الدخول، وتحويل المعبر إلى شريان متخثر. وهذا «الشريان» لا يمنح غزة حياة ينتظرها الملايين وراء أسوار المعبر الوحيد الذي لا تسيطر عليه سلطات الاحتلال رسمياً، لكنها قادرة على تعطيل الجانب الفلسطيني منه بسلطة الأمر الواقع، وقد فعلت مراراً. وما بين الموقفين، يتردد اسم معبر رفح على ألسنة الساسة والنشطاء، وأولئك الذين يتابعون الأحداث عبر شاشات التلفزيون. وجُل هؤلاء، وإن كانوا لا يستوعبون كثيراً تعقيدات السياسة والاتفاقات القانونية التي تحكم عمل المعبر، يأملون بنية صادقة أن يروا أبوابه مفتوحة في الجانبين، تحمل آمالاً بيضاء لسكان غزة بقرب انتهاء آلامهم الدامية، بعدما اختزلت الأسابيع الماضية اللون الأبيض في عيونهم في لون الأكفان.

معبر... له تاريخ

صنعت المعارك العربية الإسرائيلية، وكذلك تحولات السياسة، تاريخ معبر رفح. وعقب انتهاء حرب فلسطين الأولى عام 1948 ألغيت الحدود بين مصر وغزة، وخضعت المنطقة للسيطرة المصرية. إلا أن إسرائيل عادت لاحتلال المنطقة مع شبه جزيرة سيناء في 1967، وبذلت يومذاك محاولات لتهجير سكان القطاع وتوطينهم في سيناء، إلا أن تلك المحاولات لم تحرز إلا نجاحاً محدوداً.

وبعد توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 وانسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء عام 1982، أعيد بناء «معبر رفح البري» رسمياً. ثم بموجب «اتفاقية أوسلو» عام 1993 اتفق على إعادة فتح المعبر للأفراد والبضائع. في حينه بقي الجانب الواقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت سيطرة هيئة المطارات الإسرائيلية حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2005، عندما قررت سلطات الاحتلال «إعادة الانتشار» والخروج من القطاع وإغلاق مستوطناتها فيه. وأقرّ الاتفاق نشر مراقبين أوروبيين لمراقبة حركة المعبر بمشاركة مصر، فنصت اتفاقية المعابر الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عام 2005 على أن «يخضع المعبر للسيطرة الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أوروبية تراقب حق الجانب الفلسطيني في العبور والتبادل التجاري، بما لا يمس الأمن الإسرائيلي».

وفقاً للاتفاقية، ينحصر استخدام المعبر على حاملي بطاقة الهوية الفلسطينية مع استثناء لغيرهم أحياناً، بإشعار مسبق للحكومة الإسرائيلية وموافقة الجهات العليا في السلطة الفلسطينية، بينما تم تحويل كل حركة البضائع إلى معبر كرم أبو سالم الحدودي. وتُعلم السلطة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية حول عبور شخص من الشرائح المتوقعة؛ الدبلوماسيين والمستثمرين الأجانب والممثلين الأجانب لهيئات دولية معترف بها، والحالات الإنسانية، وذلك قبل 48 ساعة من عبورهم. وترد الحكومة الإسرائيلية خلال 24 ساعة في حالة وجود أي اعتراضات مع ذكر أسباب الاعتراض.

في يوم 27 نوفمبر 2005، بدأ العمل باتفاقية المعابر، وفُتح المعبر بشكل جزئي بين 4 و5 ساعات في اليوم، لمدة 3 أسابيع، بحجة عدم استكمال أفراد بعثة المساعدة الحدودية للاتحاد الأوروبي. وفي منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2005، زيد عدد ساعات العمل إلى 8 ساعات يومياً. لكن المعبر الذي أدت تفاهمات السياسة إلى تشغيله، أعادت المواجهات العسكرية إغلاقه. وفي 25 يونيو (حزيران) 2006، صعّدت إسرائيل حصارها على غزة بصورة غير مسبوقة عقب وقوع الجندي جلعاد شاليط في أسر 3 مجموعات فلسطينية مسلحة عند معبر كرم أبو سالم، وكان إغلاق الجانب الفلسطيني من معبر رفح ضمن الردود والضغوط الإسرائيلية على الفلسطينيين لإطلاق سراح الجندي الأسير.

صفحة مليئة بالارتباك

في أعقاب سيطرة حركة «حماس» على غزة في يونيو 2007، كان معبر رفح على موعد مع صفحة جديدة مليئة بالارتباك والخلافات والتغييرات الإدارية بشأن من يتحكم في المعبر ويسيطر عليه. إذ عارضت «حماس» مشاركة إسرائيل في تشغيل المعبر، كما توقفت الرقابة الأوروبية بسبب غياب قوات السلطة الفلسطينية، ورفض الأوروبيين التعامل مع الموظفين المحسوبين على «حماس»، الأمر الذي أدى إلى إبقاء المعبر مغلقاً.

«حماس» من جهتها طالبت بفتح معبر رفح دون قيد أو شرط، وجعلت ذلك أحد شروط التهدئة مع إسرائيل أو الدخول في مصالحة مع السلطة، في حين اعتبرت مصر أن المعبر في ظل غياب السلطة الفلسطينية والرقابة الأوروبية لا تتوافر فيه الشروط الواردة في الاتفاق، ومن ثم اعتبرت نفسها في حِلٍ من تشغيله بشكل طبيعي.

وعلى مدى سنوات ما قبل 2011، تحول المعبر إلى ورقة ضغط متبادلة، يحاول كل طرف توظيفها لخدمة سياساته، لكن مصر عادة ما كانت تفتح المعبر للحالات الإنسانية أثناء المواجهات بين إسرائيل وغزة، بما في ذلك دخول المساعدات الإنسانية، واستقبال الجرحى والمصابين.

في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ورئيس وحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، إن التعامل المصري مع معبر رفح يخضع لاعتبارين أساسيين؛ الاعتبار الأول هو ممارسة السيادة الكاملة على الجانب المصري، وهذه مسألة «لا جدال فيها قانونياً أو سياسياً»، فإدارة الجانب المصري من المعبر «قرار سيادي تحكمه اعتبارات حماية الأمن القومي المصري في الأساس». والاعتبار الثاني كان التزام مصر بتعهداتها الدولية فيما يخصها من اتفاقيات المعابر التي تنظم الحركة على الجانب الفلسطيني من المعبر.

وأضاف فهمي أن مصر لم تتوانَ في أي وقت، رغم توتر العلاقة مع «حماس» أحياناً، في تسهيل الدخول والخروج من المعبر للحالات الإنسانية، ولدعم القطاع بالمساعدات، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن «غياب» إسرائيل بشكل رسمي على الجانب الفلسطيني من المعبر لا يعني انتفاء تأثيرها. ومن هنا تأتي أهمية التفاهمات الدولية التي تنظم حركة الدخول من المعبر وإليه. وهذا أحد الأسباب التي دفعت القاهرة إلى إجراء اتصالات مكثفة لتأمين حركة دخول المساعدات إلى القطاع عقب عملية «طوفان الأقصى»... إذ إن إسرائيل تستطيع عرقلة الحركة على الجانب الآخر، وقد قصفت بالفعل البوابة الفلسطينية عدة مرات، ولم تتوقف عن ذلك إلا عقب اتصالات مصرية وتفاهمات أميركية.

الهروب تحت الأرض

على مدى سنوات، حتى قبل سيطرة «حماس» على قطاع غزة، سعى الفلسطينيون إلى إيجاد وسيلة لتدبير احتياجاتهم، يتحكمون فيها ولا تتحكم هي فيهم، حتى لو كان ذلك البديل «تحت الأرض»، وهذا يعني ترك ما فوق الأرض لتعقيدات السياسة والقانون. وهكذا، وضع الغزيون «قانون الأنفاق»، وتحولت التجارة والتهريب عبرها إلى حركة نشطة ومصدر رزق لكثيرين على الجانبين، بيد أنها صارت لاحقاً أحد أخطر مصادر تهديد الأمن القومي المصري.

كثير من الوقائع رافقت أحداث 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، ومنها ما أشارت إليه تقارير إعلامية مصرية عن مشاركة عناصر من حركة «حماس» في الهجوم على السجون المصرية، وتهريب كثير من العناصر المطلوبة أمنياً عبر الأنفاق، بل وصول كثير من السيارات المصرية المسروقة خلال فترة الانفلات الأمني آنذاك عبر الأنفاق إلى قطاع غزة. ولكن مع هذا قررت السلطات المصرية فتح المعبر بشكل دائم اعتباراً من مايو (أيار) من ذلك العام. وبالفعل، وصلت مدة عمل المعبر في تلك الفترة إلى 6 ساعات يومياً، مع فرض إجراءات صارمة في المراقبة وضبط الحركة على الجانب المصري.

إلا أن ظهور خطر التنظيمات الإرهابية كان واحداً من المخاطر الكبرى التي دفعت بالسلطات المصرية إلى التعامل بحزم مع الأنفاق، التي باتت «شريان حياة» لتنظيمات إرهابية تدبر احتياجاتها البشرية ومن الأسلحة عبر شبكة معقدة من الأنفاق السرّية. وفي شهر يوليو (تموز) عام 2013 أغلق المعبر لدواعٍ أمنية، بالإضافة إلى استخدام حلول هندسية لإعادة تأمين المنطقة بالكامل والقضاء تماماً على خطر الأنفاق. ورغم الآمال الكبيرة التي عقدها الفلسطينيون على إمكانية انتظام الحركة من خلال معبر رفح، عقب توقيع حركتي «فتح» و«حماس» في القاهرة اتفاق مصالحة في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، والنص على تسلم السلطة الفلسطينية إدارة القطاع سعياً لإنهاء الانقسام الداخلي المستمر منذ منتصف 2007، بددت عودة الخلاف والانقسام تلك الآمال، ما حال دون تطبيق الاتفاق.

مع ذلك أبدت مصر التزاماً من جانبها بفتح المعبر أمام الأفراد الحاصلين على «تصريح أمني» مع إلزامية الخضوع لعمليات تفتيش. ووفقاً للأمم المتحدة، سمحت السلطات المصرية في أغسطس (آب) 2023، بمغادرة 19608 مسافرين من غزة، ورفضت دخول 314 شخصاً عبر المعبر باتجاه مصر. واستخدمت مصر المعبر في إدخال المعدات ومواد البناء اللازمة لعملية إعادة إعمار غزة، التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم 18 مايو 2021، معلناً عن تبرع القاهرة بمبلغ 500 مليون دولار لعمليات إعادة الإعمار بالقطاع، بعد نجاح مصر في التهدئة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. وأدخلت مصر حينذاك في مشهد احتفالي المعدات والشاحنات التي تحمل مواد البناء المختلفة عن طريق معبر رفح للقيام بعمليات التشييد لأحياء سكنية كاملة.

ما بعد الـ«طوفان»

لأن ما قبل يوم 7 أكتوبر، الذي شهد تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، ليس كما بعده، صار معبر رفح جزءاً من الحدث وصناعة التاريخ. فقبل هجوم «حماس» كانت السلع تدخل إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم، الذي تديره إسرائيل، لكن منذ اندلاع الحرب، أغلقت تل أبيب كل معابرها مع القطاع، في محاولة لخنق غزة، التي لا يخفي قادة الدولة العبرية رغبتهم القديمة المتجددة، في أن يبتلعها البحر. وفعلاً، قرّروا هذه المرة أن يمطروا قطاع غزة كله بآلاف الأطنان من المتفجرات، في محاولة لدفع سكانه إلى النزوح نحو الجنوب نحو الحدود المصرية، وفيها معبر رفح، الذي أضحى الشريان الوحيد لبقاء سكان القطاع على قيد الحياة.

ولأن إسرائيل تدرك أنه لن يبقى للفلسطينيين سوى معبر رفح للبقاء على قيد الحياة، قصفت جانبه الفلسطيني عدة مرات، وأعلنت مصر في الأيام الأولى من الحرب أن «المعبر مفتوح، لكن لا يمكن استخدامه بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، وتدمير البنية التحتية للبوابة للجانب الآخر منه». وعلى سبيل المثال، في 10 أكتوبر قصف جيش الاحتلال منطقة المعبر من جانب غزة 3 مرات خلال يوم واحد.

وعبر سيل من الاتصالات السياسية والضغوط المتبادلة، عرفت شاحنات المساعدات المتكدسة أمام المعبر طريقها للمرة الأولى إلى القطاع في 21 أكتوبر الماضي. ورغم المعوقات الإسرائيلية، التي انتقدتها مصر أكثر من مرة، بقي دخول بضع عشرات من الشاحنات إلى القطاع الذي كانت تصله، وفق تقديرات الأمم المتحدة، نحو 500 شاحنة يومياً، رمزاً لمقاومة حصار إسرائيلي خانق ومساعٍ لا تهدأ من أجل دفع سكان القطاع إلى الهروب من جحيم القصف وسوء المعيشة، بينما لم تدخل أي شاحنة وقود سوى بعد أكثر من 40 يوماً من بداية العدوان الإسرائيلي.

في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، اعتبر السفير حسين هريدي، مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً، معبر رفح «جزءاً من حقائق التاريخ والجغرافيا التي تفرض على مصر التزامات إنسانية وقومية تجاه الشعب الفلسطيني». وأردف أن الموقف المصري بتسخير المعبر لدعم صمود الشعب الفلسطيني يجسد هذه الثوابت، لكنه «يعكس كذلك دوراً لا غنى في حماية الأمن القومي المصري، وبخاصة في مواجهة مخططات تهجير الفلسطينيين الراهنة».

ويرى هريدي أن التحرك المصري سياسياً ودبلوماسياً للدفع باتجاه حشد الدعم الدولي عبر معبر رفح يمثل «وسيلة ضرورية» لمواجهة المحاولات الإسرائيلية لدفع سكان غزة إلى النزوح من أراضيهم تحت وطأة الأعمال العسكرية الوحشية ضد المدنيين، أو عبر قطع الخدمات بحيث تستحيل الحياة، ويندفعون نحو الحدود المصرية. وشدد على ضرورة الضغط من أجل زيادة المساعدات كماً ونوعاً، ومنع سلطة الاحتلال من تنفيذ مخططها بإحكام الحصار على القطاع. تحول معبر رفح إلى «شريان حياة» لإنقاذ أكثر من مليوني فلسطيني


قطاع غزة... 6 معابر مغلقة وسماء وبحر «تحت السيطرة»


ميناء غزة المعطّل (رويترز)
ميناء غزة المعطّل (رويترز)
TT

قطاع غزة... 6 معابر مغلقة وسماء وبحر «تحت السيطرة»


ميناء غزة المعطّل (رويترز)
ميناء غزة المعطّل (رويترز)

> لقطاع غزة 6 معابر مع الجانب الإسرائيلي، أغلقتها تل أبيب كلها، وهي تستخدم حالياً كل الوسائل لعرقلة الحركة في المعبر الوحيد الذي لا تسيطر عليه، وهو معبر رفح. وللعلم، منذ فرض الحصار على غزة في يونيو (حزيران) 2007، ظلت 5 معابر بين غزة وإسرائيل أو الضفة الغربية مغلقة، بينما تسببت عملية «طوفان الأقصى» بإغلاق المعبر الأخير الذي كان يمرّ منه العمال الفلسطينيون للعمل في داخل إسرائيل.

تتضمن لائحة المعابر الإسرائيلية مع غزة كلاً من...

- معبر المنطار (كارني): وهو معبر تجاري يقع إلى الشرق من مدينة غزة على خط التماس الفاصل بين القطاع وإسرائيل، وهو مخصص للحركة التجارية.

- معبر بيت حانون (إيريز): يقع أقصى شمال القطاع، وهو مخصص لعبور العمال والتجار ورجال الأعمال والشخصيات المهمة، وهو مغلق الآن.

- معبر صوفا: في الجنوب الشرقي من خان يونس، وهو يصل القطاع وإسرائيل، ويستخدم لدخول العمال ومواد البناء إلى قطاع غزة.

- معبر كرم أبو سالم (كيرم شالوم): يقع جنوب القطاع، وهو مخصص لاستيراد البضائع من مصر، ويستخدم غالباً كبديل إسرائيلي لمعبر رفح.

- معبر ناحل عوز: وهو معبر مهجور ومغلق، حوّل لموقع عسكري، بعدما كان مخصصاً لدخول العمال والبضائع.

- معبر القرارة (كيسوفيم): يقع شرق خان يونس ودير البلح، وهو فعلياً بوابة التحرك العسكري الإسرائيلي لمهاجمة القطاع.

من ناحية أخرى، فإن سماء قطاع غزة وبحرها «تحت السيطرة» الإسرائيلية الدائمة والمحكمة. ولعقود أصرت تل أبيب على حرمان الغزيين من فرصة التواصل مع العالم، عبر إجهاضها كل سبل إعادة بناء المطار، أو إنشاء مرفأ تجاري، قد يوفر حال إنشائه وفق دراسات فلسطينية ما يربو على 50 ألف فرصة عمل لأبناء القطاع، الذي يعاني من أعلى معدلات البطالة عالمياً. هذا، وقد تضمنت اتفاقات دولية إشارة واضحة إلى مسألة بناء مطار دولي في غزة. ومن بينها اتفاقية القاهرة في مايو (أيار) 1994. وبدأ التشغيل الرسمي لـ«مطار غزة الدولي» الواقع شرق مدينة رفح أواخر 1998، لكن في خريف 2000 أوقفت إسرائيل المطار بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، ثم قصفته ودمرته نهائياً في 4 سبتمبر (أيلول) 2001. أما «ميناء غزة البحري» فكان مقرراً أن يبدأ العمل في إنشائه عام 1999، لكن مع بدء الانتفاضة الثانية، توقفت كل الخطط.


جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
TT

جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا

رافعاً شعار «أحبوا ليبيريا... ابنوا ليبيريا»، يعود السياسي المعارض جوزيف بواكاي (78 سنة)، في يناير (كانون الثاني) المقبل، إلى قصر الرئاسة في العاصمة الليببيرية مونروفيا. إلا أنه، هذه المرة، عائد رئيساً للجمهورية، لا نائباً للرئيس كما كان قبل ست سنوات مضت. وقد حقق بواكاي هذا الإنجاز على أثر تمكنه أخيراً من الفوز في الانتخابات على مُنافسه الرئيس جورج وياه (57 سنة)، نجم كرة القدم المحترف العالمي السابق الذي سبق أن فاز بـ«الكرة الذهبية»، وكان من أبرز نجوم الكرة الأوروبية خلال تسعينات القرن الماضي.

اعتاد جوزيف بواكاي الظهور في المؤتمرات العامة معتمراً قبعة، وعيناه شبه مغلقتين. وقد رصدته الكاميرات غافياً في بعض الفعاليات، حتى لقّب بـ«جو النائم»، وهو اللقب الذي كان قد ردّده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن غريمه السابق والرئيس الحالي جو بايدن.

وكحال بايدن، يعزو منتقدو بواكاي ذلك إلى كبر سنه، إذ إنه شارف على الثمانين. لكن الرئيس الجديد ونائب السابق - وهنا مفارقة أخرى تُذكّر بالرئيس الأميركي - يرى أن العمر «نعمة»، متعهداً بأنه قادر على «استعادة الأمل لبلاده، وحمايتها من السقوط في الهاوية».

حول تجربة وياه

قبل ست سنوات تغلّب النجم الكُروي اللامع وياه على بواكاي، حاملاً لجمهوره آمالاً كبيرة في ظل ما يحظى به من شهرة ومجد. إلا أن فترة حكمه شابتها اتهامات بالفساد والفوضى الإدارية، مما أسهم في خسارته الانتخابات الأخيرة أمام بواكاي، ولو بفارق ضئيل، ومن ثم بات بواكاي مطالباً بإصلاح الأخطاء وحماية ليبيريا من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، ولا سيما وسط حالة الانقسام الشديد التي بيّنتها نتائج الانتخابات، فقد حصل بواكاي على 50.64 في المائة من الأصوات، مقارنة بـ49.36 في المائة لصالح وياه.

حالة الانقسام هذه دفعت الرئيس المنتخب - قبيل إعلان النتيجة الرسمية - إلى التعهد بأنه سيركز، خلال الفترة الأولى من حكمه، على توحيد البلاد. ويضيف: «قبل كل شيء، نريد أن تكون لدينا رسالة سلام ومصالحة».

وحقاً، يواجه بواكاي تحديات عدة لإعادة بناء ليبيريا، الجمهورية الأقدم في أفريقيا، التي أُسست على يد مجموعة من المحرّرين من العبودية الأميركية عام 1847. ومع هذا، فإن كثيرين يُعوّلون على خبرته السياسية؛ كونه سبق أن شغل منصب النائب الـ29 لرئيس ليبيريا، في الفترة بين عاميْ 2006 و2017، إبان حكم إلين جونسون سيرليف، أول رئيسة دولة بأفريقيا.

نشأة متواضعة

كانت نشأة جو بواكاي، أو جوزيف نيوماه بواكاي، «متواضعة»، ولا سيما أنه بدأ حياته في قرية نائية بليبيريا تُدعى واسونغا، تابعة لمقاطعة لوفا. ويَعد بواكاي صعوده إلى مكانة بارزة على المستوى الوطني «قصة ملهمة لأي طفل أفريقي»، كما يذكر على موقعه الإلكتروني الرسمي، حيث وُلد في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1944، لأبوين ريفيين فقيرين يعيشان في قرية نائية وينتميان لشعب الكيسي الذي يمتدُّ عبر حدود ليبيريا إلى سيراليون وغينيا المجاورتين.

وبينما لم يعرف والداه القراءة والكتابة، حرص جو منذ الصغر على التعليم، وكان يقطع يومياً مسافة 300 ميل ذهاباً وإياباً إلى المدرسة من واسونغا إلى العاصمة مونروفيا. وفي إحدى مقابلاته الإذاعية قال إنه كان يقطع تلك المسافة «بحثاً عن حياة أفضل».

وبالفعل، إبّان طفولته، عمل بواكاي في عدة مهن لمساعدة أسرته، قبل أن يستقر في مونروفيا لاستكمال تعليمه، وهو واحد من الأطفال محدودي الإمكانيات المادية، لذا انتقل من منزل أسرة لآخر حتى تمكن من الالتحاق بكلية غرب أفريقيا. ونقلت «رويترز» عن المتحدث باسم حملته الانتخابية، عمارة كونيه، أنه «لتأمين رسوم الدراسة في تلك الفترة، عمل بوّاباً للمدرسة، وكان ينظف الأرضيات والمراحيض ليلاً ويدرس نهاراً».

نجاح علمي وعملي

تخرَّج بواكاي لاحقاً في جامعة ليبيريا بدرجة البكالوريوس في إدارة الأعمال. وخلال الإجازات، كان يبقى في السكن الجامعي للعمل على توفير احتياجاته المدرسية للفصل الدراسي التالي. كذلك درس وتخرج في جامعة كنزاس الحكومية «Kansas State University» الأميركية.

وظيفياً تدرّج بواكاي في وظائف عدة، منها العمل بشركة تسويق، سرعان ما ترقّى لإدارتها بوصفه أول ليبيري يتولى منصب مدير الشركة؛ وذلك بفضل نجاحه في بعض المشروعات، منها دعم تمكين مزارعي الكاكاو والبن ونخيل الزيت وتحسين دخلهم.

كفاءاته الشخصية والمهنية، مضافاً إليهما اهتمامه بالزراعة، كانت عوامل أهّلت بواكاي لتولّي منصب وزير الزراعة في الثمانينات من القرن الماضي، في فترة حكم صامويل إدو، الذي تولّى الحكم على أثر انقلاب عسكري. وكان أحد أبرز مشروعاته في تلك الفترة الإشراف على شق طريق جديدة وتمويلها في واحدة من القرى القديمة بطول 11.2 كيلومتر، كما شارك مع آخرين في بناء مدرسة لتعليم 150 طفلاً، إضافة إلى عيادة طبية لخدمة 10 قرى.

وأشرف بواكاي أيضاً على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة، من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويُعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا، ولا سيما أن نسبة عالية من السكان يعملون في الزراعة.

وفي عام 1991، شغل بواكاي منصب المدير الإداري للشركة الليبيرية لتكرير البترول «LPRC» في ظل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، التي أدارت البلاد إبان فترة الحرب الأهلية الأولى.

لكنه عقب الإطاحة بتلك الحكومة، توجه للعمل الخاص، وكثرت سفرياته إلى الخارج، وأمضى بعض الوقت في غانا. لكنه، في موطنه، يسكن في منزل بسيط لم يتغير منذ نحو 50 سنة، وهو متزوج، ولديه أربعة أبناء.

الحياة السياسية

يُعدّ جوزيف بواكاي من قيادات المعارضة البارزين في ليبيريا، وتتلخص رؤيته للقيادة، وفق قوله في أحد خطاباته، في «إيمانه بأن أداء الخدمات على أعلى مستوى أمر واجب». وبعد استقرار الأوضاع في البلاد، وعودة السلام إلى ربوعها بانتهاء الحرب الأهلية، انتُخب عام 2005 نائباً لرئيسة الجمهورية إيلين جونسون سيرليف، وهو المنصب الذي شغله لمدة 12 سنة.

هذه الخبرة في مجالي السياسة والإدارة يشجع المراقبين على توقع قدرته على الحكم بفاعلية، ثم إن هذه الخبرة كانت الركيزة التي اعتمد عليها بواكاي إبان حملته الانتخابية الأخيرة، وحتى في الانتخابات الرئاسية السابقة التي خسرها أمام جورج وياه عام 2017 في جولة الإعادة وبفارق ضئيل، حيث قال، في مقابلة تلفزيونية آنذاك، إنه «آتٍ ومعه ثروة من الخبرة... لماذا نطلب من أحد أن يتعلّم الوظيفة؟».

في هذا الإطار، يشير بواكاي كثيراً إلى فترة تولّيه منصب نائب الرئيس ومشاركته في عملية إرساء السلام بليبيريا، ووضعها على الطريق الصحيح، بعد فترة طويلة من الصراعات. ويذكر موقعه الإلكتروني الرسمي 58 إنجازاً طوال تاريخه العملي والسياسي، يُعدّ أكبرها «قدرته على الحفاظ على فترة سلام بعد 15 سنة من الحرب الأهلية».

في تلك الفترة عُرف بواكاي بالشخص الملازم والمخلص لرئيسة الجمهورية. ولعلّ هذا ما دفعه إلى خوض الانتخابات عام 2017، حين كان يصف نفسه آنذاك بأنه «سيارة سباق تصطفُّ في المرآب»، ثم يكرر خوض السباق مرة أخرى ضد منافسه وياه، ولا سيما مع ما شهدته فترة حكمه من مشكلات. والواقع أنه عندما أعلن ترشحه قال إنه يترشح اقتناعاً بأن «ليبيريا ليست دولة فقيرة، لكن مشكلتها الدائمة ترجع أساساً إلى افتقارها لقيادة سليمة ونزيهة».

الزراعة... أساساً

جوزيف بواكاي يَعدّ نفسه في مهمة هي «ضمان استعادة الصورة المفقودة لليبيريا». وقد ركّز في حملته الانتخابية على الزراعة، وفي أحد الحوارات الإعلامية قبل الانتخابات قال إنه «ينوي التركيز على محاربة الفساد وتعزيز الإنتاج الزراعي لتقليل تكلفة الطعام، إضافة إلى إصلاح الطرق». وتعهّد بتسليط سيفه على الفساد. وبين وعوده، خلال المائة يوم الأولى من حكمه، «التأكد من أنه لا توجد مركبة في الوحل»، معتبراً ذلك عاملاً مؤثراً على أسعار السلع الغذائية، ولا سيما مع زيادة تكلفة النقل في الطرق الموحِلة.

في هذا الشأن، يرى بواكاي أن الإمكانيات الزراعية لبلاده «واعدة»، لكن المشكلة كانت في سوء الإدارة، وهو رغم اعترافه بمشقة الرحلة الرئاسية، يقول إنه «عازم على مساعدة ملايين الليبيريين الذين تُركوا في مواجهة الفقر والمرض والجهل وانعدام الأمن».

من وجهة نظر داعميه، فإن ليبيريا تحتاج الآن إلى «عمله الجاد وخبرته»، بعد سنوات من حكم وياه شابتها الفوضى الإدارية. ويرى هؤلاء أن «حياته الخالية من الفضائح وسلوكه الهادئ يُعدّان الترياق الواقي من فترة حكم وياه».

من ناحية أخرى، مع أن معدل النمو الاقتصادي في ليبيريا بلغ، عام 2022، نحو 4.8 في المائة، فإن أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد الواقعة غرب أفريقيا، يواجهون نقصاً في الأمن الغذائي، وفق بيانات «البنك الدولي». كذلك ترتفع نسب البطالة وتعاطي المخدرات بين الشباب، ولا يمكن الاعتماد على إمدادات الطاقة في جميع أنحاء الريف المكسوّ بالغابات. وللعلم، في العام الماضي، احتلت ليبيريا المرتبة 142 بين 180 دولة في مؤشر الفساد الذي تُصدره «منظمة الشفافية الدولية».

كل هذه المشكلات تتربع على جدول أعمال بواكاي، الذي سيركز على ملفات التعليم والصحة والاقتصاد، بجانب الزراعة. وكما يقول ناطق باسم حملته: «سيعطي بواكاي الشعب الأمل، سيصلح الاقتصاد لتتحسن حياة كل فرد».

عامل السن

على صعيد مختلف، فور إعلان فوز الرئيس الجديد بالانتخابات، سارع عدد من الرؤساء والملوك إلى تهنئته، يتقدمهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي قال، في بيان صحافي: «أظهرت الانتخابات الحرة والنزيهة التزام الليبيريين بإسماع أصواتهم عبر صناديق الاقتراع... أتطلع للعمل معاً لتعميق العلاقات».

ولكن، في حقيقة الأمر، يثير سن بواكاي مخاوف لدى بعض منتقديه، الذين يعتبرون ذلك عقبة في إدارة بلد 60 في المائة من سكانه تحت 25 سنة. إلا أنه ردّ على ذلك، عدة مرات، خلال الحملة. وفي المقابل، يشدّد مؤيدوه على نزاهته وخبرته في محاربة الفساد، «وهو الذي عُرف عنه الدفاع عن النزاهة العامة»، ذلك أنه قال، في إحدى مقابلاته التلفزيونية: «الفساد بكل مظاهره يؤدي إلى التخلف والحرمان، وهذا ما يجب على القادة الأفارقة محاربته».اليوم، بعد انتهاء الكلام، يترقب الشعب الليبيري ما سيفعله بواكاي، آملين أن يخلصهم من عهود الفوضى والفساد، وأن يحافظ على البلاد؛ حتى لا تنزلق إلى هوة الحرب الأهلية من جديد.


ليبيريا... «أقدم» جمهوريات أفريقيا

صامويل دو
صامويل دو
TT

ليبيريا... «أقدم» جمهوريات أفريقيا

صامويل دو
صامويل دو

> تُعد ليبيريا أقدم جمهورية في أفريقيا، إذ أُسّست في 26 يوليو (تموز) 1847، بعد إعلانها مستوطنة للعبيد المحررين في الولايات المتحدة، الذين عادوا للعيش في غرب أفريقيا.

تبلغ مساحة ليبيريا نحو 111370 كيلومتراً مربعاً، ويعيش فيها 5.3 مليون شخص. أما قصتها فترجع إلى عام 1816 عندما أسست جمعية الاستعمار الأميركية، واشترت أراضي في مكان كان يعرف وقتها باسم «ساحل الفلفل»، أُطلق عليها اسم ليبيريا، نسبة إلى «ليبيرتي» (أي الحرية). ولقد عملت تلك الجمعية على إرسال العبيد المحررين في أميركا إلى الأرض الجديدة خوفاً من زيادة التوتر مع البيض في الولايات المتحدة.

بعد وصول مجموعة مكوّنة من 528 شخصاً إلى الساحل الأفريقي، تمكّن الوافدون الجدد من بناء مستوطنة قوية، بدأت تتوسّع تدريجياً بشراء أراضٍ جديدة عبر التفاوض مع السكان الأصليين. وواصلت من ثم استقبال العبيد الأميركيين المحررين، إلى أن وصل عدد مَن هاجر من أميركا إلى المستوطنة الوليدة نحو 15 ألفاً في الفترة بين عام 1822 واندلاع الحرب الأهلية الأميركية عام 1861.

وليام توبمان

في أربعينات القرن التاسع عشر، بدأت بريطانيا تبدي ضيقاً من المستوطنة، لا سيما مع فرض الأخيرة ضرائب على التجار البريطانيين في المنطقة. وفي المقابل، سعت المستوطنة إلى الحصول على دعم أميركا لمواجهة مضايقات البريطانيين، بيد أن واشنطن ترددت.

وفي عام 1847 تولى جوزيف جينكين روبرتس، المولود في ولاية فيرجينيا الأميركية، حكم المستوطنة، وأعلن استقلالها عن أميركا. ثم أصبح في العام التالي أول رئيس منتخب في ليبيريا. وظل روبرتس يحكم البلاد حتى عام 1856. وفي عهده انتهت تجارة العبيد تماماً، وتوقفت سفن العبيد عن الرسو في موانئ بلاده بمساعدة بريطانيا وأميركا.

وأيضاً في تلك الفترة، أصدرت ليبيريا دستوراً مماثلاً للدستور الأميركي، وكذلك علمها الوطني يشبه العلم الأميركي تماماً ولكن بنجمة واحدة. وحتى الآن فإن نحو 5 في المائة من السكان تعود جذورهم لهؤلاء العبيد المحررين، بينما ينتمي السواد الأعظم إلى شعوب وقبائل عديدة. أما بالنسبة للتوزيع الديني فيشكّل المسيحيون غالبية تربو على 80 في المائة، ويأتي المسلمون في المرتبة الثانية بأكثر من 12 في المائة.

اعترفت دول عدة باستقلال ليبيريا بين عامي 1848 و1956، إلا أن الاعتراف الأميركي تأخر حتى عام 1862. ومن جهة ثانية، واجهت ليبيريا تحديات عديدة ومحطات تاريخية مهمة، وتعاقب على رئاستها منذ الاستقلال 26 رئيساً، آخرهم جوزيف بواكاي الذي سيتولى مهام منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

إيلين جونسون سيرليف

وفي ما يلي أبرز المحطات في تاريخ ليبيريا:

- عام 1847 أعلنت ليبيريا الاستقلال ووضعت دستوراً مماثلاً للدستور الأميركي.

- عام 1917 أعلنت الحرب على ألمانيا ومنحت «الحلفاء» قاعدة في غرب أفريقيا.

- عام 1926 أصبح المطاط العمود الفقري لاقتصاد ليبيريا.

- عام 1936 أُلغي العمل القسري.

- عام 1943 انتُخب وليام توبمان رئيساً للبلاد، الذي حكم البلاد حتى عام 1971، وقاد إصلاحات عدة، من بينها منح النساء حق التصويت في الانتخابات.

- عام 1951 سُمح للنساء والسكان الأصليين بالتصويت في الانتخابات الرئاسية للمرة الأولى.

- عام 1958 أصبح التمييز العنصري غير قانوني.

- عام 1980 أطاح انقلاب عسكري قاده صامويل دو بالرئيس وليام تولبرت، الذي أُعدم و13 من مساعديه. ومن ثم، سيطر دو على السلطة، وفاز بالانتخابات الرئاسية عام 1985، بعد سماحه بعودة الأحزاب السياسية استجابةً لضغوط أميركية.

- بين 1989 و1997 اندلعت الحرب الأهلية الليبيرية الأولى. وشهدت إعدام الرئيس دو على يد مجموعة منشقة عام 1990. ثم وقّع اتفاق سلام بين الفصائل المتصارعة عام 1996 بعدما تسببت الحرب في قتل 200 ألف شخص.

- في عام 1997: فوز تشارلز تايلور بالرئاسة.

- بين 1999 و2003: لم تطل فترة السلام طويلاً في عهد تايلور، بل اندلعت الحرب الأهلية الثانية، التي أسفرت عن مقتل 50 ألف شخص.

- عام 2005: أصبحت إيلين جونسون سيرليف أول امرأة تتولى الرئاسة في أفريقيا، ونجحت حقاً بقيادة البلاد في الفترة التي تلت الحرب الأهلية.

- بين 2013 و2016: عانت ليبيريا بشدة من انتشار فيروس الإيبولا في ليبيريا وغينيا وسيراليون، الذي أسفر عن وفاة أكثر من 11 ألف شخص.

- عام 2017: انتُخب لاعب كرة القدم العالمي جورج وياه رئيساً للجمهورية، وغدا أول رئيس منتخب ديمقراطياً للبلاد من السكان (القيائل) الأصليين.

- 2023: فوز جوزيف بواكاي، نائب الرئيسة السابقة جونسون سيرليف بالرئاسة.


بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
TT

بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)

عندما ذهب الأرجنتينيون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، كانوا يعرفون أن حظوظ مرشح اليمين المتطرف خافيير ميلي كانت قد ارتفعت بعد التأييد الذي حصل عليه من الحزب الليبرالي اليميني الذي يتزعمه الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، وهذا، مع أن ماكري كان في مرمى الانتقادات القاسية والشتائم التي أغدقها ميلي على جميع أقطاب الطبقة السياسية التي حكمت الأرجنتين في العقود الثلاثة المنصرمة، والتي كان توعّد بإفنائها في حال وصوله إلى السلطة. إلا أن أحداً لم يكن يتوقع مع بزوغ فجر الاثنين أن ميلي سيحقق ذلك الفوز الساحق بفارق يزيد على ثلاثة ملايين صوت على منافسه وزير الاقتصاد الحالي سيرجيو ماسّا الذي يمثّل الجناح المعتدل في الحركة البيرونية، الذي سبق له أن خسر الانتخابات الرئاسية لصالح ماكري عام 2015. وعندما تأكدت نتائج الانتخابات، شعر كثيرون بأن الأرجنتين أصبحت بلداً آخر غير الذي كانوا يعرفونه، أو أنها كانت هكذا، لكنهم ما كانوا يدركون ذلك. لقد كانوا يشعرون باعتزاز مفرط متأصل في هويتهم، رغم أنظمة الاستبداد والقمع التي تعاقبت عليهم والأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة الممتدة منذ سنوات. ويحسبون أنهم حالة مميزة في محيطهم الإقليمي ترقى إلى المستوى الأوروبي. غير أنهم اكتشفوا بين ليلة وضحاها أن الأرجنتين أيضاً أصبحت في دائرة المجتمعات اليائسة التي لا تتردد في تسليم قيادها إلى مغامر مثل ميلي أعطى براهين أكثر من كافية على جموحه وتطرفه الفظيع وطروحاته المتهورة.

ليس المراقب في حاجة إلى قراءة معمّقة في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية لكي يتبيّن أن فوز المرشح اليميني المتطرف خافيير ميلي لم يكن بفضل برنامجه الذي يقتصر على مجموعة من العناوين التي لم يتوقّف عن تغييرها طوال الحملة الانتخابية، بل هو النتيجة الطبيعية لانسداد أفق الحلول أمام كثرة من الأرجنتينيين.

هؤلاء، كما يبدو، فقدوا الأمل بالنهوض من الأزمات المتلاحقة التي أنهكتهم مادياً ونفسياً. ولذا راهنوا - ربما بنوع من اليأس - على سياسي شعبوي عرف كيف يجسّد الغضب الذي تولّد من حقد مواطنيه على الطبقة الحاكمة التي أوصلت الأرجنتين إلى هذه الكارثة، والتي كانوا هم ينتخبونها مرة غبّ المرة.

التصويت لـ«الضد»

الغالبية الساحقة من الأرجنتينيين ذهبت لتصوّت «ضد» الآخر المألوف، ولم يكن أمامها - مرئياتها - أفضل من ميلي الذي يجسّد الحقد على كل الآخرين. وللعلم، بنى الرجل أسس حملته الانتخابية على شعار بسيط واحد، هو: «لا بد من تدمير كل شيء والانطلاق من البداية... وأنا القادر على ذلك».

كثيرون استسلموا لمغريات هذا الشعار ولأسلوب صاحبه، من غير أن يعرفوا كيف سيخفّف من معاناتهم هذا الذي يطلق على نفسه لقب «ملك الغاب».

وبينما يراقب العالم الآن من كثب الخطوات الأولى التي سيتخذها الرئيس الجديد بعدما أدخلت الأرجنتين نفسها دائرة الأنظمة اليمينية المتطرفة، وقفزت بإرادتها نحو «المجهول» بعد هذا الفوز الكاسح الذي حققه مرشح كان مغموراً لأشهر خلت، بل ويعترف بأنه لا يفقه شيئاً عن الحكم. وفي حين يسود التوجّس من الحلول التي وعد بتنفيذها لمعالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي المعقّد، كشف خافيير ميلي عن أنه سيقوم خلال الأيام القليلة المقبلة، أي قبل تسلمه مهامه في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بزيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل اللقاء بعدد من الحاخامات اليهود في مدينتي نيويورك وميامي، واللافت أنه ليس من المقرّر أن يعقد لقاءات مع إدارة الرئيس جو بايدن التي كانت من أوائل الذين سارعوا إلى تهنئته منوّهة بـ«ديمقراطية العملية الانتخابية ونزاهتها».

الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها ميلي تشكّل حالة فريدة ضمن اليمينية الراديكالية

«طابع روحاني» ...ويمين متطرف

ميلي قال في مقابلة إذاعية فجر الثلاثاء الماضي إن زيارته الأميركية هذه سيكون لها طابع «روحاني»، وتندرج في سياق زيارات مماثلة قام بها في السابق حين كان يجتمع بزعماء روحيين يهود ويتابع تعاليمهم. ومن ثم، أكّد الرئيس المنتخب أنه سيتوجّه بعد ذلك من نيويورك إلى إسرائيل التي كان وعد خلال حملته الانتخابية بأنه في حال فوزه سيكون أول قرار يتخذه على صعيد العلاقات الخارجية هو نقل سفارة بلاده إليها من تل أبيب إلى القدس، وإنه سيركّز سياسته الخارجية على ما أسماه «المحور الأميركي - الإسرائيلي»، وفي المقابل، شدد ميلي على أنه لن يتفاوض مع الأنظمة الشيوعية مثل البرازيل والصين. وفي هذا المجال، كانت تصريحات لبعض المقرّبين منه بأنه يفكّر في «إعادة النظر في العلاقات مع الصين» قد استدعت تنبيهاً له من الخارجية الصينية بأنه خطأ فادح، وقالت إنه سيلحق ضرراً كبيراً بمصالح الأرجنتين.

جانب لافت آخر يعني ما يعنيه، أن كان أوّل مهنئي ميلي بفوزه سياسي يميني متطرف آخر، هو الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، الذي سبق له هو ايضاً أن أجرى بُعيد انتخابه زيارة إلى إسرائيل، حيث أعلن نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. ومما قاله بولسونارو إنه سيحضر شخصياً حفل تنصيب الرئيس الأرجنتيني الجديد أواسط الشهر المقبل في بوينس آيرس.

كذلك، من رسائل التهنئة اللافتة التي تلقاها ميلي تلك التي بعث بها رئيسان يمينيان سابقان للمكسيك هما فيسنتي فوكس وفيليبي كالديرون الذي قال: «لقد أثبتت الأرجنتين إرادتها في صون النظام الديمقراطي، بعكس المكسيك التي تجنح بسرعة إلى وأد هذا النظام».

من جهة ثانية، بينما تتوقع الأوساط الدبلوماسية مرحلة من التوتّر في العلاقات الإقليمية بوصول ميلي إلى الرئاسة، يسود القلق أيضاً في أوساط الاتحاد الأوروبي الذي تريّث في تهنئة الرئيس الجديد واكتفى برسالة مقتضبة بعث بها شارل ميشال، رئيس الاتحاد، اقتصرت على قوله: «الشعب الأرجنتيني قال كلمته في انتخابات حرة وديمقراطية». واليوم، يقول مسؤولون أوروبيون صراحةً: إن وصول ميلي إلى الرئاسة يطرح علامات استفهام كبيرة حول المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة بلدان «ميركوسور» (الأرجنتين، والبرازيل، والباراغواي والأوروغواي)، وأيضاً حول العلاقات مع «كتلة بلدان أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي» بعد الانفراج الذي سادها عقب خروج بولسونارو من السلطة في البرازيل وانتخاب ألبرتو فيرنانديز في الأرجنتين. وفي المقابل، ترى الأحزاب اليمينية المتطرفة في فوز ميلي فرصة لعودة الموجة المحافظة في الأميركتين التي قادها دونالد ترمب وجايير بولسونارو في السنوات الماضية، وتجسدها اليوم جيورجيا ميلوني في إيطاليا.

الحركة البيرونية... تعرضت لنكسة موجعة (رويترز)

تنوّع رغم الوحدة

في سياق متصل مع ما سبق، إذا كان «زئير» النقمة الشعبية على الأنظمة الحاكمة، وما تحمله من طروحات وأساليب تقليدية، هو الذي دفع بالمشاريع الشعبوية المتطرفة إلى السلطة في أكثر من موقع على المشهد السياسي العالمي - ورغم القواسم المشتركة بين معظم هذه المشاريع - فإن لكل منها خاصياته وأسباب نجاحه المختلفة.

وبما يتعلّق بالأرجنتين، فإن الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها خافيير ميلي تشكّل حالة فريدة متميّزة ضمن الأممية اليمينية الراديكالية. إذ يثير الفوز الكاسح الذي حققه قدراً كبيراً من الدهشة والقلق والاستغراب في الأوساط التقدمية والليبرالية المعتدلة، وتخشى أن يكون ذلك نذيراً لموجة أوسع على الصعيدين الإقليمي والدولي في ظل الظروف الدولية المضطربة بشكل غير مسبوق على الصعيدين الأمني والاقتصادي. ولعل أكثر ما يثير القلق في «ظاهرة» ميلي أن طروحاته تكاد تكون نوعاً من المزايدة لما فيها من تطرف استثنائي وغير مألوف، في الوقت الذي لا يخفى على أحد حقيقة أنها لا ترتكز إلى أي مسوّغ فكري أو علمي، فضلاً عن أنها تشكّل تراجعاً كبيراً عن منجزات اجتماعية وسياسية كثيرة.

هذا الغضب الذي يحرّك الموجة الشعبية الناقمة على المنظومة السياسية، محملاً إياها مسؤولية الفساد والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، هو الذي يولّد الإحباط ويغذّي الرغبة في التغيير الجذري، ويرفع إلى السلطة قيادات تزعم أنها «متنوّرة» وتحمل وعوداً بالعودة إلى ما يشبه لكثيرين أنه كان عالماً أفضل.

ولعلّ أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تمتطي صهوة الإمكانات الهائلة التي تتيحها وسائل التواصل التكنولوجي الحديثة. فهذه أضحت تحمل السياسة إلى بحر العواطف والمشاعر التي يصعب أن يستقيم فيها العقل والمنطق على أعتاب الذكاء الاصطناعي الذي يطرح تساؤلات كبيرة لا يجرؤ أحد بعد على الإجابة عنها. لكن هذا الجذع الذي تتشاركه الحالات الشعبوية المتطرفة التي وصلت إلى السلطة، لا يخفي أن وصول ميلي كان في الدرجة الأولى تعبيراً مباشراً عن الرفض التام لحكم الحركة البيرونية، تماماً كما كان وصول بولسونارو تعبيراً عن رفض حكم حزب العمال البرازيلي... إذ خسر التقدميون في الحالتين بسبب إخفاقاتهم الاقتصادية المدوّية وسلسلة فضائح الفساد المالي الذي عشّش في صفوف قياداتهم.

أما في حالات أخرى، فيعود صعود الحركات الشعبوية المتطرفة بنسبة كبيرة إلى «النزعة الحمائية في مواجهة الظواهر العالمية، مثل الآثار السلبية لبعض أساليب التجارة الحرة، وموجات الهجرة، والتكنولوجيا الحديثة التي تقتصر منافعها على نسبة ضئيلة من الناس، والتداعيات الناجمة عن التغيّر المناخي. في هذه الحالات تتحمّل الحركات الاجتماعية الديمقراطية - أو الاشتراكية المعتدلة - قدراً من المسؤولية بسبب من الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي القريب، وأبرزها اعتناق بعض القيم والمبادئ الليبرالية التي جعلت من الصعب تمييزها عن اليمين المعتدل.


الأرجنتين... أمام برنامج سياسي مثير للجدل

سيرجيو ماسا (رويترز)
سيرجيو ماسا (رويترز)
TT

الأرجنتين... أمام برنامج سياسي مثير للجدل

سيرجيو ماسا (رويترز)
سيرجيو ماسا (رويترز)

> تعيش الأرجنتين، بعد حسم خافيير ميلي نتيجة الانتخابات لمصلحته حالة من الترقب الشديد لما سيقدم عليه الرئيس الجديد من خطوات كان وعد بها في برنامجه الانتخابي.

من أبرز هذه الخطوات المثيرة للجدل اعتماد التعامل الرسمي بالدولار الأميركي كعملة رسمية فعلية، وإلغاء المصرف المركزي وعدد من وزارات الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، وتسهيل اقتناء الأسلحة الفردية، وإبطال مفاعيل القوانين التي تمنع القوات المسلحة من تولي مهام أمنية داخل الحدود الوطنية.

ولكن، رغم القلق الشديد الذي تثيره هذه الخطوات في الأوساط الاقتصادية والمالية، وما يمكن أن ينجم عنها من اضطرابات شعبية وعمالية، لا سيما بعد إعلان ميلي «أن كل يمكن وضعه بيد القطاع الخاص سيذهب إلى القطاع الخاص»، سجّلت أسعار أسهم الشركات الأرجنتينية الكبرى ارتفاعات ملحوظة تجاوزت 30 في المائة. وجاء هذا خصوصاً، بعد كشف الرئيس المنتخب عن تكليفه وزير الاقتصاد الجديد خصخصة عدد من الشركات العامة، في مقدمها طليعتها شركة النفط «YPF» التي تملك الدولة حصة الأسد فيها.

مقابل ذلك، ما يزيد من تعقيدات المرحلة المقبلة أن ميلي الذي فاز بفارق كبير على منافسه وزير الاقتصاد الحالي سيرجيو ماسّا تجاوز ثلاثة ملايين صوت، إلا أن الغالبية في مجلسي النواب والشيوخ ما زالت بيد الحركة البيرونية. وهي القوة السياسية التي كان قد صبّ عليها معظم اتهاماته خلال الحملة الانتخابية وحمّلها المسؤولية الأساسية عن تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتفشّي الفساد، وتوعّد بملاحقة قياداتها أمام القضاء.

وبالتالي، سيجد ميلي نفسه مضطراً إلى التفاوض مع الكتل البرلمانية الأخرى عند الإقدام على تنفيذ كل خطوة من برنامجه الانتخابي، أو أن يختار اللجوء إلى الحكم بالمراسيم الاشتراعية التي يتيحها النظام الرئاسي في الأرجنتين. وما يُذكر، أن الأوساط العمالية كانت قد حذّرت من أنها لن تقبل بإلغاء الخدمات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والتعليم؛ ما استدعى ردّاً من الرئيس الجديد بأنه جاهز لمواجهة المحاولات منعه من تحقيق برنامجه عن طريق العنف.

أيضاً، ما يزيد من منسوب القلق الذي بدأ يتنامى بعد نشوة الانتصار أن الرئيس الجديد ما زال لغزاً مجهولاً بالنسبة لمواطنيه، بمن فيهم أولئك الذين صوّتوا له يوم الأحد الماضي. وبالأخص، أن هؤلاء إنما صوّتوا له ليس إعجاباً به، بل مدفوعين بنقمة عارمة تتراكم منذ سنوات ضد الطبقة السياسية التي تعاقبت على الحكم وتسببت بتدمير الاقتصاد الوطني وانهيار العملة، بل ودفعت 19 في المائة من مواطني عملاق زراعي وغذائي، مثل الأرجنتين، إلى العيش يومياً على المعونات الغذائية.


تحالف ضمني مع اليمين التقليدي «لطّف» صياغة طروحات ميلي الراديكالية

فيكتوريا فيلارويل (موقعها على إكس)
فيكتوريا فيلارويل (موقعها على إكس)
TT

تحالف ضمني مع اليمين التقليدي «لطّف» صياغة طروحات ميلي الراديكالية

فيكتوريا فيلارويل (موقعها على إكس)
فيكتوريا فيلارويل (موقعها على إكس)

> في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات، تراجع خافيير ميلي عن معظم الوعود الراديكالية التي كان أطلقها أثناء الحملة الانتخابية خلال الأشهر الماضية لاستقطاب المترددين في الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ من جهة لرفضهم القاطع التصويت للمرشح البيروني... ومن جهة ثانية؛ لخوفهم أيضاً من وصول المرشّح «المتنوّر» الذي وعد بقلب الأوضاع رأساً على عقب في غضون أسابيع من تسلمه مهامه.

من تلك الوعود إلغاء التعليم الرسمي المجاني، والخدمات الصحية العامة، والعملة الوطنية، والمصرف المركزي، والحقوق العمالية، وغيرها... وكلها أطلقها لاستقطاب الشارع الغاضب الذي يغلي منذ سنوات ضد الحكومات المتعاقبة. وبالفعل، بعدما شنّ أقسى الهجمات على الطبقة الحاكمة انتهى به الأمر متحالفاً مع أبرز رموزها. وهو ابتداءً من الآن سيكون مضطراً إلى الاعتماد على أصواتها في البرلمان لتنفيذ برنامجه الذي لم يعد معروفاً بالضبط ما هو مضمونه.

نعم، من الصعب جداً التنبؤ بما يمكن أن يقدم عليه الرئيس الأرجنتيني الجديد، الذي ردد غير مرة أن «العلاقات السليمة بين البشر تحكمها معادلة البيع والشراء». لكن أشدّ ما يثير الخشية عنده، هو أنه إذا قرر تنفيذ الوعود الراديكالية التي أطلقها في الحملة الانتخابية، سيخرج الملايين تحت رايات الحركة البيرونية المنهكة والنقابات العمالية والعاطلين عن العمل إلى الشوارع لمنعه من تنفيذها. وإذ ذاك، قد يلجأ إلى القمع الذي وضع ملفه في عهدة نائبته فيكتوريا فيلارويل، ابنة أحد القادة العسكريين الذي قاد حملة التنكيل ضد المعارضة إبّان فترة «حكم العسكر»، وهذا، بعدما وعد بأنه سيضاعف ثلاث مرات الموازنة الدفاعية ابتداءً من السنة المقبلة.

كريستينا كيرشنر (أ ف ب/غيتي)

ومن الوعود الأخرى التي كانت بين عناوين حملة ميلي الانتخابية، التي في حال تنفيذها يمكن أن تضرم احتجاجات عنيفة في الأوساط الشعبية، مراجعة القراءة الرسمية لمفهوم «إرهاب الدولة». والحجة عنده هنا، أن ما ارتكبه النظام العسكري السابق لم يكن أكثر من مجرد «تجاوزات». وبالتالي، فإن تقديرات منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والتحقيقات القضائية التي تفيد بأن عدد المفقودين خلال تلك الفترة تجاوز 30 ألفاً «ليست سوى ذريعة للاستمرار في نهب المال العام».

أخيراً، بعد الهزيمة المدوّية التي منيت بها الحركة البيرونية في الانتخابات الرئاسية، وتراجعها في جميع الولايات باستثناء العاصمة بوينس آيرس، ينتظر أن تلجأ الحركة إلى تصعيد المعارضة والاحتجاجات ضد الرئيس الجديد. وهي بذا ستستند إلى سيطرتها على معظم النقابات العمالية التي تشكّل حاضنتها الأساسية منذ تأسيسها. واستطراداً، لا بد من النظر إلى هزيمة البيرونيين على أنها تشكّل بداية انهيار التيّار «الكيرشنر» - نسبة إلى الرئيسين الأسبقين نستور وكريستينا كيرشنير -، الذي كان السائد في المشهد السياسي الأرجنتيني منذ عام 2003، والذي كان قد أخلى ساحة الانتخابات الرئاسية لوزير الاقتصاد سيرجيو ماسّا، الذي ينتمي إلى الجناح البيروني الليبرالي المعتدل، في محاولة للحد من الخسائر التي كانت مرتقبة.