غزة... توقيت الهجوم البرّي مرهون بردع إيران والمحافظة على نقطة توازن مع الشركاء

هل عادت واشنطن القوة الأساسية التي تدير صراعات المنطقة؟

دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)
دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)
TT

غزة... توقيت الهجوم البرّي مرهون بردع إيران والمحافظة على نقطة توازن مع الشركاء

دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)
دمار وركام وضحايا بفعل 20 يوماً من القصف الإسرائيلي (رويترز)

مع إنهاء الحرب الدائرة في غزة أسبوعها الثالث، بدا من الواضح أنها لن تكون «جولة» عادية من جولات القتال، المتكررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فإسرائيل أعلنتها حرباً «طويلة»، بينما يجهد الفلسطينيون لالتقاط الأنفاس ووقف الحرب، علّهم يخرجون بمحصلة سياسية، يمكن أن تشكل الحاضنة لمستقبل القطاع. وهذا، بعدما بات واضحاً أن شطب «حماس» من المعادلة هو قرار قيد التنفيذ، مع إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرح فكرة تشكيل «تحالف دولي» لمقاتلة «حماس»، يشبه التحالف الدولي الذي يقاتل «داعش». منذ اليوم الأول لتفجّر الحرب، كان من الواضح أن الولايات المتحدة هي التي تولت زمام الرد على هجوم «حماس» الذي نسبت إليه أهداف عدة، من بينها محاولات «قلب الطاولة»، على المفاوضات الجارية في المنطقة، سواء في ملف التطبيع مع إسرائيل، أو الملف النووي الإيراني. والهجوم الذي هزّ صورة إسرائيل واستقرارها، كشف عن نقاط ضعف، كان يغطيها غرور غير محدود مع حكومة يمينية، بات من شبه المؤكد أنها لن تستمر مع رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في الحكم، حتى لو تعمّقت يمينية المجتمع الإسرائيلي أكثر. فما هي الملفات المطروحة في هذه الحرب؟ وما هي تأثيراتها على المستويين الإقليمي والدولي، وكذلك على الولايات المتحدة التي تدخل الشهر المقبل سنتها الانتخابية؟

 

 

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (آ ب)

ذا كانت كل التقديرات تشير إلى أن الحرب الحالية في الشرق الأوسط ستكون طويلة، فلماذا التلويح باجتياح غزة، في حين يؤكد كثير من التقارير الأميركية أن إدارة بايدن تشعر بالقلق من افتقار إسرائيل إلى أهداف عسكرية قابلة للتحقيق في غزة، وأن قواتها ليست مستعدة بعد لشن غزو برّي بخطة مضمونة النجاح؟ وفي مباحثات مع المسؤولين الإسرائيليين منذ بدء هجمات «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قال المسؤولون الأميركيون إنهم لم يروا بعد خطة عمل قابلة للتحقيق. بل لمح الرئيس بايدن إلى ذلك علناً، خلال خطابه في تل أبيب الأسبوع الماضي، عندما حذّر من أن إسرائيل ستحتاج إلى «الوضوح بشأن الأهداف وتقييم صادق حول ما إذا كان المسار الذي تسلكه سيحقق تلك الأهداف، أم لا».

بحسب محللين وعسكريين أميركيين سابقين، أرسلت الولايات المتحدة فعلاً «وحدة عمليات خاصة»، في محاولة لاستكشاف أماكن الرهائن وإنقاذهم، وسط مساعٍ محمومة لتفادي التضحية بهم إذا ما تعذّر إطلاقهم عبر الوساطات الجارية بالتعاون مع بعض الدول، بينها قطر وتركيا ومصر والأردن، قبل أي اجتياح إسرائيلي واسع. ولكن، وفق العقيد الأميركي المتقاعد، دوغلاس ماك غريغور، مُنيت تلك العملية بالفشل بعد تعرض المجموعة لإصابات فادحة. وهو ما يشير إلى أن القوات الأميركية قد تكون دخلت في مرحلة متقدّمة من الجاهزية والاستعداد، في ظل تأكيدات «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية) أنه لم يُطلب من إسرائيل تأجيل العملية البرّية، وأن الأمر متروك لها لتحديد موعدها. وجاء هذا التوضيح على لسان الناطق باسم «البنتاغون» الجنرال بات رايدر، في أعقاب ما ذكره تقرير لصحيفة أميركية عن أن إسرائيل «وافقت على إرجاء الهجوم إلى أن يتسنى لواشنطن إرسال دفاعات صاروخية لحماية قواتها في المنطقة». وأضاف التقرير أن إسرائيل تأخذ في الاعتبار الجهود التي تبذل لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة، والجهود الدبلوماسية الرامية لإطلاق الرهائن لدى «حماس».

ولكن، مع احتمال تعقّد المناخ الدولي، تخشى واشنطن من تزايد التهديدات التي تتعرّض لها القوات الأميركية بمجرد بدء الهجوم البرّي، ما جعلها تسرّع نشر نحو 10 منظومات للدفاع الجوي، تضاف إلى الأسطول البحري والجوي الموجود في المنطقة.

ملف إيران

ومع مسارعة واشنطن إلى إرسال حاملات طائراتها وقواتها إلى المنطقة، وإعلان دول أوروبية عدة عن خطوات مماثلة، وُجهت رسائل متعددة، وخاصة إلى إيران، مفادها أنه لا مساس بدولة إسرائيل، وأن إدارة ملفات الصراع في المنطقة ما تزال تحت سيطرتها. وهنا يبقى «اللاعبون الآخرون» مجرّد مشاهدين، بدليل الضعف الشديد الذي ظهرت فيه تلك القوى، وخصوصاً روسيا والصين، ما حال دون لعبهما أي دور فعال، سواء لنصرة الفلسطينيين، أو لتغيير النظام الدولي (شعارهم الاستراتيجي). وما يؤكد هذا الواقع أن ملف «تطبيع» العلاقات بين بكين وواشنطن ماضٍ وفقاً للبرنامج المتفق عليه، مع وصول وزير خارجية الصين إلى العاصمة الأميركية، بينما يلتقي حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم بالزعيم الصيني شي جينبينغ، تمهيداً لقمته المرتقبة مع الرئيس الأميركي جو بايدن.

البعض يرى هنا أنه على الرغم من الاقتناع بأن إيران لن تُقدم على أي عمل انتحاري، خارج نطاق «المناوشات» التي تنفذها ميليشياتها في المنطقة، فإن حدة التصريحات الأميركية تجاه طهران تشير إلى تخوّفها من احتمال حصول تصعيد غير متوقع. وفي أقوى تحذير «رادع» ومباشر من مسؤول أميركي رفيع لإيران، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يوم الثلاثاء، في الأمم المتحدة، إن الولايات المتحدة ستردّ «بسرعة وحسم» على أي هجوم على القوات الأميركية من إيران أو وكلائها. وتابع بلينكن: «الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع مع إيران، ولا نريد لهذه الحرب أن تتسع. لكن إياكم وخطأ مهاجمة إيران أو وكلائها أفراداً أميركيين في أي مكان... لأننا سندافع عن شعبنا». وتجاوز بذا التحذيرات الغامضة السابقة التي أطلقها بايدن بشأن «لا تفعل»، لثني «حزب الله» أو إيران عن التورط في الحرب بين «حماس» وإسرائيل.

 

القوى الداعمة لـ«حل الدولتين» هي الغائب الأكبر عن الاعتراضات داخل أميركا وخارجها

هذه الخطوة تلي اعتراف واشنطن بأن ميليشيات إيران نفّذت 13 هجوماً على القوات الأميركية في المنطقة خلال الأسبوع الماضي. الأمر الذي دفع الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، يوم الاثنين، إلى القول إن إيران «في بعض الحالات تسهّل بشكل فعال هذه الهجمات، بهدف الحفاظ على مستوى معين من الإنكار هنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك».

وبينما تريد إدارة بايدن ردع جبهة ثانية ضد إسرائيل من وكلاء إيران في لبنان وسوريا، فإن تجاهل الرد على هجمات إيران الكثيرة، تفادياً لوقوع خسائر في صفوف القوات الأميركية حتى الآن، غدا دعوة إلى إيران لمواصلة اختبار نيات واشنطن. وقد يؤدي هذا إلى جرّها إلى مجابهة تسعى لتجنبها. لكن ماذا لو قتل أميركيون، من دون أن تدفع إيران الثمن؟ إذ ذاك على إدارة بايدن أن تقدّر أن الخطوة الأضمن لاستقرار المنطقة ستكون استعادة أميركا دورها كـ«قوة ردع».

في المقابل، التحذيرات تثير لدى إيران أيضاً - بعدما لمست حجم ضعف «محورها الدولي» (الصين وروسيا) - مخاوف عميقة من أن تكون «دعشنة» ميليشياتها الشيعية هي الخطوة التالية، بعد «دعشنة» حماس. وهذا ما قد يفقدها أدواتها، بل يمكن أيضاً أن يؤدي إلى طرح مستقبل النظام برمته على بساط البحث.

العقيد (الكولونيل) دوغلاس ماك غريغور (آب)

المساعدات مقابل الرهائن

لقد تعهدت واشنطن بأنها ستضغط من أجل السماح للمساعدات الإنسانية بدخول غزة، مقابل جهود إطلاق الرهائن.

عملياً هذا يرسي معادلة منع «حماس» من استثمار «إنجازها» العسكري بتحقيق انتصارات سياسية، وأن فرضية مبادلة الرهائن بالسجناء غير مطروحة على بساط البحث. ولا حديث عن وقف لإطلاق النار، في هذه المرحلة. وحقاً، اضطر وزير الخارجية بلينكن للكلام عن فترات هدنة لأسباب إنسانية «يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار»، للسماح بوصول الغذاء والماء وغيرهما من الضروريات إلى غزة، وللمدنيين بالخروج من طريق الأذى. وعلى الرغم من تحاشيه تحديد أي مهلة لفترات الهدنة، من غير المتوقع أن تكون وقفاً نموذجياً لإطلاق النار.

في المقابل، مع تزايد أعداد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين الذين تجاوزت أعدادهم 22 ألفاً بين قتيل وجريح، طلب قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل «هدنة إنسانية» لتسهيل توصيل المساعدات وخلق ظروف أكثر أماناً للإفراج المأمول عن الرهائن، ليحصروا الأمر بهذا الجانب فقط. لكن الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، ذكر أن الإدارة تؤيد «فترات التوقف» في الصراع للسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكنه رفض الدعوات المتزايدة لوقف إطلاق النار، بحجة أن مثل هذه الخطوة الآن لن تفيد سوى «حماس». وأضاف كيربي: «سنواصل التأكد من أن لدى إسرائيل الأدوات والقدرات التي تحتاجها للدفاع عن نفسها». ومع تأكيده أن واشنطن لم تناقش أي «خطوط حمراء» مع إسرائيل، تابع: «سنواصل محاولة إدخال هذه المساعدات الإنسانية، ومحاولة إخراج الرهائن والأشخاص من غزة بشكل مناسب»، ما يشير إلى أن مساراً طويلاً يتوجب قطعه، في ظل النتائج المتوقعة من هذه الحرب، على مستقبل المنطقة كلها.

هل تتوقّف الحرب؟

المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون يرفضون الدعوات لوقف إطلاق النار كي يمنحوا الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي للقضاء على «حماس». لكن الدعوات لإنهاء القتال تتزايد. ولخّصت ذلك كلمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه أمام مجلس الأمن. إذ قال غوتيريش إنه «من المهم الاعتراف بأن هجمات (حماس) لم تحدث من فراغ» و«أن الفلسطينيين تعرضوا لـ56 سنة من الاحتلال الخانق». لكنه أضاف أن «مظالم الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تبرّر الهجمات المروّعة التي تشنها (حماس)، مثل أن هذه الهجمات المروعة لا يمكن أن تبرّر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني». بيد أن تبادل استخدام حق النقض في مجلس الأمن بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما جرى في الأيام الماضية، لا يزال في مراحله الأولى، الذي شهد في حروب سابقة تصويتاً مماثلاً، أدى في نهاية المطاف إلى إخراج قوات «منظمة التحرير» من لبنان عام 1982. وهو ما يرى البعض أنه قد يكون مصير قوات «حماس» في الفترة المقبلة.

 

 


مقالات ذات صلة

غزة... أول يوم هادئ منذ 15 شهراً

المشرق العربي غزة... أول يوم هادئ منذ 15 شهراً

غزة... أول يوم هادئ منذ 15 شهراً

عاش قطاع غزة، أمس، أول يوم هادئ له منذ 15 شهراً، مع دخول اتفاق وقف النار بين إسرائيل وحركة «حماس» حيز التنفيذ.

كفاح زبون (رام الله ) «الشرق الأوسط» (غزة)
شمال افريقيا الحدود المصرية - الإسرائيلية (رويترز)

تأكيد نتنياهو البقاء في «فيلادلفيا»... هل يهدد اتفاق «هدنة غزة»؟

تصريحات جديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بشأن البقاء في «محور فيلادلفيا» الحدودي مع مصر وزيادة قوات بلاده هناك، أثارت تساؤلات بشأن تداعياتها على صمود الهدنة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
المشرق العربي وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر (رويترز)

ساعر: بقاء «حماس» في السلطة يهدد باستمرار الاضطرابات الإقليمية

حذَّر وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، اليوم (الأحد)، من استمرار عدم الاستقرار في الشرق الأوسط إذا بقيت حركة «حماس» في السلطة بقطاع غزة.

أوروبا ناشطون مؤيدون للفلسطينيين يتظاهرون في وايت هول بلندن (إ.ب.أ)

اعتقال العشرات خلال مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في لندن

تجمَّع آلاف المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين في وسط لندن، السبت، في مظاهرة اعتُقل خلالها أكثر من 70 شخصاً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي احتفالات فلسطينية ببدء الهدنة في قطاع غزة (أ.ف.ب) play-circle 01:33

آلاف الفلسطينيين في شوارع غزة بعد سريان وقف إطلاق النار

بعد تأخير لنحو ثلاث ساعات، دخل اتفاق وقف النار في قطاع غزة حيز التنفيذ رسمياً، عقب إعلان الحكومة الإسرائيلية تسلمها أسماء ثلاث محتجزات سيتم الإفراج عنهن اليوم.

«الشرق الأوسط» (غزة)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.