مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي

ظهوره الإعلامي المكثف وأسلوبه الفظ سلّطا الضوء على صِداميته

مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي
TT

مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي

مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي

دخل النائب الجمهوري ماثيو غايتز، أخيراً، التاريخ السياسي الأميركي بعدما صار أول عضو في الكونغرس يطيح رئيس مجلس النواب. في الواقع، ما كان من المتصوّر أن يتمكن شخص واحد من إنجاز هذه المهمة، إلا أن إقالة كيفن مكارثي هزّت، ليس فقط صورة الحزب الجمهوري، بل ودور المؤسسة التشريعية الأهم في أميركا أيضاً. واليوم يرى عدد كبير من المراقبين والباحثين في شؤون السياسة الداخلية الأميركية، أن ما حصل لم يكن ليحصل، لو لم يسمح تدهور المقاييس السياسية، وطغيان المصالح الشخصية، وتصاعد الخطاب الشعبوي على ضفتي الانقسام السياسي الأميركي، بظهور شخصيات من النوع الذي يمثله غايتز. والحال، أن إقالة مكارثي لم تدمر فقط طموحه السياسي فحسب، بل أربكت كذلك واشنطن، وأغرقت مجلس النواب مجدداً في الفوضى. وها هم الجمهوريون يواجهون صعوبة في التوافق على مَن يريدون أن يتولى رئاسته.

بعد إقالة كيفن مكارثي، رئيس مجلس النواب الأميركي السابق من منصبه، اتهم الأخير النائب مات (ماثيو) غايتز بأنه عارضه لغايات شخصية انتقامية، أبرزها امتناعه عن إغلاق قضية قيد التحقيق من قِبل لجنة الأخلاقيات بمجلس النواب، في مزاعم سوء السلوك الجنسي، وتعاطي المخدرات غير المشروعة، وإساءة استخدام أموال حملته الانتخابية. وهذا التحقيق كان فُتح بحق غايتز، عندما كان مجلس النواب تحت سيطرة الديمقراطيين، ولكن أعيد فتحه هذه السنة في ظل رئاسة مكارثي.

يقول البعض: إن إعادة فتح هذا التحقيق بموافقة من رئيس المجلس نفسه، قد تكون من بين أدوات الضغط التي ربما حاول مكارثي تحصين نفسه بها في مواجهة غايتز، الذي قاد 15 جلسة تصويت في يناير (كانون الثاني) الماضي، للموافقة على تسلمه منصب رئاسة المجلس، وهذا بعدما قدم له تنازلات لم يكن غايتز نفسه يتصورها، على حد قوله. ولعل التنازل الأكبر الذي قدّمه مكارثي لغايتز، وخشي من استخدامه ضده - كما حدث بالفعل - هو منح عضو واحد فقط الحق في طرح اقتراح عزل رئيس المجلس؛ وهو ما ضرب القاعدة التي كانت تمنح مجلس النواب الاستقرار على مدى أجيال وعقود سابقة.

غايتز نفى هذه الاتهامات، وأصرّ على أن أهدافه آيديولوجية بحتة. وشرح، من ثم، أن هدفه الأساسي المعلن هو تحقيق التوازن في موازنة البلاد وخفض العجز، الذي يبلغ حالياً نحو 33.5 تريليون دولار. وأردف: «أنا هنا للقتال من أجل ناخبي... أنا هنا للتأكد من أن أميركا ليست على طريق الخراب المالي». لكن مكارثي نفى صحة هذا الكلام بشدة قائلاً: «لا... لم يكن الأمر يتعلق بالإنفاق. كان كله يتعلق بجذب الانتباه».

عصيان ناجح

بالنسبة لغايتز، حقق «عصيانه» نجاحاً باهراً؛ إذ أزاح خصمه السياسي من السلطة وحوّل نفسه، وهو العضو الصغير نسبياً في الكونغرس، إلى «ثائر» يمكن الاعتماد عليه في مواجهة المؤسسة السياسية التقليدية في واشنطن. بيد أنه في المقابل، تحوّل إلى نائب شبه معزول ومنبوذ، حتى بين زملائه الجمهوريين الذين طردوه من صفوفهم في المجلس خلال جلسة إقالة مكارثي.

من هو غايتز؟

بدأ ماثيو لويس غايتز (من مواليد 7 مايو/أيار 1982)، حياته السياسية في ولاية فلوريدا، متتبعاً خطى والده الثريّ، دون غايتز، عضو مجلس شيوخ الولاية السابق لعقود من الزمن. وبفضل نشاطه داخل الحزب الجمهوري صار يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه من أشد المؤيدين لسياسات اليمين المتشدد في كل القضايا الداخلية والخارجية، بما فيها معارضته مواصلة تمويل أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وتأييده القوي للرئيس السابق دونالد ترمب.

نشأ غايتز في مدينة فورت والتون بيتش الصغيرة، بشمال غرب فلوريدا. وحصل على درجة البكالوريوس في الآداب من جامعة ولاية فلوريدا في العاصمة تالاهاسي، ثم درس وتخرج في معهد الحقوق بكلية ويليام وماري العريقة في ولاية فيرجينيا (وهي ثاني أقدم جامعات أميركا بعد هارفارد)، ومن ثم، عمل لفترة وجيزة في مكتب محاماة خاص، قبل ترشحه لأحد مقاعد مجلس نواب ولاية فلوريدا.

خلال السنوات الست التي أمضاها غايتز - الملقب في حينه بـ«بيبي غايتز» - عضواً في مجلس نواب فلوريدا، بين 2010 و2016، بنى غايتز سمعته، مثل والده، كمشرّع جاد. وحقاً، أبرم صفقات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وصوّت إلى جانب الديمقراطيين لإزالة الحظر المفروض على تبنّي زواج المثليين، وأقنع والده بفعل الشيء نفسه. إلا أنه في المقابل، دعم سلسلة من التشريعات اليمينية اللافتة، بما فيها مشروع قانون من شأنه التعجيل بإعدام السجناء المحكوم عليهم بالإعدام في فلوريدا.

الطريق إلى واشنطن

في عام 2016، حوّل السياسي الشاب أنظاره إلى واشنطن، ونجح في الترشح لمقعد في مجلس النواب الأميركي، وفاز به عن منطقة الكونغرس الأولى في فلوريدا، معقل الجمهوريين. ولقد أُعيد انتخابه في أعوام 2018 و2020 و2022.

كانت أيامه الأولى في مجلس النواب الأميركي بطيئة وقليلة الفاعلية. وقال غايتز لصحيفة «نيويورك تايمز» في مقابلة عام 2019 عن الأشهر الأولى له في الكونغرس الأميركي: «سأنهي أيامي المنهكة... إذا لم تتمكن من التأثير على نتيجة ما في هذه المدينة، فأنت شخص إضافي في الفيلم، وأنا لا أريد أن أفعل ذلك».

لذا؛ وجد غايتز، الذي يتمتع بالذكاء الإعلامي والقدرة على جذب الانتباه، بحسب عارفيه، جمهوراً أوسع ضمن «العلامة السياسية» للرئيس (آنذاك) دونالد ترمب، نجحت شعبويته المنمقة بجعله محبوباً عند ترمب ودائرته. وسرعان ما أتبع ذلك بسياسة ظهور واسعة على قنوات الكابلات والعناوين الإعلامية الرئيسة، التي سلطت الضوء على تحركات غايتز - الواثقة والمثيرة للجدل - بشكل متزايد في واشنطن.

في عام 2018، أحضر معه أحد اليمينيين المُنكرين المحرقة اليهودية (الهولوكوست) ضيفاً لحضور خطاب حالة الاتحاد السنوي الذي يلقيه الرئيس الأميركي. ثم حضر حدثاً في عام 2020 حين قال: إن المجموعة اليمينية المتطرفة «براود بويز» (الأولاد الفخورون) التي يتعرّض أفرادها لمحاكمات قضائية، يوفّرون الأمن.

وبعد ذلك، حاول غايتز طرد اثنين من الآباء الذين فقدوا أولادهم في حادث إطلاق نار جماعي وقع عام 2018 - في مدرسة مارغوري ستونمان دوغلاس الثانوية في فلوريدا - من جلسة استماع في مجلس النواب، وذلك بعد مهاجمتهما مشروع قرار قدمه غايتز، يتيح لسكان فلوريدا الحائزين تصاريح أسلحة مخفية بحملها علانية في الأماكن العامة.

شبّه اليسار بالإرهاب

ويوم 1 يونيو (حزيران) 2020، إبان الاحتجاجات التي اجتاحت أميركا إثر مقتل المواطن الأسود جورج فلويد، حاول اليمينيون - ومنهم غايتز - تحميل منظمة «أنتيفا»، وهي مجموعة يسارية متشددة، مسؤولية أعمال العنف التي اندلعت. وغرّد غايتز قائلاً «الآن بعدما أصبحنا نرى (أنتيفا) بوضوح كإرهابيين، هل يمكننا ملاحقتهم كما نفعل مع أولئك في الشرق الأوسط؟»، إلا أن «تويتر» (إكس اليوم) حذفت التغريدة، عادّةً إياها «انتهاكاً لقواعده المتعلقة بتمجيد العنف». مع هذا، عدّ غايتز ذلك «وسام شرف»، متهماً المنصة بدعم «أنتيفا»، وطالب مرة أخرى «الحكومة بمطاردتها».

هذا النهج الفظ أكسبه مجموعة متزايدة من النقّاد، الذين يصفونه بأنه «وقح يبحث دائماً عن الأضواء». وعلّق وايت أيريس، الخبير الاستراتيجي الجمهوري، عليه بالقول: «مات غايتز لا يهتم البتّة بإحداث فارق كمشرّع... إنه لن يترك أي أثر على الإطلاق في التاريخ التشريعي للولايات المتحدة، لكنني أعتقد أنه يستمتع بفتح المعارك والحصول على الشهرة».

مع هذا، بدا أن ابتعاد غايتز عن «المؤسسة السياسية» أدى إلى تزايد شعبيته في ولايته فلوريدا، المتجهة سياسياً إلى اليمين باطراد؛ إذ فاز بإعادة انتخابه العام الماضي بفارق 35 نقطة. وفي تصريح لكريستيان زيغلر، رئيس الحزب الجمهوري في فلوريدا، رأى «أن الشعب الأميركي يشعر الآن بالإحباط بسبب الفشل في التوصل إلى نتائج من الكونغرس... وبالتالي، صار مات أحد متنفساتهم للتعبير عن هذا الإحباط»!

أبرز النواب المكروهين

في أي حال، ظل الجدل يلاحق غايتز، لا سيما بعدما فُتح تحقيق لوزارة العدل ضده في ربيع عام 2021، بزعم إقامته علاقة جنسية مع فتاة قاصر عمرها 17 سنة، كان قد دفع ثمن عبورها حدود الولاية، وهو ما قد يصل إلى تهمة الاتجار بالجنس.

غايتز، من جهته، نفى أي ذنب، وأعلن في فبراير (شباط) من هذا العام، أن وزارة العدل أغلقت القضية من دون توجيه أي اتهامات إليه، غير أنها القضية ذاتها التي أُعيد فتحها أعلاه، من قِبل لجنة الأخلاقيات بمجلس النواب.

وبسرعة ساعدت الفضيحة في تأكيد سمعة غايتز كأحد أعضاء الكونغرس الأكثر مكروهية على نطاق واسع وبشكل علني. وفي تعليق قاسٍ قال غاريت غريفز، النائب الجمهوري عن ولاية لويزيانا، خلال الأسبوع الماضي لموقع «سيمافور» إنه يعتقد «أن مات سيكون ديكتاتوراً عظيماً في دولة أرخبيلية صغيرة في المحيط الهادي أو شيء من هذا القبيل... وربما تكون هذه هي الخطوة التالية الأفضل بالنسبة له». لكن كثيرين ممن يعرفونه، بمن فيهم كريستيان زيغلر، أشادوا به لـ«غرائزه السياسية الذكية واتصالاته المتخصصة». وقال رئيس الحزب في فلوريدا: «ثمة عدد قليل من الأشخاص الذين أتهيّب مناقشتهم، ومات غايتز واحد منهم... إنه أحد أكثر الأعضاء مهارة». بينما قال سياسي آخر: «آخر ما يهتم به مات هو الطبقة السياسية».

والحقيقة، أنه على الرغم من الجدل المحتدم حول شعبيته في مجلس النواب، جرى تسليم غايتز سلطة كبيرة بعد انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، التي أفضت إلى حصول الحزب الجمهوري على غالبية ضئيلة جداً في مجلس النواب، وإخفاقه بتحقيق انتصارات كاسحة في عموم البلاد.

في ضوء هذا الوضع، صار الحزب الجمهوري في حاجة إلى صوت كل عضو تقريباً في كتلة غايتز اليمينية المتشددة، «تجمع الحرية»؛ من أجل تمرير التشريعات من الحاجة إلى دعم الديمقراطيين. وبالفعل، استخدم غايتز هذه السلطة على الفور، حين قاد ما عدّ «حملة إذلال» لمكارثي، قبل الموافقة على أن يصبح رئيساً للمجلس.

هدفه حاكمية فلوريدا

من ناحية أخرى، على الرغم من ادعاءات غايتز بأن دوافعه آيديولوجية في مواجهة «انحطاط المؤسسة التقليدية»، فإن منتقديه يعتقدون أن أسبابه مختلفة. إذ قال الخبير الاستراتيجي الجمهوري، رون بونجين: «أعتقد أن لديه طموحاً خالصاً. إن هدفه النهائي منصب حاكم ولاية فلوريدا»، مردداً التكهنات المتزايدة بأنه سيرشح نفسه لمنصب الحاكم في عام 2026. وهنا نشير إلى أن الحاكم الحالي رون ديسانتيس، المرشح الرئاسي الجمهوري الذي يحتل المرتبة الثانية في تفضيلات الترشيح بعد دونالد ترمب، ما عاد يحق له الترشح لمنصب الحاكم، وفق القانون. وبالتالي، يضيف بونجين: «يدرك غايتز أنه يستطيع إيقاف كل شيء وتسليط الضوء عليه من أجل الاهتمام الوطني وجمع الأموال من أجل تعزيز جهوده السياسية للوصول إلى منصب أعلى... إنه التفسير العقلاني الوحيد».

مع ذلك، ينفي غايتز خططه للترشح لمنصب الحاكم. لكن قيادته الحملة لإقالة مكارثي بدت مربحة له، لكونها أدت إلى إطلاق جولة جديدة له لجمع التبرعات. أما عن ادعاءات غايتز الآيديولوجية فجاءت في بيان قال فيه: إن دوافع مشاجراته السياسية الرفيعة المستوى كانت دائماً الدفاع عن «الإنسان العادي». وتابع: «أنا لا أخشى الوقوف بوجه جماعات الضغط والمصالح الخاصة، ولن يساورني الخوف أبداً»، ثم استطرد: «إذا كان هذا يعني أنني سأواجه معارك صعبة، وصيحات استهجان، فليكن... هذا يعني أنني أؤدي عملي كما يجب».

أخيراً، مهما كان طموح مات غايتز النهائي، فإن المعركة المستمرة داخل الحزب الجمهوري لاختيار بديل لمكارثي، وتحقيق الاستقرار بعد أسابيع من الفوضى، وهنا من غير المرجّح أن يرضى غايتز دور اللاعب الصغير.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.