الصراع على كاراباخ يؤجج التنافس بين القوى الإقليمية والخارجية

موسكو تعمل للحفاظ على مواقعها جنوب القوقاز ضد التمدد الغربي

محنة اللاجئين (آ ف ب)
محنة اللاجئين (آ ف ب)
TT

الصراع على كاراباخ يؤجج التنافس بين القوى الإقليمية والخارجية

محنة اللاجئين (آ ف ب)
محنة اللاجئين (آ ف ب)

أسفرت العملية العسكرية الخاطفة لأذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ عن تكريس واقع جيوسياسي جديد في منطقة القوقاز. ولا شك أن التطورات المتلاحقة التي أعقبتها، فتحت على مرحلة جديدة في العلاقات الإقليمية، بما في ذلك على خلفية تعزيز قبضة باكو على الإقليم بعد حل مؤسسات «جمهورية آرتساخ» الأرمنية التي لم تحظَ باعتراف دولي، وكذلك بعد نزوح الغالبية الكبرى من أرمن الإقليم خوفاً من تصفيات وعمليات «تطهير عرقي». العملية العسكرية الأذرية باتت الأخيرة وفقاً لتقديرات كل الأطراف، فقد «أنجزت المهمة». ومهما كانت نتائج جولات المفاوضات المحتملة بين باكو ومَن تبقَّى من أرمن كاراباخ، فقد أسفر تثبيت السيطرة الأذرية على كاراباخ عن تداعيات واسعة النطاق سيكون لها، وفقاً لخبراء، تأثيرات كبرى في اللاعبين الأساسيين في جنوب القوقاز وفي مناطق محيطة بها.

لا شك في أن «الانتصار الأذري» عزّز مواقع باكو بقوة، كقوة إقليمية صاعدة ومهمة، ستكون لها مكانة أساسية في كل الترتيبات الإقليمية اللاحقة، بما في ذلك، في إطار تحوّل أذربيجان إلى عقدة ربط أساسية لطرق التجارة والعبور ونقل المواد الخام. وضمن هذا الإطار ستتركز النقاشات الأساسية في المستقبل القريب على آليات فتح الممرات، وإعادة ترتيب طرق بديلة للتجارة، غير أن التداعيات لا تقف عند المنافسة المحتدمة عالمياً على وضع بدائل لطريق «الحزام» الصينية و«ممر شمال - جنوب» الذي تدعمه موسكو بقوة؛ لأنه يخفف من ضغط العقوبات والحصار الغربي عليها.

واقع الأمر أن المعادلة الجيوسياسية الجديدة تحمل توسيعاً للنفوذ التركي في المنطقة، وحضوراً أقوى لإسرائيل مع الحليف الأذري، فضلاً عن تعزيز حضور وتحركات واشنطن في مقابل جدال كبير بين وجهتَي نظر حول التداعيات المحتملة على نفوذ كل من روسيا وإيران في منطقة جنوب القوقاز.

مقدمات الحسم

حرب كاراباخ «الثالثة»، وفقاً لتعبير مراقبين روس، ستكون حقاً الأخيرة في الصراع الأرمني - الأذري الذي استمر أكثر من 30 سنة. لكن خلافاً لتقديرات جهات عدة، بينها أطراف غربية، كانت العملية العسكرية الأذرية الموجهة لحسم الملف نهائياً متوقَّعة منذ وقت ليس بقصير. ولقد جرى تمهيد الوضع تدريجياً لعمل حاسم يفرض قواعد اللعبة الجديدة في المنطقة.

كان قد وُضع أساس للتسوية النهائية خلال اجتماعات الرئيس الأذري إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، في براغ وبروكسل، فضلاً عن المفاوضات الثلاثية بمشاركة روسيا، بما في ذلك تلك التي عُقدت في موسكو في مايو (أيار) 2023، ولقد اعترف في ختام الاجتماعات رئيس الوزراء الأرميني بوحدة أراضي أذربيجان بمساحة 86.6 ألف متر كيلومتر مربع، وهو ما يعني أيضاً إقليم ناغورنو كاراباخ، أي تم حل القضية الاستراتيجية التي ظلت عقبة أمام التقدم في تسوية النزاع. وعملياً، عقد باشينيان «صفقة» مع الأذريين، مغامراً بوقوع اضطرابات داخلية واحتجاجات، وربما ثورة مضادة.

بالنسبة لباشينيان، كان الدافع الرئيسي للاتفاقية المستقبلية حماية السلامة الإقليمية لأرمينيا نفسها. ذلك أن موجة الاشتباكات الكبيرة التي وقعت عام 2022 على حدود الدولتين، كشفت عن ميل ميزان القوى بشكل جليّ نحو أذربيجان وإلى تغير المزاج الروسي بشكل واضح أيضاً حيال قواعد الصراع في المنطقة.

خلال تلك الاشتباكات نجحت أذربيجان في السيطرة على جزء من الأراضي الأرمينية. ولم تحظَ شكاوى يريفان ومطالباتها المتواصلة الجانب الروسي و«منظمة الأمن الجماعي» بالتدخل، باهتمام روسي، أو من جانب المنظمة الإقليمية التي ينص ميثاقها الداخلي على مساعدة أي طرف فيها إذا تعرض لاعتداء خارجي.

أكثر من ذلك، مهَّدت هذه الأجواء، للانتقال إلى مرحلة جديدة عبر فرض أمر واقع على الأرض، يشطب أي مجالات لحوارات مستقبلية حول مصير كاراباخ. وبالنسبة إلى أذربيجان لم تعد هذه النقطة المفصلية مطروحة على جدول أعمال أي مفاوضات. والبديل الوحيد المقترح هو التسليم الكامل بسيطرة باكو وبحث الملفات التكميلية لبلورة ملامح المرحلة المقبلة فقط.

من جهة ثانية، في دفع متواصل نحو اللحظة الحاسمة برزت مع نهاية عام 2022، متغيرات جديدة تمثلت في ظهور أزمة ممر «لاتشين». وكان اتفاق وقف النار الموقَّع عام 2020 قد نص على ضرورة فتح المعابر والممرات التجارية، بما فيها معبر «لاتشين» الواصل بين أرمينيا وكاراباخ. لكن في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2022 سارت باكو خطوة أخرى نحو فرض أمر واقع جديد. إذ أغلق نشطاء البيئة الأذريون طريق «لاتشين - شوشا»، مطالبين بوضع حد للاستغلال غير القانوني لمنجمي «جيزيلبولاغ» و«داميرلي». وفعلياً، فرضت باكو سيطرتها على ممر «لاتشين» على الجانب الشرقي. وبعد ستة أشهر، في أبريل (نيسان) 2023، أنشأت أذربيجان نقطة تفتيش على الجانب الآخر من الطريق بالقرب من الحدود الأرمنية. يمكن القول إنه منذ تلك اللحظة، كان مصير كاراباخ التي باتت محرومة من كل الإمدادات، محدداً مسبقاً.

الأمل الأخير ليريفان وستيباناكيرت (عاصمة كاراباخ) بقي في موسكو ونحو 2000 من قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة في كاراباخ. وبحلول ذلك الوقت، كان موقف روسيا بشأن هذا الموضوع مبنياً على تصريحات للرئيس فلاديمير بوتين مفادها أن «الوضع النهائي لكاراباخ لم يُحل» لكن في الوقت ذاته، وجّهت موسكو عدة إشارات إلى أن جوهر الصراع سُوّي باعتراف أرمينيا بسيادة أذربيجان على كاراباخ. وكل التفاصيل اللاحقة ستكون من وجهة النظر الروسية الرسمية شأناً «داخلياً» لأذربيجان.

لاحقاً، اتضح أن حسابات يريفان حول احتمال التدخل الروسي لإبطاء عملية تعزيز القبضة الأذرية على كاراباخ كانت خاطئة. فقد وضع بوتين رؤيته بوضوح خلال خطاب ألقاه في المنتدى الاقتصادي الشرقي في سبتمبر (أيلول) مذكّراً بأن رئيس الوزراء الأرميني اعترف بكاراباخ جزءاً من أذربيجان. وبذا بدا واضحاً أن الموقف الروسي ينطلق من فكرة «تأجيل بحث ملامح التسوية النهائية للصراع، والإبقاء على الوضع الراهن كما هو». هذا الأمر يُرضي موسكو وطهران لكنه لأسباب مختلفة لا يُرضي أذربيجان، ولا أرمينيا، وكان البديل ليريفان هو محاولة تنشيط الدور الغربي في الوساطة مع باكو.

نيكول باشينيان (رويترز)

معاقبة باشينيان

لم تعد المشكلة بالنسبة للكرملين تكمن في القضايا القانونية فقط (اعتراف أرمينيا بسلامة أراضي أذربيجان)، وشكل التسوية المحتملة اللاحقة؛ فخلال الأسابيع الأخيرة، اتخذت يريفان خطوات جريئة للغاية نحو التقارب مع الغرب. وفي بداية سبتمبر (أيلول) بدأت يريفان مسار التصديق على «نظام روما الأساسي» الذي أسس «محكمة الجنايات الدولية»، وهذه خطوة رأت فيها موسكو «تطوراً عدائياً للغاية» على خلفية إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي. وفي الفترة نفسها، أجرى باشينيان مقابلة مع وسائل إعلام إيطالية، تحدث فيها باستياء واضح عن «دور روسيا عن منطقة القوقاز». ثم شاركت آنا هاكوبيان، زوجة باشينيان، في اجتماع لضيوف أجانب في كييف وتبرّعت خلاله بمساعدات إنسانية لأوكرانيا. وكان وتر التوتر الأخير هو التدريبات العسكرية الأميركية - الأرمنية في أرمينيا، التي أُجريت بين 11 و20 سبتمبر. ونتيجة لذلك، أرسلت وزارة الخارجية الروسية، لأول مرة في تاريخ العلاقات الثنائية، مذكرة احتجاج للسفير الأرمني. وبدا أن «صبر موسكو قد نفد» تجاه تصرفات باشينيان.

جاءت تلك التطورات على خلفية انعدام الود أصلاً بين الكرملين والقيادة الأرمينية. ويقول خبراء روسيا إن بوتين لم يكن من الممكن أن يتسامح مع فكرة أن باشينيان وصل أصلاً إلى السلطة عبر «ثورة ملوّنة» ترفع شعارات التقارب مع الغرب.

وقد حملت تصريحات باشينيان لاحقاً، عن أن الهياكل والمنظمات الأمنية التي تنتمي إليها بلاده حالياً «غير فعّالة»، وقناعته بضرورة الانتقال إلى آليات تحالف جديدة، إشارة مباشرةً وواضحةً إلى تبدل مواقف يريفان حيال روسيا بعد تعرض العلاقات لنكسة قوية بسبب «خذلان» موسكو حليفها في حربي كاراباخ 2020 و2023.

ويُنتظر أن ينعكس ذلك بشكل مباشر على عضوية أرمينيا في «منظمة الأمن الجماعي» التي بدت عاجزة عن حماية أحد أعضائها، خلافاً لبند رئيسي في ميثاقها الداخلي. وبالتالي فقدت أهميتها ليس فقط بالنسبة إلى أرمينيا، بل أيضاً بالنسبة إلى عدد من بلدان آسيا الوسطى التي يواجه بعضها أوضاعاً هشة وتحديات عدة. وللعلم، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، كانت أرمينيا شريكاً أمنياً مهماً لروسيا، وتستضيف واحدة من القواعد العسكرية الروسية القليلة على أراضٍ أجنبية، ولكن في السنوات الأخيرة قاد باشينيان تحولاً كبيراً في سياسة بلاده الخارجية نحو الاقتراب أكثر من الغرب. ويرى خبراء أن وقوف موسكو على الحياد في الحرب الأخيرة شكّل نوعاً من العقاب لرئيس الوزراء الأرميني. أيضاً، يقول خبراء إن موسكو أرادت من خلال موقفها مع معاقبة باشينيان، فتح أبوابها أمام أذربيجان لتخفيف حدة اندفاعها أكثر من اللازم نحو تركيا، لكن هذه الفرضية ضحلة للغاية؛ لأن نتائج حرب كاراباخ كرّست تحالفاً وثيقاً وقوياً للغاية بين أنقرة وباكو.

التحركات الغربية

العنصر الثاني المهم في تهيئة الأجواء لعملية الحسم الأذري تَمثّل في تنشيط التحركات الغربية في منطقة جنوب القوقاز. فمع صعود باشينيان إلى السلطة خصوصاً بعد حرب كاراباخ الثانية، كثّفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اتصالاتهما مع يريفان.

وفي عام 2022، زار وفد من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، العاصمة الأرمينية، وأدانت باكو بسبب أكبر تصعيد على الحدود الأرمنية - الأذرية، الذي اتُّهمت هي نفسها بالتحيز فيه. أيضاً زار سياسيون فرنسيون أرمينيا، وأعرب الرئيس إيمانويل ماكرون مراراً عن الحاجة إلى حماية أرمن كاراباخ، واتهم روسيا بزعزعة استقرار الوضع في المنطقة. كذلك حاول الاتحاد الأوروبي أيضاً أن يلعب دوراً نشطاً في حل الصراع. وأرسلت بعثة إنسانية أوروبية إلى حدود الجمهوريتين من أرمينيا. لكن في الوقت نفسه، وفي ضوء انتقال الاتحاد الأوروبي إلى موردين بديلين عن روسيا للنفط والغاز، بدا أن الضغط على باكو لا يمكن أن يكون إلا «محدوداً». إضافةً إلى ذلك، دعم أذربيجان الرئيسُ التركي رجب طيب إردوغان، الذي زادت أهميته بالنسبة لحلف شمال الأطلسي بسبب الأحداث الأوكرانية (الوساطة وصفقة الحبوب). فالغرب لم يكن يريد ولا يستطيع أن يقف ضد أنقرة وباكو في الوقت نفسه فتندفعان إلى أحضان روسيا.

أما المتغير الثالث بعد روسيا والغرب، والذي كان يمكن أن يمنع أذربيجان من التصعيد فهو إيران. وقد أوضحت طهران أنها لن تتسامح مع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة. وأشار أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، خلال لقاء مع نظيره الأرميني أرمين غريغوريان، في طهران خلال أبريل (نيسان) إلى أن «أي تغيير جغرافي في منطقة جنوب القوقاز يخلق توتراً يستغله أعداء أمن واستقرار المنطقة». وبعد حرب 2020 بدأت إيران إجراء كبرى مناوراتها العسكرية في مناطقها الشمالية. وبحلول يناير (كانون الثاني) 2023، عندما تم إطلاق النار على السفارة الأذرية في إيران، وبدا أن أزمة كاملة قد اشتعلت في العلاقات بين باكو وإيران.

في ظل هذا الوضع الجيوسياسي، تبين أن مهمة فرض السيطرة النهائية على كاراباخ لصالح باكو ممكنة تماماً. وكان اختيار ساعة الصفر في 19 سبتمبر عندما تقدمت القوات المسلحة الأذرية، وأطلقت عملية مركزة للسيطرة على المنشآت الأساسية في كاراباخ. وبعد يوم واحد، لم يكن أمام قيادة جمهورية كاراباخ سوى الرضوخ لشروط باكو، والبدء بتسليم السلاح وصولاً في وقت لاحق إلى إعلان «حل الجمهورية» وإنهاء حلم أرمن كاراباخ في الاستقلال.

الحضور الغربي

على الصعيدين الإقليمي والعالمي، يمكن القول إن عملية أذربيجان لم تخلق واقعاً جيوسياسياً جديداً بل وضعت اللبنة الأخيرة في واقع تبلور تدريجياً خلال السنوات الأخيرة، وجاءت حرب روسيا في أوكرانيا لتسرّع هذا المسار. وحقاً، يستحيل تجاهل أن التأثير الأوروبي والأميركي في الأحداث الجارية ما زالا محدودين للغاية رغم تزايد نشاطهما أخيراً.

والواقع الذي نشأ بعد حرب كاراباخ الثانية يشير إلى أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية (باستثناء دول معينة مثل المجر) أكثر تعاطفاً مع أرمينيا، خصوصاً مع الأخذ في الاعتبار عامل باشينيان بوصفه «نظاماً ديمقراطياً». وفي الوقت عينه، فإن الغرب عاجز عن تقديم دعم قوي ليريفان، بسبب عدد من العوامل أبرزها أهمية تركيا، والدور المتنامي لموارد الطاقة في بحر قزوين، والنزعة السلمية الأوروبية، وتشتت القوات الأميركية بسبب المواجهة مع روسيا والصين وإيران.

لقد أثبت الغرب أنه عاجز عن التأثير على مسار الصراع، لما كانت العقوبات هي الأداة الأخيرة بين يديه، ورغم تهديد البرلمان الأوروبي باكو قبلاً باتخاذ إجراءات عقابية، فإن عامل الطاقة منع الاتحاد الأوروبي من اتخاذ خطوات صريحة مناهضة لأذربيجان.

إيران وتركيا

بالتأكيد أن انتصار باكو عكس انتصاراً إقليمياً مهماً لتركيا التي عززت نفوذها بشكل غير مسبوق في منطقة جنوب القوقاز. في المقابل، تعرضت إيران لنكسة قوية.

كان نشاط إيران قد ازداد خلال العام الأخير على خلفية تعرضها لخسارة فادحة بسبب نجاح باكو خلال حرب 2020 في فرض سيطرة على الجزء الأعظم من الشريط الحدودي الذي كان يُستخدم بنشاط في الحركة التجارية بين أرمينيا وإيران. أيضاً قاد استبعاد إيران عن جهود روسيا لتسوية الصراع إلى ازدياد الاستياء في طهران بسبب تجاهل مصالحها. ونظر كثيرون في موسكو إلى بعض الاستفزازات الحدودية خلال السنوات الثلاث الماضية، بأنها مدعومة من جانب إيران بسبب رفض فرض تسوية نهائية لا تكون مصالح طهران مضمونة فيها.

العنصر الثاني المهم لإيران يتعلق بملفات التوتر بالوضع الداخلي في إيران على خلفية المزاج الاحتجاجي العام في البلاد. ولا يخفى أن ثمة أقلية قومية أذرية وازنة في إيران، يصل حجمها وفقاً لتقديرات مختلفة بين 25 و35 مليون أذربيجاني، وهي أكبر أقلية قومية في البلاد. ولطالما شكّلت أوضاع هذه الأقلية محور نقاشات وسجالات دائمة، وكانت تبرز إلى السطح عند كل منعطف أو توتر بين البلدين، لجهة اتهامات بانتهاك حقوق أبناء هذه الأقلية ووضعهم الاجتماعي والسياسي... فضلاً على مخاوف طهران من أن يُستخدم كثيرون منهم لتأجيج مزاج احتجاجي في البلاد. وهذا أمر له ما يبرره على خلفية تصريحات المسؤولين الأذربيجانيين الدائمة حول هذا الموضوع. ويكفي أنه في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قال الرئيس الأذري إلهام علييف إن «الأذريين الإيرانيين هم جزء من أمتنا». وخروج أذربيجان منتصرة بشكل حاسم من معركة كاراباخ سوف يُعزز هذه المخاوف لدى إيران.

مهّدت الأجواء للانتقال إلى مرحلة جديدة عبر فرض أمر واقع يشطب أي حوارات مستقبلية حول مصير كاراباخ

من ميدان القتال في كارباخ (آ ف ب)

قراءات الربح والخسارة في الحصيلة الروسية؟

> للعلم، برز جدال صاخب بين وجهتَي نظر حول تداعيات الحسم الأذري في كاراباخ على الوجود الروسي في منطقة جنوب القوقاز. فمن ناحية، بيّنت خسائر روسيا المباشرة، وفقاً لترجيحات، انتهاء أو على الأقل تقلص أهمية الدور الروسي في منطقة جنوب القوقاز. ويشير خبراء إلى أن أذربيجان ستذهب لاحقاً نحو طلب مغادرة قوات الفصل الروسية المنطقة بسبب انتفاء الحاجة إليها.

وبما أن كل الأطراف تعترف بأن أذربيجان تتصرف «على أراضيها»، فهذا يعني رفض بقاء القوات الروسية لحفظ السلام هناك. لكنّ المفارقة أن مسارعة يريفان إلى تسهيل استقبال أرمن كاراباخ، يخلق وضعاً مناسباً لباكو لإنهاء أي حضور خارجي بذريعة المحافظة على السلام أو ضمان حقوق الأقلية الأرمنية. وهذا بالتأكيد لا يصبّ في مصلحة موسكو التي لن تفقد فقط حضوراً مؤثراً في منطقة حيوية بالنسبة إليها، بل ستتعرض أيضاً لخسارة جديدة لمواقعها ونفوذها في الفضاء السوفياتي السابق كله، بعد تحوّل أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا إلى خصوم، ومراوحة بلدان آسيا الوسطى على خط «الحياد السلبي» في بعض جوانبه إبان مواجهة روسيا الحالية مع الغرب.

وعليه، طبيعيٌّ أن يتزامن تراجع مواقع موسكو في الإقليم مع تنشيط التحركات الأميركية فيه، والواضح أن نشاط واشنطن الكبير يهدف إلى تسريع تحويل جنوب القوقاز إلى «منطقة واحدة تتجه نحو الغرب». وبين الأهداف الجانبية لواشنطن أيضاً احتواء إيران على حدودها الشمالية، وخلق الظروف الأكثر إزعاجاً لمشاريع النقل واللوجيستيات المشتركة التي تروّج لها موسكو وطهران في المنطقة.

رهانات مقابلة

في المقابل، ترى الأوساط المقربة من الكرملين، أن روسيا ستظل القوة الحاسمة في كاراباخ وجنوب القوقاز ككل. ونظرياً، يمكن أن تؤدي الاتهامات بالتخلي عن أرمينيا وأرمن كاراباخ إلى إضعاف موقف موسكو في منظمة «معاهدة الأمن الجماعي» على المدى الطويل. ويمكن أن تثير يريفان أيضاً مسألة سحب القاعدة العسكرية الروسية رقم 102 من غيومري. لكن في الوقت نفسه، تروّج روسيا لفكرة أنها لم تقف على الحياد، وأن «أرمينيا نفسها وباشينيان شخصياً رفضا التدخل في الأحداث الأخيرة في كاراباخ».

الرهان الروسي يبدو قائماً على أن الاتهامات ضد روسيا لن تغيِّر أي شيء بشكل جذري. وبعد خسارة كاراباخ النهائية، ستبقى أرمينيا بحاجة إلى قاعدة عسكرية روسية كي تشعر بالأمان بجوار البلدين «التركيين» اللذين ترى فيهما تهديداً. ويقول خبراء مقربون من الكرملين إن قوات حفظ السلام الروسية لن تغادر كاراباخ نفسها، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وستحافظ أرمينيا على اعتماد مالي واقتصادي كبير على روسيا. إذ ترتبط جميع قطاعات الطاقة والسكك الحديدية وغيرها من مكونات الاقتصاد الأرمني بأنشطة الشركات الروسية، والتي لن يكون من السهل استبدال الشركات الغربية بها بين عشية وضحاها.

ونظراً لاحتفاظ روسيا بالقاعدة العسكرية في غيومري وقوات حفظ السلام في كاراباخ، فضلاً عن وجود معاقل لها في أبخازيا وأوسيتيا، فإن روسيا في المحصلة سوف تظل من وجهة نظرهم القوة المهيمنة في المنطقة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.