دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»

سيتجاوز حكمه الـ40 سنة بنهاية ولايته عام 2026

دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»
TT
20

دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»

دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»

يبدو أن على رئيس الكونغو برازافيل دينيس ساسو نغيسو أن «يتحسّس حكمه» في ظل عدوى الانقلابات التي تضرب أفريقيا حالياً، ونالت أخيراً من جارته الغابون. فبينما يتأهب نغيسو (79 سنة) لأن يتجاوز 40 سنة في السلطة مع نهاية ولايته الحالية عام 2026، تأتي شائعات الانقلاب لتلاحقه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أثناء وجوده خارج البلاد للمشاركة في نيويورك باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. التكهنات التي ظهرت بالتزامن مع مغادرة نغيسو العاصمة الكونغولية برازافيل، التي زعمت سيطرة قوات من الجيش على مؤسسات الدولة، نفتها الحكومة ووصفتها بـ«الشائعات الخيالية»، وطالبت الرأي العام بالهدوء، والمواطنين بممارسة نشاطاتهم المعتادة.

قبل بضعة أيام، وحول الوضع في الكونغو برازافيل، كتب تييري مونغالا، وزير الإعلام، في منشور على صفحته الشخصية بمنصة «إكس» («تويتر» سابقاً): «تنفي الحكومة الشائعات، وتؤكد أنه لم يحدث انقلاب عسكري في برازافيل، وتطالب الرأي العام بالهدوء، والمواطنين بممارسة نشاطاتهم المعتادة». كذلك نشرت الرئاسة الكونغولية، في وقت لاحق، شريط فيديو للرئيس لدى وصوله إلى مقر البعثة الكونغولية للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغابون، الجارة الغربية للكونغو برازافيل، كانت آخر محطة وصل إليها قطار الانقلابات العسكرية الأفريقية، يوم 30 أغسطس (آب) الماضي، بعد كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغينيا.

النشأة والمسيرة

ولد دينيس ساسو نغيسو عام 1943 في منطقة في وسط المستعمرة الفرنسية السابقة التي تتجاور مع الغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى والكاميرون وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وبحسب نغيسو، فإن والده كان زعيماً للقرية ويقود رابطة للصيادين. وهو، بعد إنهائه دراسته الثانوية في مدرسة لوبومو الثانوية المحلية عام 1961، كان ينوي العمل مدرساً، بيد أنه فشل في الالتحاق بكلية تخرج المعلمين في العاصمة برازافيل، لأن ذلك كان يحتاج إلى علاقات سياسية لم تتوفر لديه ولدى أسرته، فالتحق بالجيش الذي أرسله إلى الجزائر وفرنسا لتلقي الإعداد العسكري. وبعد مسيرة في السلك العسكري، عيّن ساسو نغيسو عام 1963 قائداً للقوات المسلحة في برازافيل، وبحلول أوائل السبعينات من القرن الماضي، كان قد ارتقى إلى رتبة عقيد.

الصعود إلى السلطة

خلال هذا الوقت، لعب ساسو نغيسو دوراً نشطاً في السياسة، إذ انضم إلى حزب العمل الكونغولي الذي اعتنق الآيديولوجية الماركسية اللينينية وأصبح الحزب الحاكم والوحيد في البلاد في عام 1970. وغدا ساسو نغيسو مقرّباً من الرئيس اليساري الراحل ماريان نغوابي الذي تولّى الحكم بين عامي 1968 و1977، وعيّنه الرئيس وزيراً للدفاع عام 1975. غير أنه، بعد اغتيال نغوابي عام 1977، وعلى الرغم من نفوذ ساسو نغيسو الكبير داخل الجيش والحزب الحاكم، وصل يواكيم يومبي أوبانغو، منافسه داخل الحزب، إلى السلطة... بينما عيّن ساسو نغيسو نائباً أول لرئيس الجمهورية. ومع هذا، في ضوء فشل يومبي أوبانغو في فرض سيطرته على الجيش والحزب، أجبرته اللجنة العسكرية للحزب على الاستقالة في فبراير (شباط) 1979، وفي الشهر التالي نصّبت ساسو نغيسو رئيساً للجمهورية ورئيساً للحزب.

استقرار نسبي ثم سقوط وحرب

تمتعت البلاد في البداية بفترة من الاستقرار النسبي في عهد الرئيس الجديد، وأعاد الحزب انتخابه للرئاسة في عام 1984، ومرة ثالثة في عام 1989. وخلال تلك الفترة نجح ساسو نغيسو في التخلص من منافسيه وخصومه السياسيين في الحزب والجيش، ونجح في تقوية دعائم حكمه مستفيداً من اكتشاف احتياطات النفط في بلاده، ورواج الآيديولوجيا الماركسية في بلاده والقارة الأفريقية بمساندة الاتحاد السوفياتي والصين له. وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من التوجه اليساري للبلاد، ساعدته الاستثمارات الفرنسية في مجال النفط على تحقيق استقرار اقتصادي لا بأس له. غير أن انخفاض أسعار النفط في الثمانينات أدى إلى تعثر الاقتصاد الكونغولي، ما نجم عنه تآكل شعبية ساسو نغيسو وتزايد السخط الشعبي، وبالفعل، تصاعدت المطالبة بالديمقراطية وتنامت الاحتجاجات الشعبية، كما أجهض الرئيس انقلاباً عسكرياً ضد حكمه عام 1987، وتبنّى سياسات عنفية وقمعية ضد خصومه.

ومن ثم، وسط الأوضاع الاقتصادية السيئة وتراجع شعبية الرئيس، تخلى الحزب الحاكم رسمياً عن سياساته الماركسية اللينينية عام 1990. وهذه الخطوة ما كانت تبشر بالخير لساسو نغيسو، إذ تلاها إجراء أول انتخابات متعددة الأحزاب في البلاد خلال أغسطس 1992. وجرى إقصاء ساسو نغيسو في الجولة الأولى من التصويت بعدما حل ثالثاً، وانتُخب باسكال ليسوبا من حزب الاتحاد الأفريقي للتنمية الاجتماعية رئيساً.

عودة جديدة... بالقوة على الأثر، شكّل حزب ساسو نغيسو تحالف معارضة نظّم احتجاجات وعصياناً مدنياً ضد إدارة ليسوبا. ثم في عام 1993، اشتبكت الميليشيات الداعمة لساسو نغيسو مع القوات الحكومية، واستمر العنف المتصاعد في العام التالي وسقط جراءه عدد كبير من الضحايا. وبعد فترة هدوء نسبي عاد العنف ليستعر بين الجانبين في الأشهر التي سبقت الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 1997، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية طالت لمدة سنتين، سقط فيها آلاف القتلى ونزح مئات الآلاف.

وبعد الحرب، في خريف عام 1997، أُجبر ليسوبا على مغادرة البلاد، وأُعلن ساسو نغيسو رئيساً للبلاد مرة أخرى. وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار خلال عام 1999، واجه الرئيس العائد أعمال عنف لبعض الوقت في بعض مناطق البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، واجه مشكلات اقتصادية مستمرة ومزاعم بالفساد داخل الحكومة.

انتخابات ... بلا منافسين

أعيد انتخاب ساسو نغيسو عام 2002 في انتخابات شابها الجدل. وقاطع بعض مرشحي المعارضة السباق الانتخابي، زاعمين أن الإصلاح الديمقراطي لا يزال غائباً وأن الانتخابات لن تكون حرة ونزيهة. ونتيجة لذلك، لم يواجه الرئيس أي منافسة حقيقية، في حين شككت المعارضة في شرعية فوزه الساحق. وبعدها أعيد انتخابه في ظروف مشابهة عام 2009، ومجدداً، قاطع مرشحو المعارضة الأساسيون الانتخابات، وأُعيد انتخاب ساسو نغيسو بفارق كبير. لكن، على الرغم من ادعاء المعارضة وبعض المنظمات وقوع حوادث تزوير وترهيب، اعتبر المراقبون الدوليون من الاتحاد الأفريقي أن الانتخابات كانت حرة ونزيهة.

تعديل الدستور

من جهة ثانية، على الرغم من أن الدستور يمنع ساسو نغيسو من الترشح لولاية أخرى للرئاسة، اتُّخِذت خطوات للتغلب على هذا القيد. وجرى طرح اقتراح لتعديل الدستور لإلغاء حدود الولاية ورفع الحد الأقصى لسن المرشح الرئاسي - وهي من التغييرات التي من شأنها السماح للرئيس بالترشح لفترة رئاسية أخرى - للاستفتاء في أكتوبر (تشرين الأول) 2015. ومرة أخرى، قاطعت المعارضة الاستفتاء في حين ذكرت السلطات الرسمية أن 3 أرباع الناخبين المسجلين أدلوا بأصواتهم، بنسبة تأييد للتعديلات المقترحة وصلت إلى 92 في المائة.

وبعد التعديلات، رُشّح ساسو نغيسو مرشحاً رسمياً عن حزب العمل الحاكم في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 20 مارس (آذار) 2016، وسط انقطاع للاتصالات، ما أثار انتقادات شديدة. ومن ثم، أعلن فوز الرئيس بالانتخابات، وادعى المسؤولون أنه فاز بحوالي 60 في المائة من الأصوات، الأمر الذي اعترضت عليه المعارضة، وأدى إلى نشوب أعمال عنف احتوتها السلطات الأمنية. وفي انتخابات مارس 2021، أُعيد انتخابه، وورد رسمياً أنه حصل على أكثر من 88 في المائة من الأصوات، وهذا على الرغم من تكرار الظروف نفسها التي حدثت عام 2016، حين قاطعت المعارضة الرئيسة الانتخابات، وعُطّلت خدمة الإنترنت في البلاد، وكانت النتيجة محل نزاع، وسط تكرار المزاعم بتزوير الانتخابات.

في هذا السياق، كتب فافا تامبا، الباحث الكونغولي في الشؤون الأفريقية، في مقال نشر في صحيفة «الغارديان» البريطانية بعد انتخابات عام 2021، إن ساسو نغيسو «حريص على إجراء الانتخابات الشكلية لأنها تمنحه شكلاً من الشرعية، حتى لو كانت مزوّرة ومعيبة بشكل صارخ وتشبه ارتداء الإمبراطور لملابسه الجديدة».

وتابع أن ساسو نغيسو «أمير الحرب الذي أطاح باسكال ليسوبا، المنتخب ديمقراطياً، ليعيد تنصيب نفسه رئيساً عبر حرب أهلية خلّفت آلافاً من القتلى وظلت جرحاً مفتوحاً في البلاد، يريد سلطة غير محدودة طوال حياته. إلا أنه يريد أيضاً الحصول على موافقة من القوى الدولية على ذلك».

اتهامات بالفساد

ما يستحق الذكر أن ساسو نغيسو اتهم عدة مرات بالاختلاس وإساءة استخدام الأموال العامة وغسل الأموال. وفي مايو (أيار) 2009، أعلنت محكمة فرنسية إجراء تحقيق في ما إذا كان الرئيس الكونغولي، ومعه زعيمان أفريقيان هما عمر بونغو رئيس الغابون (آنذاك)، وتيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو رئيس غينيا الاستوائية، نهبوا خزائن دولهم لشراء منازل وسيارات فاخرة في فرنسا.

أيضاً، اتُّهم نجل ساسو نغيسو، دينيس كريستيل، وكان وقتها عضواً في المجلس التشريعي الوطني ووزير التعاون الدولي في الحكومة، بتلقي 50 مليون دولار أميركي من الخزانة الوطنية بشكل فاسد. وكذلك اتُّهمت ابنته كلوديا ليمبومبا، عضو المجلس التشريعي الوطني ورئيسة مكتب الاتصالات الرئاسية، باستخدام 20 مليون دولار من أموال الحكومة لشراء شقة في أبراج ترمب في مدينة نيويورك، واتُّهمت ابنة ثانية هي جوليان بغسل الأموال.

وفي هذا الإطار، يتهم الباحث الكونغولي تامبا القوى الغربية بالصمت حيال الفساد وتزوير الانتخابات في برازافيل، لافتاً إلى أن نصف الشعب يعيش في فقر مدقع، رغم غنى وثراء البلاد. ويعدّ تامبا أن الدولة محكومة بالفساد، وأن أي معارضة حقيقية «يُصار إلى قمعها بالقوة، ويجري استهداف المعارضين بالسجن والنفي وغيرهما من أشكال العنف». كذلك يرى تامبا أن الكونغو لم تتخلص بعد من الاستعمار بسبب حكم ساسو نغيسو وعائلته، مشيراً إلى أنه «بحلول نهاية عام 2026، سيكون ساسو نغيسو قد أمضى في السلطة فترة أطول من فترة حكم جوزيف ستالين وديكتاتور جمهورية أفريقيا الوسطى جان بيديل بوكاسا مجتمعين». ومن ثم، يضيف أنه «منذ عهد الاتحاد السوفياتي، لم تكن الكونغو برازافيل، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة، ومتوسط العمر فيها 17 سنة، ديمقراطية أو جمهورية من الناحية الليبرالية. بل يحكمها ساسو بقبضة من حديد».

ثم يشير إلى الحالة الاقتصادية السيئة المزمنة التي تعيشها البلاد حيث «يمضي موظفو الخدمة المدنية شهوراً من دون أجور ومعاشات تقاعدية. وتمر على المستشفيات أشهر من دون توفير الأدوية الأساسية».

أزمة انتقال السلطة في أفريقيا

أخيراً، ترى أماني الطويل، الباحثة المصرية في الشؤون الأفريقية، في حالة الرئيس ساسو نغيسو في الكونغو برازافيل، «تمثيلاً لمأساة كثير من الدول الأفريقية في ما يتعلق بالتحايل على عملية انتقال السلطة بشكل قانوني، وذلك عبر انتخابات شكلية مزورة والفساد واضطهاد المعارضين والمنافسين وإقصائهم أو عن طريق العنف المتمثل في الحروب الأهلية أو الانقلابات العسكرية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، رأت الطويل أن سيطرة رؤساء على السلطة بشكل غير قانوني يساهم في انعدام الاستقرار والأمن، وقد يؤدي إلى مزيد من الانقلابات العسكرية والحروب في أنحاء مختلفة من القارة. وتابعت: «على الاتحاد الأفريقي والقوى والمنظمات الدولية تبني مقاربات جديدة فاعلة تدعم عمليات تحوّل حقيقي للديمقراطية في القارة، والكفّ عن غض الطرف عن الانتخابات المزوّرة والفساد بكل أشكاله... لأن انعدام الأمن والاستقرار في أفريقيا يهدد الأمن العالمي».


مقالات ذات صلة

تنسيق مصري - أنغولي لدعم قضايا السلم والأمن في أفريقيا

العالم العربي محادثات في القاهرة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الأنغولي (الرئاسة المصرية)

تنسيق مصري - أنغولي لدعم قضايا السلم والأمن في أفريقيا

توافقت مصر وأنغولا على تعزيز أوجه التعاون في مختلف المجالات، إلى جانب استمرار التنسيق والتشاور المشترك، وذلك خلال اجتماع رئيسي البلدين بالقاهرة، الثلاثاء.

أحمد إمبابي (القاهرة)
الاقتصاد مقر «أفريكسيم بنك» في القاهرة (الموقع الإلكتروني للبنك)

«أفريكسيم بنك» يطلق خط ائتمان بـ3 مليارات دولار لخفض فاتورة الوقود المستورد للقارة

أطلق البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد خط ائتمان متجدداً بقيمة 3 مليارات دولار ليستفيد منه المشترون في أفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي بشأن الوقود.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية رئيس الاتحاد المغربي قد يكون خليفة محتملاً لرئيس الاتحاد الأفريقي الحالي (إ.ب.أ)

«كاف» يعين المغربي لقجع نائباً أول لرئيسه

انتخب المغربي فوزي لقجع نائباً أول لرئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) خلال اجتماع اللجنة التنفيذية، السبت، في العاصمة الغانية أكرا.

«الشرق الأوسط» (أكرا)
شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه رئيس رواندا بول كاغامي عام 2024 (أرشيفية - الرئاسة المصرية)

مصر تؤكد دعمها لجهود تسوية النزاعات بالطرق السلمية في أفريقيا

أكدت مصر «دعمها جميع الجهود الرامية إلى تسوية النزاعات بالطرق السلمية في القارة الأفريقية، واحترام مبادئ القانون الدولي والقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شمال افريقيا رئيس الوزراء المصري لدى وصوله مدينة عنتيبي الأوغندية (مجلس الوزراء المصري)

مصر تعزز دعمها لاستقرار الصومال بالمساهمة في «بعثة الاتحاد الأفريقي»

عززت مصر دعمها لاستقرار الصومال بتأكيد مساهمتها في بعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ الاستقرار في الصومال (أوصوم)، التي بدأت مهمتها رسمياً مطلع هذا العام.

أحمد إمبابي (القاهرة )

مارك كارني... زعيم كندا الجديد أمام تحديَي الانتخابات العامة والتعايش مع دونالد ترمب

مارك كارني
مارك كارني
TT
20

مارك كارني... زعيم كندا الجديد أمام تحديَي الانتخابات العامة والتعايش مع دونالد ترمب

مارك كارني
مارك كارني

سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، منذ بدأ فترة ولايته الثانية في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، وضعت كندا في «عين العاصفة». ذلك أن ترمب لم يتردد في اعتبار «الجارة الشمالية» لبلاده «ولاية أميركية»، وطالب السلطات الكندية بالتجاوب مع رغبته. والحال أن ترمب «لم يضع عينيه» على كندا وحدها، بل طالب أيضاً الدنمارك بالتخلّي له عن جزيرة غرينلاند، كبرى جزر شمال المحيط الأطلسي، وأعلن عزمه على استعادة السيطرة على منطقة قناة بنما، وهي القناة الاستراتيجية الواصلة بين المحيطين الأطلسي والهادئ التي كانت بلاده قد لعبت دوراً أساسياً في شقّها مطلع القرن العشرين

مطالبة دونالد ترمب بجعل كندا «الولاية الأميركية الـ51» بدأت عندما كان جاستن ترودو يتولّى منصب رئاسة الحكومة الكندية. وعلى الرغم من تصدّي ترودو للرئيس ترمب ورفضه البحث في الأمر، واصل «سيد» البيت الأبيض ضغوطه بعد انتقال المنصب في أوتاوا يوم 14 مارس (آذار) الفائت إلى مارك كارني، رئيس وزراء كندا الجديد. وهكذا بدأ الزعيم الجديد عهده في رئاسة الحكومة بتجربة قلّما عرفتها الديمقراطيات الغربية من حليفتها وشريكتها الكبرى.

النشأة والبداية

وُلد مارك جوزيف كارني يوم 16 مارس 1965 في أقصى جنوب مقاطعة الأقاليم الشمالية الغربية (بشمال كندا)، على الحدود مع ولاية ألبرتا لعائلة من أصول آيرلندية كاثوليكية. وكان أبوه روبرت كارني مدير مدرسة ثانوية، وأمه فيرلي مارغريت كيمبر كانت ربة منزل.

ومع بلوغ مارك السادسة من عمره انتقلت العائلة إلى مدينة إدمونتون، عاصمة ألبرتا، حيث نشأ وانخرط في الدراسة، وفي حين جرّب أبوه حظه في المعترك السياسي في ألبرتا ضمن صفوف حزب الأحرار (الليبرالي) الوسطي، استأنفت أمه تعليمها الجامعي وعملت في القطاع التربوي بجانب الاهتمام بمارك وأشقائه الثلاثة (ولدين وبنت).

أنهى مارك كارني دراسته الثانوية في مدرسة سانت فرنسيس كزافيير الكاثوليكية، وبفضل تفوقه تأهل لدخول جامعة هارفارد الأميركية العريقة مستفيداً من منح وإعانات مالية. وبعد تخرّجه في «هارفارد» بتفوّق متخصّصاً في الاقتصاد، انتقل إلى بريطانيا، حيث تابع، ومن ثم أكمل، دراسته العليا في جامعة أوكسفورد العريقة. ومنها حصل على ماجستير الفلسفة من كلية سانت بيترز عام 1993، ثم الدكتوراه من كلية نفيلد عام 1995.

المسيرة المصرفية بعد «هارفارد» و«أوكسفورد»

مسيرة كارني المهنية في عالم المال والمصارف انطلقت من انضمامه إلى مجموعة «غولدمان ساكس» المالية والمصرفية الشهيرة، حيث تقلّب في عدد من المواقع الوظيفية المهمة على امتداد 13 سنة، عمل فيها في مقرات المجموعة في كل من مدن بوسطن ولندن ونيويورك وطوكيو وتورونتو.

بعدها انتقل كارني عام 2003 إلى بنك كندا (البنك المركزي الكندي) ليشغل منصب نائب الحاكم. وفي العام التالي، 2004، عُيّن نائب وزير مشارك في وزارة المالية. ثم في عام 2007 عُيّن حاكماً لبنك كندا، وهكذا قُيّضت له قيادة البنك في عز الأزمة المالية العالمية التي تفجّرت عام 2008، وكان في حينه الحاكم الأصغر سناً بين حكام البنوك المركزية لدول «مجموعة الثماني» و«مجموعة العشرين». وحقاً، تجلّت قدرات كارني وحنكته الإدارية في نجاحه في تجنيب كندا معظم الآثار السيئة للأزمة العالمية يومذاك، واستمر في قيادة بنك كندا حتى عام 2013.

في وقت لاحق من ذلك العام عُيّن كارني حاكماً لبنك إنجلترا (المركزي)، وفي لندن أيضاً نجح وتأكدت كفاءاته الإدارية وتمكّن باقتدار من قيادة أحد أكبر البنوك المركزية العالمية، بين عامي 2013 و2020، عبر تداعيات خروج بريطانيا من أسرة «الاتحاد الأوروبي»، (بريكست)، وفيما بعد المرحلة الأولى من جائحة «كوفيد-19» العالمية.

بدايات دخول معترك السياسة

من ناحية ثانية، ما كانت علاقات مارك كارني بعالم السياسة مفاجئة حقاً لعارفيه ومتابعي اهتماماته، وبالأخص، لدى النظر إلى اهتمامات أبيه السياسية.

والواقع أنه -كما يقول- أتيحت له الفرصة لدخول الحكومة عام 2012، عندما عرض عليه ستيفن هاربر، رئيس الوزراء الكندي المحافظ (يومذاك)، تولّي منصب وزير المال في حكومته، غير أنه اعتذر عن قبول المنصب. وفيما بعد، أوضح خلال مقابلة أُجريت معه في فبراير (شباط) الفائت على شاشة التلفزيون الكندي أنه رأى أنه من «غير اللائق» التجاوب مع عرض هاربر؛ لاقتناعه بأن الانتقال مباشرةً من «حاكمية البنك المركزي إلى معترك السياسة الانتخابية» لا يجوز. وفي العام التالي، 2013، تكرّر «السيناريو» نفسه تقريباً عندما طلب منه حزب «الأحرار» -الذي كان ينتمي إليه أبوه- خوض انتخابات زعامة الحزب... ومجدّداً اعتذر.

ولكن، يمكن القول إنه عندما أنهى كارني مسيرته في عالم المصارف، ودخل مجال الاستشارات والإدارة المالية كان اتجاهه إلى العمل السياسي مسألة وقت. وبالفعل، في أعقاب توليه قيادة إحدى كبريات شركات إدارة الاستثمارات ورئاسة مجلس إدارة شركة «بلومبرغ» العملاقة الشهيرة، وبينما كان يتأهَّب لمغادرة منصبه على رأس بنك إنجلترا، عُيّن في مارس 2020 مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة للتعامل مع شؤون المناخ والتمويل.

كان بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني (في حينه)، قد أسند إليه خلال يناير (كانون الثاني) من العام نفسه منصب المستشار المالي للرئاسة البريطانية لقمة «كوب 26» للمناخ المنعقدة في مدينة غلاسغو الاسكوتلندية، والمبرمجة أساساً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. غير أنها أُجِّلت سنةً واحدة فعُقدت في نوفمبر 2021.

مع حزب «الأحرار»

في عام 2021 أيضاً وقف مارك كارني خطيباً على منبر مؤتمر السياسة الحزبية الذي نظمه حزب «الأحرار» الكندي، وأعلن تأييده للحزب، إلا أنه أحجم عن الالتزام بالترشح تحت رايته. وبسبب الانشغال بقمة «كوب 26» للمناخ (المؤجلة) أعلن صرفه النظر عن خوض الانتخابات العامة الاتحادية الكندية التي جرى التداول بأمرها. أما على الصعيد البريطاني، فقد أيَّد كارني عام 2023 تولي راتشيل ريفز، عضو «حكومة الظل» العمالية، منصب وزير المالية. وبعد انتصار العمال في الانتخابات العامة البريطانية عام 2024 التحق بـ«فريق المهمات» الذي أسهم في إنشاء «الصندوق البريطاني للثروة الوطنية».

مسيرة الصعود نحو الزعامة

يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2024 أسند رئيس الوزراء الكندي ترودو -وزعيم حزب «الأحرار»- إلى كارني رئاسة «فريق المهمات» الحزبي لشؤون النمو الاقتصادي، ولفترة قصيرة تداول البعض اسمه وزير مالية محتملاً بعد استقالة الوزيرة كريستيا فريلاند، التي هي اليوم وزيرة النقل والتجارة الداخلية في حكومته.

ومما يجدر التطرق إليه، أنه كانت هناك علاقة تعاون خجولة البدايات بين الرجلين، أو بالأصح بين الزعيمين السابق والحالي، فقد عمل كارني بصورة غير رسمية لترودو عندما كان الأخير يتولى منصب رئاسة الحكومة إبّان جائحة «كوفيد-19».

ومن ثم، في يناير (كانون الثاني) الماضي، في أعقاب تقديم ترودو استقالته من رئاسة الحكومة، أعلن كارني نيته الترشّح للمنصب. وبالفعل، حقق انتصاراً كاسحاً في الانتخابات الحزبية لحزب الأحرار الحاكم، ولم يلبث بعدها أن تولى زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة. وقد أدّى قسم اليمين رسمياً يوم 14 مارس الماضي، بعد بضعة أيام من فوزه بزعامة الحزب. وعلى الأثر، طلب من الحاكم العام لكندا حل البرلمان من أجل التحضير لانتخابات عامة طارئة جديدة.

بطاقة هوية

> مارك كارني متزوج منذ 1994 من ديانا فوكس، وهي اقتصادية بريطانية وناشطة في مجالي حماية البيئة والعدالة الاجتماعية.

> التقى الزوجان وارتبطا في جامعة أوكسفورد، ورُزقا بأربعة أولاد.

> إلى جانب شهادة الدكتوراه التي حازها، مُنح كارني 4 شهادات فخرية من جامعات: مانيتوبا وألبرتا وتورونتو في كندا، ومعهد لندن لإدارة الأعمال في بريطانيا.

> يحمل كارني ثلاث جنسيات هي: الكندية والبريطانية الآيرلندية.

> لدى رئيس الوزراء الجديد أخ يعيش في إقليم آيرلندا الشمالية، وعدة أقارب يعيشون في مدينة ليفربول.

> العائلة تحب الرياضة وبالذات كرة القدم. وفي بريطانيا يشجع كارني نادي إيفرتون، بينما تشجع زوجته نادي آرسنال. وفي كندا يناصر نادي إدمونتون أويلرز (هوكي الجليد) وإدمونتون إيلكس (الكرة الكندية). وبالمناسبة، بلغ تعلق رئيس الوزراء بالرياضة حد مشاركته في «ماراثون أوتاوا» عام 2011 و«ماراثون لندن» عام 2015، وإكماله السباقين.