فاز برناردو أريفالو يوم 20 أغسطس (آب) بالجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة في غواتيمالا متغلباً على منافسته ساندرا توريس بفارق كبير، ومن المقرر أن يقسم اليمين الدستورية ويتولى منصبه رسمياً يوم 14 يناير (كانون الثاني) المقبل، ليغدو الرئيس الـ52 لكبرى دول أميركا الوسطى. المرشح الفائز، الذي يقود حزب «سيمييا» – أي البذرة – المحسوب على يسار الوسط، ومنافسته توريس ليسا شخصيتان طارئتان على المشهد السياسي في غواتيمالا. إذ إن أريفالو ابن رئيس جمهورية سابق هو خوان خوسيه أريفالو، بينما توريس، مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» (أيضاً يسار الوسط) زوجة رئيس سابق للجمهورية، وخاضت الجولة الثانية الحاسمة من المعركة محاولة استقطاب أصوات اليمين. ومن جهة أخرى، فإن غواتيمالا «جارة» المكسيك من الشرق، وشريكتها في كونها مهد حضارة شعب المايا العريقة قلّما عرفت الاستقرار السياسي لفترات طويلة، بل كانت على الدوام في طليعة الدول المتأثرة بالاستقطابات الآيديولوجية والتجارب الديكتاتورية والعنف السياسي والحسابات الجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، ولا سيما إبان حقبة «الحرب الباردة».
ليس سهلاً أن تكون سياسيا في غواتيمالا... البوابة الشمالية لدول أميركا الوسطى الممتدة من حدود المكسيك غرباً إلى حدود كولومبيا شرقاً. والدولتان هما أكبر الدول الناطقة بالإسبانية في العالم. فهذه الدولة التي تعتز بأنها مهد حضارة شعب المايا، إحدى أعظم حضارات أميركا القديمة، عاشت مسيرة سياسية مضطربة، وكانت من الدول الأميركية اللاتينية التي شعرت بوطأة استقطابات «الحرب الباردة»، وبالأخص بعد «الثورة الكوبية» بقيادة فيديل كاسترو. ولئن كانت مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية قد رسمت لسنوات عديدة ملامح الصراعات السياسية في دول كفنزويلا (النفط) وبوليفيا (القصدير) وتشيلي (النحاس)... فإنها عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية كانت قوة فاعلة ومؤثرة في حياة غواتيمالا.
ولكن، ما إن انحسر تأثير «الحرب الباردة» حتى بزغت في عدد من دول أميركا اللاتينية، بشمال القارة وجنوبها ووسطها، ظاهرة الحركة «الإيفانجيلية» (أو «الإنجيليون الجدد») البروتستانتية المتشددة التي تغلغلت عبر العقود الأخيرة في أكبر خزّان بشري مسيحي كاثوليكي في العالم. وبالفعل، كان «الإنجيليون الجدد»، بفضل التزام أصواتهم وإمكاناتهم المالية قوة حقيقية أسهمت في فوز الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد السابق جاير بولسونارو بالانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة في البرازيل – كبرى دول العالم التي تدين بالمسيحية الكاثوليكية. والحقيقة أن هذه الحركة استفادت كثيراً ليس فقط من دعم الجماعات «الإيفانجيلية» المتشددة في الولايات المتحدة، بل أيضاً اجتذبت دعماً لا بأس به من قوى اليمين التقليدي الذي نفر من ميل تيار من رجال الإكليروس في دول أميركا اللاتينية إلى معسكر اليسار بتأثير من قساوسة يؤمنون بـ«التديّن الثوري». وحالياً في دول عديدة منها كولومبيا وغواتيمالا لـ«الإنجيليين الجدد» صوت مسموع ونفوذ كبير.
برناردو أريفالدو... سيرة ذاتية
ولد سيزار برناردو أريفالدو دي ليون، وهذا هو اسمه الكامل، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958 في مدينة مونتيفيديو، عاصمة جمهورية الأوروغواي، لعائلة سياسية غواتيمالية بارزة مع أنها تنتمي أصلاً إلى الطبقة الوسطى. إذ إن أباه خوان خوسيه أريفالدو كان سياسياً ومثقفاً وطنياً وإصلاحياً تولى رئاسة الجمهورية في غواتيمالا بين عامي 1945 و1951. ولقد عاش أريفالدو الأب منفياً خارج البلاد بعد الانقلاب اليميني الذي دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي آيه) عبر «شركة الفواكه المتحدة» الأميركية عام 1954. وإبان سنوات نفيه أنجب من زوجته الثانية مارغاريتا دي ليون ابنه برناردو، الرئيس المنتخب، في مونتيفيديو.
غير أن مكوث العائلة في الأوروغواي لم يطل كثيراً، إذ غادرت تلك البلاد عندما كان برناردو دون الثانية من عمره، ومن ثم أمضى الطفل عدة سنوات متنقلاً مع العائلة بين فنزويلا والمكسيك وتشيلي، ولم يعد إلى غواتيمالا إلا بعد بلوغه الخامسة عشرة من العمر. وفي أرض الوطن تلقى تعليمه في إحدى المدارس الكاثوليكية الخاصة في العاصمة غواتيمالا سيتي. وفيما بعد تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة العبرية في إسرائيل حيث حصل على بكالوريوس آداب في علم الاجتماع، وتابع دراساته العليا ليحصل على درجة دكتوراه في الفلسفة والأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوترخت في هولندا.
أما على مستوى حالته الاجتماعية، فإن أريفالدو تزوج ثلاث مرات، وأنجب 6 أولاد وبنات. زواجه الأول كان عام 1983 من سيدة أرجنتينية لكنهما تطلقا عام 1992. وبعدها تزوّج من زميلة له في السلك الدبلوماسي الغواتيمالي وأنجب منها ابنتين. أما زوجته الحالية منذ 2011 فهي لوكريسيا بينادو.
مع السلك الدبلوماسي
خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي التحق برناردو أريفالدو بوزارة خارجية بلاده وانضم إلى السلك الدبلوماسي، وخدم بين عامي 1984 و1986 بوظيفة سكرتير أول وقنصل في السفارة الغواتيمالية لدى إسرائيل، وفيما بعد أصبح وزيراً مفوضاً ومستشاراً بين 1987 و1988.
عام 1988 عاد إلى بلاده حيث عيّن نائب مدير للدراسات الاستراتيجية والتخطيط في وزارة الخارجية. وترقّى بعد ذلك ليشغل منصب مدير السياسات الخارجية الثنائية بين 1990 و1991، ثم مدير العلاقات الدولية الثنائية بين 1992 و1993، ثم العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية بين 1993 و1994.
تلك المسيرة في العمل الدبلوماسي انتهت بقرار تعيينه نائباً لوزير الخارجية حتى عام 1995، لكنه لم يستمر طويلاً في هذا الموقع، إذ سرعان ما عيّن سفيراً لدى إسبانيا، وفي ذلك العام قدّم أوراق اعتماده إلى ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس الأول عام 1996. وفي وقت لاحق من العام ذاته استقال من المنصب وغادر وزارة الخارجية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أريفالدو يجيد، فضلاً عن الإسبانية التي هي لغته الأم، كلاً من الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والعبرية.
الأبحاث... ثم السياسة
المحطة التالية في مسيرة أريفالدو، في أعقاب تركه السلك الدبلوماسي، كانت الأبحاث، إذ شغل منصب عضو مجلس إدارة مركز الأبحاث الإقليمية لأميركا الوسطى ورئيساً له. ومنذ عام 1999 تولى عدداً من المهام في منظمة «إنتربيس» الدولية للترويج لصنع السلام الدائم وحفظه، وغطى نشاطه دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وبجانب مهام حفظ السلام عمل أريفالدو مستشاراً لعدة منظمات بينها الأمم المتحدة ومعهد السلام في الولايات المتحدة وجامعة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية، ناهيك من كتابته مجموعة من الكتب في مجالات تخصصه، في التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع والدبلوماسية.
إلا أن طموحات الدبلوماسي والباحث وابن الزعيم السياسي لم تتوقّف عند هذا الحد، بل انخرط في العمل السياسي المباشر بعدما دفعته الأوضاع في غواتيمالا إلى التحرك الجاد. وفعلاً شارك عام 1915 في المظاهرات الشعبية المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية اليميني - المتهم بالفساد - أوتو بيريز مولينا. وخلال فترة قصيرة التقى جمهرة من المثقفين والليبراليين الإصلاحيين وأسسوا معا حركة «سيمييا» (البذرة) التي كانت قد أبصرت النور بوصفها تجمعا فكريا، وتحوّلت بعد ذلك إلى حزب سياسي عام 2017.
وحقاً، خلال الانتخابات الرئاسية عام 2019 كان أريفالدو المرشح المحتمل الأبرز لخوض الانتخابات باسم الحركة، قبل أن يحجم عن الترشح، وتسمي الحركة زميلته ثيلما آلدانا، المدعية العامة السابقة رئيسة المحكمة العليا، غير أن آلدانا نفسها منعت لاحقاً من الترشح. في المقابل، حول أريفالدو أنظاره إلى الكونغرس (المجلس التشريعي)، فتقدم بترشحه وانتخب على القائمة الوطنية، وتسلم مقعده في مطلع عام 2020، وفي هذه الأثناء قاد الكتلة البرلمانية لحركة «سيمييا» في الكونغرس، قبل أن يصار إلى انتخابه أميناً عاماً للحركة في العام الفائت 2022 خلفاً للأمين العام السابق صامويل بيريز ألفاريز.
المعركة الفاصلة على طريق الرئاسة
يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2023 أعلنت حركة «سيمييا» ترشيحها برناردو أريفالدو في انتخابات رئاسة الجمهورية، واختارت معه زميلته كارين هيريرا لمنصب نائب الرئيس. وبالفعل، يوم 16 فبراير (شباط) أقرت اللجنة العليا للانتخابات ترشح أريفالدو وهيريرا رسمياً وانطلقت على الأثر الحملة الانتخابية للحركة.
طوال الحملة التي لقب فيها مناصرو أريفالدو مرشحهم بـ«العم بيرني»، تشبيهاً له بالسيناتور الأميركي اليساري بيرني ساندرز، ركّز المرشح الرئاسي أولوياته أمام جمهور الناخبين على مكافحة الفساد الحكومي وانعدام الأمان، وضرورة العمل على خلق فرص عمل وتشجيع سياسات بيئية نظيفة تتعامل بجدية مع التغير المناخي. أما آيديولوجياً، فيعد أريفالدو نفسه وريثاً لنهج أبيه الإصلاحي التقدمي، وكذلك جاكوبو آربنز الوزير اليساري السابق في حكومة أبيه الذي صار رئيسا للجمهورية قبل أن يطيحه انقلاب 1954. والواقع أنه وصف نفسه مراراً بأنه «ديمقراطي اجتماعي» مؤمن بالنظام الجمهوري الديمقراطي، وقال إنه يؤمن بأن تضمن الدولة العدالة الاجتماعية والملكية الخاصة في آن معاً، وأعرب عن اهتمامه بتعزيز الأمن الاجتماعي.
مع هذا لم تجتذب شعارات أريفالدو كثيرا من الحماسة الجماهيرية عند انطلاق الحملة، إذ إن أحد استطلاعات الرأي المبكرة خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي وضعه في المرتبة ما قبل الأخيرة بين حشد المرشحين المتنافسين، وبنسبة تأييد لا تزيد على 0.7 في المائة. إلا أن وضعه تحسن ببطء في استطلاعات مايو (أيار) ويونيو (حزيران) وارتفعت نسبة تأييده إلى ما يقرب من 2 في المائة.
وجاءت الجولة الأولى من الاقتراع، وفيها تمكن من احتلال المرتبة الثانية - وسط دهشة أجهزة إعلام عالمية كبرى واستغرابها - وبذا دخل الجولة الثانية الحاسمة ضد مرشحة حزب «وحدة الأمل الوطنية» ساندرا توريس الزوجة السابقة للرئيس السابق الراحل آلفارو كولوم. وليس هذا فحسب، بل نجحت حركة «سيمييا» بكسب نسبة عالية من الأصوات أهلتها لتصبح ليس ثالث أكبر الأحزاب في الكونغرس، بل أيضاً في «برلمان أميركا الوسطى» والمجلس المحلي للعاصمة غواتيمالا سيتي.
قوى اليمين حاولت التعطيل لكنها فشلت
قوى اليمين، وعلى رأسها حزب «فاموس» الحاكم - عبر الرئيس المنتهية ولايته أليخاندرو غياماتي - بوغتت بهذه النتيجة، فسعت إلى تأجيل تثبيتها وإقرارها بحجة وجود تلاعب وتزوير لمصلحة أريفالدو، بل وطالبت بإعادة عملية الاقتراع. وأذعن القضاء لمطالبات اليمين، جزئياً، إذ طلب إجراء مراجعة للنتائج المشتبه بها، وأجريت المراجعة خلال الأسبوع الأول من يوليو (تموز) الماضي، غير أنه بعدما تأكد أن لا صحة لحجج قوى اليمين، رفضت المحكمة العليا المطالبات وأقرّت اللجنة العليا للانتخابات النتائج رسمياً. وبالتالي، أتاح هذا القرار تنظيم انتخابات الجولة الثانية.
في هذه الأثناء، خارج غواتيمالا أثارت مواقف اليمين الشرس - والمتعوّد على التعطيل ولو باعتماد العنف – غضبة دولية واسعة بعدما وصلت إلى المطالبة بتعليق قانونية وضع حركة «سيمييا» وإلغاء أهليتها. وشملت هذه الغضبة حتى الكونغرس الأميركي إلى جانب قيادات بارزة في أميركا اللاتينية وإسبانيا. بل، وبلغ الأمر بعض أعضاء الكونغرس الأميركي إلى حد مناشدة الرئيس جو بايدن فرض عقوبات على كل من «يهدّد الديمقراطية» في غواتيمالا.