الديون تهدّد بزعزعة ثقة الأسواق المالية في حكومات الدول الأوروبية واقتصاداتها

تفاقم أزمتها يعمّق الخلاف بين شمالها وجنوبها ويهدّد حلم الوحدة

مقر المفوضة الأوروبية في بروكسل (أ.ب)
مقر المفوضة الأوروبية في بروكسل (أ.ب)
TT

الديون تهدّد بزعزعة ثقة الأسواق المالية في حكومات الدول الأوروبية واقتصاداتها

مقر المفوضة الأوروبية في بروكسل (أ.ب)
مقر المفوضة الأوروبية في بروكسل (أ.ب)

تواجه الدول الأوروبية ظاهرة تضخّم ديونها السيادية في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة اتسمت بارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتدني مستوى المعيشة، إذ بلغت معدلات التضخم في بعض الدول إلى 8 في المائة حسب إحصاءات «معهد أوروستا» لعام 2022. بعض الحكومات أخذت على محمل الجّد هذه المشكلة التي تهدد بزعزعة الثقة في «صلابتها» على مستوى الأسواق العالمية وإضعاف مكانتها على الساحة الدولية. وبضغط من بروكسل (أي المفوضية الأوروبية) شرعت الكثير من الحكومات الأوروبية في اتباع سياسات إصلاحية تقشفية بخفضها للميزانيات العمومية، وإعادة النظر في النفقات المخصّصة لقطاعي الصّحة والخدمات. ومن المنتظر أن تترك هذه الإجراءات آثارها على المستوى المعيشي للأوروبيين، بالأخص في الدول ذات الديون المرتفعة، وكذلك تعميق الخلاف بين «دول الشمال» الأوروبي «المقتصدة» و«دول الجنوب» التي تعتمد أكثر من غيرها على المساعدات الأوروبية. وعليه، يبقى مطروحاً السؤال: كيف ستتعامل كل حكومة مع تضخّم ديونها، بل والأهم... مَن سيدفع الفاتورة؟

في كتاب «الديون وصفة سحرية أم سم قاتل؟» (دار نشر تيليماك) للباحثة وخبيرة الديون آن لور كيشل، توضح كيشل فتقول إن «لجوء الدول الأوروبية للاستدانة ليس بالأمر الجديد، بل هو ميزة مشتركة عند الدول الغنية كالولايات المتحدة والصين. إلا أن اللافت للانتباه بالنسبة للديون الأوروبية هو نسبتها التي باتت في ارتفاع مستمر، والأهم تجاوزها الحاجز النفسي لـ100 في المائة من إجمالي الناتج الخام، وهو ما كان صعباً توقعه قبل الأزمة الصحية».

ولكن حتى الآن لا نستطيع وصف هذه الديون بـ«الخارجة عن السيطرة»، بل إن السؤال الذي يجب طرحه يتعلق باستعمالاتها، وبمعنى آخر التفريق بين الديون السيئة والديون الجيدة. وذلك لأن الأولى تُستعمَل في الإنفاق على المؤسسات العمومية، وقد تتحول إلى نقمة إذا ما تُركت تتراكم من دون التحكم فيها... أما الثانية فتستخدم للاستثمار في القطاعات الحيوية، لا سيما التكنولوجيا والتربية والتكوين، ولذا فهي مُحبذة، بل وضرورية من أجل تنمية اقتصاد الدول.

تخطي مستويات الأمان

كان «معهد أوروستا» قد نشر آخر حصيلة للديون الأوروبية، التي قدرها بـ13.300 مليار يورو، وهو ما يعادل 88 في المائة من نسبة الناتج المحلي لدول المجموعة. وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية لعام 2022 كانت قد أظهرت تباطؤ وتيرة العجز المالي وانخفاض الديون الحكومية، فإنها تخطّت بالأساس مستويات الأمان، ووصلت إلى مناطق خطرة للغاية... حتى أصبحت مصدر قلق كبير لبروكسل التي تجد نفسها أمام معركة حقيقية لفرض تطبيق مقترحات خفض الدين، علماً بأن الدول الغنية لا تريد تحمل فواتير ثقيلة كما حدث في الماضي.

أيضاً، من المتوقّع أن ترفض عدة حكومات السياسات التقشفية ورفع الضرائب، لأن مثل هذه الإجراءات قد تثير غضب الشعوب، وتتسبب في اندلاع إضرابات واحتجاجات شعبية، وسيكون الوضع صعباً بشكل خاص على دول مثل إيطاليا واليونان والبرتغال. ومن جانبها، تنتقد حكومات اليمين واليمين المتطرف في أوروبا أيضاً تدخل بروكسل لمراقبة ميزانيتها وتعده مساساً بسيادتها. وهذا الأمر تشرحه الباحثة والخبيرة الفرنسية كيشيل بالقول إن «الدول التي تلجأ إلى الديون ستفقد لا محالة جانباً من سيادتها، والتجربة اليونانية خير دليل على ذلك. وما حدث مع الأرجنتين أيضاً، وكذلك فنزويلا، مثلاً، التي اضطرت من أجل الحصول على قروض تقديم ضمانات تمثلت في بيع 50 في المائة من أسهم شركتها النفطية لجهات أجنبية...».

أما جونتان ماري، الباحث ومؤلف كتاب «الدَّين العام، تقرير عن اقتصاد المواطن» (دار نشر لوسوي)، فيشرح بخصوص الديون الأوروبية: «علينا أن ننوّه أيضاً بالامتيازات التي حظيت بها هذه الدول من قبل الجهات الدائنة، والتي جعلتها لا تتردد في الاستفادة من هذه القروض... وهي الفوائد الضعيفة والآجال الطويلة وإمكانية الاقتراض بعملتها أي باليورو. إن رفض الاستفادة من هذه الامتيازات سيكون تصرفاً غير عقلاني مع منافسة الولايات المتحدة والصين اللّتين تلجآن إلى الديون بشكل مكثّف». وأردف ماري: «فرنسا، مثلاً، كانت تقترض بأقل من 1 في المائة، وقد استفادت من ذلك طويلاً. لكن الوضع أخذ في التغيّر، بما أن النسب ارتفعت إلى 3 في المائة بعدما أقدمت وكالة (فيتش) على خفض درجتها... ورغم ذلك فهي تبقى شروطاً مميّزة مقارنة بالدول الأفريقية التي تستدين بنسب تتراوح ما بين 5 إلى 7 في المائة، بآجال قصيرة وبشروط قاسية».

«الرباعي المشاغب»

كريستيان ليندنر

حقاً، مشكلة الديون الأوروبية تخصّ بعض الدول دون غيرها. فهناك من جهة «الدول المجتهدة» كألمانيا والنمسا والدنمارك ولوكسبورغ أو استونيا، وهي الدول «المُقتصِدة» التي تحترم توجيهات بروكسل بخصوص سياستها المالية. وفي المقابل، نجد الدول التي تعرف بـ«الرباعي المشاغب»، التي لم تنجح في تحقيق التعديلات الهيكلية الكافية التي تمُكنها من الامتثال إلى المبادئ التوجيهية لـ«معاهدة ماستريخت لعام 1992». وللعلم، تحّدُّ هذه المعاهدة من العجز الحكومي إلى 3 في المائة والدين العام إلى 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بغية الحفاظ على سياسات مالية سليمة. وكان قد جرى تعليق هذه البنود إبان جائحة «كوفيد - 19» العالمية لتمكين الحكومات الأوروبية من التقاط أنفاسها.

غير أنه بعد انتهاء هذه الأزمة، خرجت الدول الأوروبية وهي مُثقلة بالديون أكثر من أي وقت مضى. وأربع منها تُسجل نسب مديونية تفوق الـ110 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. وبنسبة 171.3 في المائة تعدّ اليونان أعلى هذه الدول مديونية، ولقد أخذت وضعيتها تسوء بعد الركود الاقتصادي الذي شهده العالم عقب الأزمة المالية عام 2008، إذ تراجعت معدلات النمو وتفاقم العجز المالي حتى تخلفت اليونان عام 2015 عن سداد ديونها.

كان تأخر اليونان عن دفع مبلغ 1.6 مليار يورو لصندوق النقد الدولي هو المرة الأولى التي تتخلف فيها دولة متقدمة عن دفع مثل هذه المبالغ في تاريخ الصندوق. وهنا نشير إلى أن الاتحاد الأوروبي تدخل عدة مرات لإنقاذ اليونان، وبمعية صندوق النقد الدولي صُرف نحو 100 مليار يورو مقابل تعهد حكومة أثينا برفع الضرائب واتخاذ إجراءات إصلاحية تقشفية. ولكن على الرغم من إعلان جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، أن «اليونان تخطّت مرحلة خطيرة»، فإن الوضع خلق في نهاية المطاف أزمة ديون مستعصية عن الحل، أثبتتها القيود الاقتصادية والتخلف الهائل عن سداد ديون البلاد.

إيطاليا... قنبلة موقوتة؟

جورجيا ميلوني

ومثل الدول الأخرى التي عرفت تضخّماً في مديونيتها إبان جائحة «كوفيد - 19»، فإن الوضعية في إيطاليا أصبحت مصدر قلق ليس فقط بسبب حجم الديون الضخم، ولكن أيضاً بسبب ارتفاع قيمة خدمة هذه الديون.

إذ يبلغ حجم الدَّين الإيطالي حالياً نحو 3 تريليونات دولار أميركي، أو ما يعادل نسبة 150 % من إجمالي الناتج المحلي الإيطالي. وحسب ليزلي ليبشتز، المدير السابق لمركز الدراسات الاقتصادية في صندوق النقد الدولي، «فإن الدَّين الإيطالي قد يهدد بوقوع أزمة مالية في منطقة اليورو»، لا سيما وأن إيطاليا تواجه أزمات جفاف غير مسبوقة، بالإضافة لارتفاع أسعار الطاقة ما يضعف الاقتصاد الإيطالي ويزيد من عجز الميزانية.

من ناحية أخرى، أرجعت تقارير أوروبية تضخم الديون الإيطالية بصفة خاصة إلى «سوء تسيير» المؤسسات العمومية، والدليل ما حدث للمنظومة الصحيّة في إقليم كالابريا (أقصى جنوب إيطاليا)، حيث وصل حجم الديون هناك إلى مليار يورو بسبب تبذير المال العام وتفشي الرشوة والبيروقراطية.

غير أن رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، والقيادية اليمينية المتطرفة، كانت قد انتقدت تدخل بروكسل بعد شراء البنك المركزي ديون إيطاليا الهشّة، ودعت إلى «تقليل اعتماد» بلادها على الدائنين الأجانب من خلال زيادة عدد الإيطاليين الذين يحملون أسهماً في الديون الإيطالية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن إيطاليا كانت قد بدأت في تأميم الديون منذ 2008، ونجحت في رفع النسبة إلى 13 في المائة. أما الهدف من ذلك فكان «تأميم الديون ضد الصدمات المالية الجديدة، والأهم تفادي التدخلات الأجنبية والحفاظ على سيادة البلاد».

في أي حال، إذا كانت أزمة الديون اليونانية قد هزّت الأسواق المالية العالمية في عام 2010، فمن المتوقع أن يكون للأزمة الإيطالية تأثيرها أيضاً، خصوصاً وأن حجمها الاقتصادي يمثل حوالي 10 أضعاف اقتصاد اليونان، وتمثل ثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.

ثم إن وجود حكومة يمينية متطرفة في إيطاليا من شأنه أن يعقد الأمور، في ظل الخلاف التقليدي بين «دول جنوب» أوروبا التي تعتمد على مساعدات الاتحاد الأوروبي، وبين الدول «المقتصِدة» في شمال القارة، كألمانيا وهولندا والنمسا، التي تطالب عادةً بضغط النفقات، خصوصاً ما يتعلق بدعم الدول الأوروبية الفقيرة في الشرق والجنوب، لكون «دول الشمال» هي التي تدفع دائماً التكلفة.

إسبانيا والبرتغال:

مساعٍ لخفض الديون

بيدرو سانتشيز

بعد إيطاليا تُعدّ البرتغال ثالث أكثر دول المجموعة الأوروبية مديونية بنسبة 113.9 في المائة من الناتج المحلي، وهي نسبة وصل إليها عام 2022 بعد جهود حثيثة بذلتها حكومة لشبونة لخفض الدين، ذلك أن النسبة كانت تفوق 135 في المائة عام 2020.

وكان وزير المالية البرتغالي فرناندو ميدينا قد أعلن خلال افتتاح مناقشة مجلس الوزراء لبرنامج «ميثاق الاستقرار الأوروبي 2022/2026»، أن هدف الحكومة «إخراج البلاد من دائرة الدول الأكثر مديونية والاقتراب من العتبة النفسية لـ100 في المائة من الناتج المحلي. ثم أضاف: «نحن نريد، ونستطيع، إخراج البرتغال من هذه الدائرة، ليس بحثاً عن أي مكافأة، بل لأنها أفضل وسيلة لحماية المؤسسات والعائلات البرتغالية...».

ومن ثم، نصل إلى المرتبة الرابعة. هنا نجد إسبانيا التي تمثل فيها الديون السيادية نسبة 3 من الناتج المحلي، أي ما يعادل حوالي 1500 مليار يورو لعام 2022. هذه النسبة، وإن كانت مرتفعة فهي في تراجع مستمر بعدما سجلت نسباً عالية إبان جائحة «كوفيد - 19» (125 في المائة)، علماً بأن إسبانيا كانت، بعد إيطاليا، أكثر الدول تضرراً من الجائحة، وارتفاع تكاليف المعيشة. بيد أنها بخلاف إيطاليا استطاعت أن تقف على رجليها من جديد، بعد اتخاذها عدة إجراءات لإنعاش اقتصادها عقب الركود الذي شهدته في تلك الفترة. وكان من أهم تلك الإجراءات: تنشيط القطاع السياحي، وعودة الاستثمار، والتحكم في معدلات التضخم.

لقد فاجأت إسبانيا الجميع حين أعلنت أن معدل النمو قد قفز عام 2022 إلى 5 في المائة. وهنأت نادية كالفينو، وزيرة الاقتصاد والصناعة، بلادها «التي أثبتت مرونة في مواجهة الرياح المعاكسة»، كما عبرت عن ارتياحها لأن نمو الاقتصاد الإسباني يفوق بشكل ملموس المعدل الأوروبي الذي تتوقعه بروكسل وهو 3.3 في المائة. والواقع أن الحكومة الإسبانية متفائلة بوضعها لدرجة إعلان رئيس حكومتها الاشتراكي بيدرو سانشيز، أن البلاد «وضعت نصب عينيها هدف النجاح في خفض نسبة المديونية إلى 112 في المائة من إجمالي الناتج الخام في أواخر 2023، ثم إلى 110 في المائة في 2024 إلى أن تصل إلى نسبة 109 في المائة مع مطلع عام 2025، كما تعهدت بذلك أمام شركائها الأوروبيين».

فرنسا: مقاومة الإصلاحات

على صعيد متصل، مثل باقي الدول التي اتخذت تدابير لمواجهة الآثار الاقتصادية لجائحة «كوفيد - 19» شهدت فرنسا انفجاراً تاريخياً لديونها وصلت حسب تقرير «أوروستا» إلى ثلاثة آلاف مليار يورو، أي ما يعادل نسبة 84 في المائة من ناتجها الإجمالي العام.

الأمر اللافت هنا هو السرعة التي تراكمت بها هذه الديون، ما جعل وكالة «فيتش» الدولية تقرر خفض التصنيف الائتماني لفرنسا كتحذير للحكومة، لا سيما وأن ميزانية البلاد لم تصل إلى وضعية توازن منذ 1975.

هذا، وسبق لوكالة «فيتش» أن أشارت في بيانها إلى أن «الجمود السياسي والاحتجاجات الشعبية (العنيفة أحياناً) يشكلان خطراً على البرنامج الإصلاحي للرئيس (إيمانويل) ماكرون». وكانت الحكومة الفرنسية قد صادقت في وقت سابق على مشروع تعديل المعاشات الذي ينّص على رفع السّ القانونية من 62 سنة إلى 64 سنة، واستناداً إلى المادة 49 - 3 من الدستور، جرى تبنّي النص من دون تصويت في البرلمان، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الاحتجاجات وأسابيع طويلة من المظاهرات وأحداث الشغب والتكسير.

ومع أن فرنسا تتمتع بثاني أكبر ثقل اقتصادي في أوروبا بعد ألمانيا، فإن الإنفاق على المؤسسات يشكل جزءاً كبيراً من ميزانية الدولة، بالأخص نظام التقاعد الفرنسي. إذ يُصرَف على المتقاعدين سنوياً حوالي 340 مليار يورو ما يسبب عجزاً مالياً يتراوح ما بين 10 إلى 12 مليار يورو.

وبالمناسبة، كان وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، قد قدّم خطة الحكومة لخفض الدَّين الوطني الفرنسي بأربع نقاط مئوية حتى عام 2027 من حوالي 112 في المائة إلى 108 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتعتمد الخطة على تخفيض النفقات واستبعاد أي خفض جديد للضرائب. لكن «ستاندارد آند بورز» - التي هي واحدة من ثلاث وكالات رئيسية للتصنيف الائتماني مع وكالتي «فيتش» و«موديز» - أبقت في الوقت نفسه على توقعاتها لآفاق «سلبية» ما يمكن أن يؤدي إلى خفض الدرجة في المستقبل. بل، وحذّرت الوكالة من «المخاطر» المتعلقة بتنفيذ أهداف الميزانية الحكومية. وأشارت من ثم، في هذا الإطار، إلى «غياب الأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي منذ منتصف 2022، ما قد يعرقل تنفيذ مخططات الحكومة. وبسبب تشديد شروط التمويل، يتطرق تقرير «ستاندارد آند بورز» أيضاً إلى «الانقسام السياسي» الذي يضفي حالة من اللا يقين على قدرة الحكومة على وضع سياسات تفضي إلى النمو الاقتصادي وإعادة التوازن الميزانية. وكانت «فيتش» قد خفّضت درجة فرنسا الشهر الماضي، معاقِبة بذلك باريس على إدارتها لمالية الدولة والأزمة الاجتماعية الأخيرة.

حقائق

ما هي الحلول الممكنة والمحتملة للأزمة؟

*من الواضح أن القواعد القديمة للتعامل مع مشكلة الديون أضحت بحاجة إلى تعديلات. ولذا تبنت المفوضية الأوروبية خطة لخفض الديون خلال العقدين المقبلين، لتبدو أكثر مرونة في التعامل مع هذه القضية الشائكة، بدلاً من انتهاج سياسات التقشف التي تثير الرأي العام في مثل هذه الظروف، حيث يواجه مواطنو معظم الدول ضغوطاً معيشية بفعل التضخم. ولكن على الرغم من هذه المرونة، يبدو أن خطط خفض الديون لن تمر من دون مواجهة مع الدول الأكثر مديونية، وفق خبراء اقتصاد.

المفوضية الأوروبية تحاول تطبيق سياسات اقتصادية مختلفة خلال العقدين المقبلين لتخفيف مُلزم لتلك الديون بمقدار 5 في المائة سنوياً للدولة التي يزيد فيها الدين عن النسبة المسموح بها والبالغة 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.

ولتجنب الفوضى وانهيار الاستقرار، تسعى المفوضية إلى خطط «موازنة وطنية» مُصممة لكل دولة على حدة. أي أنه لن يكون هناك تطبيق إلزامي على الجميع يتجاهل اعتبار خصوصية كل دولة، وهو ما يعني تغييراً جذرياً للنهج السابق لخفض الديون. وستستند المفوضية الأوروبية إلى مساعدة الدول على ضمان تحاشي زيادة الإنفاق الوطني أكثر من «النمو الطبيعي للاقتصاد».

وحتى لو كان العنوان التي ترفعه المفوضية «قواعد دين أبسط وشفافة وفعالة»، فإن بروكسل ستجد نفسها أمام معركة حقيقية لفرض تطبيق مقترحات خفض الدَّين، بخاصة أن الدول الغنية لا تريد تحمل فواتير أعلى مثل السابق. ولقد نقلت مصادر ألمانية عن وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر، قوله نهاية أبريل (نيسان)، إن مقترحات المفوضية الأوروبية لمراجعة قواعد ديون الاتحاد الأوروبي «ما زالت مجرد خطوة أولى» في عملية الإصلاح، مضيفاً أنها تريد نظاماً يستند إلى قواعد ويؤدي إلى خفض «موثوق» في الديون.



مقالات ذات صلة

لبنان مهدد بالانتقال إلى القائمة «الرمادية» لغسل الأموال في الخريف

المشرق العربي صندوق النقد الدولي بدأ منذ هذا العام بحجب التوقعات والبيانات المالية الخاصة بلبنان (رويترز)

لبنان مهدد بالانتقال إلى القائمة «الرمادية» لغسل الأموال في الخريف

عزّزت ظاهرة حجب البيانات المالية الخاصة بلبنان من قبل المؤسسات المالية العالمية ووكالات التصنيف الائتماني الدولية منسوب الريبة من سياسة عدم الاكتراث الحكومية.

علي زين الدين (بيروت)
شمال افريقيا عزيز أخنوش رئيس الحكومة المغربية (الشرق الأوسط)

قرضان للمغرب لـ«تحسين الحوكمة الاقتصادية»

قال البنك الأفريقي للتنمية، الجمعة، إنه قدّم للمغرب قرضين بقيمة 120 مليون يورو (130 مليون دولار) لكل منهما؛ بهدف تمويل منطقة صناعية.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
الاقتصاد جانب من اجتماع وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار مع رئيس شركة «روساتوم» الروسية المنفذة لمشروع محطة الطاقة النووية «أككويوو» في جنوب تركيا بإسطنبول الأسبوع الماضي (من حساب الوزير التركي على «إكس»)

«المركزي» التركي: لا خفض للفائدة قبل تراجع الاتجاه الأساسي للتضخم

استبعد مصرف تركيا المركزي البدء في دورة لخفض سعر الفائدة البالغ حالياً 50 في المائة قبل حدوث انخفاض كبير ودائم في الاتجاه الأساسي للتضخم الشهري

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد صيدلية في أحد شوارع منطقة مانهاتن بولاية نيويورك الأميركية (أ.ف.ب)

ارتفاع معتدل لأسعار السلع الأميركية في يونيو

ارتفعت أسعار السلع في الولايات المتحدة بشكل معتدل في يونيو الماضي

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد بريطانيون يحتسون القهوة على ضفة نهر التيمز بالعاصمة لندن (رويترز)

بريطانيا تتأهب للكشف عن «فجوة هائلة» في المالية العامة

تستعد وزيرة المال البريطانية الجديدة رايتشل ريفز للكشف عن فجوة هائلة في المالية العامة تبلغ 20 مليار جنيه إسترليني خلال كلمة أمام البرلمان يوم الاثنين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

ديفيد لامي
ديفيد لامي
TT

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

ديفيد لامي
ديفيد لامي

ديفيد لامي، وزير الخارجية الجديد، هو «ذراع» كير ستارمر اليمنى على المستوى الدولي، ومنه يتوقّع العالم أن يسمع عن توجهات حكومة بريطانية جديدة تتمتع بتفويض عريض يتيح لها حرية التصرف مع الخصوم والأصدقاء.

النشأة والبداية

ولد ديفيد ليندون لامي يوم 19 يوليو (تموز) 1972 في حي هولواي، بشمال وسط العاصمة البريطانية لندن، لأسرة سوداء تتحدّر من غيانا (أميركا الجنوبية). وترعرع مع إخوته الأربعة في حي توتنهام المجاور برعاية أمه وحدها؛ إذ غادر أبوه منزل الأسرة عندما كان ديفيد في الثانية عشرة من العمر، وترك هذا الأمر تأثيراً بالغاً في حياته لجهة اهتمامه الشديد بالعناية بالأطفال. وفي أثناء دراسته في مدرسته الأولى بلندن، وكان يومذاك في العاشرة من عمره، حصل على منحة دراسية كورالية للإنشاد في كاتدرائية بيتربورو (شرق إنجلترا)، وكانت الدراسة في مدرسة «كينغز سكول» الخاصة في مدينة بيتربورو.

بعد إكمال لامي تعليمه المتوسط والثانوي في مدرسة «كينغز سكول» - بيتربورو، التحق بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية «سواس» العريق في جامعة لندن، ومنه تخرّج مُجازاً بالحقوق، وانتمى لنقابة المحامين في إنجلترا وويلز عام 1994. ثم درس في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة، وأكمل هناك شهادة الماجستير في القانون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه كان أول بريطاني أسود يتخرّج في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وبعد الماجستير عمل محامياً في مكتب شركة هوارد رايس القانونية بولاية كاليفورنيا عامي 1997 – 1998، ثم شركة دي جي فريمان بين عامي 1998 و2000. كما كان لفترة قصيرة أستاذاً زائراً للمارساة المحاماة في «سواس» بلندن.

وأما بالنسبة لحياته الزوجية، فإنه تزوّج عام 2005 من الرسامة نيكولا غرين ورزقا بصبيين وبنت. وهو يصف نفسه بأنه مسيحي ومتحدر من أصل أفريقي... وبريطاني وإنجليزي ولندني وأوروبي، كما أنه يحمل جنسية مزدوجة غيانية - بريطانية.

لامي السياسي الطموح

منذ مرحلة الشباب المبكّر انتسب لامي إلى حزب العمال ونشط في صفوفه. وفي عام 2000 دخل «مجلس لندن التمثيلي»، وانتقل بعد ذلك في عام 2002 ليشغل مقعد دائرة منطقة توتنهام، بشمال لندن، عبر انتخاب فرعي أجري لملء شغور المقعد البرلماني إثر وفاة شاغله النائب الأسود العمالي اليساري بيرني غرانت. ويومذاك، في 22 يونيو (حزيران) 2002 حصل على 53.5 في المائة من الأصوات، ومتغلباً على أقريب منافسيه بفارق 5646 صوتاً، وغدا، بالتالي، وهو في سن السابعة والعشرين أصغر أعضاء مجلس العموم سناً... واحتفظ بهذا اللقب حتى انتخاب النائبة سارة تيثر في العام التالي.

ولقد احتفظ لامي بهذا المقعد منذ ذلك الحين، كما أنه شغل عدة مناصب وزارية ثانوية في حكومتي بلير وبراون بين عامي 2002 و2010؛ إذ عيّنه بلير عام 2002 مساعد وزير دولة بوزارة الصحة العامة، وعام 2003 أصبح مساعد وزير دولة للشؤون الدستورية. ثم عيّن وزير دولة في وزارة الثقافة عام 2005، ثم نائب وزير دولة للابتكار والجامعات والمهارات عام 2007، وبين عامي 2008 و2010 شغل لامي منصب وزير دولة للتعليم العالي.

الابتعاد التدريجي عن اليسار

بعد خسارة حزب العمال انتخابات 2010، أيّد لامي انتخاب إد ميليباند لزعامة الحزب، لكنه لم يدخل «حكومة الظل»، مفضلاً البقاء خارج الصفوف القيادية. وخلال هذه الفترة كانت توجهات لامي السياسية لا تزال تعتبر عن قناعات يسارية، وهذا بالتوازي مع الصعود الحثيث للتيار اليساري المتشدد، الذي تجسّد عام 2015 بانتخاب اليساري المخضرم جيريمي كوربن زعيماً.

في عام 2012، أيّد لامي ترشيح عمدة لندن الكبرى اليساري كين ليفينغستون لتولي منصب رئيس بلدية العاصمة، بل كان ضمن فريق مستشاريه ومعاونيه. وبعدها، عام 2014 أعلن عن رغبته بالترشح لمنصب رئيس البلدية، وقال إنه يخطّط لخوض المنافسة عام 2016. ولكن خلال الانتخابات العامة عام 2015 أعيد انتخابه نائباً في مجلس العموم، معزّزاً غالبيته بحصوله على نسبة 67.3 من أصوات دائرته، ومتقدّماً على أقرب منافسيه بأكثر من 23560.

حتى بعد هزيمة حزب العمال في تلك الانتخابات، كان لامي واحداً من 36 نائباً رشحوا جيريمي كوربن لزعامة الحزب... وكان محسوباً أحد أصدقائه. إلا أن طموحه لرئاسة بلدية لندن تعرض لانتكاسة كبرى عندما حل رابعاً بين المرشحين العماليين في التصويت الترشيحي، وفي نهاية المطاف فاز برئاسة البلدية متصدّر المنافسين صديق خان، الذي ما زال يشغل المنصب.

عند هذه المحطة بدأ تحول لامي - وبعض أترابه من اليساريين - التدريجي نحو الاعتدال والوسط. وتجلّى هذا التحوّل في تأييده لتوليّ ستارمر، الشخصية القانونية ذات التوجهات الوسطية، خلال انتخابات الزعامة عام 2020. ويُذكر أن انتخابات عام 2019 شهدت هزيمة مريرة للعمال، أنهت حقبة كورين واليسار لمصلحة التيار الوسطي المدعوم بقوة من مناصري إسرائيل داخل الحزب. وبالفعل، أثمر ولاء لامي للزعيم الجديد - المقرب جداً من إسرائيل - وخطه السياسي عندما عيّن في «حكومة الظل» لحقيبة العدل وكبير القانونيين. ولاحقاً، في التعديل الذي أجري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، انتقل لتولي حقيبة وزارة الخارجية في «حكومة الظل».

تعيينه وزيراً للخارجية

في أعقاب فوز العمال الساحق بالانتخابات الأخيرة، واحتفاظ لامي بمقعده في توتنهام، بشمال لندن، أسند رئيس الوزراء الجديد ستارمر إليه منصب وزير الخارجية رسمياً. وجاء هذا التعيين على الرغم من أن لجنة تحقيق اكتشفت عام 2022 ارتكابه من دون قصد مخالفة مسلكية، واضطر على الأثر إلى تقديم كتاب اعتذار عن المخالفة إلى مفوضة المعايير البرلمانية. أما على الصعيد السياسي، فمنذ تولي لامي منصبه الوزاري الجديد، كان بين أبرز مواقفه تأييده الصريح لأوكرانيا في الحرب الروسية عليها، ودعمه حرب إسرائيل ضد حركة «حماس»، وهو في هذا الشأن، على الرغم من تأييده وقف إطلاق النار في غزة، فإنه مثل ستارمر، ما زال يربطه بإطلاق جميع الرهائن.

الموقف من إسرائيل

أيضاً حول موضوع إسرائيل والقضية الفلسطينية، تجدر الإشارة إلى أن ديفيد لامي يُعد من أكثر أعضاء الحكومة العمالية الجديدة تلقياً للدعم المالي من جماعة «أصدقاء إسرائيل في حزب العمال». وهو، بعد هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) في غلاف قطاع غزة، زار إسرائيل في أواخر العام الفائت، تحديداً يوم 19 نوفمبر 2023، وهناك اجتمع برئيس الدولة الإسرائيلي إسحق هرتسوغ ووزير الخارجية إيلي كوهين.

وخلال ذلك الشهر، اعتبر لامي الغارة الإسرائيلية على أحد مخيمات اللاجئين في قطاع غزة «عملية مبرّرة». على الأثر، اتسمت بالسلبية علاقته بالشارع البريطاني المؤيد للقضية الفلسطينية، والمعارض لاستمرار الأعمال التهجيرية الدامية في القطاع، وأيضاً في الضفة الغربية. ومجدداً زار لامي إسرائيل يوم 14 يوليو (تموز) الحالي، والتقى في أثناء الزيارة بعائلات الرهائن الإسرائيليين الذين اختطفتهم «حماس»، وكرر من هناك المطالبة بوقف لإطلاق النار في غزة مشروط بالإفراج عن جميع الرهائن.

... ومن أوكرانيا

أما ما يخصّ أوكرانيا وانعكاسات حربها على المشهد الأوروبي، فكانت من أولى مهام ديفيد لامي وزياراته الخارجية بصفته وزيراً للخارجية البريطانية، اجتماعه بنظرائه: البولندي رادوسواف سيكورسكي، والألمانية آنالينا بيربوك، والسويدي توبياس بيلستروم، لمناقشة الوضع ومستجدات الحرب الروسية إلى جانب مواضيع أخرى. وحول علاقة بريطانيا - ما بعد «بريكست» (الخروج من الاتحاد الأوروبي)، شدد لامي الوزير لنظرائه الأوروبيين على أن الحكومة الجديدة في لندن حريصة على «إعادة ضبط» علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تعزيز الخطط الخاصة بالأمن المشترك، وسياسات الطاقة، وأزمة تغير المناخ، ومواجهة الجوائح والأوبئة، والهجرة غير الشرعية.

ديفيد لامي، الذي يتمتع بخبرة سياسية وقانونية كبيرة، لديه أيضاً - كما سبقت الإشارة - اهتمامات أكاديمية وثقافية. وكان قد نشر خلال نوفمبر 2011 كتاباً بعنوان «بعيداً عن الرماد: بريطانيا في أعقاب اضطراب الشوارع»، تناول فيه الاضطرابات التي اجتاحت بعض المدن الإنجليزية عام 2011. ثم نشر كتاباً ثانياً من تأليفه بعنوان «قبائل» ناقش فيه أزمة الانقسامات الاجتماعية، ومدى الحاجة إلى الانتماء. ومن جهة ثانية، ظهر مقدِّماً خلال الفترة بين عامي 2022 و2024 في برنامج تلفزيوني قبل ظهر أيام الأحد. وهنا، نشير إلى أن المعلومات الموثقة عنه تفيد بأنه تلقى بين عامي 2019 و2024 أعلى دخل مادي بين النواب العماليين، إلى جانب مرتبه نائباً في مجلس العموم. من أبرز مواقف لامي في منصبه الوزاري

تأييده الصريح لأوكرانيا في الحرب الروسية عليها،

ودعمه حرب إسرائيل ضد «حماس»