«الناتو» يخطط للمستقبل فوق أرض «سوفياتية» سابقة

«قمة فيلنيوس» عقدت وسط هموم أوكرانيا... وهواجس التعامل مع الصين

صورة جماعية لقادة دول حلف شمال الأطلسي خلال قمتهم في العاصمة الليتوانية فينليوس أمس (أ.ف.ب)
صورة جماعية لقادة دول حلف شمال الأطلسي خلال قمتهم في العاصمة الليتوانية فينليوس أمس (أ.ف.ب)
TT

«الناتو» يخطط للمستقبل فوق أرض «سوفياتية» سابقة

صورة جماعية لقادة دول حلف شمال الأطلسي خلال قمتهم في العاصمة الليتوانية فينليوس أمس (أ.ف.ب)
صورة جماعية لقادة دول حلف شمال الأطلسي خلال قمتهم في العاصمة الليتوانية فينليوس أمس (أ.ف.ب)

تجاوزت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي اختتمت يوم الأربعاء الفائت في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، كل التوقعات المحتملة؛ إذ أعطت تركيا «الضوء الأخضر» لانضمام السويد، وتوافقت الدول الأعضاء على تعزيز موقع أوكرانيا بوصفها دولة مرشحة لعضوية الحلف... لكن ليس قبل نهاية الحرب الدائرة على أراضيها. كذلك وافقت القمة - وهي الرابعة التي يعقدها الحلف منذ بداية الحرب الأوكرانية في فبراير (شباط) من العام الفائت - على حزمة ضخمة من المساعدات المالية الطويلة الأمد لأوكرانيا، إلى جانب مجموعة من الضمانات الأمنية التي تبنتها «مجموعة الدول الصناعية السبع» في استعراض لوحدة الصف والقوة كرسالة موجهة إلى روسيا. ومفاد هذه الرسالة أن الدعم الغربي لأوكرانيا لن يتوقف ما دامت موسكو مستمرة في عدوانها وترفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات»، كما جاء على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن في ختام القمة.

حجبت العناوين الكبرى التي استحوذت على القدر الأكبر من اهتمام وسائل الإعلام والرأي العام في القمة الأطلسية التي استضافتها ليتوانيا، مجموعة من القرارات المهمة. وكان في طليعة العناوين فتح الباب أمام عضوية السويد - التي كانت أحد الرموز القليلة الباقية لسياسة الحياد العسكري – وكذلك المساعدات الغربية المتطورة طويلة الأمد لأوكرانيا، ووضعها على مسار عضوية الحلف.

أما عن القرارات المهمة والخطوات الاستراتيجية التي وصفها الأمين العام للحلف ينس ستولتنبيرغ بأنها «أكبر إعادة لهيكلة المنظومة الدفاعية للحلف منذ الحرب الباردة»، فكان أبرزها: الموافقة على الجيل الجديد من الخطط الإقليمية التي تحدد آليات الردع والدفاع في مواجهة التهديدات الأمنية التي يمكن أن تتعرض لها الدول الأعضاء في الحلف. وتتوزع هذه الخطط على ثلاثة محاور جغرافية لردع التهديدات الروسية والأعمال الإرهابية. وهي تشمل 5 أنواع من الاعتداءات: الجوية، والبرية، والبحرية، والفضائية والسيبرانية. كذلك تحدد هذه الاستراتيجية الجديدة التي تقع في وثيقة من 4 آلاف صفحة مصنّفة سرّية، المهام الموكلة لكل من الدول الأعضاء، والمناطق التي يفترض تأمين حمايتها وما تستلزمه هذه الحماية من موارد ومعدات حربية.

مفاوضات طويلة ومعقدة

لقد أقرت القمة، بعد مفاوضات تمهيدية طويلة ومعقدة، إضفاء طابع إلزامي على استثمارات الدول الأعضاء في مجال الصناعات والتجهيزات الدفاعية، الفردية والمشتركة، بعدما كانت قمة عام 2014 قد اكتفت ببيان تتعهد فيه الدول التي ما زال إنفاقها العسكري دون 2% من إجمالي الناتج القومي ببلوغ هذه النسبة خلال مهلة لا تتجاوز عشر سنوات. وينصّ القرار الجديد على التزام جميع الدول الأعضاء بتخصيص 2% من إجمالي الناتج القومي، كحد أدنى، للإنفاق العسكري المحلي والمشترك. وكان الأمين العام للحلف قد أفاد عند تقديم هذه الخطة بأن الموازنات الدفاعية سجّلت ارتفاعاً ملحوظاً في معظم الدول الأعضاء خلال هذه السنة، وأنه من المتوقع أن يزيد إنفاق البلدان الأوروبية وكندا العسكري بحلول نهاية العام الحالي بنسبة 8% مقارنة بالعام الفائت.

والجدير بالذكر أنه في القمة الأطلسية التي استضافتها العاصمة الإسبانية مدريد في مثل هذه الأيام من العام الماضي، أدرج «الناتو»، للمرة الأولى، الصين على قائمة التحديات الاستراتيجية. وأصبح المارد الآسيوي أحد الهواجس الأمنية الرئيسية التي تستقطب اهتمام الدول الأعضاء، ولكن بنسب متفاوتة تتراوح بين التركيز الأميركي على اعتبار بكين «الخصم الاستراتيجي الأول»، والاتجاه الذي تقوده ألمانيا وفرنسا - وتدعمه دول أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا – من أجل الاستعداد لفتح «قنوات للتعاون الأمني» مع الصين وتحاشي حشرها في خانة الخصوم.

ويشير البيان الختامي الذي صدر عن «قمة فيلنيوس» إلى ضرورة تضافر جهود الدول الأعضاء في الحلف لمواجهة التحديات المنهجية التي تشكلها الصين، والدفاع عن القيم المشتركة بينها. وأيضاً إلى الدفاع عن نظام عالمي يقوم على قواعد بما فيها ضمان حرية الملاحة البحرية، في إشارة واضحة إلى النزاع المتجدد بين بكين والدول المجاورة حول السيادة على المياه الإقليمية. وأيضاً كان واضحاً في هذه القمة أن مشاركة أربع دول آسيوية - أوقيانية هي: اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا ليست نتيجة التزامها بدعم جهود مساعدة أوكرانيا، بل هي دليل واضح على صعود الهاجس الصيني إلى صدارة الاهتمامات الأطلسية.

ما يخص شرق آسيا

ثم إنه كان لافتاً أن رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا هو الذي افتتح اللقاء الذي نظمته «مجموعة الدول الصناعية السبع» في ختام القمة لإعلان البيان الذي يتضمّن تعهدات هذه الدول بتوقيع اتفاقات ضمانات أمنية لأوكرانيا وتزويدها بالأسلحة الرادعة. كذلك يلفت ما تضمنه البيان الختامي للقمة من إشارة إلى أن «أمن منطقة المحيط الهادئ مرتبط بأمن القارة الأوروبية بسبب طموحات بكين وسياساتها القسرية التي تشكّل تحدياً للأمن الأطلسي والقيم المشتركة لأعضائه». وفي المقابل، لا يتضمن البيان أي إشارة إلى التوتر حول جزيرة تايوان ونوايا الصين المعلنة بشأنها، في حين ينتقد البيان صراحة ما يسمّيه «التضامن الروسي الصيني» وتنسيق الجهود بين موسكو وبكين لتقويض النظام الدولي الحالي، وتعطيل نشاط مجلس الأمن الدولي عبر ممارسة «حق النقض» (الفيتو).

البيان الختامي يتضمن أيضاً إشارات كثيرة إلى «الجبهة الجنوبية» للحلف التي تشكّل إحدى أولويات إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان من حيث تداعيات التطورات فيها على أمن البلدين وتدفقات الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط. وفي هذا الشأن يشدّد البيان على «الخطورة الناشئة عن هشاشة الاستقرار السياسي والأمني في مناطق الساحل الأفريقي وشمال أفريقيا والشرق الأوسط»، والمحاولات التي تقوم بها روسيا لزعزعة الأوضاع الأمنية في هذه المناطق. هذا، وقرّر الحلف في هذه القمة تكليف المجلس العسكري لشمال الأطلسي بوضع دراسة معمقة حول التهديدات والتحديات الناشئة في هذه المناطق، وفرص التحالف مع بعض البلدان فيها لمواجهتها.

بنى تحتية وغاز

ومن المواضيع الأخرى التي ركّزت عليها أيضاً هذه القمة، وكانت موضع دراسات تمهيدية قام بها خبراء الدول الأعضاء، هشاشة وضعف بعض البنى التحتية الأساسية لأمن الدول الأعضاء ومقتضياتها الدفاعية مثل أنابيب نقل الغاز والنفط والكابلات البحرية. ويرى الحلف أن هذه البنى «معرّضة لتهديدات حقيقية متزايدة، من شأنها التسبب في أزمات إمداد حيوية على الصعيدين الأمني والاقتصادي». وبالتالي، أكد البيان أن «كل اعتداء تتعرض له هذه البنى الحيوية يستدعي رداً موحداً وحازماً من الدول الأعضاء». وقرر الحلف إنشاء مركز يسهر على أمن البنى التحتية البحرية الحساسة، وإقامة شبكة تربط المنظومة الدفاعية الأطلسية بحلفائها، والقطاع الخاص وجهات أخرى، وذلك بهدف تحسين تدفق المعلومات في هذا المضمار، ورصد التهديدات المحتملة، وتحديد الأطر اللازمة لتنسيق التصدي لها.

إلى جانب ما سبق، تتجه دول الحلف الأعضاء في «الاتحاد الأوروبي» نحو قفزة نوعية هامة في سياسة الدعم الذي تقدمه لأوكرانيا؛ إذ تدعو وثيقة أعدها جهاز السياسة الخارجية التابع للاتحاد لعرضها على القمة المقبلة، إلى زيادة الجهود المشتركة لتعزيز الدفاعات الجوية الأوكرانية، وتمويل شراء وإنتاج أسلحة متطورة، بما فيها صواريخ بعيدة المدى ومقاتلات حديثة. كما تدعو الوثيقة إلى تمديد البعثة الأوروبية لتدريب القوات المسلحة الأوكرانية، التي تقوم بمهامها منذ أشهر في ألمانيا وبولندا بمشاركة خبراء عسكريين من دول أخرى أيضاً، ونقلها بشكل تدريجي إلى أوكرانيا.

وتؤكد الخطط الدفاعية التي أقرتها «قمة فيلنيوس» على أن «الناتو» يسير بخطى حثيثة نحو زيادة عدد أعضائه وشركائه، وتعزيز بنيته المؤسسية، بعد مرحلة كانت فيها ديمومته موضع تشكيك بعد تهديد الولايات المتحدة - على عهد الرئيس السابق دونالد ترمب - بالانسحاب منه في حال لم تلتزم الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها العسكرية بنسبة ملحوظة.

هذه الخطط الدفاعية الجديدة ستؤمّن لأوروبا قوة تدخل حليفة من 40 ألف جندي، يمكن زيادة عددها إلى 300 ألف جندي مستعدة للانتشار أو جاهزة للتعبئة في غضون شهر واحد.

أما التطورات الأخيرة التي شهدها المسرح الروسي الداخلي، مع تمرّد ميليشيا «فاغنر» وما عقبها من تداعيات، وما نشأ عنها من تقديرات حول تراجع نفوذ فلاديمير بوتين وضمور سلطته، فقد غابت بشكل كلي عن النقاش الرسمي وتصريحات المسؤولين في القمة؛ إذ اكتفى جميع الرؤساء الذين علقوا على هذا الموضوع بالقول إنها «مسألة روسية داخلية»، إلا أن الوضع الداخلي في روسيا كان موضوعاً رئيسياً في معظم اللقاءات التي عقدت على هامش القمة بين قادة الحلف، خصوصاً بين الأوروبيين منهم، لما يخشى من تداعيات مباشرة على الأمن الأوروبي لأي تطورات داخلية روسية بعد انتقال ميليشيا «فاغنر» إلى بيلاروسيا ونقل أسلحة نووية روسية إليها.


مقالات ذات صلة

أوروبا لقطة أرشيفية لصاروخ بالستي روسي أطلق في مارس الماضي خلال تجربة للجيش (أ.ف.ب)

«الناتو»: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا

أكّد حلف شمال الأطلسي الخميس أنّ الصاروخ البالستي الفرط صوتي الجديد الذي أطلقته روسيا على أوكرانيا "لن يغيّر مسار الحرب".

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في سوتشي بروسيا 18 مايو 2018 (رويترز)

ماذا قالت ميركل في مذكراتها عن بوتين وترمب وأوكرانيا؟

بعد ثلاثة أعوام على تقاعدها عادت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل إلى الأضواء بكتاب مذكرات عن حياتها تحدثت فيه عن أوكرانيا وعلاقتها ببوتين وترمب

راغدة بهنام (برلين)
الولايات المتحدة​ يدلي القائم بأعمال المدعي العام آنذاك مات ويتاكر بشهادته أمام لجنة القضاء في مجلس النواب الأميركي بشأن الرقابة على وزارة العدل في مبنى الكابيتول في العاصمة الأميركية واشنطن 8 فبراير 2019 (أ.ف.ب)

ترمب يختار مات ويتاكر سفيراً لأميركا لدى حلف الناتو

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، اليوم (الأربعاء)، مات ويتاكر، القائم بالأعمال السابق بمنصب المدعى العام، سفيراً لبلاده لدى حلف شمال الأطلسي (ناتو).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا نظام مدفعية آرتشر من فوج المدفعية الملكية التاسع عشر التابع للقوات المسلحة البريطانية يطلق النار أثناء تدريب على إطلاق النار الحي في 18 نوفمبر 2024 في لابلاند الفنلندية (أ.ف.ب)

الجيش البريطاني يطلق مدفعاً جديداً للمرة الأولى خلال مناورة للناتو

قام جنود الجيش البريطاني بإطلاق مدفع جديد، يستخدم لأول مرة، وذلك خلال مناورة تكتيكية لحلف الناتو بفنلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.