أحداث فرنسا: عزّزت مواقع اليمين المتطرف... وأساءت إلى صورة البلاد والحُكم

بطالة وفقر وتهميش و40 سنة من السياسات الفاشلة في الضواحي

ساحة حرب في أحد شوارع باريس (أ.ف.ب - إيبا)
ساحة حرب في أحد شوارع باريس (أ.ف.ب - إيبا)
TT

أحداث فرنسا: عزّزت مواقع اليمين المتطرف... وأساءت إلى صورة البلاد والحُكم

ساحة حرب في أحد شوارع باريس (أ.ف.ب - إيبا)
ساحة حرب في أحد شوارع باريس (أ.ف.ب - إيبا)

ما كادت فرنسا تخرج من أزمة قانون إصلاح المعاشات حتى دخلت في دوامة أخرى، إذ شهدت ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، ولا سيما نانتير (شمال غربي العاصمة) أحداث عنف واسعة تخللتها مشاهد حرق ونهب ومناوشات بين الشرطة وشباب من سكان هذه الضواحي. الأحداث أسفرت عن حصيلة ثقيلة، تمثلت في إصابة أكثر من 700 شرطي وتوقيف 3700 شخص، ثلثهم من القصر، بالإضافة إلى تدمير نحو 1000 مبنى، منها 71 مركزاً للشرطة، وإحراق 5000 سيارة، كما أعلنت نقابة أرباب العمل عن خسائر إجمالية قدرت بأكثر من مليار يورو. الأزمة، وإن لم تكن الأولى في تاريخ فرنسا، كشفت في الواقع عن حالة من الاحتقان المتراكم بسبب التهميش والتمييز العرقي اللذين يعاني منهما سكان هذه الضواحي، ومعظمهم من المهاجرين. ولكن فيما يخص المستقبل وما يمكن أن يحمله في ظل الاحتقان السياسي والعرقي، يرى كثيرون أن «أحداث نانتير» عززّت أيضاً خطاب اليمين المتطرف الذي يربط بين انعدام الأمن والهجرة، ويطالب بوقفها.

الأحداث الأمنية الأخيرة في فرنسا قد اندلعت - كما هو معروف - على خلفية مقتل فتى قاصر من أصول جزائرية اسمه «نائل» برصاص شرطي في ضاحية نانتير بشمال غربي باريس. وقد أثارت هذه الحادثة غضباً واسعاً في عموم فرنسا وتساؤلات حول ميل الشرطة إلى العنصرية واستخدام العنف، خصوصاً تجاه شباب الهجرة.

ومن ناحية ثانية، توالت تصريحات المسؤولين بين التنديد ودعوات التهدئة. وكان الرئيس إيمانويل ماكرون أول من عبّر عن استنكاره حين أعلن عقب وفاة الشاب «نائل» أن الأمر لا «يغتفر»، وأردف أن «العدالة بدأت تأخذ مجراها على الفور، وآمل أن تقوم بعملها بسرعة وهدوء»، أما وزير الداخلية جيرالد درمانان فقد اعتبر ما حدث «دراما مؤلمة» كما وصف مقاطع الفيديو بـ«الصادمة». وفيما يخص رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، فإنها دعت إلى الهدوء، وقالت إنها تأمل أن «تسمح مطالبتنا بالحقيقة بتغليب التهدئة على الغضب».

بالمناسبة، لوحظ أن هذه هي المرة الأولى التي لم يظهر فيها تضامن المسؤولين الرسميين مع رجال شرطة متورّطين في تجاوزات، إذ جرت العادة أن تسارع الحكومة إلى الدفاع عن الشرطة في مثل هذه الحالات، لكن مقاطع الفيديو التي انتشرت لم تدعُ مجالاً للشّك. وخلال اليومين الأولين تناوب موقف الحكومة ما بين الدعوة إلى الهدوء والتنديد بالعنف بطريقة «الشد والإرخاء». رئيسة الوزراء بورن صرحّت في بيان حكومي بأنها «تتفهّم التأثر، لكن لا شيء يبرّر العنف الذي حدث». والخطاب نفسه تبنّاه الوزير المنتدب للعمران والسكن، أوليفيه كلين، إذ صرّح متسائلاً: «إن الغضب والحزن شرعيان، لكن لماذا تدمير المرافق العامة للأحياء؟».

وفي حين أدلى أوليفي فيران، الناطق الرسمي باسم الحكومة، بدلوه، فناشد الشباب على موجات إذاعة «آر إم سي» بتجنّب المساس برموز الجمهورية، متعهداً بأن «العدالة ستأخذ مجراها إزاء هذه الحادثة المأساوية... لكن لا داعي لمحاكمة الجمهورية، لا تدمِّروا المدارس»، حثَّ وزير العدل إيريك دوبان موريتي العائلات «على ضبط أطفالها»، مذكراً بأن القانون يعاقب كل مَن يترك طفلاً قاصراً يتورط في أحداث شغب بسنتي سجن وغرامة 4 آلاف يورو، وتوعَّد كل المراهقين الذين يشجّعون هذه الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعقوبات قاسية.

اليسار يساند المتظاهرين... ويطالب بإصلاحات

في هذه الأثناء، تفاعلت أحزاب اليمين واليسار الفرنسية بطرق متباينة مع «أحداث نانتير». وكان رد الفعل الأبرز ذلك الصادر عن تيار اليسار المتطرف وحزب «فرنسا غير الخاضعة» التي رفض قادتها الدعوة إلى الهدوء، عادّين الأحداث «تعبيراً عن الظلم والتمييز» اللذين تتعرض لهما هذه الأقليات.

وقال الزعيم اليساري المتشدد جان لوك ميلونشون إنه «لن يدعو للتهدئة» بل إلى تطبيق «العدالة». وذكّر بأن نقابات رجال الشرطة، في مُعظمها، منتمية لتيارات اليمين المتطرف ومسؤولة عن عدة تجاوزات في حق شباب الضواحي. كذلك عمدت النائبة ساندرين روسو في تعليقها إلى الربط بين فقر سكان الضواحي وعمليات النهب التي ميّزت هذه الأحداث، مُعلقة في حسابها على «تويتر»: «ماذا لو كانت لعمليات النهب علاقة بالفقر؟»، أما الاشتراكيون وحزب «الخضر» فقد ناشدوا الحكومة بالتعجيل في «تقديم حلول للوضعية المُزرية» التي يعيشها سكان هذه الضواحي، كما قدموا مع زملائهم الشيوعيين اقتراحاً بإلغاء قانون «كازنوف» الذي يلقبه البعض بـ«تصريح بالقتل»، وهو القانون الذي صودق عليه إبّان ولاية الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند، والذي يسمح لرجال الشرطة بإطلاق الرصاص على أي شخص يرفض توقيف سيارته عند نقطة تفتيش.

اليمين المتطرف: المستفيد الأول

مقابل مواقف اليسار، اغتنم اليمين الفرنسي - وبالأخص اليمين المتشدد - فرصة هذه الأحداث لحشد الصفوف وتبرير سياساته الأمنية المتشَددة ومواقفه الرافضة للهجرة.

معظم الساسّة الذين ينتمون لهذا التيار ربطوا بين الهجرة وانعدام الأمن والفوضى التي عمّت الضواحي خلال «أحداث نانتير»، ومن بين هؤلاء إيريك سيوتي، زعيم كتلة الجمهوريين (يمين محافظ معتدل) الذي حمّل سكان الضواحي المسؤولية في أحداث الشغب، وطالب بقطع المعونات الاجتماعية عن العائلات التي تورّط أبناؤها في هذه الأحداث. كذلك، دافع سيوتي عن الشرطة، نافياً اتهامات التمييز العنصري ومطالباً بزيادة عدد السجون، لأن «كثيراً من الأحكام لا تنفذ بسبب نقص الأماكن» حسب قوله.

أما اليمين المتطرف، الذي يُعد المستفيد الأول من هذه الأحداث، فقد سارع قادته إلى تحميل مسؤولية الأحداث على الهجرة «الخارجة عن السيطرة» وفشل النموذج الفرنسي في احتواء الأجانب. وبطبيعة الحال، تحدّث إيريك زمّور، رئيس حزب «روكونكيت» (أو الاستعادة) المناوئ للمهاجرين والمسلمين، عما وصفه بـ«الحقد الذي تحمله هذه الأجيال ضد فرنسا». وتابع زمّور أن ولاء المهاجرين وأولادهم لأوطانهم الأصلية أكبر منه لفرنسا، وبالتالي فـ«إدماجهم في المجتمع الفرنسي قد فشل».

تخريب ونيران ورجال أمن (أ.ف.ب - غيتي)

وفي اتجاه مماثل، تحدث رئيس حزب «التجمع الوطني» جوردان بارديلا، الذي كان كثير الحضور في وسائل الإعلام، عن «الحرب» التي يريد «البعض» إشعالها في فرنسا، داعياً إلى «ضرورة ترحيل كل أجنبي مُتورط في أحداث شغب وإسقاط الجنسية الفرنسية عن الآخرين».

ومن جهتها، انتقدت مارين لوبن، زعيمة «التجمع الوطني»، إحجام الرئيس ماكرون عن «التضامن مع شرطي نانتير»، لكنها فضّلت، كوالدها عام 2005، التزام الصمت والانتظار إلى أن يحين قطف الثمار في الانتخابات المقبلة، وبخاصة أن كل الدراسات تتوقع فوزها في حالة ترشحها للانتخابات الرئاسية، كذلك بيّنت الدراسات الأخيرة ارتفاعاً لشعبية «التجمع الوطني» بعد هذه الأحداث.

إضرابات المعاشات... يليها مأزق الضواحي

في الحقيقة، يمكن القول إنه ما إن خرجت الحكومة من أسابيع طويلة من الاحتجاجات الشعبية ضد قانون إصلاح المعاشات حتى وجدت نفسها أمام أزمة الضواحي.

طبعاً، يتذكر كثيرون أن ولاية ماكرون لم تكن منذ البداية «نزهة هادئة». إذ عرف الرئيس الفرنسي فضيحة حارسه الشخصي ألكسندر بنالا، ثم تفجّرت «أزمة السترات الصفراء»، ثم هزت فرنسا والعالم جائحة «كوفيد 19»، وتلتها الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب التضخم وارتفاع الأسعار... وها هو «العهد الماكروني» يهدَّد بدوامة العنف في الضواحي.

الأزمات إذن تتوالى واحدة تلو أخرى، وكل منها تنذر بإضعافه أكثر. وهو إن كان قد انتقد إبان أزمة المعاشات بالتسلط وفرض الإصلاحات بالقوة، فالمطلوب منه الآن إظهار القوة والصرامة تجاه المتورطين في أعمال الشغب. وفي هذا الصدد، كتب جان غريغ، الباحث في العلوم السياسية، على موقع «هافينغتون بوست» الإخباري، قائلاً: «سيُحكم على ماكرون بناءً على قدرته على إخماد التوتر. الخطر بالنسبة إليه هو أن يبدو ضعيفاً ومفتقراً إلى العزيمة والتصميم». وبخصوص مُهلة الـ100 يوم، التي كان ماكرون قد أعلن عنها لوضع ولايته في طريق جديدة، رأى الباحث برونو كورتيس أن الرئيس قد «اعتمد على رهانات خاسرة»؛ حيث يكتب في مقال بعنوان «الآمال الأخيرة لمهمة التهدئة لماكرون تذهب أدراج الرياح مع أعمال الشغب في الضواحي» ما يلي: «إنه نبأ سيئ جداً لرئيس الدولة واستراتيجيته القاضية بترك أجندة الحكومة تنساب نحو 14 يوليو (تموز)، والمراهنة على هدوء شهر أغسطس (آب) لإجراء تعديلات وزارية وإغلاق مرحلة نظام التقاعد نهائياً...».

اهتزاز صورة فرنسا في الخارج...

ومما لا شك فيه أن «أحداث نانتير» لم تسئ لمكانة ماكرون فقط، بل أيضاً لصورة فرنسا في الخارج. إذ إن مشاهد الفوضى وعمليات النهب والحرق التي شاهدها العالم بأسره أعطت إحساساً بانفلات الوضع الأمني وانتشار الفوضى. وهو ما أفضى إلى ردود فعل على مستويات دولية رفيعة.

رئيس الوزراء البولندي اليميني ماتيوش مورافسكي، مثلاً، نشر على حسابه في «تويتر» شريط فيديو يعرض فيه تصوّره لأوروبا، مستغلاً مقاطع من حوادث الشغب في الضواحي الفرنسية لتقديم نموذج لما يعده سلبيات الهجرة وانتقاد السياسات التي تطبقها أوروبا.

أما منظمة الأمم المتحدة فقد أعربت عن قلقها بعد مقتل الشاب «نائل»، داعية فرنسا إلى مكافحة ظاهرة التمييز العنصري عند رجال الشرطة. ثم إن دولاً أخرى، كالولايات المتحدة وبريطانيا والصين، دعت رعاياها إلى تجنب السفر إلى فرنسا، وكذا إلى روسيا، التي لم تتردد في انتقاد موقف الحكومة الفرنسية التي طالما أعطتها دروساً في احترام حقوق الإنسان. بل في العاصمة الروسية موسكو، دعا نائب مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف الرئيس ماكرون إلى «الوقوف إلى جانب شعبه»، مضيفاً أن «الأموال التي أُنفقت على دعم كييف وتسليحها كانت ستكون أكثر فائدة للفرنسيين».

وذهب أبعد من ذلك، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي طالما انتقد في مناسبات سابقة «الإسلاموفوبيا» المنتشرة في فرنسا. إذ أرجع إردوغان في حديث نقله التلفزيون التركي «أحداث نانتير» إلى «العنصرية والماضي الاستعماري لفرنسا»، وأضاف أن «كل هؤلاء الذين يعيشون في الضواحي الفقيرة ويعانون الفقر هم في معظمهم مسلمون».

وفيما يخص الإعلام الدولي، فقد حظيت أحداث الضواحي باهتمام واسع في وسائل الإعلام الدولية، وظهرت مشاهد الحرق والنهب على شاشات تلفزيونات العالم، وكأن فرنسا في حالة «حرب أهلية» فعلية. وتكلمت صحيفة «إلباييس» الإسبانية عن «الضواحي» بوصفها «جرح فرنسا القديم» الذي استيقظ من جديد، وعن أماكن فقيرة تتمركز فيها أجيال الهجرة وشباب يشعرون وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. ومن جهتها، عدت الـ«نيويورك تايمز» الأميركية في تعليق لها أن إشكاليات الهوية والعرق تفرض نفسها بقوة في فرنسا رغم الخطاب الرسمي الذي يرفض «القومية». وتابعت: «فرنسا لا تريد أن ترى نائل... وهو فرنسي جزائري أو فرنسي مغربي».

أما الصحافة الألمانية فقد ركزت اهتمامها على الانفلات الأمني، وتطرقت صحيفة «دي فيلت» إلى الضواحي المشتعلة والجدل حول عنصرية الشرطة. واختارت صحيفة «دي تسايت»، بمناسبة أحداث فرنسا وتهم العنصرية، قضية الأميركي جورج فلويد. أما صحيفة «بيلد» الشعبية فقد كتبت عن «تحرر كمّ هائل من العنف يعبّر عن غضب مكبوت». وخلص المحلّل الصحافي إيف تريار إلى أن هذه الأحداث «أساءت لصورة فرنسا في الخارج وأظهرت شماتة الأعداء».

وداخل فرنسا، في عمود بصحيفة «لوفيغارو»، تحت عنوان «تحطم السفينة الفرنسية»، كُتب ما يلي: «للمرة الثانية في ظرف 4 أشهر، تُلغى زيارة دبلوماسية للرئيس ماكرون. المرة الأولى مع ملك بريطانيا تشارلز الثالث بسبب الإضرابات ضد قانون المعاشات، وها هو الآن يتغيب عن زيارة مهمة لألمانيا بسبب انتفاضة الضواحي». وأضاف: «صحيح أن الفرنسيين معروفون بأنهم شعب صعب الإرضاء، ويثور ضد كل أشكال الظلم، لكن تطور الأوضاع الحالية أصبح مصدراً للقلق. بتنا نحس بالخجل وكأن العالم ينظر إلينا ساخراً من تفككنا.... من غرق سفينتنا».

مع هذا، ووسط تسارع الأحكام والتعليقات، حاول وزير الاقتصاد والصناعة الفرنسي برونو لومير مخاطبة العالم وطمأنة السّياح والمستثمرين، عبر حوار خصّ به قناة «سي إن إن»، شدد فيه على أن «فرنسا بلد آمن، وأن اقتصادها قوي وبصّحة جيدة».

الضواحي الفرنسية... 40 سنة من السياسات الفاشلة!

ماكرون مع رؤساء بلديات المدن المتضررة (أ.ف.ب - غيتي)

قبل أسبوع من اندلاع «أحداث نانتير»، كان الرئيس إيمانويل ماكرون في مدينة مارسيليا (جنوب فرنسا) لتقديم خطة جديدة لعلاج مشكلات الضواحي الفقيرة. وتلك ليست المرة الأولى، فمنذ السبعينات شهدت فرنسا أكثر من 10 مخططات للنهوض بهذه الأحياء الفقيرة، في إطار ما سمي «سياسة المدينة». أولها كان في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان عام 1977.

بعدها، في 2017 دقّ مسؤولون محليون ناقوس الخطر حول تردّي أحوال هذه المناطق وسكانها عبر نداء أطلقه أكثر من 100 عمدة، سمّي «نداء غرييني»، دعوا فيه الحكومة إلى التحرك قبل أن تنفجر الأوضاع. وإثر هذا النداء، قدّم الوزير السابق جان لوي بورلو مخطّط تنمية، سرعان ما تقرر التخلي عنه بسبب الميزانية الكبيرة (84 مليار يورو).

جدير بالذكر أن الضواحي التي يقطن فيها نحو 6 ملايين شخص، تسجّل معدلات بطالة تصل بعضها، مثل لاسان سان دونيه، إلى 40 في المائة، وهي مناطق تعاني التهميش الاجتماعي، وانتشاراً لتجارة المخدرات، كما أن 60 في المائة من سكانها يعيشون الفقر والعزلة، ومعظمهم من المهاجرين. ولقد أجمع المراقبون على أن هذه السياسات، وإن كانت قد نجحت إلى حد ما في تحديث السكن وتحسين وسائل النقل، حيث خُصصت لها بحسب الوكالة الوطنية للتحديث الحضري ميزانية 12 مليار يورو بين 2003 و2020، فإنها ما كانت كافية لاحتواء المشكلات الاجتماعية والإنسانية والتمييز العرقي، خاصة ذلك الذي تمارسه الشرطة تجاه الشباب ذوي الأصول المهاجرة. وحقاً، أظهرت دراسات كثيرة لمنظمات حقوقية أن الشرطة تحقق في هوية شباب الضواحي بمعدل 20 مرة أكثر من الآخرين. وأفاد سيباستيان روشي، وهو باحث متخصّص في إشكاليات الضواحي، من خلال دراسة له، أن حالات إطلاق الرصاص عند رجال الشرطة قد تضاعفت 3 مرات، بعد صدور «قانون كازنوف»، وأن 13 شاباً قتلوا برصاص الشرطة عام 2022. وعلى سبيل المقارنة، يقارن هذا بحادثة واحدة فقط شهدتها ألمانيا في العام ذاته.

واليوم، وسط سياسة التقشف التي تنتهجها الحكومة لاحتواء عجز الميزانية وتضخم الديون، فإن التوجه السائد لا يأخذ بعين الاعتبار مخططات جديدة. ورغم تمكن سلطات الأمن الفرنسية من إخماد العنف هذه المرة، فإن مشكلات التهميش والعزلة التي يعاني منها سكان ضواحي المدن الفرنسية لم تعالج بعد، وستظل كقنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في كل مرة.

تاريخ حافل بأحداث الشغب

لقد أعادت «أحداث نانتير» الأخيرة إلى الذاكرة الاضطرابات التي شهدتها الضواحي الفرنسية عام 2005، إذ قبل 18 سنة انتفض سكان هذه الضواحي، ومعظمهم من أصول مهاجرة مغاربية أو أفريقية، للتعبير عن غضبهم إثر وفاة الشابين بونا وزيدان (15 و17 سنة) صعقاً بالكهرباء، بعدما لاحقتهما الشرطة في ضاحية كليشي سو بوا، شمال العاصمة الفرنسية.

وما صبّ الزيت على النار موقف نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية آنذاك، الذي دافع عن رجال الشرطة، نافياً مسؤوليتهما رغم إفادات الشهود العيان، ثم قرار العدالة بتبرئة الشرطيين المتورّطين من كل مسؤولية في موت المراهقين.

وبعد 12 يوماً من الاضطرابات، قررت الحكومة إعلان حظر التجول، وكانت تلك المرة الخامسة في تاريخ فرنسا، التي يُعلن فيها قرار من هذا النوع، وكانت المرة السابقة عام 1955 إبان «حرب الجزائر».

أحداث عام 2005 كانت سيئة بالفعل، وأسفرت عن حرق 10 آلاف سيارة وتدمير 300 مبنى وإيقاف 13000 شخص. ولم ينتهِ الأمر هنا، بل بعد سنتين شهدت ضاحية فيلي لو بال في شمال العاصمة حوادث عنف أخرى استمرت أسبوعين بعد مقتل مراهقين من أصول مهاجرة إثر ملاحقة الشرطة لهما. وتلتها حادثة أخرى في إحدى ضواحي سانت إتيان (جنوب فرنسا) خلال يوليو (تموز) 2009 حين عثر على الشاب محمد بن مونة وهو ميت خنقاً داخل مركز للشرطة. وإثر انتشار إشاعات عن تورّط رجال الشرطة في موته، شهدت المنطقة مناوشات استمرت أسبوعاً وأسفرت عن حرق مركز تجاري وتوقيف العشرات.

الأحداث نفسها عادت من جديد في يوليو 2010، وهذه المرة في إحدى ضواحي غرونوبل (جنوب شرقي فرنسا) حيث قتل الشاب كريم بودودة في اشتباك مع رجال الشرطة، وتلتها اضطرابات أخرى أعوام 2015 و2017 و2018، ومعظمها اندلع بعد قتل أو إصابة شباب من أصول مهاجرة على يد رجال الشرطة في أحداث شغب أو عند نقاط التفتيش.



ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

ديفيد لامي
ديفيد لامي
TT

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

ديفيد لامي
ديفيد لامي

ديفيد لامي، وزير الخارجية الجديد، هو «ذراع» كير ستارمر اليمنى على المستوى الدولي، ومنه يتوقّع العالم أن يسمع عن توجهات حكومة بريطانية جديدة تتمتع بتفويض عريض يتيح لها حرية التصرف مع الخصوم والأصدقاء.

النشأة والبداية

ولد ديفيد ليندون لامي يوم 19 يوليو (تموز) 1972 في حي هولواي، بشمال وسط العاصمة البريطانية لندن، لأسرة سوداء تتحدّر من غيانا (أميركا الجنوبية). وترعرع مع إخوته الأربعة في حي توتنهام المجاور برعاية أمه وحدها؛ إذ غادر أبوه منزل الأسرة عندما كان ديفيد في الثانية عشرة من العمر، وترك هذا الأمر تأثيراً بالغاً في حياته لجهة اهتمامه الشديد بالعناية بالأطفال. وفي أثناء دراسته في مدرسته الأولى بلندن، وكان يومذاك في العاشرة من عمره، حصل على منحة دراسية كورالية للإنشاد في كاتدرائية بيتربورو (شرق إنجلترا)، وكانت الدراسة في مدرسة «كينغز سكول» الخاصة في مدينة بيتربورو.

بعد إكمال لامي تعليمه المتوسط والثانوي في مدرسة «كينغز سكول» - بيتربورو، التحق بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية «سواس» العريق في جامعة لندن، ومنه تخرّج مُجازاً بالحقوق، وانتمى لنقابة المحامين في إنجلترا وويلز عام 1994. ثم درس في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة، وأكمل هناك شهادة الماجستير في القانون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه كان أول بريطاني أسود يتخرّج في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وبعد الماجستير عمل محامياً في مكتب شركة هوارد رايس القانونية بولاية كاليفورنيا عامي 1997 – 1998، ثم شركة دي جي فريمان بين عامي 1998 و2000. كما كان لفترة قصيرة أستاذاً زائراً للمارساة المحاماة في «سواس» بلندن.

وأما بالنسبة لحياته الزوجية، فإنه تزوّج عام 2005 من الرسامة نيكولا غرين ورزقا بصبيين وبنت. وهو يصف نفسه بأنه مسيحي ومتحدر من أصل أفريقي... وبريطاني وإنجليزي ولندني وأوروبي، كما أنه يحمل جنسية مزدوجة غيانية - بريطانية.

لامي السياسي الطموح

منذ مرحلة الشباب المبكّر انتسب لامي إلى حزب العمال ونشط في صفوفه. وفي عام 2000 دخل «مجلس لندن التمثيلي»، وانتقل بعد ذلك في عام 2002 ليشغل مقعد دائرة منطقة توتنهام، بشمال لندن، عبر انتخاب فرعي أجري لملء شغور المقعد البرلماني إثر وفاة شاغله النائب الأسود العمالي اليساري بيرني غرانت. ويومذاك، في 22 يونيو (حزيران) 2002 حصل على 53.5 في المائة من الأصوات، ومتغلباً على أقريب منافسيه بفارق 5646 صوتاً، وغدا، بالتالي، وهو في سن السابعة والعشرين أصغر أعضاء مجلس العموم سناً... واحتفظ بهذا اللقب حتى انتخاب النائبة سارة تيثر في العام التالي.

ولقد احتفظ لامي بهذا المقعد منذ ذلك الحين، كما أنه شغل عدة مناصب وزارية ثانوية في حكومتي بلير وبراون بين عامي 2002 و2010؛ إذ عيّنه بلير عام 2002 مساعد وزير دولة بوزارة الصحة العامة، وعام 2003 أصبح مساعد وزير دولة للشؤون الدستورية. ثم عيّن وزير دولة في وزارة الثقافة عام 2005، ثم نائب وزير دولة للابتكار والجامعات والمهارات عام 2007، وبين عامي 2008 و2010 شغل لامي منصب وزير دولة للتعليم العالي.

الابتعاد التدريجي عن اليسار

بعد خسارة حزب العمال انتخابات 2010، أيّد لامي انتخاب إد ميليباند لزعامة الحزب، لكنه لم يدخل «حكومة الظل»، مفضلاً البقاء خارج الصفوف القيادية. وخلال هذه الفترة كانت توجهات لامي السياسية لا تزال تعتبر عن قناعات يسارية، وهذا بالتوازي مع الصعود الحثيث للتيار اليساري المتشدد، الذي تجسّد عام 2015 بانتخاب اليساري المخضرم جيريمي كوربن زعيماً.

في عام 2012، أيّد لامي ترشيح عمدة لندن الكبرى اليساري كين ليفينغستون لتولي منصب رئيس بلدية العاصمة، بل كان ضمن فريق مستشاريه ومعاونيه. وبعدها، عام 2014 أعلن عن رغبته بالترشح لمنصب رئيس البلدية، وقال إنه يخطّط لخوض المنافسة عام 2016. ولكن خلال الانتخابات العامة عام 2015 أعيد انتخابه نائباً في مجلس العموم، معزّزاً غالبيته بحصوله على نسبة 67.3 من أصوات دائرته، ومتقدّماً على أقرب منافسيه بأكثر من 23560.

حتى بعد هزيمة حزب العمال في تلك الانتخابات، كان لامي واحداً من 36 نائباً رشحوا جيريمي كوربن لزعامة الحزب... وكان محسوباً أحد أصدقائه. إلا أن طموحه لرئاسة بلدية لندن تعرض لانتكاسة كبرى عندما حل رابعاً بين المرشحين العماليين في التصويت الترشيحي، وفي نهاية المطاف فاز برئاسة البلدية متصدّر المنافسين صديق خان، الذي ما زال يشغل المنصب.

عند هذه المحطة بدأ تحول لامي - وبعض أترابه من اليساريين - التدريجي نحو الاعتدال والوسط. وتجلّى هذا التحوّل في تأييده لتوليّ ستارمر، الشخصية القانونية ذات التوجهات الوسطية، خلال انتخابات الزعامة عام 2020. ويُذكر أن انتخابات عام 2019 شهدت هزيمة مريرة للعمال، أنهت حقبة كورين واليسار لمصلحة التيار الوسطي المدعوم بقوة من مناصري إسرائيل داخل الحزب. وبالفعل، أثمر ولاء لامي للزعيم الجديد - المقرب جداً من إسرائيل - وخطه السياسي عندما عيّن في «حكومة الظل» لحقيبة العدل وكبير القانونيين. ولاحقاً، في التعديل الذي أجري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، انتقل لتولي حقيبة وزارة الخارجية في «حكومة الظل».

تعيينه وزيراً للخارجية

في أعقاب فوز العمال الساحق بالانتخابات الأخيرة، واحتفاظ لامي بمقعده في توتنهام، بشمال لندن، أسند رئيس الوزراء الجديد ستارمر إليه منصب وزير الخارجية رسمياً. وجاء هذا التعيين على الرغم من أن لجنة تحقيق اكتشفت عام 2022 ارتكابه من دون قصد مخالفة مسلكية، واضطر على الأثر إلى تقديم كتاب اعتذار عن المخالفة إلى مفوضة المعايير البرلمانية. أما على الصعيد السياسي، فمنذ تولي لامي منصبه الوزاري الجديد، كان بين أبرز مواقفه تأييده الصريح لأوكرانيا في الحرب الروسية عليها، ودعمه حرب إسرائيل ضد حركة «حماس»، وهو في هذا الشأن، على الرغم من تأييده وقف إطلاق النار في غزة، فإنه مثل ستارمر، ما زال يربطه بإطلاق جميع الرهائن.

الموقف من إسرائيل

أيضاً حول موضوع إسرائيل والقضية الفلسطينية، تجدر الإشارة إلى أن ديفيد لامي يُعد من أكثر أعضاء الحكومة العمالية الجديدة تلقياً للدعم المالي من جماعة «أصدقاء إسرائيل في حزب العمال». وهو، بعد هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) في غلاف قطاع غزة، زار إسرائيل في أواخر العام الفائت، تحديداً يوم 19 نوفمبر 2023، وهناك اجتمع برئيس الدولة الإسرائيلي إسحق هرتسوغ ووزير الخارجية إيلي كوهين.

وخلال ذلك الشهر، اعتبر لامي الغارة الإسرائيلية على أحد مخيمات اللاجئين في قطاع غزة «عملية مبرّرة». على الأثر، اتسمت بالسلبية علاقته بالشارع البريطاني المؤيد للقضية الفلسطينية، والمعارض لاستمرار الأعمال التهجيرية الدامية في القطاع، وأيضاً في الضفة الغربية. ومجدداً زار لامي إسرائيل يوم 14 يوليو (تموز) الحالي، والتقى في أثناء الزيارة بعائلات الرهائن الإسرائيليين الذين اختطفتهم «حماس»، وكرر من هناك المطالبة بوقف لإطلاق النار في غزة مشروط بالإفراج عن جميع الرهائن.

... ومن أوكرانيا

أما ما يخصّ أوكرانيا وانعكاسات حربها على المشهد الأوروبي، فكانت من أولى مهام ديفيد لامي وزياراته الخارجية بصفته وزيراً للخارجية البريطانية، اجتماعه بنظرائه: البولندي رادوسواف سيكورسكي، والألمانية آنالينا بيربوك، والسويدي توبياس بيلستروم، لمناقشة الوضع ومستجدات الحرب الروسية إلى جانب مواضيع أخرى. وحول علاقة بريطانيا - ما بعد «بريكست» (الخروج من الاتحاد الأوروبي)، شدد لامي الوزير لنظرائه الأوروبيين على أن الحكومة الجديدة في لندن حريصة على «إعادة ضبط» علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك تعزيز الخطط الخاصة بالأمن المشترك، وسياسات الطاقة، وأزمة تغير المناخ، ومواجهة الجوائح والأوبئة، والهجرة غير الشرعية.

ديفيد لامي، الذي يتمتع بخبرة سياسية وقانونية كبيرة، لديه أيضاً - كما سبقت الإشارة - اهتمامات أكاديمية وثقافية. وكان قد نشر خلال نوفمبر 2011 كتاباً بعنوان «بعيداً عن الرماد: بريطانيا في أعقاب اضطراب الشوارع»، تناول فيه الاضطرابات التي اجتاحت بعض المدن الإنجليزية عام 2011. ثم نشر كتاباً ثانياً من تأليفه بعنوان «قبائل» ناقش فيه أزمة الانقسامات الاجتماعية، ومدى الحاجة إلى الانتماء. ومن جهة ثانية، ظهر مقدِّماً خلال الفترة بين عامي 2022 و2024 في برنامج تلفزيوني قبل ظهر أيام الأحد. وهنا، نشير إلى أن المعلومات الموثقة عنه تفيد بأنه تلقى بين عامي 2019 و2024 أعلى دخل مادي بين النواب العماليين، إلى جانب مرتبه نائباً في مجلس العموم. من أبرز مواقف لامي في منصبه الوزاري

تأييده الصريح لأوكرانيا في الحرب الروسية عليها،

ودعمه حرب إسرائيل ضد «حماس»