القوى السياسية العراقية حائرة بين دعم السوداني والخوف منه

وسط الرهان على تحسن المناخ الإقليمي

جانب من قمة جدة (رويترز)
جانب من قمة جدة (رويترز)
TT

القوى السياسية العراقية حائرة بين دعم السوداني والخوف منه

جانب من قمة جدة (رويترز)
جانب من قمة جدة (رويترز)

الأجواء التي تهيمن على المشهد السياسي العراقي بعد نحو 7 أشهر على تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، تمضي باتجاهات مختلفة تتناقض أحياناً فيها المواقف والرؤى والتطلعات التي كثيراً ما تتناقض بين دعم السوداني من جهة والخوف منه من جهة أخرى. وبين الموقفين المتباينين حيناً والمتناقضين حيناً آخر يبقى موقف زعيم التيار الصدري غامضاً إلى حد بعيد، لا سيما بعد ظهور جماعة دينية متطرفة مذهبياً، هي جماعة «أصحاب القضية». وفي ما يخص موقف الصدر، الذي كان انسحب من البرلمان العام الماضي مع أنه فاز بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات أواخر عام 2021، فإنه يرتبط بمواقف قوى الحراك المدني و«قوى تشرين» التي لا تزال تنتظر ما يمكن أن يصدر من الصدر من موقف حيال ما يجري لكي تحدد مسارها اللاحق. ولكن يتضح من خلال ما يجري، أنه بينما تجنّب السوداني إجراءات التغيير التي أحدثها في مختلف مؤسسات الدولة الكوادر الإدارية التي تنتمي إلى التيار الصدري، فإن الصدر لم يأمر هذه الكوادر، ومن بينهم موظفون كبار في الدولة بالانسحاب من الحكومة، مثلما أمر نوابه الانسحاب من البرلمان.

محمد شياع السوداني خلال القمة (رويترز)

طوال الأشهر السبعة الماضية، وعلى الرغم من المواقف العديدة التي اتخذها السيد مقتدى الصدر حيال قضايا عراقية مختلفة - كانت في الغالب دينية واجتماعية وفكرية وسياسية - فهو، على مستوى أدنى، لم يتبن موقفاً واضحاً من حكومة محمد شياع السوداني لا سلباً ولا إيجاباً، وإن كان أشار غير مرة إلى الفساد والفاسدين، الذين يقصد بهم خصومه من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي... باستثناء السوداني.

واستناداً إلى هذه المؤشرات وسواها الكثير، يبدو السوداني في عجلة من أمره لإحداث تغيير كبير في مختلف الميادين والمجالات طبقاً للبرنامج الحكومي الذي شُكّلت حكومته بموجبه. ومع أن رئيس الحكومة يدرك أنه أمام تحديات كبيرة، لا سيما في ما يتعلق بالانتخابات المقبلة. وللعلم، انتخابات مجالس المحافظات مقرّرة بنهاية العام الحالي، أما انتخابات البرلمان فينتظر أن تُجرىَ في وقت لم يحدد بعد، لكنه قابل للتحديد من قِبل الأطراف السياسية طبقاً لما يرتبط بمصالحها الخاصة.

السوداني، بدا جاداً وصارماً في تطبيق برنامجه الحكومي، الذي بدأ الكثير من مفرداته - خصوصاً بالجانب الخدمي - يرى النور ويتحوّل مصدر قبول لدى المواطن العراقي، إلا أن ما يمكن أن يغدو منجزات بارزة للعيان وملموسة في الشارع ولدى المواطن، قد لا يكون بالضرورة مقبولاً ومرضياً عنه لدى الطبقة السياسية.

إن رئيس الحكومة العراقية الذي يسعى لاستثمار أجواء الهدوء في المنطقة، وبالأخص، بعد التفاهم الأخير بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية الصين، يدرك أن أجواء الهدوء باتت بالنسبة للقوى السياسية سلاحاً ذا حدين. فمن جهة تساعد هذه الأجواء في إمكانية استعادة الثقة بين المواطن والطبقة السياسية؛ وهو ما يمكن أن يعزّز رصيد هذه الطبقة في الشارع. غير أنه في المقابل سيرفع رصيد رئيس الحكومة؛ ما يضع قيد الاختبار تلك القوى السياسية، ولا سيما الشيعية منها، التي تولّت ترشيحه للمنصب بوصفها الكتلة البرلمانية الأكبر عدداً.

الرؤية التي تنطلق منها هذه القوى، التي تنضوي تحت تسمية قوى «الإطار التنسيقي الشيعي»، أن رصيد السوداني الجماهيري لن يؤثر على المكوّنين السني والكردي من منطلق أن السوداني الذي يتزعم تياراً ناشئاً اسمه «تيار الفراتين» حاز مقعدين في الانتخابات الماضية، لكنه سيأكل كثيراً من جرف هذه القوى في المناطق والمحافظات الشيعية.

واستناداً إلى هذه الرؤية، فإن التأييد الوطني الذي سيحظى به السوداني في مختلف محافظات العراق سينعكس عليها سلباً، لا سيما أن السوداني في حال شارك في أي انتخابات سيحصل على مقاعد كثيرة. وهذا أمر لا يقلق السنّة والكرد، لكنه يقلق حلفاءه الشيعة.

«الدبلوماسية المُنتجة»

في الحقيقة، منذ تولّى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة، لوحظ أنه رسم طريقاً في التعامل مع المحيط العربي والإقليمي والدولي عبر ما أسماه «الدبلوماسية المنتجة». وهي دبلوماسية تقوم على أساس استثمار الأجواء العامة في المنطقة والعالم بطريقة تجعل من أي تحرك يبنى على قاعدة من التفاهمات الصحيحة التي تؤدي في النهاية إلى مُخرجات سليمة.

وبناءً عليه؛ في ضوء تنامي العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد توقيع الاتفاق بينهما الذي كان لبغداد دور بارز، أكد السوداني عبر اتصال هاتفي مع ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، على أهمية استثمار أجواء الهدوء السياسي الذي تمر به المنطقة، والذي يسمح بإمكانية طرح مشاريع كبرى. وهذا بالضبط ما فعله أثناء مشاركته في «قمة جدة» أخيراً، حين دعا إلى تشكيل تكتل اقتصادي عربي. وكذلك دعا في جدة إلى تطبيق ما أسماه «طريق الحرير»، الذي جرى بالفعل الإعلان عنه الأسبوع الماضي عبر مؤتمر لوزراء النقل لدول الخليج العربي ودول الجوار الجغرافي للعراق.

بشأن مدى ما يمكن أن تحققه الدبلوماسية المنتجة من نتائج إيجابية للعراق والمنطقة، حاورت «الشرق الأوسط» الأكاديمي العراقي الدكتور إحسان الشمّري، رئيس مركز التفكير السياسي. وممّا قاله الشمري أن «دبلوماسية الهاتف تأتي في إطار تنسيق المواقف بين العراق من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، خصوصاً أن العراق بات يستشعر الاستقرار في المنطقة نتيجة المصالحة ما بين السعودية وإيران... المملكة العربية السعودية تقدم حزم مبادرات من أجل استقرار المنطقة، وهذا يصب في مصلحة العراق بشكل مباشر وغير مباشر، من منطلق أن استقرار المنطقة سيساهم على استقرار داخلي في العراق على كل المستويات».

وأضاف الشمّري «هناك أمر آخر يؤكد مواصلة العراق العمل على بناء علاقات جيدة مع المنظومة العربية، وبالذات مع المملكة العربية السعودية كدولة ضامنة. إذ لا بد للعراق أن يعتبر السعودية دولة ضامنة يمكن أن تكون مساهمة بفاعلية في إزالة الأزمات وتفكيك الأزمات الاقتصادية في الداخل العراقي».

أما أستاذ الإعلام الدولي الدكتور غالب الدعمي، فقال في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك هدوءاً كبيراً في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط؛ وهو ما يساعد العراق على لعب دور في سياق استثمار هذا الهدوء عبر بناء علاقات متوازنة». وأردف الدعمي «في هذا الوقت، بالذات، يمثل العراق نقطة اللقاء بين المنطقة العربية وإيران... ذلك أنه يملك علاقات جيدة مع إيران، وكذلك لديه علاقات بدأت تتحسن مع الدول العربية، ولا سيما الدول الخليجية منها. وبالتالي، فإن الطريق الأقرب لنمو هذه العلاقات تمر عبر العراق، ومن ثم، فهدوء العراق واستقراره إنما هما جزء من هذا الهدوء».

وفي سياق متصل، اعتبر الدعمي أن تحسن العلاقات بين دول الخليج العربي إيران ينعكس إيجاباً بالعراق. وقال إنه «عندما يتحقق الاستقرار يبدأ الاستثمار... حيث تنطلق المشاريع الصناعية والزراعية وغيرها من المشاريع الكبرى. ونحن في العراق بأمس الحاجة إلى ذلك... وعلى وجه الخصوص، في مناطق البصرة والمثنى ونينوى وديالى وصلاح الدين، وغيرها من المناطق والمحافظات في العراق».

التنمية «طريق حرير» عراقية الهوية

على صعيد ثانٍ، في بغداد، لبّت عشر دول عربية وشرق أوسطية ممثلة بوزراء النقل فيها، هي دول الخليج العربي الست، ودول «الجوار الجغرافي» للعراق - أي سوريا والأردن وإيران وتركيا - الدعوة التي أطلقها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

السوداني كان قد أطلق في جدة، من خلال كلمته أمام «القمة العربية» الأخيرة، دعوة إلى عقد مؤتمر لوزراء النقل في هذه الدول الخليجية و«الجوارية» العشر؛ وذلك بهدف إطلاق ما أسماه مشروع «طريق التنمية» أو القناة الجافة. وهذه الطريق - أو القناة الجافة - التي تمتد على مسافة 1200كم من ميناء الفاو الكبير بمحافظة البصرة في أقصى الجنوب العراقي إلى أقصى الشمال العراقي من جهة محافظة نينوى. ومن محافظة نينوى إلى تركيا ومن إلى أوروبا.

وتشمل هذه «الطريق - القناة» خط سكك حديدية وطريقاً برّية لنقل البضائع تضاهي إلى حد كبير مبادرة «الحزام والطريق» الصينية... ولكن بنسخة عراقية. ومما ذكره السوداني خلال كلمته في قمة جدة أن «العراق سيستضيف مؤتمرات عدةً، منها مؤتمر (بغداد 2023) للتكامل الاقتصادي والاستقرار الإقليمي». وذلك قبل أن يدعو القادة العرب جميعاً، إلى عقد القمة العربية لعام 2025 في بغداد، «التي تتطلع إلى احتضان الأشقّاء العرب في بلاد الرافدين».

رئيس الحكومة العراقي أورد في مقاله الذي نشرته «الشرق الأوسط» قبل يومين من عقد القمة العربية، القول «... بدأنا العملَ على مشروع طريق التنمية الاستراتيجي لربط ميناء الفاو مع الحدود التركية، ومنها إلى أوروبا. وتستعد بغدادُ لاحتضان اجتماع يضمُّ وزراءَ نقلِ دول مجلس التعاون الخليجي وإيران وتركيا وسوريا والأردن أواخر هذا الشهر؛ لبحث هذا المشروع الاستراتيجي وتنفيذه لما فيه من ترسيخ لآفاق التعاونِ الاقتصادي الإقليمي، وخدمةٍ لمصالحِ هذه البلدان وشعوبها». وبيّن أن «كل هذا التعاون الاقتصادي والسياسي والرياضي مع محيطنا العربي يدلُّ على رغبةِ العراق الصادقة في الالتحام مع أشقائه العرب، بما يضمن السلامَ والرخاء لنا جميعاً، ولشعوبنا التواقة للاستظلالِ بمظلة واحدة تجمعها من جديد».

مؤتمر المستثمرين...

أيضاً، قبل بضعة أسابيع أكد السوداني خلال مؤتمر للمستثمرين العرب والأجانب أن «الحكومة تعمل بشكل جادّ لتحرير العراق من الاقتصاد الأحادي، من خلال تفعيل باقي القطاعات، لا سيما الزراعة والصناعة لدعم الاقتصاد». إلا أنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الحكومة «لن تلجأ إلى خصخصة تجلب آثاراً اجتماعية وسياسية، ولن تثقل كاهل المستثمر بسبب العمالة المتوفرة». وشدد رئيس الحكومة على أولوية «الإصلاح الاقتصادي»؛ إذ قال «لا يمكن أن نبقى أسرى للاقتصاد الأحادي الذي يعتمد على إيرادات النفط، ولا بدّ أن نفكر في قطاعات أخرى، وأهمها الصناعة والزراعة... لأن العراق بلد صناعي تتوفر فيه البنى التحتية والموارد الطبيعية غير المستغلة».

وعن قدرات العراق الصناعية وثرواته الطبيعية التي يجب أن تستثمر، قال إن البلاد هي «الأولى على مستوى احتياطي الكبريت، والثاني على مستوى الفوسفات، ثم أن السيليكا متوافرة بنقاوة 98 في المائة»، قبل أن يذكّر الحضور والمستمعين بأن العراق يزخر بـ«كفاءات وخبرات وموارد طبيعية وبشرية تجعله قادراً على خلق صناعة وطنية متطورة».

الحائرون بين الدعم والخوف

وسط هذا كله، غير مرة خاضت القوى السياسية والبرلمانية مع السوداني «اختبار قوة» بهدف معرفة أين يمكن أن يصل في مجال المضي بتنفيذ ما كان قد طرحه من برنامج حكومي طموح. والمعروف، أن القوى السياسية العراقية اعتادت في الماضي على برامج حكومية تبدو مماثلة من حيث المفردات والخطط، لكنها غالباً تبقى مجرد كلام إنشائي لا يُنفَّذ منه شيء. أما السبب خلف تعذّر التنفيذ، فغالباً ما يتعلق بمبّررات مثل قوى الإرهاب مرة والمؤامرات الداخلية والخارجية مرة أخرى، ومعها الذريعة المتكررة التي هي «قلة التخصيصات»، ناهيك من الغول الدائم... أي الفساد المالي والإداري في البلاد.

في أي حال، يبدو أن طُموح السوداني الطَّموح جداً يدفعه للتعامل مع مفردات البرنامج الحكومي بطريقة تختلف عن المرات السابقة. وهكذا، بات رئيس الحكومة، بالإضافة إلى طرحه رؤى مستقبلية تبدو قابلة للتطبيق، باشر حقاً في تنفيذ العديد من المشاريع الخدمية التي بدأ المواطن يلمسها بشكل واضح في عموم المناطق، وبالأخص، المناطق والأحياء الشعبية.

وفي ضوء هذا الواقع، انقسمت القوى السياسية العراقية بين فئتين:

- الفئة الأولى، التي تريد الاستمرار بدعمه من منطلق أنها هي التي رشحته، وبالتالي فإن نجاحه يُحسب لها.

- الفئة الأخرى، التي تضم القوى الأخرى، لعلها الغالبية، التي تعتقد - أو يعتقد بعضها - أن مواصلة دعمه من دون شروط موضوعة على السوداني ستجعله يتمرد تماماً، خصوصاً أن الناس تؤيد «الحاكم القوي» القادر على تحقيق منجزات ومتابعة ما يجري بدقة وحزم.

والواقع، أن السوداني أعلن - مثلاً - نيته إجراء تعديل وزاري، وقبلها إعادة النظر بالمديرين العامين في دوائر الدولة. وبالفعل، أقال اكثر من 60 مديراً عاماً بعد ثبوت تقصيرهم، بينما ينتظر الوزراء والمحافظون إعادة النظر بهم، وهذا الأمر يحصل للمرة الأولى. ولعل الأهم هنا، أنه سبق لرئيس الحكومة أن أطلق تصريحات تعهّد فيها بألا يجامل أي زعيم أو حزب بالتعديل الوزاري... «ومن يريد أن يرفض فليرفض». وبالتالي، بينما تستمر حيرة القوى السياسية بين دعم السوداني من جهة والخوف منه من جهة أخرى، يُربك الاتفاق على إجراء انتخابات مجالس المحافظات بنهاية العام الحالي المشهد السياسي وخريطة التحالفات السياسية.

السيد مقتدى الصدر (أ.ف.ب)

من ملامح ارتباك المشهد السياسي العراقي

> من أبرز ملامح الارتباك في المشهد السياسي العراقي هو الكيفية التي ستخوض بموجبها مختلف الكتل انتخابات مجالس المحافظات (الانتخابات المحلية) المرتقبة. وبسبب الغموض الواضح يتوقع المتابعون فتح البعض معارك تبدو جانبية لأول وهلة، لكنها سرعان ما تتحول إحدى العلامات الفارقة في خريطة التحالفات والتحولات السياسية.

هذه الانتخابات لمجالس المحافظات ستكون إلى حد كبير بديلاً عن الانتخابات البرلمانية التي يبدو أنها لن تنظّم قبل نهاية الدورة الحكومية الحالية (ثلاث سنوات ونصف السنة على الأقل).

ولذا؛ فإن القوى السياسية البرلمانية؛ من أجل المحافظة على أوزانها، والتحضير من خلال عدد مقاعدها في مجالس المحافظات المقبلة لأي انتخابات برلمانية مقبلة، ستعمل على التأهب للمعركة الانتخابية من زوايا مختلفة.

واحدة من هذه الزوايا المعركة داخل البرلمان بشأن الميزانية. إذ على الرغم من الخلافات المعروفة داخل البرلمان بشأن الميزانية سواءً لجهة العجز أو سعر صرف الدولار أو أسعار النفط أو كونها ثلاثية (للسنوات الثلاث المقبلة)، ثمة خلافات تتعلق بالمناقلات بين الوزارات والمحافظات؛ وهو ما يعني حاجة القوى السياسية من كل الأطراف والأطياف إلى الحصول مبكراً على أموال إضافية لهذه المحافظة أو تلك تخضيراً لتلك الانتخابات.

جانب آخر يمثل خطورة قائمة بحد ذاتها، هو ما أعلنه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أخيراً عن أن الخلاف بينه وبين خصومه «انتقل من الشق السياسي إلى العقائدي». ولعل ما يقصده الصدر بهذا الكلام هو أن الذين يلقَّبون بـ«أصحاب القضية» - الذين يصرّون رغم تكفيرهم من قِبله على أنه هو «المهدي المنتظر» - يهدفون إلى إبعاده عن المشهد السياسي في حال فكر بالعودة إليه ثانية، وذلك عبر الانشغال العقائدي بقضية خطيرة عند الشيعة. وللعلم، يعتبر الصدر أن هؤلاء مدفوعون من قِبل خصومه في بعض الفصائل المسلحة التي يسميها هو «الميليشيات الوقحة»، ولكن من دون أن يحدد هويتها بالضبط. ومع أن الصدر كرّر مراراً أنه ليس مرجعاً ولا مجتهداً ولا معصوماً، لم ينفعه كل هذا في دحض ما يدعيه هؤلاء بين فترة وأخرى بأنه هو «المهدي المنتظر».

منذ تولّى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة لوحظ أنه رسم طريقاً في التعامل مع المحيط العربي والإقليمي والدولي عبر ما سمّاه «الدبلوماسية المنتجة»


مقالات ذات صلة

تحذيرات عراقية من عودة «داعش»

المشرق العربي تحذيرات عراقية من عودة «داعش»

تحذيرات عراقية من عودة «داعش»

تخشى بغداد أن يعيد «داعش» تنظيم صفوفه بعدما استولى على كميات من الأسلحة نتيجة انهيار الجيش السوري.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي رئيس وزراء العراقي محمد شياع السوداني (د.ب.أ)

السوداني يعلن استئناف عمل بعثة العراق الدبلوماسية في دمشق

أعلن رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني مساء الخميس أن البعثة الدبلوماسية العراقية «فتحت أبوابها وباشرت مهامها في دمشق».

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي صورة متداولة لحافلات سورية وصلت إلى الحدود العراقية لنقل الجنود

بغداد تعيد المئات من الجنود السوريين إلى بلادهم بالتنسيق مع دمشق

أعلنت السلطات العراقية، اليوم الخميس، أنها باشرت إعادة المئات من الجنود السوريين إلى بلادهم.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي اهتمام لافت باستقبال ولي العهد السعودي لرئيس الوزراء العراقي في الخيمة

بغداد تواصل مساعيها لتطويق تداعيات الأزمة السورية

يتحرك العراق داخلياً وخارجياً من أجل تطويق الأزمة السورية وتداعياتها.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي صورة أرشيفية تظهر قوات من الجيش السوري بمجمع عسكري جنوب غربي حلب في 5 سبتمبر 2016 (رويترز)

العراق يواصل إعادة الجنود السوريين الهاربين إلى بلادهم

واصل العراق، الخميس، إعادة الجنود السوريين الذين فروا إلى العراق بعد عملية الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد قبل نحو أسبوعين.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».