يحيى السنوار... حكاية «الرقم 1» يرويها «رفاق الزنزانة»

أسرى سابقون يرسمون لـ«الشرق الأوسط» صورة «طبَقيّة» للعقل المدبر لـ«7 أكتوبر»

TT

يحيى السنوار... حكاية «الرقم 1» يرويها «رفاق الزنزانة»

يحيى السنوار متحدثاً إلى وسائل الإعلام في غزة 28 أكتوبر 2019 (رويترز)
يحيى السنوار متحدثاً إلى وسائل الإعلام في غزة 28 أكتوبر 2019 (رويترز)

لشهر أكتوبر (تشرين الأول) في فصول حياة يحيى السنوار «أبو إبراهيم»، رئيس حركة «حماس» الذي أعلنت إسرائيل قتله، قصة خاصة. فيه وُلد في أزقة مخيم خان يونس قبل ستة عقود ونيّف ليبدأ رحلة حياة مليئة بالمحطات الصعبة والمثيرة والشائكة، وفيه نال حريته من السجون الإسرائيلية بعد أكثر من عقدين أمضاهما فيها، وفي الشهر ذاته أطلق «الطوفان» نحو غلاف غزة مخلِّفاً وراءه ارتدادات كبرى هزت أرجاء المنطقة والعالم، قبل أن تتمكن إسرائيل من تصفيته في أكتوبر أيضاً.

نشأ السنوار في مخيمات الصفيح بغزة وبين أزقتها الضيقة بعدما نزحت عائلته من مدينة المجدل عقب «نكبة 48». طاله نصيب من شظف العيش وقسوته. طبعت الظروف القاسية علاماتها على شخصية الطفل الذي وقف شاهداً على «نكسة 67». راكمت السنوات التي تلت رصيداً من الغضب والسخط في صدره، فاقمتها يوميات البؤس في غزة ومخيماتها مخلّفةً «رغبةً ملحّة بالانتقام» لازمته لعقود تلت. كان في حديثه ونظرته للصراع دائم الحديث عن «النكبة» وما تركته من معاناة ممتدة لأهله، كان لديه تطلع دائم لإحداث «صدمة وتغيير في موازين القوى»، كما يقول من عرفه.

تلقَّى يحيى السنوار تعليمه في مدارس مخيم خان يونس وأكمل دراسته بعدها بالجامعة الإسلامية التي تخرج فيها بشهادة في الدراسات العربية. بدأ نشاطه بالعمل الطلابي والتنظيمي حينذاك تحت مظلة «الكتلة الإسلامية» ومنها شق طريقه إلى أدوار أوسع تكللت بتأسيس جهاز «المجد»، الجهاز الأمني الداخلي لـ«حماس» المضطلع بأدوار حساسة أبرزها ملاحقة العملاء والمرتبطين بأجهزة الأمن الإسرائيلية.

قاد نشاطُه الأمني إسرائيل لاعتقاله أواخر الثمانينات. اتهمته السلطات الإسرائيلية بقتل أربعة «متعاونين» فحكمت عليه بأربعة أحكام مدى الحياة. تنقّل بين السجون الإسرائيلية شمالاً وجنوباً وقضى فترات طويلة في غرف العزل.

صورة توضيحية لمخطط «حماس» اقتحام سجن عسقلان وتحرير أسرى محتجزين

قاد «حماس» داخل السجون، وحمَل «هاجسه الأمني» معه. أتقن اللغة العبرية، ودرّس النحو الصرف لرفاقه، وقاد إضرابات ومفاوضات، وربح جولات وخسر أخرى. بدا الوقت ثقيلاً داخل السجن فيما دارت عجلة الصراع خارج أسواره؛ انتفاضات وحروباً وسرابات سلام. أكثر من عقدين في الأسر لم ينالا من قناعة الرجل بقرب نيل حريته. خطف شقيقه جندياً إسرائيلياً وبادلته «حماس» بألفِ أسير فلسطيني. كان يحيى على رأسهم. خرج ليلعب أدواراً بارزة شكّلت معالم جديدة للصراع.

في أعقاب السابع من أكتوبر، ملأ اسم السنوار الدنيا وشغل كثيراً من دوائر الأمن والسياسية في إسرائيل وخارجها. أثار الرجل عاصفةً من التساؤلات حول شخصيته وأفكاره ورؤيته للصراع وكذلك الدوافع وراء قراراته وحسابات تكاليفها، لا سيما لما أحدثته من انعكاسات وما خلَّفته من تبعات كبيرة وثقيلة.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى «رفاق القيد» ممن عاشوا معه وعرفوه واقتربوا منه خلال سنوات الأسر في السجون الإسرائيلية. يرسم الأسرى السابقون من مشارب سياسية وفكرية متنوعة «صورةً طبَقيّة» عن «العقل المدبر» لـ7 أكتوبر وأفكاره وقيادته لحركته داخل السجون وعلاقته مع الفصائل الأخرى وصولاً إلى الدوافع التي أوصلته إلى ساعة الصفر صبيحة السابع من أكتوبر، وحسابات الحرب الممتدة ومآلاتها.

اللقاءات الأولى

يسرد عصمت منصور، أسير سابق كان ينتمي لـ«الجبهة الديمقراطية» وأمضى سنوات في السجون الإسرائيلية التقى خلالها السنوار، جانباً عن انطباعاته الأولى بعد لقائه في سجن عسقلان أواخر تسعينات القرن الماضي: «حينما تلتقي السنوار ترى إنساناً عادياً، بسيطاً ومتديناً»، بيد أنه يحمل أيضاً «صفات القسوة والحِدّة في التعامل. هو رجل متدين لكنه ليس خطيباً ولا منظِّراً. تحضر الخلفية الدينية في تشكيل علاقاته، ولا يمكن أن يتعامل معك بمعزل عن موقفه المسبق».

يحيى السنوار لدى وصوله إلى احتفالية إحياء «يوم القدس» في غزة 14 أبريل 2023 (غيتي)

تَظهر تجربة السنوار في صغره قبل دخوله السجن مبكراً وقضائه فترة طويلة فيه، جليّة في سلوكه ونظرته لما حوله وتعامله مع الآخرين. يقول منصور إن طفولته القاسية رسمت معالم «حقده» وصاغت توجهاته السياسية، مضيفاً: «هو لا يقبل المساومة، ولا يرى إمكانية للحلول أو إمكانية للتوصل إلى صيغ واتفاقيات إلا في إطار التكتيك».

عبد الفتاح دولة، أسير سابق ينتمي لحركة «فتح» أمضى سنوات في السجون الإسرائيلية، كان قد التقى السنوار أول مرة عام 2006. سبقت انطباعاته عن الرجل اللقاء معه، إذ تناقل الأسرى «صيت السنوار» من سجن إلى آخر ورسموا صورة عن رجل «حاد الطباع وصاحب قرار».

تلك الانطباعات عززها اللقاء الأول الذي جمعهما في سجن بئر السبع الصحراوي. يقول دولة: «يحيى السنوار الشخص الاجتماعي الإنساني يختلف عن القيادي الحمساوي. يحيى السنوار الذي تتناقش معه في قضايا عامة يختلف عن الذي تخوض معه في قضايا فصائلية. هنا يكون اجتماعياً وهناك يكون متعصباً، تشعر كأن الرجل بشخصيتين».

أما صلاح الدين طالب، أسير سابق ينتمي لحركة «حماس» وكان قد قضى سنوات في السجون مع السنوار وأُفرج عنه مع السنوار ضمن صفقة التبادل، يستذكر لقاءه الأول مع «أبو إبراهيم» فيقول: «يلفتك تواضعه، وعلاقته المرحة مع الشباب». بيد أن رفيق الأسر يلفت إلى أن طبيعة القيادي الحمساوي الأمنية جعلته مختلفاً عن قيادات الحركة الآخرين، فهو «ليس داعيةً، هو مؤسس جهاز (مجد) الأمني وهذا ينعكس إلى حد كبير على شخصيته. فرغم علاقاته الاجتماعية القوية فإنه في الجانب الأمني كان شديداً وقاسياً».

يحيى السنوار متحدثاً إلى وسائل الإعلام في غزة 28 أكتوبر 2019 (رويترز)

«هوس أمني» في السجون

داخل السجون كما خارجها، ظل السنوار رجل الأمن الأول. أواسط التسعينات تلقَّت حركة «حماس» وخلاياها في الضفة والقطاع ضربات موجعة متتالية تمثلت في اغتيال أجهزة الأمن الإسرائيلية عدداً من قادتها كان أبرزهم يحيى عياش وعماد عقل، وتنفيذ عمليات اعتقال واسعة لنشطاء الحركة، وإحباط عدد كبير من الخلايا العسكرية. أحدثت هذه التطورات هزات كبيرة داخل أركان الحركة وبعثت بارتدادات عمَّقت المخاوف من اختراقات أمنية واسعة. ألقى هذا بظلال ثقيلة وقاتمة على أحوال الحركة داخل السجون ودشن «مرحلة الهوس الأمني» في تاريخها. كان السنوار محرك هذه المرحلة وضابط إيقاعها.

قادة عسكريون من كتائب «عز الدين القسام» يستقبلون يحيى السنوار في غزة 30 أبريل 2022 (أ.ف.ب)

يستذكر طالب هذه «المرحلة الصعبة» التي اضطلع خلالها بأدوار أمنية برفقة السنوار داخل المعتقلات. اتسعت رقعة «الهوس» وطالت تنظيم «حماس» في كل السجون، «كان هناك تحقيقات واستجوابات، كانت الملفات الأمنية تنتقل بين السجون ومنها إلى الخارج. خلّف ذلك حالة هوس أمني فكانت هناك اختراقات واغتيالات واعتقالات ولم تكن الحركة جاهزة أمنياً أو لديها تجربة ناضجة للتعامل مع ذلك بطريقة مثالية».

تحوّلت غرف حركة «حماس» لمراكز للاستجواب والتحقيق. طالت الاتهامات بالعمالة الكثيرين. يقول طالب إن بعضهم «ثبتت عمالته» بيد أن كثيرين وقعوا ضحية لـ«فوبيا الأمن»، مضيفاً: «كانت مرحلة صعبة لم يخرج منها أحد بسلام».

ويشير عبد الفتاح دولة إلى أن عمليات التحقيق كانت تجري مع «كل من تدور حوله أي شكوك»، ما خلّف تبعات مأساوية، «أشرف السنوار على عديد من عمليات التحقيق الداخلي. ربما كان يفلح بالوصول إلى بعض المتساقطين هنا أو هناك، لكن البعض قُتل تحت التعذيب وتبين لاحقاً أنهم من أفضل أبناء الحركة».

السنوار و«القسّام»

كان السنوار داخل السجون الإسرائيلية مطلع التسعينات حين برزت إلى الواجهة «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، وشرعت بتنفيذ سلسلة من العمليات ضد أهداف للجيش الإسرائيلي والمستوطنين. ورغم أن السنوار كان منخرطاً في الجانب الأمني فإنه اعتُقل مبكراً بينما كان العمل العسكري في طور الإعداد والتطوير. بدأت علاقة السنوار مع شخصيات من الجناح العسكري لـ«حماس» تنشأ وتتطور أكثر داخل السجون، إذ بدأ عدد من الأسماء البارزة بالوصول إلى السجون والمعتقلات.

يحيى السنوار يعتلي المنصة مع مقاتلين من كتائب «عز الدين القسّام» لإحياء ذكرى مَن سقطوا في المعارك مع إسرائيل مايو 2021

يقول منصور: «السنوار من البداية ذهنُه وعقليته أمنية؛ عنده هوس أمني ونظرة أمنية للمحيط ويعيش هذا الهاجس كل الوقت. حتى قراءاته عن إسرائيل غالبيتها أمنية وعن تركيبة الجيش والمخابرات. لذلك هو لديه هذه الخلفية والقابلية للانخراط مع الجناح العسكري».

هذه العلاقة التي تشكلت ونضجت مع الجناح العسكري دخلت لاحقاً فصلاً جديدة بعد إتمام «صفقة شاليط» وخروج «أبو إبراهيم» ورفاقه من السجن عام 2011. كان محمد السنوار، شقيق يحيى الأصغر، مسؤولاً بارزاً في الجناح العسكري ومشاركاً في عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط والاحتفاظ به لسنوات قبل إطلاق سراحه بموجب صفقة التبادل. أسهم شقيق السنوار وكذلك رفاقه الذي خرجوا معه من السجون، ناهيك بـ«رصيده» الذي يحظى به بالحركة، في فتح أبواب الجناح العسكري أمام القادم الجديد. يقول منصور إن هذه العوامل جعلت من السهل على السنوار «الاندماج في محيط العسكريين وإيجاد نفسه فيه».

شاليط والصفقة

قلبت عملية أسر الجندي الإسرائيلي شاليط والمفاوضات التي أعقبتها حول صفقة التبادل معطيات عديدة لدى السنوار وغيَّرت مصيره ومصير رفاقه. كان السنوار على رأس قائمة الأسماء التي طالبت «حماس» بالإفراج عنها. عززت التحولات التي خلّفها ملف شاليط مكانة السنوار داخل السجون وخارجها، إذ شرع بلعب أدوار متقدمة في ملف التفاوض.

يقول منصور: «السنوار بعد 2006 غير السنوار قبلها. بات يمثل مفتاحاً ومركز تجمع قوة كبيرة بسبب شاليط وبسبب سيطرة حماس على غزة بعدها. حماس أضحت نظاماً يحكم منطقة وتمتلك قوة وفي قبضتها أسير، وهذا الأسير بيد شقيق السنوار».

متظاهر يرفع لافتة تحمل صور الرهائن الإسرائيليين لدى «حماس» ويحيى السنوار وبنيامين نتياهو وكتب عليها «ليسوا لعبة... أوقفوا الحرب... لن يكون هناك رابح» (غيتي)

يشير منصور إلى أن قضية شاليط أعطت السنوار داخل السجون «قوة غير مسبوقة لم يسبق لأي قائد من حماس أن امتلكها سوى أحمد ياسين وصلاح شحادة اللذين كانا من الجيل الأول في السجون».

أصبح السنوار حينها عنوان الصفقة القادمة ومفتاحها. بات يمارس هذه القوة التي وقعت بين يديه لتعزيز مكانته وسلطته وقدرته على صناعة القرار داخل السجون وخارجها. يقول منصور: «بات يتصرف كشخص يقول للأسرى: (أنا باقدر أروّحك من السجن وباقدر أخلّيك). وهذا مارسه ليس لأسباب شخصية فحسب بل كانت لديه معايير مختلفة لها علاقة بمشروعهم وتفكيرهم وأولوياتهم».

كانت مفاوضات الصفقة بين إسرائيل و«حماس» قد قطعت شوطاً كبيراً حين دخل السنوار على خطها ورفض مخرجاتها وبدأ مساراً جديداً. يستذكر دولة أن مسؤول ملف التفاوض الإسرائيلي في قضية شاليط «حضر إلى السجون وتفاوض بشكل مباشر مع يحيى السنوار الذي ظهر أنه سيكون صاحب تأثير كبير».

ورم في الرأس وإنقاذ بمروحية خاصة

بينما كانت المفاوضات بشأن تبادل الأسرى تزداد زخماً وتقترب من نهاياتها، تعرَّض السنوار لوعكة صحية كادت تودي بحياته. أربك ذلك الحسابات وأضاء إشارات القلق لا سيما لدى الجانب الإسرائيلي. كان السنوار اللاعب الأول فيها. تفاقم وضعه الصحي ما حدا برفاقه في زنازين العزل بسجن السبع جنوب إسرائيل لحثه على الذهاب لعيادة السجن. يقول دولة: «كان السنوار عنيداً، كان يرفض دائماً الاستعانة بإدارة السجون». ازداد وضعه سوءاً وخطورة وفقد وعيه، مما اضطر رفاقه في السجن إلى نقله إلى العيادة، «حين بات الوضع صعباً، أجبروه على الذهاب»، يقول دولة.

أحدث وصول السنوار إلى عيادة سجن بئر السبع ذاك النهار إرباكاً كبيراً لدى إدارة السجون التي أعلنت حالة الطوارئ في السجن على الفور وأغلقت القسم الذي يقيم فيه السنوار. يسرد دولة تفاصيل تلك اللحظات التي رافقت الانتكاسة الصحية: «جاء ممثل عن إدارة سجن السبع وأخبرنا بأن المؤشرات تشير إلى أن السنوار يعاني وضعاً صعباً».

في تلك الأثناء حطّت مروحية في مهبط السجن، حسب دولة، وأقلّت السنوار على وجه السرعة إلى مستشفى «سوروكا» ليدخل بشكل عاجل إلى غرفة العمليات. وجد الأطباء ورماً حميداً في الرأس سارعوا إلى استئصاله. خضع السنوار لعملية «معقدة جداً وخطيرة» كاد يفقد حياته خلالها.

مثّل دخول المروحية على خط عملية الإنقاذ حدثاً استثنائياً وخلّف روايات متضاربة لدى الأسرى الثلاثة. يقول دولة إن «حالة السنوار كانت الأولى حسب تجربتي» بينما أشار منصور إلى أنه لا يتذكرها جيداً، فيما نفى طالب ذلك، موضحاً أن كل الإجراءات التي اتخذتها سلطات السجون حينذاك «كانت في الإطار العادي جداً».

يقول منصور إن الإسرائيليين حتى اليوم «يعيّرون» السنوار بعلاجه، مضيفاً أن مديرة مصلحة السجون ومديرة استخبارات السجون في حينها عبّرت في أكثر من مناسبة مؤخراً عن «عمق ندمها على إنقاذ حياة السنوار».

وعكس التعاطي الإسرائيلي مع مرض السنوار حالة من الإرباك الكبير لديها خلّفتها الخشية العميقة من أن يُلقي وضع السنوار الصحي بظلال ثقيلة على مسار صفقة شاليط في مراحلها الأخيرة. يلفت منصور إلى أن «لا أحد كان سيصدق في العالم أنهم لم يغتالوا السنوار أو يصفّوه وهو ما كان سيُلقي بانعكاسات كبيرة على الصفقة».

السنوار والبرغوثي وسعدات تحت سقف واحد

جمع سجن «هداريم» المركزي شمال إسرائيل السنوار بقيادات فلسطينية بارزة على رأسهم مروان البرغوثي وأحمد سعادات. بدأت العلاقة بين الثلاثة الكبار تتشكل داخل قسم العزل الجماعي هناك. «كان بينهم احترام كبير واستطاعوا أن يجدوا لغة مشتركة». يستذكر منصور: «هذا لا يجعلهم متطابقين في وجهات النظر لكن أتصور أن بينهم حالة ثقة واحترام تُمكّنهم من العمل معاً وتعطي تصوراً للعلاقة مستقبلاً».

عمل الثلاثة معاً، فخاضوا إضرابات داخل السجون وصاغوا مبادرات ورسائل للخارج أبرزها «ميثاق الأسرى للوفاق الوطني» ربيع عام 2006 الذي مثّل محاولة لرأب الصدع الواسع بين نقيضي المشهد السياسي الفلسطيني، حركتي «فتح» و«حماس».

عقب التوقيع على «وثيقة الوفاق»، يسرد دولة أنه نقل رسالة من سجن «هداريم» على لسان توفيق أبو نعيم، المقرب من السنوار، إلى سجن «بئر السبع»: «قال لي بالحرف: أبلغ عباس السيد والإخوة الذين شاركوا في التوقيع على (وثيقة الوفاق) أنهم سيندمون على اليوم الذي وقّعوا فيه عليها»، يستذكر دولة. خلّف ذلك انطباعاً لديه أن السنوار كان معارضاً للوثيقة. بيد أن منصور يرى أن أي موافقة من «حماس» داخل السجون «ما كانت لتتم دون مصادقة (أبو إبراهيم)».

يضيف منصور في قراءة سيناريوهات ما بعد الحرب، أن «إطلاق سراح الأسرى وبينهم مروان البرغوثي يأتي في سياق البحث عن شريك في (فتح) والمنظمة يكون السنوار قادراً على العمل معه».

«القسام» بعد 2011

بعد إطلاق سراحه من السجون بموجب صفقة التبادل عام 2011، مضى السنوار إلى تعزيز حضوره داخل صفوف حركته وتدعيم دوره داخل جناحيها لا سيما العسكري. عام 2012 انتُخب عضواً في المكتب السياسي للحركة وعلى الفور تولّى ملف التواصل مع الجناح العسكري. شرع السنوار خلال هذه المرحلة بلعب أدوار أوسع متكئاً على علاقته المتينة بالعسكريين وصولاً إلى انتخابات عام 2017 التي خرج منها على رأس المكتب السياسي للحركة في غزة مطيحاً بأسماء وازنة أبرزهم إسماعيل هنية. كان توجه السنوار فور خروجه من السجون إلى «أن يسيطر ويحكم وأن يكون الرقم (1) في صياغة الأمور في غزة»، كما يرى منصور.

خليل الحية وإسماعيل هنية ويحيى السنوار من حركة «حماس» خلال زيارة لمعبر رفح في 19 سبتمبر 2017 (رويترز)

ظل السنوار على رأس الحركة في غزة، وصولاً إلى استحقاق انتخابي جديد سبق السابع من أكتوبر بعامين. خرج منه مرة أخرى زعيماً لـ«حماس» في غزة. بدت المنافسة هذه المرة شرسة للغاية بين السنوار وشخصيات وازنة في الحركة. أعاد مسؤولو الانتخابات الداخلية التصويت «ثلاث أو أربع مرات» لضمان فوز السنوار. يقول منصور إن ذلك جاء تحضيراً لـ«لحظة 7 أكتوبر»، مضيفاً: «كان واضحاً أن لدى السنوار و(القسام) مخططاتهم».

لعب زعيم «حماس» أدواراً بارزة خلال هذه الفترة واهتمّ «بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الحركة» بتطوير العمل العسكري. يقول طالب: «الصوت الأعلى هو للعمل العسكري ومن دونه لكان السنوار شخصاً رمادياً مثل الآخرين».

طموح الرقم (1)

كثيرة هي المحطات في حياة السنوار التي يظهر فيها الرجل الطموح لاعباً بارزاً أو منفرداً يدير مجرياتها وتفاصيلها ويجني ثمارها نفوذاً وسلطة. يرى دولة أن السنوار «لا يقبل بأن يكون مرؤوساً. هو لا يقبل إلا أن يكون الرجل رقم (1) في الحركة. هو مصاب بالطموح حتى لا نقول الغرور، الذي كان يدفعه وهو داخل السجن لأن يكون دائماً الرجل الأول في الحركة».

خلال العقدين الماضيين، كثفت إسرائيل من ملاحقاتها واغتيالاتها لقادة «حماس» فأخرجت من المشهد قادة الصف الأول مما دفع بشخصيات جديدة في الحركة إلى الواجهة. يقول دولة: «لا يشعر السنوار بأن من حق أيٍّ من القادة الحاليين أن يكون رئيساً عليه، ولا يقبل بذلك أبداً».

مؤشرات مبكرة على «الطوفان»

يشير دولة إلى أن انطباعاً لطالماً أحاط بالسنوار أنه «لفعلٍ كبير»، عززته خطاباته والرسائل التي أطلقها أكثر من مرة للأسرى في السجون، موضحاً أن «صفقة شاليط تركت العديد من عناصر حركة (حماس) وقيادات (القسام) الأوائل بالسجون، ولذلك شعرت الحركة بأنها قصّرت». يقول دولة إن حالة من الانزعاج طالت أسرى «حماس» بعد الصفقة، ووجَّهوا رسائل ناقدة وغاضبة إلى القيادة، مشيراً: «ربما شعر السنوار بأن عليه التزاماً أخلاقياً تجاه تصحيح ما لم تتمكن صفقة شاليط من تنفيذه».

لوحة إعلانية في أحد شوارع القدس تحمل صورة يحيى السنوار وحسن نصر الله وكُتب عليها بالعبرية «من يستفيد من فُرقتنا؟ الوحدة الآن» (أ.ف.ب)

يستذكر طالب خطاب السنوار الأول بعد الإفراج أمام الجماهير في ساحة الكتيبة وسط غزة: «كنت حاضراً على المنصة حين قال: (اليوم نغزوهم ولا يغزوننا). رأى أن صفقة التبادل كسرة لإسرائيل ويمكن أن يَبني عليها كسرات أخرى».

يرى منصور أن عوامل عدة التقت لدى السنوار قبل «7 أكتوبر» ورجحت كفّة «الجانب العقائدي» في قراءته الصراع، «جرًب السنوار مصالحة مع السلّطة وفشلت، جرّب التوصل إلى صفقة تبادل للجنود مع إسرائيل وفشلت. جرب رفع الحصار، جرب كل الطرق لإيجاد مخرج لوضع غزة ويحرر الأسرى وفشل، فلم يبقَ أمامه سوى هذا الخيار». يستدرك منصور: «لو كان هناك خيارات أخرى، «7 أكتوبر» ما كان ليحصل».

إسرائيل و«رمز الحرب»

منذ بداية الحرب على غزة، أضحى السنوار عنواناً رئيسياً للحملة العسكرية على القطاع وصورة لشكل الانتصار الذي تطارده المؤسستان العسكرية والسياسية في إسرائيل. يرى منصور أن إسرائيل حوّلته «رمزاً» لهذه المواجهة، وحمَّلته المسؤولية الكاملة عمّا جرى، «إسرائيل بدأت تبحث عن صورة واسم يلصق في ذهن العالم ويصبح مثل هتلر وصدام والقذافي وتشاوشيسكو والديكتاتوريين في العالم. جاء ذلك محاولة لاختزال كل (حماس) وكل الذي يحدث وكل القضية الفلسطينية في شخص وشيطنته».

يرى منصور أن شكل نهاية الحرب في ذهن الإسرائيليين مرتبط بمصير السنوار، «هذا إمَّا بإخراجه؛ فيصبح إخراج السنوار كفرد أو مجموعة أشخاص كأنه فعلاً إخراج لـ(حماس) من غزة، أو اعتقاله، أو تصفيته، أو بقائه مطلوباً ومطارداً، ليكون ذلك مسوغاً للاستمرار في عمليات الملاحقة ويتحول مثل الأشخاص الذين يديرون حركة من داخل نفق»، مضيفاً: «لكن كلما أصبحت سيطرة إسرائيل على الأرض أكبر، أصبحت مهمة السنوار أصعب، وصار الذهاب إلى الخيارات الأخرى أقرب».

قادة «حماس» الذين جرت تصفيتهم... يحيى السنوار في مرمى النيران (تصوير: الشبكات العربية)

السنوار «البراغماتي»؟

يرى من عرفوا السنوار أنه أدار في بعض مراحل الأَسْر سياسة «براغماتية». يقول منصور: «ربما يُفاجأ البعض أنه شخص يعقد صفقات. عقَد صفقات في مراحل سابقة مع الإسرائيليين، وهو قادر على التوصل لحلول وسط ومساومات في مراحل معينة لكن ضمن توجهاته».

لكن بينما باتت إسرائيل تصف السنوار بالرجل «الحي الميّت» حتى قبل أن تتمكن من قتله، يرى منصور أن أي زعيم إسرائيلي الآن أو مستقبلاً لن يكون قادراً على التعايش مع بقاء السنوار في قطاع غزة، «حجم الحقد والتحريض والاتهامات والمسؤوليات التي أُلقيت عليه، والتعبئة التي قامت بها إسرائيل للشارع والإعلام وعلى مستوى العالم لا تُمكّن إسرائيل من الرجوع خطوة للوراء أو عقد صفقة معه تُبقيه في غزة في وضع طبيعي». مضيفاً: «لا يمكن لإسرائيل أن تسلّم ببقائه حياً».


مقالات ذات صلة

الجيش الإسرائيلي ينفي تقريراً حول قتل عشوائي للمدنيين في غزة

المشرق العربي جنديان من الجيش الإسرائيلي خلال العمليات العسكرية في قطاع غزة (موقع الجيش الإسرائيلي)

الجيش الإسرائيلي ينفي تقريراً حول قتل عشوائي للمدنيين في غزة

رفض الجيش الإسرائيلي ما أوردته صحيفة إسرائيلية بارزة نقلاً عن جنود يخدمون في غزة، عن وقوع عمليات قتل عشوائية للمدنيين الفلسطينيين في ممر نتساريم بغزة.

المشرق العربي دبابة إسرائيلية بالقرب من قطاع غزة (أ.ف.ب)

«القسام» تعلن تفجير أحد عناصرها نفسه بقوة إسرائيلية في جباليا

أعلنت «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، اليوم (الجمعة)، أن أحد عناصرها فجّر نفسه بقوة إسرائيلية في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي فلسطيني يحمل صندوق مساعدات وزّعته وكالة «الأونروا» في دير البلح بقطاع غزة (رويترز)

السويد توقف تمويل «الأونروا» وتزيد إجمالي المساعدات إلى غزة عبر قنوات أخرى

قالت السويد إنها ستتوقف عن تمويل وكالة «الأونروا»، وستزيد بدلاً من ذلك إجمالي المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر قنوات أخرى.

خاص منازل فلسطينية تتعرض لأضرار بالغة خلال قصف إسرائيلي في بيت لاهيا (رويترز)

خاص «هدنة غزة»: «شروط جديدة» تؤخر إعلان الصفقة المرتقبة

مصادر مصرية وفلسطينية، تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، تشير إلى «شروط جديدة طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وأخرى من (حماس)».

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن وحفيده بو بايدن خلال مغادرة البيت الأبيض والتوجه للمروحية الرئاسية (إ.ب.أ)

غزة وأوكرانيا على رأس أولويات بايدن قبل تركه البيت الأبيض

أمام الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، جو بايدن، قائمة طويلة من التحركات على الجبهتين الخارجية والداخلية، مع تبقي شهر واحد فقط قبل تركه رئاسة الولايات المتحدة.


كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.