«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

أمنيون تحدّثوا لـ«الشرق الأوسط» عن تاريخ من الإخفاقات آخرها محاولة اغتيال ترمب

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.


مقالات ذات صلة

سوق السندات الأميركية تُطلِق إنذاراً بشأن خطط خفض الضرائب

الاقتصاد متداول في بورصة نيويورك يرتدي قبعة دعماً للجمهوري دونالد ترمب بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأميركية (رويترز)

سوق السندات الأميركية تُطلِق إنذاراً بشأن خطط خفض الضرائب

يلوح في الأفق تحذير شديد من سوق ديون الخزانة الأميركية، التي تبلغ 28 تريليون دولار، ضد إضافة مزيد من العبء على الدين الذي ينمو بمقدار تريليونَي دولار سنوياً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
مشاة في إحدى الطرقات بالحي المالي وسط العاصمة الصينية بكين (أ.ب)

بكين تستقبل وفد شركات أميركية كبرى... وتغازل أوروبا

قالت غرفة التجارة الأميركية في الصين إن مجموعة من المسؤولين التنفيذيين من الشركات الأجنبية والصينية التقت رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، في بكين.

«الشرق الأوسط» (بكين)
الاقتصاد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يتحدث خلال لقاء تلفزيوني (رويترز)

ترمب يعد حزمة دعم واسعة النطاق لقطاع الطاقة الأميركي

يعمل الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، على إعداد حزمة واسعة النطاق في مجال الطاقة، لطرحها خلال أيام من توليه المنصب.

الاقتصاد أوراق نقدية من فئة 100 دولار أميركي (رويترز)

الدولار الأميركي ينخفض بعد ترشيح ترمب بيسنت وزيراً للخزانة

انخفض الدولار الأميركي، يوم الاثنين، بعد أن رشح الرئيس المنتخب دونالد ترمب، سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة، مما أوقف الارتفاع الحاد للعملة بعد الانتخابات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية مجلس الأمن يصوت بالإجماع على القرار «2231» بعد أسبوع على توقيع الاتفاق النووي بفيينا في 20 يوليو 2015 (أرشيفية - الأمم المتحدة)

«سناب باك»... إيران تواجه شبح العقوبات الأممية

لوّحت بريطانيا، الأحد، بتفعيل آلية «سناب باك» لمواجهة الخروقات الإيرانية في الاتفاق النووي لعام 2015؛ ما يعرض طهران لخطر العودة التلقائية إلى العقوبات الأممية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!