فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

في السجن الكبير لا أضرار جانبية لحرب مفتوحة

TT

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)
فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

لا يتمنى الفلسطينيون في الضفة الغربية، ربما بخلافهم في قطاع غزة، حرباً مفتوحة بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني. فهم يدركون بخبرة العارفين بعقلية إسرائيل ومن باب التجربة السابقة في الحروب والانتفاضات، بما في ذلك الحرب الحالية على القطاع، أنهم سيدفعون ثمناً كبيراً، سياسياً واقتصادياً يمسّ حياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم اليومية الرئيسية. وبعد أن يتحولوا معتقلين في سجن الضفة الكبير، لا شيء قد يثني إسرائيل عن قتلهم واعتقالهم وملاحقتهم.

في السيناريو الأبسط لحرب محتملة بين إسرائيل و«حزب الله»، ستنعزل إسرائيل وتغلق حدودها غير المعروفة، وستكون في حاجة إلى عزل الفلسطينيين في الضفة بشكل تام، انطلاقاً من حاجتها إلى كبح جماح جبهة ثالثة محتملة. هذا يعني بلا شك، تقييد الحركة ومنع السفر وتوقف تدفق البضائع إلى أسواق الضفة، وسيشمل ذلك وقف إسرائيل إمداد الفلسطينيين بالكهرباء والماء والوقود، انطلاقاً من أنها ستحتفظ لنفسها بأي مقدرات كهذه، بعد أن يقصف «حزب الله» شركات الكهرباء والمياه والمطارات، مرسلاً إسرائيل إلى أزمة غير مسبوقة، سيدفع الفلسطينيون أيضاً ثمنها بلا شك.

لكن إذا كانت إسرائيل دولة يمكن لها التعامل مع أزمات من هذا النوع، وهذا ما زال غير واضح إلى أي حد، فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على ذلك وهي التي تعيش أزمات عميقة اليوم، مالية واقتصادية وأمنية، وفي حقيقة الأمر وجودية.

وليس سراً أنهم في إسرائيل يستعدون لسيناريوهات تتعامل مع شلل كامل، سيتضمن ظلاماً دامساً وطويلاً في مطار بن غوريون، وانهيار مبانٍ وجسور وإصابة طرق رئيسية، وانقطاعاً في الكهرباء والماء الوقود، ونقصاً في المواد الأساسية.

جثمان الطفل غسان غريب 13 عاماً محمولاً على الأكتاف وكان قتل برصاص إسرائيلي قرب رام الله في يوليو الحالي (أ.ف.ب)

وقف مقومات الحياة

ولم تكن تصريحات المدير العام لشركة إدارة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية شاؤول غولدشتاين، الأخيرة حول إسقاط شبكة الكهرباء في إسرائيل في حالة حرب مع «حزب الله» مجرد جرس إنذار في إسرائيل، بل أيضاً في الضفة الغربية التي تشتري الكهرباء من إسرائيل.

وقال غولدشتاين: «نحن في وضع سيئ ولسنا مستعدين لحرب حقيقية (...) خلاصة القول هي أنه بعد 72 ساعة لن يمكنك العيش في إسرائيل. إسرائيل لن تكون قادرة على ضمان الكهرباء في حالة الحرب في الشمال بعد 72 ساعة»، مضيفاً: «لسنا مستعدين لحرب حقيقية».

وما ينسحب على الكهرباء ينسحب على المياه والوقود.

فحتى قبل حرب مفترضة مع بداية الصيف الحالي، بدأ الفلسطينيون يعانون العطش، بعدما أخذت شركة «ميكروت» الإسرائيلية قراراً بتقليص كمية المياه الواردة إلى مناطق الضفة، كنوع من عقاب تعوّد عليه الفلسطينيون.

مسنّ فلسطيني وأطفال يشربون من عبوات تبرعت بها جمعيات لبلدات في الضفة الغربية قطعت عنها إسرائيل مياه الشفة (غيتي)

وبحسب أرقام رسمية، فإن متوسط استهلاك الفرد اليومي من المياه في إسرائيل، بما في ذلك المستوطنات، يبلغ 247 لتراً، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في الضفة الغربية، والذي يبلغ 82.4 لتر، وفي التجمعات الفلسطينية غير الموصولة بشبكة مياه، يصل إلى 26 لتراً، فقط.

تخزين طحين ودواء وسولار

لا يمكن تخيل وضع معظم الفلسطينيين في الضفة الذين يتلقون اليوم (أي قبل الحرب) مياهاً جارية أقل من 10 أيام في الشهر؛ لأن الحصة المتبقية من المياه ينعم بها الإسرائيليون.

وفي إحصائيات السنوات الماضية، وصل إجمالي استهلاك الإسرائيليين من المياه عشرة أضعاف إجماليّ ما استهلكه الفلسطينيون في الضفة الغربية، وهي أرقام ستتغير لصالح الإسرائيليين هذا العام.

ويفهم الفلسطينيون في الضفة أنهم لن يجدوا أي قطرة ماء مع اندلاع الحرب المفترضة، التي ستتركهم أيضاً بلا كهرباء ولا دواء ولا وقود، وهو ما يخلق قلقاً وإرباكاً الذي يتسلل إليهم اليوم، وحمل بعضهم على تخزين الكثير من الطحين والمعلبات والمياه المعدنية.

وقال سعيد أبو شرخ: «لم أود الانتظار أكثر. اشتريت بعض الطحين والمعلبات والمياه».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «بعد دقيقة واحدة من الحرب سيدبّ هلع كبير. ستصبح الأسعار جنونية، ثم سنفقد البضائع. وقد نعيش التجربة القاسية التي اختبرها الغزيون في القطاع».

وعانى قطاع غزة فقدان الكهرباء والمياه والدواء والمواد الأساسية، ووصل الأمر إلى حد مجاعة حقيقية أفقدت الناس حياتهم.

وبالنسبة إلى أبو شرخ، فإنه يفضّل أن يكون مستعداً، أسوة بالكثير من أصدقائه الذين لجأوا إلى شراء كميات أكبر من الطحين والمعلبات وصناديق المياه، وحتى كميات من البنزين أو السولار، كخطة احتياطية.

وفي اختبار قصير سابق، عندما انطلقت المسيّرات والصواريخ الإيرانية، تجاه إسرائيل، لم يكن ممكناً الوصول إلى البقالات بسهولة، وهرع الناس لشراء ما يجنبهم انقطاع الطعام الرئيسي، أما محطات الوقود ففقدت مخزونها لأيام عدة، في «بروفة» لما يمكن أن يحدث في حرب حقيقية.

ولا يريد عبد العظيم عواد، أن يضع نفسه في اختبار آخر.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أجد بعد ساعة واحدة من انطلاق المسيّرات الإيرانية الكثير من المواد الغذائية. لم أجد وقوداً لأيام عدة. وخفت أن تندلع الحرب فعلاً. لم يكن لدي أي استعدادات».

وعلى الرغم من ذلك، يُمنّي عواد النفس بألا يضطر إلى عيش التجربة مرة أخرى على نحو أصعب، ولا يريد أن يرى حرباً أخرى.

وأضاف: «تعبنا من الحرب. الوضع صعب. الأشغال تضررت، الاقتصاد منهار. لا توجد رواتب والعمال لا يذهبون إلى إسرائيل. والتجار يشكون. حرب أخرى طويلة مع لبنان ستعني دماراً حقيقياً هنا. أعتقد سيكون وضعاً كارثياً».

ضائقة اقتصادية غير مسبوقة

وعانت الضفة الغربية وضعاً اقتصادياً معقداً ستحتاج معه إلى فترة ليست قصيرة من أجل التعافي.

وقال وزير الاقتصاد الفلسطيني محمد العامور، إن الاقتصاد الفلسطيني يواجه صدمة اقتصادية «غير مسبوقة»، تصاعدت حدتها، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

عمال مياومة فلسطينيون ينتظرون عند معبر إسرائيلي ليتم إدخالهم للعمل (غيتي)

وأكد العامور معقّباً على تقرير للبنك الدولي حذَّر فيه من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، وأن العدوان، والإبادة الجماعية والحصار المالي والاقتصادي والسياسة المتطرفة التي تنفّذها حكومة الاحتلال تتسبب في انكماش اقتصادي وتعطل الحركة التجارية.

وتوقع أن يصل الانكماش إلى 10 في المائة.

وبحسبه، فإن الاقتصاد يخسر يومياً نحو 20 مليون دولار في جزئية توقف الإنتاج بشكل كلي في قطاع غزة، وتعطله في الضفة الغربية، إلى جانب تعطل العمالة، والتراجع الحاد في النشاط الاقتصادي والقوة الشرائية.

وكان البنك الدولي، قد حذّر في تقرير الشهر الماضي، من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، مع «نضوب تدفقات الإيرادات» والانخفاض الكبير في النشاط على خلفية العدوان على قطاع غزة.

وأكد البنك الدولي أن «تدفقات الإيرادات نضبت إلى حد كبير؛ بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إسرائيل لإيرادات المُقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية، والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي».

وبحسب التقرير، فإن «الاقتصاد الفلسطيني فقد ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ 7 أكتوبر، يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية».

وأكد التقرير أيضاً ارتفاع معدل الفقر، موضحاً: «في الوقت الحاضر، يعيش جميع سكان غزة تقريباً في حالة فقر».

وبحسب تقارير دولية سابقة، فقد أدت الحرب في غزة إلى إغلاق الاقتصاد فعلياً هناك، بعدما تم تدمير الأساس الإنتاجي للاقتصاد في القطاع والذي انكمش بنسبة 81 في المائة في الربع الأخير من عام 2023.

وتضرر الاقتصاد أيضاً في الضفة الغربية وانكمش كذلك، بسبب الحصار السياسي والمالي للسلطة والفلسطينيين.

مأزق السلطة

تعاني السلطة في الضفة وضعاً مالياً حرجاً اضطرت معه منذ بدء الحرب إلى دفع نصف راتب فقط لموظفيها.

ومنذ عامين تدفع السلطة رواتب منقوصة للموظفين في القطاعين المدني والعسكري؛ بسبب اقتطاع إسرائيل نحو 50 مليون دولار من العوائد الضريبية، تساوي الأموال التي تدفعها السلطة لعوائل مقاتلين قضوا في مواجهات سابقة، وأسرى في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى بدل أثمان كهرباء وخدمات طبية.

وعمّقت الحرب على غزة هذه الأزمة بعدما بدأت إسرائيل باقتطاع حصة غزة كذلك.

مظاهرات داعمة لغزة في رام الله نهاية مايو الماضي (غيتي)

وإضافة إلى موظفي السلطة، فقد أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من الضفة مصدر دخلهم الوحيد منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعدما جمّدت إسرائيل تصاريح دخولهم إلى أراضيها أسوة بنحو 20 ألف عامل من قطاع غزة أُلغيت تصاريحهم بالكامل.

وساعد منع العمال من دخول إسرائيل في تدهور أسرع في الاقتصاد في الضفة الغربية، مع الوضع في الحسبان أن أجورهم كانت تصل إلى نحو مليار شيقل شهرياً (الدولار 3.70) مقارنة بفاتورة رواتب موظفي السلطة الشهرية التي تبلغ نحو 560 مليون شيقل شهرياً.

وقال مروان العجوري، أحد العمال الذين فقدوا مصدر رزقهم الوحيد، لـ«الشرق الأوسط»: «منذ 9 أشهر لم يدخل لي شيقل واحد. لقد استنفدنا».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ننتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب في غزة، هل تعرف ماذا يعني حرب جديدة مع «حزب الله»؟ يعني على الدنيا السلام. دمار دمار. ما ظل إلا الهجرة بعدها». وتابع: «لا إسرائيل بتتحمل ولا إحنا».

ويخشى الفلسطينيون فعلاً أن إسرائيل قد تستخدم أدوات ضغط كبيرة عليهم في الضفة الغربية من أجل حثّهم على الهجرة، مستغلة انشغال العالم في حرب كبيرة مع لبنان.

مصادرة أراضٍ ودفع للهجرة

وخلال الأشهر القليلة الماضية، فتكت إسرائيل بالضفة الغربية بكل الطرق، حصار مالي وقتل واعتقالات ودفعت خططاً لتغيير الوضع القائم باتجاه إحباط أي أمل لإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي الرابع من الشهر الحالي صادقت إسرائيل على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من أراضي الضفة الغربية، في مصادرة وصفتها منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية بأنها الأكبر منذ ثلاثة عقود وتمثل ضربة جديدة للسلام بين الجانبين.

وبحسب «السلام الآن»، فإن الأراضي التي حوّلتها إسرائيل «أراضي دولة» تقع في منطقة غور الأردن، وهي الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو 1993.

وبهذه المصادرة، ترتفع مساحة الأراضي التي أعلنتها إسرائيل «أراضي دولة» منذ بداية العام إلى 23.7 كيلومتر مربع.

بعد ذلك بأيام عدة صادرت إسرائيل أراضي أخرى قرب مستوطنات في الضفة.

وتسيطر إسرائيل على الضفة الغربية منذ عام 1967، وأقامت الكثير من المستوطنات التي يعيش فيها من دون القدس الشرقية أكثر من 490 ألف إسرائيلي مقابل ثلاثة ملايين فلسطيني.

وهؤلاء المستوطنون بدأواً حرباً، خاصة في الضفة، مستغلين الحرب على قطاع، في محاولة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، فقتلوا فلسطينيين وهاجموا قرى وصادروا المزيد من الأراضي، تحت حماية الحكومة.

وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم هم رؤساء المجالس المحلية للمستوطنات. متهماً رئيس المجالس الاستيطانية كافة، يوسي داغان، بقيادة الفوضى التي صاحبت حالة الحرب.

ولا ينحصر تأثير داعان في معرفته باعتداءات المستوطنين ودعمه توسعهم بكل الأشكال القانونية وغير القانونية، وإنما يمتد أيضاً إلى مجال إقناع السلطات الإسرائيلية والجيش برعاية هذه الاعتداءات أو غض النظر عنها.

وعملياً، ترعى الحكومة الإسرائيلية هؤلاء المستوطنين، ولا تخفي أنها في حرب على جبهة الضفة.

وقتلت إسرائيل نحو 600 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر واعتقلت ما يقارب الـ10 آلاف ودمّرت بنى تحتية في طريقها لإضعاف السلطة الفلسطينية ومنعها من إقامة دولة.

واعترف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأنه لا يفعل أي شيء سري، وإنما يعمل بوضوح من أجل منع إقامة «دولة إرهاب فلسطيني» و«تعزيز وتطوير الأمن والاستيطان».

وجاء تصريح سموتريتش تعقيباً على ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز»، حول خطة حكومية رسمية سرية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية دون الحاجة إلى الإعلان رسمياً عن ضمها.

خطة لتغيير حكم الضفة

وكان تسجيل مسرّب لسموتريتش فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية، بحسب تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز».

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

ونقل عن سموتريتش: «أنا أقول لكم، إنه أمر دراماتيكي ضخم. مثل هذه الأمور تغير الحمض النووي للنظام».

وتحكم السلطة الفلسطينية اليوم المنطقة «أ» في الضفة الغربية وتشارك الحكم في المنطقة «ب» مع إسرائيل في حين تسيطر إسرائيل على المنطقة «ج» التي تشكل ثلثي مساحة الضفة.

وكان يفترض أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً عند توقيع اتفاق أوسلو بداية التسعينات، حتى إقامة الدولة الفلسطينية خلال 5 سنوات، لكن تحول الوضع إلى دائم، قبل أن تتخذ إسرائيل خطوات ممنهجة ضد السلطة أدت إلى إضعافها بشكل كبير.

وفي خطوة مهمة وحاسمة ضمن خطة سموتريتش، صادق جنرال عسكري كبير على تحويل مجموعة من الصلاحيات في الضفة الغربية إلى مدير مدني هو هيليل روط، في مؤشر على أن الحكومة الإسرائيلية زادت من سيطرتها المدنية على المنطقة في خطوة أخرى نحو الضم الفعلي.

ووصف الناشط المناهض للاستيطان يهودا شاؤول هذه الخطوة بأنها «ضم قانوني»، مضيفاً أن «الحكم المدني الإسرائيلي امتد إلى الضفة الغربية» تحت إشراف سموتريتش.

وتشمل الصلاحيات المفوضة لروط السلطة على معاملات العقارات، والممتلكات الحكومية، وترتيبات الأراضي والمياه، وحماية الأماكن المقدسة (باستثناء الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل وقبر صموئيل)، والقوانين المتعلقة بالغابات، والسياحة، والحمامات العامة، وتخطيط المدن والقرى والبناء، وبعض عمليات تسجيل الأراضي، وإدارة المجالس الإقليمية، وغير ذلك الكثير.

واليوم على الأقل لا يوجد داخل الحكومة الإسرائيلية، أي خلاف بشأن ضم المناطق «ج»، حتى أن مسؤولين يرون أنه واحدة من الحلول للضغط على «حماس» نفسها في غزة.

واقترح النائب ألموج كوهين من «عوتسماه يهوديت» الذي يتزعمه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير خلال مقابلة مع «i24NEW» ضم المناطق حتى يعود المحتجزون في غزة. وأضاف: «الأراضي مقابل المختطفين، الأمر بسيط للغاية».

وقال الخبير في الشأن الإسرائيلي كريم عساكرة إن اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل، سيجلب تداعيات خطيرة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا سيما من الناحيتين الإنسانية والسياسية.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «سيفتكون بالضفة بلا شك. حيث يتوقع أن يستغل اليمين في الحكومة الإسرائيلية الحرب، وانشغال العالم بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لتنفيذ مخططات الضم والتهويد التي ستجعل من الضفة الغربية ملحقاً لإسرائيل لا يمكن أن يكون مكاناً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة».

وتابع: «التحريض الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ووجود دعم إيراني لتحريك العمل العسكري في الضفة، ربما أيضاً يكون ذريعة لعقاب جماعي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، فتزيد من القمع والحصار والتنكيل بهم لدرجة يصل فيها الفلسطينيون إلى مرحلة لا يستطيعون العيش في ظل تلك الظروف، التي تسعى إسرائيل إلى أن تنتهي بترحيل قسم من الفلسطينيين إلى خارج وطنهم.»

أما على الجانب الإنساني، فيرى عساكرة «أن ارتباط الفلسطينيين في الضفة بإسرائيل في نواحي الحياة كافة، سيؤدي إلى تأثرهم بشكل كبير، خاصة في مجال الطاقة والمياه، وفقدان الاستقرار الغذائي نتيجة لتضرر الموانئ الإسرائيلية، وربما سيكون وضع الفلسطينيين أكثر صعوبة من الإسرائيليين؛ لعدم وجود سلطة قادرة على تقديم أي مساعدة طارئة للمواطنين، على عكس إسرائيل التي تدرس كل جوانب التأثير الإنساني للحرب لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين».

وهذا الوضع لا تغفله السلطة الفلسطينية التي تدرك حجم الضرر المتوقع، وتبدو آخر كيان يريد لهذه الحرب أن تشتعل.

وقال مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: «حتى قبل حرب محتملة مع لبنان. إنهم يسعون لتفكيك السلطة وانهيارها، ولديهم مخطط واضح لدفع الفلسطينيين على الهجرة. ليس فقط في قطاع غزة وإنما الضفة. هذا اليمين المجنون لن يفوّت حرباً كهذه قبل أن يحقق حلمه بالسيطرة والاستيطان والتخلص من الكينونة الفلسطينية».

ويعترف المسؤول بأنه ليس لدى السلطة القدرة على مواجهة تداعيات حرب كهذه، وهي تواجه قبل ذلك خطر الانهيار.

باختصار شديد، خلف «حزب الله»، توجد إيران وفصائل في العراق وسوريا واليمن، وفي النهاية الدولة اللبنانية التي خلفها توجد دول، وخلف إسرائيل توجد الولايات المتحدة ودول وقوى أخرى عظمى. اما الفلسطينيون في الضفة الغربية فخلفهم سلطة محاصرة وضعيفة لا حول لها ولا قوة، وتقريباً لا بواكي لهم أو لها.


مقالات ذات صلة

أعداد رافضي الخدمة بالجيش الإسرائيلي في ازدياد

المشرق العربي قوات إسرائيلية داخل قطاع غزة يوم الأحد (الجيش الإسرائيلي - أ.ف.ب)

أعداد رافضي الخدمة بالجيش الإسرائيلي في ازدياد

أشارت حركة «يش جفول» (هناك حدود) اليسارية الإسرائيلية إلى تسجيل قفزة غير مسبوقة في أعداد رافضي الخدمة العسكرية في الحرب الحالية ضد قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (رام الله)
المشرق العربي جثمان أحمد رمزي سلطان ملفوفاً بالعلم الفلسطيني (أ.ف.ب)

مقتل فلسطيني برصاص الجيش الإسرائيلي في رام الله

«خرج مع الفجر للصلاة وتحضير نفسه للعمل، وفُوجئ بوجود الجيش».

«الشرق الأوسط» (رام الله)
المشرق العربي رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى (يمين) يلتقي في رام الله وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي (إكس)

الحكومة البريطانية الجديدة تريد دوراً فاعلاً في الملف الفلسطيني

أعلن وزير الخارجية البريطاني الجديد ديفيد لامي، للقادة الإسرائيليين والفلسطينيين، أن حكومته ترغب في زيادة دورها؛ ليصبح أكثر فاعلية في الشرق الأوسط.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي فلسطينيون يتظاهرون في شوارع جنين تنديداً بالقصف الإسرائيلي على غزة وحداداً على قتلى خان يونس (رويترز)

إضراب في الضفة الغربية حداداً على قتلى مجزرة المواصي

عم الإضراب الشامل المحافظات الفلسطينية في الضفة الغربية تنديداً بالقصف الإسرائيلي على غزة وحداداً على قتلى خان يونس.

المشرق العربي آلية عسكرية إسرائيلية خلال اقتحام مخيم نور شمس في الضفة الغربية (أ.ف.ب)

واشنطن تفرض عقوبات جديدة على إسرائيليين في الضفة الغربية 

أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات جديدة على متطرفين إسرائيليين متهمين بتأجيج العنف في الضفة الغربية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

مخيمات الضفة... قطعة من «جحيم غزة»

TT

مخيمات الضفة... قطعة من «جحيم غزة»

نازحون يعودون لتفقد بيوتهم في مخيم جنين بعد انتهاء الاقتحام الإسرائيلي (الشرق الأوسط)
نازحون يعودون لتفقد بيوتهم في مخيم جنين بعد انتهاء الاقتحام الإسرائيلي (الشرق الأوسط)

صباح الثلاثاء 21 مايو (أيار) كان يفترض أن يكون صباحاً عادياً في مدينة جنين. فبعد ليلة لم تعكر صفوها اقتحامات الجيش الإسرائيلي أو عمليات الاغتيال والمداهمات، دبّت الحركة في أرجاء المدينة. سار الموظفون والعمال والطلبة إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم كما يفعلون كل صباح، وشرّعت المحال التجارية أبوابها إيذاناً ببدء يوم جديد. بيد أن الدقائق القليلة التي تلت حملت فصلاً دامياً آخر من فصول المدينة الحزينة.

لا أحد ممن شقوا طريقهم في شوارع جنين ذاك الصباح كان يعلم أن ساعة الصفر لعملية عسكرية إسرائيلية موسعة في المدينة كانت قد دنت، وأن الدقائق القليلة التالية ستحيل الشوارع والطرقات والبنايات المحيطة إلى ساحة حرب مفتوحة. كانت قوة إسرائيلية خاصة قد تسللت داخل سيارة تحمل لوحة فلسطينية، وعمدت بنشر فرق من القناصة فوق عدد من الأبنية والعمارات تمهيداً لتحرك عسكري في المنطقة.

بعد الساعة الثامنة بقليل، شرَعت القوة الخاصة رفقةَ القناصة بإطلاق الرصاص على «كل ما يتحرك أمامها»، بحسب ما روى شهود، فقتلت على الفور 7 من سكان المدينة، بينهم تلميذان ومعلم وطبيب جراح.

محمود خرج لتقديم امتحاناته فقتله قناص قرب مدرسته

أحد التلميذين كان محمود حمادنة (15 عاماً)، طالب في الصف التاسع. غادر بيته في الصباح الباكر رفقة شقيقه التوأم للالتحاق بالمدرسة قرب مخيم جنين، وتقديم امتحانات آخر العام الدراسي. بصوت مختلج وبعينين مثقلتين بألم الفقد، يقول والد محمود المفجوع بخسارة نجله إنه اتصل به فور انطلاق صفارات الإنذار في المخيم، فأجابه أنه وصل المدرسة مع شقيقه. يضيف: «حينها شعرت بالاطمئنان على أنهما بخير».

سكان مخيم جنين يشيعون ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

بيد أن الاقتحام الإسرائيلي المفاجئ أحدث إرباكاً كبيراً في مؤسسات المدينة كافة، ما دفع المسؤولين إليها لاتخاذ إجراءات الإخلاء والطلب من الطلاب والموظفين والعاملين العودة إلى منازلهم خشية تفاقم الأوضاع، وتجنباً لسيناريوهات الحصار التي سبق أن تعرضوا لها في اجتياحات سابقة، ما استدعى تدخل «الصليب الأحمر» ومنظمات دولية لإفساح المجال أمام عودة الطلاب إلى منازلهم.

يروي والد الطفل محمود تفاصيل تلك اللحظات الثقيلة، في حديثه مع «الشرق الأوسط»، يقول: «تفاجأت بعودة شقيق محمود وحيداً إلى البيت... حاولت الاتصال به، لكن هاتفه لا يجيب إطلاقاً. كررت الاتصال أكثر من 15 مرة دون رد». كان محمود في الأثناء قد شقّ طريقه عائداً إلى منزله على دراجته الهوائية. وما أن غادر بوابة مدرسته حتى عاجله قناص إسرائيلي اعتلى إحدى البنايات القريبة بـ5 رصاصات اخترقت صدره ورأسه.

«اتصلت مجدداً، فأجاب أحدهم وقال لي إن صاحب الهاتف موجود في المستشفى. لم يعرف اسمه. قال إنه وصل مصاباً»، يستذكر والد محمود التفاصيل بحرقة وألم شديدين، مضيفاً: «فقدت عقلي حين علمت أن ابني قد أصيب... توجهت سريعاً مع زوجتي إلى المستشفى. قدت السيارة بسرعة كبيرة... كانت القوات الخاصة منتشرة في المنطقة حولنا، أطلق قناص النار باتجاهنا... وصلنا المستشفى وأنا أعتقد أن ابني مصاب، فوجدته قد استشهد. لم ألحق به، كان قد فارق الحياة».

إسرائيل تطيل أمد عملياتها داخل الضفة

كانت صافرات الإنذار تدوي في أرجاء مخيم جنين، فيما انتشرت عناصر الكتائب العسكرية الفلسطينية لاتخاذ مواقعها في الشوارع والميادين بعد اكتشاف أمر الوحدة الإسرائيلية الخاصة، فاندلعت اشتباكات عنيفة، ترددت أصداؤها في أرجاء المدينة.

آثار الدمار الذي طال البنى التحتية الرئيسية في مخيم جنين أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

في الأثناء، تقدمت أرتال من المركبات العسكرية الإسرائيلية، ترافقها جرافات ثقيلة، وتحوم فوقها طائرات مسيرة، نحو من مداخل المدينة، التي لطالما مثلت معقلاً رئيسياً للعمل الفلسطيني المسلح في الضفة الغربية طيلة عقود مضت، تزامناً مع إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي عن البدء في عملية عسكرية موسعة في جنين بهدف القضاء على مقاتلين فلسطينيين.

لم يحمل بيان الجيش الإسرائيلي تفاصيل حول العملية الجديدة، إذ لم يعلن الجيش هدفاً واضحاً للعملية ولم يضع سقفاً زمنياً محدداً لها أسوة بمرات سابقة. مثّلت العملية وحجم القوات المشاركة فيها - الذي قدّرت بأكثر من ألف جندي، وكذلك تحركاتها وتمركزاتها على الأرض، واحتلالها عدداً من المنازل والبنايات، ناهيك عن فرضها حصاراً محكماً على المخيم - تطوراً في استراتيجية الجيش الإسرائيلي في جنين ومدن شمال الضفة الغربية بشكل عام، وتحولاً في شكل العمليات من الاقتحامات الليلية والمطاردات الساخنة التي تمتد لساعات، إلى عمليات موسعة تمتد لأيام.

شوارع جنين... اشتباكات وانفجارات وسحب سوداء

كان فريق «الشرق الأوسط» ذاك الصباح قد وصل إلى مشارف جنين في مهمة معدة مسبقاً لرصد واقع المدينة بعد أشهر من الحرب الممتدة في غزة. تزامن وصولنا لمداخل المدينة مع بدء العملية العسكرية الإسرائيلية وتصاعد القتال فيها.

خلت الشوارع تماماً إلا من صوت الرصاص ودوي الانفجارات المتتالية التي تخلّفها العبوات الناسفة واستهدافات الجيش وضرباته. غطت سحابة سوداء سماء المدنية التي لم تفارقها الطائرات المسيرة. فيما أغلقت المحال أبوابها، ولاذ السكان إلى بيوتهم. أضحت الشوارع والأزقة والحارات ساحة حرب مفتوحة بين المقاتلين الفلسطينيين ووحدات الجيش المدعومة بالقناصة والمتحصنة في عربات مصفحة.

فلسطيني وسط مدينة جنين خلال اقتحام القوات الإسرائيلية أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

فرض الجيش حصاراً على المخيم، أو كما يسميه «عش الدبابير»، ومنع حركة الدخول أو الخروج منه، وقطع إمدادات الكهرباء والاتصالات، حتى بات بقعة معزولة عن العالم الخارجي. مَنعت المركبات العسكرية دخول سيارات الإسعاف لإخلاء الإصابات أو الحالات المرضية، بل أطلقت النار عليها، كما منعت وصول الطواقم الصحافية للمنطقة، فيما شرعت الجرافات العسكرية في تجريف عدد من الشوارع والميادين وهدم بنى تحتية حيوية.

تواصلت العملية العسكرية الإسرائيلية 48 ساعة قبل انسحاب القوات منها، لنتمكن بعد ذلك من دخول المخيم وحاراته، ولتتكشف أمامنا آثار المعركة في المدينة ومخيمها.

ترك الرصاص بصمةً واضحةً على جدران المنازل والمتاجر بين الأزقة الضيقة، فيما تركت الحرائق علاماتها على بعض نوافذ البيوت والمساكن المتلاصقة في مساحة ضيقة لا تزيد عن 0.42 كيلومتر مربع، يسكنها نحو 12 ألف نسمة. بدا نصيب بعض البيوت الأخرى أكبر، إذ لحقها دمار كبير بعد أن قامت الوحدات الإسرائيلية بنسفها وتسويتها بالأرض. كذلك ألحقت الجرافات العسكرية دماراً بالشوارع والميادين والبنى التحتية التي طالتها أعمال تجريف لم تتوقف طيلة اليومين الماضيين.

الحاضنة الاجتماعية... هدف للعمليات العسكرية

كان الجيش الإسرائيلي صعّد من عملياته مؤخراً، التي تطول البنى التحتية الحيوية في المدينة والمخيم، إذ باتت هدفاً رئيسياً للاعتداءات الإسرائيلية، في مسعى، كما يرى السكان هنا، للضغط على الحاضنة الشعبية للكتائب المسلحة ومعاقبتها. ويرى جمال حويل، عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح» والمقاتل السابق إبّان معركة جنين عام 2002، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن إسرائيل تسعى عبر سياسات التدمير والتجريف لضرب الحاضنة وربط دعمها للعمل المسلح بمشاهد الدمار والخراب.

آثار الدمار الذي طال البيوت في مخيم جنين أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

يقول: «نحن ندرك من تجربة طويلة جداً منذ عام 2002 حين دخل الاحتلال إلى مخيم جنين في أكبر معركة بعد عام 1967، ودمّر 1200 بيت وقتل العشرات في المخيم، أن الاحتلال يركز على الانتصار على الوعي الفلسطيني. وبالتالي يركز على الحاضنة الاجتماعية حتى تصبح المعادلة أمامها، المقاومة تقابل الخراب»، مضيفاً: «لكن هذه الحاضنة الشعبية تدرك أن المقاومة هي من تحضر العزة والكرامة والحرية، رغم الدمار الذي يحدثه هذا العدو».

ضحايا جنين... الأعلى في الضفة الغربية

منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول)، كثّف الجيش الإسرائيلي من عملياته العسكرية في جنين ومدن الضفة الغربية. ونفذ الجيش أكثر من 70 اقتحاماً لجنين منذ اندلاع الحرب في غزة، قتل خلالها أكثر من 142 فلسطينياً، ما يمثل الحصيلة العليا لعدد الضحايا في الضفة الغربية، الذي تجاوز 540 قتيلاً، فيما بلغت أعداد الجرحى 5200، كما اعتقل الجيش أكثر من 8000 فلسطيني.

الطواقم الطبية تنقل إصابات خلال اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة جنين في مايو الماضي (الشرق الأوسط)

كما دفع الجيش بالطيران الحربي لميدان حربه في جنين لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية، إذ شنّ عدداً من الغارات على أهداف في المدينة ومخيمها، طالت عدداً من المقاتلين في «كتبة جنين» التابعة لـ«سرايا القدس» الجناح العسكري لـ«حركة الجهاد الإسلامي».

الضفة... جبهة خارج حسابات الهدنة

تظل جبهة الضفة الغربية ساحة غير مشمولة بحسابات ومفاوضات الهدنة وترتيبات وقف إطلاق النار المرتقبة في غزة، ما يثير مخاوف عميقة لدى الفلسطينيين بأن الفترة المقبلة قد تحمل مزيداً من فصول التصعيد. هذه المخاوف تعززها تصريحات الوزيرين في حكومة نتنياهو، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، التي توعدا فيها بنقل مجريات الحرب في غزة إلى الضفة الغربية.

فور انتهاء معركة الساعات الثماني والأربعين الأخيرة، وانسحاب القوات الإسرائيلية، تحدثت «الشرق الأوسط» مع مقاتلي كتيبة جنين. قال لنا أحد قادتها إن هذه المعركة جاءت مختلفة عن سابقاتها، إذ شهدت «تكتيكاً عالياً ودقيقاً» من مقاتلي الكتيبة الذين باتوا يلجأون أكثر من السابق، في مواجهة القوات الإسرائيلية، للكمائن والعبوات الناسفة المزروعة، التي أظهرت تطوراً في فاعليتها، مقارنة بالمراحل السابقة. الأمر الذي أثار قلقاً عميقاً لدى الدوائر العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وصعّد من وتيرة المداهمات والاستهدافات للبنية التحتية للكتائب المسلحة ومعامل العبوات والمتفجرات.

مسلحون من "كتيبة جنين" خلال تشييع جثامين ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية في مايو الماضي (الشرق الأوسط)

وأضاف أن الكتيبة لم تتلقَّ خسائر في صفوفها خلال هذه الجولة، مشيراً إلى أن «جميع الشهداء الذين سقطوا كانوا من المدنيين، ولم يفلح المحتل في قتل أو إصابة أي من عناصر الكتيبة»، ما يعكس تحولاً في عمل المقاتلين على الأرض خلال الاقتحامات الإسرائيلية وتكيفاً مع معطيات القتال، الذي يعتمد فيه الجيش على الوحدات الخاصة والقناصة، وكذلك على الغطاء الجوي.

وأشار الشاب إلى أن الحرب الدائرة في المخيم امتدادٌ للحرب في غزة ولعملية «طوفان الأقصى»، موضحاً أن المواجهة مع الجيش الإسرائيلي ارتفعت وتيرتها منذ 7 أكتوبر. ويضيف أن وحدات من الجيش كانت قاتلت في غزة، باتت تقاتل اليوم في جنين: «هذا باعترافهم وشهادات جنودهم بأن بعض قوات الجيش التي كانت تقاتل في غزة، واكتسبت خبرة هناك، تم استدعاؤها للدخول لمخيم جنين. والفرق بين ما قبل 7 أكتوبر وبعده هو عدد القوات التي تدخل إلى المخيم، ناهيك عن تصاعد ضربات الطيران والقصف وأعداد الآليات».

عمليات الجيش... من «جزّ العشب» إلى «الحسم الشامل»

تكاد العمليات التي تمتد لأيام تكون جولات «استطلاعية» لعمليات أوسع وأطول أمداً، تهدف من خلالها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى بسط سيطرتها الأمنية بشكل أوسع على الضفة الغربية، وتضييق الخناق على الفصائل المسلحة التي تنشط في المدن والبلدات والمخيمات. وشرعت القوات الإسرائيلية مؤخراً في تصعيد مداهماتها وضرباتها على البنى التحتية للكتائب، وكذلك على بعض مصادر تمويلها. كما شنَّ الجيش سلسلةً من المداهمات لمحال الصرافة وتحويل الأموال، ونفّذ اعتقالات بحقّ بعض العاملين فيها، وزاد من وتيرة استهدافاته لمعامل تصنيع العبوات الناسفة. وتواصل جرافاته إزالة «الخطوط الدفاعية» على مداخل المخيمات من سواتر ترابية وأحجار إسمنتية لتأمين دخول وحدات الجيش لمناطق أعمق داخل المخيم.

دوريات إسرائيلية في شوارع جنين مايو الماضي (الشرق الأوسط)

وتعكس مجريات العمليات الإسرائيلية تبدلاً في سياسة «جز العشب» التي أطلقها الجيش الإسرائيلي قبل عامين بهدف ملاحقة المجموعات المسلحة واغتيال أو اعتقال قادتها وعناصرها، إلى التوجه اليوم نحو استراتيجية تحمل مؤشرات بالمضي لـ«الحسم الشامل».

كانت الضفة الغربية شهدت أكثر من 460 عملية إطلاق نار واشتباك منذ بداية العام الحالي، استهدفت قوات الجيش والمستوطنين، وأوقعت 13 قتيلاً وعشرات الإصابات.

مخيم نور شمس... محاكاة للتدمير في غزة

بات السكان في مخيم نور شمس للاجئين في مدينة طولكرم، شمال الضفة الغربية، يطلقون عليه اسم «غزة الصغرى»، إذ يشهد المخيم الواقع شرق المدينة تصعيداً عسكرياً إسرائيلياً، ارتفعت وتيرتُه مع اندلاع الحرب في غزة، كثّفت خلاله إسرائيل من هجماتها عليه خلال الشهور الماضية، مخلفة دماراً كبيراً في أحيائه وأزقته الضيقة.

وما أن وصلنا مدخل المخيم حتى بدأت تتكشف مشاهد الدمار. لحق الدمار والخراب بواجهات البيوت والمحال التجارية المطلة على الشارع الرئيسي المقابل للمخيم، والواصل بين مدينتي طولكرم ونابلس. داخل المخيم، سلكنا طريقاً ترابية وعرة خلّفتها أعمال التجريف نحو حارة المنشية وسط المخيم. بدت بيوت الحارة وبناياتها أثراً بعد عين. حفرت الجرافات الإسرائيلية في قلب المخيم بقعة ترابية واسعة تكسوها أكوام من الركام وجدران البيوت المهدمة، فاقتلعت هنا مربعات سكنية كاملة، وهجَّرت سكانها، في استدعاء لسياسة التدمير الواسع في غزة.

تقول نهاية الجندي، إحدى سكان المخيم وعضو لجنة الخدمات الشعبية، لـ«الشرق الأوسط»، بينما وقفت وسط بقعة ترابية فارغة على أنقاض بيوت حارة المنشيّة، التي سوّتها الجرافات الإسرائيلية بالأرض، وأحالت مجمعات سكنية كانت تأوي 40 أسرة إلى ركام، إن حال مخيم نور شمس «شبيه بحال غزة، وأطلق عليه اسم غزة الصغرى، وذلك بسبب تدمير مجمعات سكنية كاملة».

وتضيف الجندي: «الفرق بيننا وبين غزة هو وجود جثث تحت الأنقاض. نخشى أن يتم تدمير البيوت هنا على رؤوس ساكنيها. فنحن أمام نفس الحال ونفس الوجع ونفس الفقدان، ونفس المأساة ونفس التدمير وتفجير البنيان... هذه غزة رقم 2».

آثار الدمار الذي طال البيوت والمتاجر في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

في أبريل (نيسان) الماضي، في عملية عسكرية امتدت 3 أيام، حاصرت القوات الإسرائيلية المخيم وقطعت عنه إمدادات المياه والكهرباء والاتصالات ، وشرعت الجرافات العسكرية من طراز «D-9» و«D-10» في قضم بيوت حارة المنشية المتراصة وتسويتها بالأرض، بينما كان بعض سكانها داخل بيوتهم، فشقّت شارعاً واسعاً لدخول الآليات العسكرية والجنود فوق أنقاض البيوت.

وتلاحق إسرائيل «كتيبة طولكرم» التي تنشط في المخيم، وتضم عناصر من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، وكذلك «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، وكذلك «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح».

وتصاعدت في الآونة الأخيرة أعمال التجريف التي ترافق الاجتياحات الإسرائيلية، التي يقول الجيش عنها إن هدفها إبطال العبوات المزروعة على جنبات الطرق والأزقة وهدم التحصينات البدائية للكتائب الفلسطينية، بيد أن حجم الدمار والخراب التي تخلّفه أعمال التجريف التي تطول البنى التحتية الحيوية والمنشآت المدنية من بيوت ومدارس وغيرها، تعكس سياسة عقاب جماعي تطول سكان المخيمات.

تشير الأرقام الرسمية الفلسطينية وأرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» إلى أن نحو 2000 بيت في المخيم لحقَ بها دمار كليّ أو جزئي، ما يمثل نحو نصف عدد البيوت في المخيم. واضطر سكان البيوت المدمرة، ولا سيما تلك التي سوّتها الجرافات بالأرض، إلى النزوح خارج المخيم واللجوء لمساكن مؤقتة لحين إعادة إعمار بيوتهم، وهو ما يبدو الأفق أمامه غير واضح المعالم، في ضوء التحديات المالية التي تواجه «أونروا»، وكذلك السلطة الفلسطينية، في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وأعمال الهدم والتجريف التي طالت سابقاً بيوتاً جرى ترميمها وإصلاحها، ما يجعل مسار إعادة الإعمار معقداً وشائكاً ورهناً بتطورات الأوضاع على الأرض.

شبح التهجير يقفز للواجهة

تدفع هذه التطورات في المخيمات بشبح التهجير إلى الواجهة، إذ تخشى أوساط فلسطينية واسعة من اتساع رقعة العمليات العسكرية والإسرائيلية وتصاعد وتيرة الهدم والتدمير والتجريف للبيوت والمنشآت، ما قد يخلق مشاهد من النزوح القسري، ويمثل شروعاً فعلياً بتنفيذ سياسة اقتلاع المخيمات وإفراغها من السكان. يترافق ذلك مع سياسات توسيع الاستيطان في الضفة وتسريع مخططات الضم، كما يتوافق مع «خطة الحسم» الذي وضعها وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إذ يدعم كثير من الشواهد الملموسة على الأرض هذه المخاوف من تصاعد حدة الهجمات الإسرائيلية في المخيمات، وخلق واقع جديد فيها لصالح مشاريع الاستيطان والتوسع.

وتشير الأرقام الفلسطينية إلى أن عدد المنشآت التي تم هدمها في الضفة الغربية منذ عام 2023 تجاوز 1100 منشأة، ما أسفر عن تشريد أكثر من 4300 شخص، وهو ما يمثل زيادة بنحو 5 أضعاف، مقارنة بعام 2022 الذي بلغ فيه عدد المهجرين 700 شخص.

أبو رامي من سكان حارة المنشية بمخيم نور شمس يتفقد منزله الذي هدمته الجرافات الإسرائيلية في مايو الماضي. (الشرق الأوسط)

ويروى أبو رامي، من سكان حارة المنشيّة المدمرة، لـ«الشرق الأوسط»، اللحظات الصعبة التي عاشها هو وعائلته حين تقدمت الجرافات الإسرائيلية نحو بيته الذي تسكنه 3 عائلات وشرعت بعمليات الهدم والتجريف، بينما كان السكان بالداخل. يقول: «لو بقينا داخل البيت لسقطت جدرانه علينا. دخلت الجرافات وشرعت بهدم هذا الجزء من البناية التي تسكنها 3 عائلات»، مشيراً بيده نحو غرف البيت الذي قضمته الجرافات وأحالته خراباً.

نزح الرجل الستيني مع عائلته وأبنائه خارج المخيم لحين تأمين عودتهم. يتحسر على ما حلّ ببيته وحارته، قائلاً: «نرجو الله أن تنفرج الأمور، وألا نبقى مشتتين هنا وهناك... فبعد خسارة البيت، ما قيمة حياتنا؟»