المحيطان الهادئ والهندي في مرمى التنافس الأميركي - الصيني

سباق تسلح لن يُغيِّر في معادلات النفوذ

علما الصين والولايات المتحدة مرفوعان على أحد الأعمدة في ولاية أميركية خلال زيارة سابقة لوفد صيني إلى واشنطن (رويترز)
علما الصين والولايات المتحدة مرفوعان على أحد الأعمدة في ولاية أميركية خلال زيارة سابقة لوفد صيني إلى واشنطن (رويترز)
TT

المحيطان الهادئ والهندي في مرمى التنافس الأميركي - الصيني

علما الصين والولايات المتحدة مرفوعان على أحد الأعمدة في ولاية أميركية خلال زيارة سابقة لوفد صيني إلى واشنطن (رويترز)
علما الصين والولايات المتحدة مرفوعان على أحد الأعمدة في ولاية أميركية خلال زيارة سابقة لوفد صيني إلى واشنطن (رويترز)

أنفقت الولايات المتحدة 19 تريليون دولار على جيشها منذ نهاية الحرب الباردة. ذلك أكثر بمقدار 16 تريليون دولار مما أنفقته الصين، ويعادل ما أنفقته بقية دول العالم مجتمعة خلال الفترة نفسها. ومع ذلك، هناك من يعتقد أن الولايات المتحدة يمكن أن تخسر أي حرب كبيرة، خصوصاً مع الصين. وقبل 3 سنوات، قال الأدميرال فيليب ديفيدسون، الذي كان آنذاك قائد القوات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إنه في السنوات الست المقبلة، سوف «يتفوق» الجيش الصيني على جيش الولايات المتحدة وسوف «يُغيِّر الوضع الراهن بالقوة» في شرق آسيا. وفي عام 2019 قال مسؤول سابق في البنتاغون، إن كل تجارب «محاكاة» الحروب مع الصين، كانت تؤدي إلى «استسلام» الجيش الأميركي. كما خلصت تقارير عدة إلى أنه إذا قررت الصين غزو تايوان، فإن جيشها قادر على شل القوات الأميركية إذا قررت الوقوف في وجهها، وهو ما حفز تحليلات تتحدث عن أنها نتيجة «طبيعية» لتراجع واشنطن، وصعود بكين.

انتصار أم إدارة تنافس؟

غذَّت تلك التقديرات الانقسام وتباين وجهات نظر داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بين مواجهة الصين و«الانتصار» عليها، أو إدارة «تنافس» معها بطريقة حازمة. وهو ما أدى إلى ظهور «تصدّعات»، لم تعهدها الولايات المتحدة في علاقتها مع حلفائها وشركائها، سواء في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، أو في غيرها من مناطق التوتر حول العالم.

وفي مقالة نُشرت مؤخراً في مجلة «فورين أفيرز» بعنوان «لا بديل عن الانتصار»، يثير كل من مايك غالاغر، الرئيس السابق للجنة الحزب الشيوعي الصيني في مجلس النواب الأميركي، وماثيو بوتينغر، النائب السابق لمستشار الأمن القومي المسؤول عن ملف الصين، وكلاهما من الحزب الجمهوري، مخاوف بشأن سياسة إدارة بايدن تجاه الصين. واقترح الرجلان أنه لا بد للولايات المتحدة من أن تنسى «إدارة المنافسة»، وتتبنى المواجهة بلا حدود، ثم تنتظر حتى ينهار الحزب الشيوعي الصيني من الداخل، بحيث ينتهي بشكل حاسم كما انتهت الحرب الباردة. ورغم أن بوتينغر وغالاغر حريصان على عدم الدعوة إلى تغيير النظام بالقوة، فإنهما يعرّفان النصر بقدرة «الصين على رسم مسارها الخاص المتحرر من الديكتاتورية الشيوعية». وكتبا أن الصين التي «تشبه» تايوان سياسياً، هي «الوجهة الوحيدة القابلة للتطبيق».

وزير الأمن العام الصيني وانغ شياوهونغ مرحباً بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في بكين (رويترز)

في المقابل يدافع راش دوشي، المسؤول السابق عن ملف الصين في مجلس الأمن القومي الأميركي في إدارة بايدن، عن سياسات الرئيس، قائلاً إنها لم تندفع إلى الدبلوماسية مع بكين، بل قلصت الاجتماعات الرفيعة المستوى، وأوقفت مؤقتاً عديداً من الحوارات التي لم تحقق نتائج. وبدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، جرى التركيز على تجديد القوة الأميركية. وأضاف دوشي أن بكين كانت مقتنعة بأن الولايات المتحدة كانت في حالة انحدار خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، وكشف الرئيس الصيني شي جينبينغ عن عبارة لخصت ثقة بكين المتزايدة بهذا الاتجاه: «العالم يمر بتغيرات عظيمة لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمان». ورأى شي أن عزل ترمب للحلفاء والشركاء الأميركيين، والتعامل غير المنتظم مع جائحة كوفيد - 19 وتجاهل المعايير الديمقراطية، أدلة على أن «الشرق ينهض والغرب يتراجع». ولم تنظر بكين إلى ترمب على أنه صارم، بل على أنه لا يمكن التنبؤ به.

طموحات الصين واضحة

حتى الآن، لا يمكن إنكار طموح الرئيس الصيني شي جينبينغ إعادة تشكيل العالم. فهو يريد حل شبكة تحالفات واشنطن و«تطهير» الهيئات الدولية مما يصفها بـ«القيم الغربية». يريد إسقاط الدولار الأميركي من قاعدته والقضاء على قبضة واشنطن على التكنولوجيا الحيوية. وفي نظامه الجديد المتعدد الأقطاب، سوف ترتكز المؤسسات والأعراف العالمية على المفاهيم الصينية للأمن المشترك والتنمية الاقتصادية، والقيم الصينية للحقوق السياسية التي تحددها الدولة، والتكنولوجيا الصينية، حيث لن تضطر الصين بعد الآن إلى الكفاح من أجل القيادة، وسيتم ضمان مركزيتها. ولتحقيق ذلك، حدد شي جينبينغ تنفيذ أربعة برامج صينية: مبادرة الحزام والطريق، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية. وقد وضعت بكين مبادرة الأمن العالمية كنظام، على حد تعبير عديد من الباحثين الصينيين، لتوفير «الحكمة الصينية والحلول الصينية» لتعزيز «السلام والهدوء العالميين». وتدعو المبادرة، حسب تعبير شي إلى أن «ترفض الدول عقلية الحرب الباردة، وتعارض الأحادية، وتقول لا للسياسات الجماعية والمواجهة بين الكتل».

صورة وزعتها وكالة «شينخوا» لاستقبال شي في مطار سان فرنسيسكو الثلاثاء (أ.ب)

بيد أن التطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي شهدها العالم منذ أكثر من سنتين، بدءاً بالغزو الروسي لأوكرانيا، وعودة «الروح» لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والأزمة الاقتصادية في الصين، والحرب الإسرائيلية على غزة، كشفت عن أن التقديرات بتراجع القوة الأميركية، مُبالَغ فيها بشكل كبير. وهناك من يرى أن تضخيم «خطر» الجيش الصيني، يقف وراءه «مجمع الدفاع والصناعة»، للحض على مزيد من الإنفاق في موازنة البنتاغون. ويؤكد عديد من الخبراء، بينهم صينيون، أن بكين ليست مستعدة عسكرياً لتنفيذ أي هجوم على تايوان. فدروس الحرب الأوكرانية ربما أجبرت بكين على إعادة النظر في قدرتها على شن حرب على الجزيرة، فضلاً عن تشكيكها في الاعتماد على التقنية العسكرية الروسية. ومقابل تكاثر الحديث عن نمو قدرات الصين العسكرية، للتحول إلى قوة بحرية عالمية، جاء إعلان البنتاغون عام 2022 عن أكبر زيادة في ميزانية تطوير سلاح البحرية الأميركية، بقيمة 27 مليار دولار، لامتلاك 350 سفينة حربية ليرفع من سقف التحدي معها.

وتقول صحيفة «واشنطن بوست»، إن إصلاح الجيش الأميركي وإعادة تأهيله، في مواجهة تنامي قوة الجيش الصيني، والتخلي عن أساليب ومعدات ثبت عدم فاعليتها في الحروب الجديدة، أخذ جرعة كبيرة، بعدما أظهر «مجمع الدفاع والصناعة والكونغرس»، حساً سليماً أخيراً.

وأضافت الصحيفة أن «إجماعاً جديداً بدأ ينشأ حول ضرورة إجراء تغييرات كبيرة»، وهو إجماع مدعوم بتوجيهات الجنرال تشارلز براون، الرئيس الجديد لهيئة الأركان المشتركة، الذي قال: «إذا لم نتغير، إذا فشلنا في التكيف، فإننا نخاطر بخسارة المعركة».

واشنطن تركز على الأهداف

في خطاب ألقاه في يناير (كانون الثاني) الماضي، تحدث مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، عن استراتيجية إدارة بايدن تجاه الصين، قائلاً إنها مبنية على «افتراضات واقعية» حول مدى قدرة الولايات المتحدة على إعادة تشكيل النظام السياسي في الصين. وقال إنها لا تركز على نوع العلاقة الثنائية التي تريدها واشنطن مع بكين ولا على نوع الحكومة التي يريد الأميركيون أن تحظى بها الصين، بل تركز على أهداف أميركية واضحة وطويلة الأمد: الحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ خالية من الهيمنة، والحفاظ على القيادة الاقتصادية والتكنولوجية الأميركية، وتعزيز التعاون الدولي، ودعم الديمقراطيات الإقليمية. وأضاف قائلاً إنها تسعى إلى تنشيط مصادر القوة الأميركية من خلال الاستثمار في الداخل والتوافق مع الحلفاء والشركاء في الخارج، بما يمكِّنها من التنافس بشكل مكثف من خلال إضعاف الأنشطة الصينية التي تقوِّض المصالح الأميركية وبناء تحالف من القوى التي ستساعد الولايات المتحدة على تأمين أولوياتها، مع إدارة أخطار التصعيد.

تدريبات أميركية فلبينية مشتركة بالذخيرة الحية ضمن تدريبات "الكتف للكتف" السنوية في ميناء لاواغ الفلبيني، مطلع مايو (أيار) الماضي (رويترز)

ويستبعد كريغ سينغلتون، الزميل البارز لشؤون الصين في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، أن تنجح هذه السياسة في عكس اتجاه تدهور العلاقات بين البلدين. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لا يمكن للمجاملات الدبلوماسية أن تحجب الانقسامات المتجذرة بين البلدين». وشكَّك في الدور الصيني قائلاً إن «هدف بكين الحقيقي هو تعزيز صورتها العالمية وتسليط الضوء على ما تعدها إخفاقات القيادة الأميركية العالمية».

المحيطان الهندي والهادئ

يركز صناع السياسات والخبراء الأميركيون على سؤالين رئيسيين حول المنافسة الاستراتيجية طويلة المدى بين الولايات المتحدة والصين: كيف يمكن تقييم مدى جودة أداء الولايات المتحدة مقارنةً بالصين، وأي منهما لديه مزيد من القوة والنفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؟

تناول باحثون في مركز «راند»، هذه الأسئلة من خلال تحديد معنى التأثير أولاً في سياق المنافسة بين القوى العظمى وإنشاء إطار لقياس نفوذ الولايات المتحدة مقابل الصين في بلدان ثالثة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبشكل عام، خلص هؤلاء إلى القول إنه من الواضح أن لا الولايات المتحدة ولا الصين «تفوز» بالمنافسة على النفوذ في منطقة المحيطين الهادئ والهندي ككل، بل تتمتع كل منهما بمستويات متفاوتة من النفوذ فيها. فنفوذ الولايات المتحدة أكبر في أستراليا والهند واليابان والفلبين وسنغافورة منه في إندونيسيا وماليزيا وتايلاند وفيتنام. وفي حين ترى دول المنطقة أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ دبلوماسي وعسكري أكبر من الصين، تتمتع الصين بنفوذ اقتصادي أكبر.

ومع ذلك، فإن ازدياد تصلب النظام السياسي، وازدياد تركز السلطة في بكين، ضيّق حيّز السياسات المحلية وقدرة السلطات على المناورة خارجياً في ظل افتقارها إلى الأمن الغذائي والطاقة، حيث تستورد نصف نفطها تقريباً من الشرق الأوسط. وفي حال اندلاع أي نزاع، فإن البحرية الصينية التي تعد أكبر قوة بحرية من ناحية عدد السفن، مع امتلاكها أخيراً 3 حاملات للطائرات (مقابل 11 للولايات المتحدة) لن تكون قادرة على منع قطع الإمدادات الحيوية عنها.

وتواجه الصين كذلك عقبات كبيرة لتحقيق طموحاتها الخارجية، في ظل تقديرات استراتيجية تشير إلى أن الجيش الصيني سيبقى مقيداً نسبياً في المدى المنظور في توسيع قدرته خارج محيط الصين المباشر. ويُرجح أن تواجه قيوداً مطّردة في الميزانية على مبادراتها الخارجية الضخمة خلال السنوات المقبلة، بينما تكافح مع اقتصاد مأزوم، حيث تتراجع توقعات الاقتصاديين عن الموعد الذي ستتفوق فيه الصين على الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي، من سنوات إلى عقود.

زار بلينكن منطقة بوند الشهيرة في شنغهاي حيث تذوق المأكولات المحلية وشاهد مباراة في كرة السلة (رويترز)

في المقابل، تتمتع الولايات المتحدة باستقلالية تامة في توفير الطاقة والأمن الغذائي، وامتلاكها العملة الاحتياطية الأولى في العالم، رغم محاولة الصين وروسيا العمل معاً على الحد من الاعتماد على الدولار. لكنهما لن يتمكنا أبداً من إخراج الدولار من مكانته الأولى داخل شبكة الدفع العالمية، حسب تشن يي جون، عضو الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.

وإلى جانب ما سبق، فإن الصين مطالَبة بالمواءمة بين استخدام القوة والتأثير السياسي والاقتصادي على نطاق عالمي، وهي شروط تعريف «القوة العظمى»، بينما تواجه محيطاً جغرافياً صعباً. ومقابل استفادة الولايات المتحدة من محيط جغرافي وحدود سلمية ملائمة، تحيط بالصين 14 دولة، 4 منها مسلحة نووياً، هي الهند وروسيا وباكستان وكوريا الشمالية. كما أن 5 دول «جارة» لديها نزاعات إقليمية لم تُحل معها، هي الهند، واليابان، وروسيا، وكوريا الجنوبية، وفيتنام. ثم إن للولايات المتحدة وجوداً عسكرياً دائم الانتشار في المنطقة، مدعوماً باتفاقيات وقواعد عسكرية تمكّنها من الوصول إلى البلدان الواقعة على أطراف الصين.

دروس حرب أوكرانيا

ومع الدروس المستقاة من الحرب في أوكرانيا، تقول «واشنطن بوست»، إنه بدلاً من حاملات الطائرات والطائرات المقاتلة باهظة الثمن المعرّضة للخطر، تم الاعتماد على المسيّرات والأقمار الاصطناعية. فالبحرية والدبابات الروسية والأوكرانية تكاد تكون بلا دفاع ضد هجمات المسيّرات. ومع الحاجة إلى أنظمة إلكترونية مستقلة قادرة على العمل من دون نظام تحديد المواقع العالمي، تصمم مختبرات الدفاع في جميع أنحاء الولايات المتحدة وتنشئ أنظمة ذات ذكاء اصطناعي مدمجة في الأسلحة نفسها، حتى لا يُضطروا إلى الاعتماد على إشارات قابلة للتشويش من الفضاء. وتقود الحملة من أجل إصلاح البنتاغون، كاثلين هيكس، نائبة وزير الدفاع، التي أعلنت في أغسطس (آب) الماضي، مبادرة تهدف إلى نقل الدروس التقنية المستفادة من أوكرانيا إلى مناطق المعارك المحتملة، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وطلبت طائرات من دون طيار رخيصة الثمن للاستخدام في البر والبحر والجو، وهو ما تحقق سريعاً بشكل لم يتصوره البنتاغون نفسه. وقالت هيكس في خطاب في يناير، إن المبادرة، في الأشهر الخمسة الأولى من عمرها، أنجزت ما يستغرقه البنتاغون عادةً من سنتين إلى ثلاث سنوات، وتم تسليم أول أنظمة الطائرات من دون طيار الشهر الماضي. وتنشر فرق العمل سفناً وطائرات غير مأهولة في منطقة الخليج والبحر الأبيض المتوسط ​​ والبحر الكاريبي. ونظراً لأن المحيط الهادئ بيئة معقدة ومعادية، فإن برنامج الطائرات من دون طيار البحري القوي، سيحتاج إلى «قيادة الأنظمة الآلية» الخاصة به، مع سلطات مثل تلك التي أنشأتها البحرية النووية.

ومع تخصيص إدارة بايدن ما يقارب 100 مليار دولار لدعم وتطوير وتشجيع الابتكارات العلمية، في سعي للعودة إلى تخصيص ما يعادل 2 في المائة من ميزانيتها للاستثمار في الثورة التكنولوجية الجديدة، كما كانت خلال مواجهتها للاتحاد السوفياتي، الأمر الذي مكّنها من الانتصار في «حربها الباردة» معه، يصبح السؤال: كيف يمكن للصين تحقيق أهدافها، في ظل مجموعة ضخمة من التحديات ونقاط الضعف البنيوية، التي ستفرض عليها آجلاً أم عاجلاً، تقنين حدود مواجهتها مع الولايات المتحدة؟


مقالات ذات صلة

بايدن يعدّ مقتل نصر الله «عدالة لضحاياه»

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن خلال مغادرته الطائرة الرئاسية التي أقلّته إلى ولاية ديلاوير أمس الجمعة (أ.ف.ب)

بايدن يعدّ مقتل نصر الله «عدالة لضحاياه»

عبّر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، اليوم (السبت)، عن دعمه الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس في مواجهة «الجماعات الإرهابية» المدعومة من إيران.

إيلي يوسف (واشنطن) هبة القدسي (واشنطن)
مذاقات البرغر اللذيذ يعتمد على جودة نوعية اللحم (شاترستوك)

كيف أصبح البرغر رمز الولايات المتحدة الأميركية؟

البرغر ليس أميركياً بالأصل، بل تعود أصوله إلى أوروبا، وبالتحديد إلى ألمانيا.

جوسلين إيليا (لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (ا.ف.ب)

البيت الأبيض: بايدن يوجه باتخاذ السفارات الأميركية في المنطقة كافة التدابير الاحترازية

أعلن البيت الأبيض أن الرئيس جو بايدن، أمر بتعديل انتشار القوات الأميركية في الشرق الأوسط «حسب الضرورة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترمب ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس (أ.ب)

يتهمها بالكذب... ترمب يسخر من تعليقات هاريس بشأن عملها في «ماكدونالدز»

أصبح من شبه المؤكد أن المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترمب لن يتخلى عن اعتقاده بأن منافسته الديمقراطية كامالا هاريس لم تعمل قط في سلسلة مطاعم «ماكدونالدز».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا ضابط من الشرطة الروسية - أرشيفية (رويترز)

روسيا تحاكم أميركياً عمره 72 عاماً بتهمة القتال كـ«مرتزق» لحساب أوكرانيا

يحاكم أميركي في الـ72 من العمر منذ الجمعة في موسكو بتهمة القتال كـ«مرتزق» لحساب أوكرانيا، على ما أفادت به وكالة «ريا نوفوستي» الرسمية للأنباء التي حضرت الجلسة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

TT

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.