«فاتت يا ونيان»... قصة هروب لم يتم ودفاع عن الدرعية حتى الرمق الأخير

عن أسر الإمام عبد الله بن سعود والغزال الجريح في «أبان»

حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
TT

«فاتت يا ونيان»... قصة هروب لم يتم ودفاع عن الدرعية حتى الرمق الأخير

حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)

«فاتت يا ونيان» عبارة أطلقها الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، وأصبحت مقولة سائدة في الجزيرة العربية منذ إطلاقها قبل عشرات العقود، وتستخدم للدلالة على ما لا يمكن تداركه أو تنفيذه في حينه، ولم يُنتبه إليه إلا وقد فات الأوان.

هذا المثل له قصة بل قصص أقرب إلى الخيال منها للواقع، ولكنها بسيناريو وشخصيات حقيقية وأحداث واقعية وإمام أشغل الأعداء، ومستشار مخلص وجيش عرمرم من القتلة والمجرمين يطوقون الأسرى فلا يمكنهم التنفس أو الهروب. إمام وحاكم دولة كبرى، وفارس ووزير وكاتم أسرار هذا الحاكم كانوا ضمن الأسرى. وترتب على عدم الأخذ بهذا المثل مقتل الحاكم بعد أسره، وتضعضع دولته على أثر معارك طاحنة مع الغازي، وتدمير عاصمة الدولة القوية لإخفائها من الخريطة بعدما سيطرت الدولة السعودية الأولى على معظم مناطق الجزيرة العربية.

مسافرون في الصحراء (الشرق الأوسط)

قصة المثل

عادت الدولة ونهضت للمرة الثالثة وأصبحت لاعباً مؤثراً في المشهد العالمي وقبلة سياسية، عندما أعاد الملك عبد العزيز سفينة دولته لشاطئ الأمان، وأسّس دولته الثالثة. وخلال عقود بقيت تتطور حتى بلغت اليوم مرحلة من التكامل يمكن أن يطلق عليها دولة المستقبل، وذلك على يد سابع ملوك الدولة الثالثة الملك سلمان بن عبد العزيز، وبمعاونة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

وبالعودة إلى المثل القائل «فاتت يا ونيان»، التقت «الشرق الأوسط»، بمحمد بن راشد أبو نيان، أحد أحفاد ونيان بن نصر الحربي الذي رد عليه الإمام عبد الله بن سعود عندما وصل إلى أحد الجبال المنيعة، وذكر قصة الغزال التي تعد الأوثق. وعن ذلك يقول أبو نيان: ارتبطت قصة هذا المثل المتداول في الجزيرة العربية بالإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، ووزيره وكاتم أسراره، وأحد فرسان جيش الدولة السعودية الأولى والثانية ونيان بن نصر العلوي الحربي.

وقصة المثل مشهورة ومتداولة حتى وقتنا الحالي، ومفادها أنه خلال فترة حكم الإمام عبد الله بن سعود كان هناك مد عسكري عثماني بقيادة إبراهيم باشا عام 1231هـ. واتجه إلى المدينة المنورة حيث تتمركز قوات الدولة. وسار بهذه القوات قاصداً مقر الدولة السعودية الأولى في الدرعية.

وفي الثالث من جمادى الأولى 1233 كان إبراهيم باشا على مشارف الدرعية وبدأ في حصارها. وأطلقت نيران المدافع بكثافة باتجاه مزارع الدرعية وأسوارها، واستبسل الإمام عبد الله بن سعود ورجاله في مواجهة هذه القوات التركية والدفاع عن الدرعية وأهلها.

حصار حتى نفاذ المؤن

وقامت عدة مواجهات بين الجيشين، وبقي الوضع على ما هو عليه لوقت غير وجيز، حيث لم يستطع إبراهيم باشا التقدم باتجاه الدرعية، حتى وصله الدعم بالمعدات والأسلحة الثقيلة، فانعكس الأمر ورجحت كفة القوات التركية.

مع ذلك صعب عليهم اقتحام أسوار الدرعية وطالت محاصرتها، وتمركز الإمام عبد الله بن سعود ورجاله مقاومين الحصار وسط الدرعية حتى نفدت المؤن والذخائر، وبات الخطر يهدد المدينة وأهلها، فقرر الإمام عبد الله بن سعود أن يخرج ويسلم نفسه شرط ألا يمس أحد من أهالي الدرعية بمكروه. وبالفعل سلّم الإمام نفسه لإبراهيم باشا وقواته، وكان معه في الأسر رفيقه ووزيره وكاتم أسراره ونيان بن نصر الحربي.

استراحة في بطن الوادي

وفي طريق نقلهم من نجد إلى الحجاز تمهيداً لترحيلهم إلى مصر مرّت قافلة الجيش التركي بمنطقة المطلاع، غرب منطقة القصيم بين جبال مشهورة أبان الأحمر وأبان الأسمر، فتوقفت قافلة الجيش للاستراحة في بطن الوادي، فألمح ونيان للإمام عبد الله بن سعود بالهروب من الأسر. وقال وكأنه يحدث الإمام عبد الله ورفقته أحاديث السفر المعتادة:

«يا إخواني، قبل سنوات كنت ماراً بأبان الأحمر، هذا الذي عن يسارنا فرأيت قطيعاً من الوعول، فأطلقت نار بندقيتي على أحدها فجرحته جرحاً بليغاً بدليل أثر الدماء التي رأيتها على الأرض فتبعته، ولكنه لجأ إلى أبان الأحمر. دخلت الجبل خلفه، فدهشت لسعته، وصعوبة مداخله، ومنعة من يلتجئ إليه، ولم أستطع الاهتداء إلى الوعل الجريح بعدما دخل في شعاب أبان». وكان بذلك يوحي بفكرة الالتجاء إلى جبل أبان الأحمر والإمام لم ينتبه لذلك، فيما ونيان لا يستطيع أن يفصح عن قصده؛ خوفاً من الحراس والجنود المرافقين.

ولما ابتعد الموكب عن الجبل بحيث لم يعد ممكناً للإمام عبد الله بن سعود اللجوء إليه، ذكر ونيان ما كان يرمي إليه من قصة الوعل الجريح، وقال الإمام مخاطباً حاشيته: «فاتت يا ونيان!»، فأصبح ذلك قولاً مأثوراً لدى أهل نجد.

واستكمالاً لسيرة ونيان، فقد عاد وانضم تحت لواء الإمام تركي بن عبد الله ومن بعده الإمام فيصل بن تركي طيلة قيام الدولة السعودية الثانية. واستقرت أسرة آل ونيان من أحفاد ونيان بن نصر الحربي في بلدة العويند التي منحت لجدهم ونيان من الإمام فيصل بن تركي، وأيد ذلك جلالة الملك عبد العزيز بوثيقة أكد فيها ما أمضاه ومنحه الإمام فيصل بن تركي، وحدّد حدود المنح، وذلك في شهر رجب عام 1363ه.

يُشار إلى أن جبل «أبان» بشقيه الأحمر والأسمر الذي شهد قصة المثل ذكره الشعراء الأقدمون، ومنهم امرؤ القيس، فكان أول من قال الشعر عن العرب:

كَأَنَّ أَبَانًا فِي أَفَانِينِ وَدْقِهِ

كَبِيْـرُ أُنَاسٍ فِي بِجَـادٍ مُزَمَّـلِ

كما ذكره الشاعر لبيد بن ربيعة في قوله:

دَرَسَ المَنا بِمُتالِعٍ فَأَبانِ

وَتَقادَمَت بِالحُبسِ فَالسوبانِ

ولم يكن رأس الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى عبد الله بن سعود مطلوباً في حصار الدرعية فحسب، بل في كل معركة من المعارك الكثيرة التي واقعهم فيها بمناطق مختلفة من الجزيرة العربية، وفي ظروف بيئية واقتصادية بالغة الصعوبة. وعلى تباعد مناطق الصراع وتعددها، أظهر السعوديون قوة وبسالة في الدفاع عن الأرض، وطرد الغازي شر طردة.

أحد أعيان الجزيرة في الدولة السعودية الأولى (الشرق الأوسط)

وقائع حرب وصلح وخيانات

وفي تاريخه الحولي «تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد» لمؤلفه إبراهيم بن صالح بن عيسى، ذكر في إشارات متناثرة في كتابه عن وقائع بين الجيش السعودي في عهد الإمام عبد الله بن سعود، الذي نحن في صدد الحديث عنه وبين عساكر الأتراك ومن ولاهم، يقول ابن عيسى: «وفي سنة 1230هـ، أي بعد عام - من تولي عبد الله بن سعود مقاليد الحكم بوصفه الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى بعد وفاة والده الإمام الثالث سعود بن عبد العزيز بن محمد - قدم أحمد طوسون بن محمد علي بالعساكر العظيمة ونزل الرس والخبرا، وكان عبد الله بن سعود إذ ذاك في المذنب، فلما علم بذلك رحل من المذنب ونزل بلد عنيزة، وأميرها إذ ذاك من جهة عبد الله بن سعود نزل الحجناوي، وهي مزارع لأهل بلدة الرس تقع شرقها، وأقام عليها نحو عشرين يوماً يصابر عساكر الترك، ويقع بينهم مقاتلات ومجاولات من بعيد، ثم إن الصلح وقع بين أحمد طوسون وأحمد بن نابرت وبين عبد الله بن سعود على وضع الحرب، وأن عساكر الترك يرفعون أيديهم عن نجد، ويرفع عبد الله بن سعود يده عن الحرمين ولك منه يحج آمناً، وكتبوا بذلك سجلات فرحل أحمد طوسون ومن معه من العساكر غرة شعبان من هذه السنة (1230هـ)، وتوجهوا إلى المدينة المنورة».

كما أشار ابن عيسى إلى وقائع عام 1231هـ التي تمت بين الطرفين، وتم فيها الصلح، وانتقض بينهما لوجود خيانات وعدم امتثال الأتراك للصلح، مضيفاً في سياق آخر أن إبراهيم باشا نزل ببعض المدن في نجد ليصل ضرما، فحاربه أهلها فأخذها عنوة، وقتل من أهلها نحو 1300 رجل ونهب البلاد وأخلاها من أهلها، ثم ارتحل منها إلى الدرعية ونزلها في الثالث من جمادى الأولى من السنة المذكورة (1231هـ)، وجرى بينه وبين أهلها عدة وقعات.

وحاصل الأمر - والكلام لإبراهيم بن عيسى - أنه وقع الصلح بينه وبين أهل الدرعية على أن عبد الله بن سعود يخرج إليه ويرسله إلى السلطان، فيحسن إليه أو يسيء، فخرج عليه عبد الله بن سعود على ذلك. وذلك في تاسع ذي القعدة من السنة المذكورة، ولما كان بعد المصالحة بيومين، أمر الباشا عبد الله بالتجهز بالمسير إلى السلطان، فتجهز ثم أرسله مع رشوان أغا والدويدار، ومعهم عدد كثير من العسكر، فساروا به إلى مصر ثم إلى اصطنبول (كتبت هكذا)، وقتل هناك رحمه الله تعالى. وكانت هذه السنة كثيرة الاضطراب من نهب الأموال وسفك الدماء، وقد أرّخها محمد بن علي الفاخري المتوفى عام 1277هـ، وله رسالة دوّن فيها بعض حوادث نجد، نقل ابن عيسى أغلب ما فيها إن لم يكن كلها.

ويضيف ابن عيسى «ثم دخلت سنة 1234هـ، وإبراهيم باشا في الدرعية، ثم أمر أهلها أن يرتحلوا منها فرتحلوا منها، فأمر بهدمها وقطع أشجارها فهدموها وأشعلوا فيها النيران وتركوها خاوية، وتفرّق أهلها في البلدان، فلما فرغ إبراهيم باشا من هدم الدرعية رحل عنها، وترك في ثرمدا خليل أغا ومعه الكثير من العسكر وقصد المدينة المنورة. وأمر بنقل آل سعود وآل الشيخ بأولادهم ونسائهم إلى مصر، فنقلوا إليها. فلما وصل إلى القصيم أخذ معه حجيلان بن حمد، رئيس بلد بريدة، وسار به إلى المدينة المنورة».

معابر «حافة العالم»

وتقع بلدة العويند في أحضان سفح جبل طويق من الناحية الغربية، وكانت في الماضي قبل فتح الطرق المعبدة همزة الوصل بين اليمامة والبطين عبر طريق الحيسية المسماة سبع الملاف، التي يعبرها المسافرون بين الرياض والحجاز، وكان المغفور له جلالة الملك عبد العزيز يسلك هذه الطريق في رحلاته بين الرياض والحجاز، ويمكث في العويند للراحة، وأحياناً يقيم في العويند لعدة أيام في الرحلات الماطرة.

«وتُمثل بلدة العويند مكانة مهمة لاحتوائها على بعض المواقع الأثرية، منها الموقع المسمى حجيلا، الذي يعود إلى يحيى بن أبي طالب، والذي ذكره في قصيدته قبل وفاته في العراق في العصر العباسي، بالإضافة إلى المعابر الجبلية مثل معبر فهرين المسمى حالياً حافة العالم، ومعبر حجهور، ومعبر أبا الغبطان، التي يُذكر أن خالد بن الوليد قد سلكها أثناء حروب الردة».


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».