الحفيد السابع لكبير بنائي قصور الدرعية يشرح سمات مؤسس السعودية

يوسف بن حزيم لـ«الشرق الأوسط»: تحولات سياسية وثقافية استدعت ولادة دولة مركزية في المملكة

أحد القلاع والحصون التي استخدمت لحماية المدن والقرى (الشرق الأوسط)
أحد القلاع والحصون التي استخدمت لحماية المدن والقرى (الشرق الأوسط)
TT

الحفيد السابع لكبير بنائي قصور الدرعية يشرح سمات مؤسس السعودية

أحد القلاع والحصون التي استخدمت لحماية المدن والقرى (الشرق الأوسط)
أحد القلاع والحصون التي استخدمت لحماية المدن والقرى (الشرق الأوسط)

أكد باحث سعودي في التاريخ وتحديداً تاريخ الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى التي انطلقت منها أكبر دولة مركزية في الجزيرة العربية أن أحد عوامل صناعة القادة الأبطال بعد نظرية «السمات الشخصية ونداء الزمان»، هو «ظرف المكان»، وما حدث فيه من تحولات جيوسياسية وأنثروبولوجية تستدعي ولادة دولة مركزية. فقد سئم الناس من غياب سلطة القانون والتناحر المحلي وفقدان الأمن والاقتصاد ناهيك عن التغير السوسيولوجي الكبير تدريجياً حتى قيام دولة.

وأوضح الدكتور يوسف بن عثمان بن حزيم في حوار مع «الشرق الأوسط»، بمناسبة يوم التأسيس، أن عهد الإمام محمد بن سعود لم يكن عهداً سياسياً ودينياً فحسب وإنما هو ميلاد أمة على يد آباء مؤسسين سيدوم عقدهم الاجتماعي ثلاثمائة عام ولا يزال. وهذا ما يسمى بالتحولات الكبرى في التاريخ بعدما أثّر هذا الانقلاب في الاجتماع السياسي على مجمل العالم الإسلامي وبلغ ذروته في دوره الثالث مع الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، ثم عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وعنوانه الكبير: التجديد وإعادة البناء.

جدير بالذكر أن الباحث الدكتور يوسف بن حزيم هو الحفيد السابع لكبير بنائي قصور الطريف محمد الحزيمي الذي كان أحد وجهاء الدرعية ثم أخرجوا منها إلى منفوحة بعد جسارتهم وبلائهم في الدفاع عنها عام 1234هـ بعد الغزو البربري التركي.

خارطة الطريف وتبدو فيها المعالم الرئيسية للمنطقة (الشرق الأوسط)

ولدى سؤاله عن كيفية تمكن الإمام محمد بن سعود من تأسيس هذا الكيان الكبير الذي أصبح اليوم لاعباً مؤثراً في العالم، قال الدكتور بن حزيم «إن الإمام محمد بن سعود وعشيرة آل سعود هم نتاج روح الجماعة التي سكنت وادي حنيفة منذ عام 850هـ/1446م مع عودة الجد مانع، ومن تلك الروح القيادة والتأثير والجسارة والحكم خلال 600 عام». وأضاف «بل تجد أن فرعاً منهم، آل وطبان، خرجوا منفيين بعد تولي الأمير محمد بن سعود الإمارة عام 1139هـ إلى بلد الزبير بالعراق. ثم نجدهم يحكمون ناهيك عن تمددهم الدائم في جزيرة العرب حتى أصبحوا حجر أساس فيها».

وبحسب جوستاف لوبون فإن الجماعات بالمعنى المتعارف عليه هي لفيف من القوم مطلقاً وإن اختلفوا جنساً وحرفة ذكوراً كانوا أو إناثاً وعلى أي نحو اجتمعوا. أما في علم النفس، فلها معنى آخر، ففي بعض الظروف يتولد في جمع من الناس صفات تخالف كثيراً صفة الأفراد، حيث تختفي الذات الشاعرة وتتوجه مشاعر الأفراد نحو صوب واحد؛ فتتولد من ذلك روح عامة.

وبحسب بن حزيم، فإن حركاتنا المقصودة لنا أو الشعورية هي مجموع أسباب لا شعورية متولدة على الأخص من تأثير الوراثة فينا، وهذا المجموع يشتمل على بقايا الآباء والأجداد التي لا يحصيها العد، ومنها تتألف روح الشعب أو الأمة التي نحن منها.

القائد يصنع ظرفه

وحول ما إذا كان الزمان والجغرافيا هما ما يستدعيان القائد، أم أن ثمة عوامل محددة صنعت البطل الإمام المؤسس محمد بن سعود قال بن حزيم «في دراسات علم الإدارة والقيادة يُطرح سؤال حول المتسبب في ظهور البطل القائد. هل هي سماته الشخصية؟ أم غير ذلك؟ لو أن الأمر كذلك، لما حُرمت شخصيات قيادية مرت علينا من تسلم القيادة والمناصب والتأثير. إنما لم تكن ساعتهم أو قل، زمنهم».

وبحسب بن حزيم يذهب آخرون إلى القول بأن القائد يصنع ظرفه بغضِّ النظر عن زمنه أو أن ظرف الزمان تأثيره محدود، وما نحن بصدده في هذا البحث: هل ظهور وبروز الإمام محمد بن سعود كان سببه سماته الشخصية أم زمنه الذي استدعاه.

صورة لأحد الأسواق القديمة (الشرق الأوسط)

يقول المفكر السعودي تركي الحمد «مفكرون مثل توماس كارليل - ولعل عباس محمود العقاد من أبرز أتباع مدرسته في عالمنا العربي - يرون أن التاريخ لا يمكن أن يكون ما كان لولا العظماء من الأفراد. فالبطل، أو الفرد الفذ، عند كارليل، هو المسيّر الأوصى للتاريخ وما كان للإنسان أن ينجز ما أنجزه في التاريخ لولا هؤلاء الأفذاذ الأبطال».

ثم يقول «عند مفكرين آخرين، مثل كارل ماركس - ولعل حسين مروة والطيب تيزيني من أبرز ممثلي تياره في عالمنا العربي - نجد توجهاً مختلفاً تماماً، فالفرد هنا لا قيمة له في التاريخ. فالقوى التي تُسيّر التاريخ ليست الفرد والأبطال، بقدر ما هي قوانين وآليات تاريخية موضوعية وإن كانت مادية الجوهر تسيّر الأفراد والمجتمعات ولا تتأثر في النهاية بحياة الأفراد أو بوجود هذا البطل من عدمه».

ويرى بن حزيم أنه بين هذين التيارين المبجل للفرد من ناحية والمُهمّش له من ناحية أخرى نجد تياراً يمكن القول إنه يمثّل الوسط والوسطية في هذا المجال كمثل جورج فيلهلم هيفل - ولعل الدكتور إمام عبد الفتاح إمام من أبرز ممثلي فلسفته في العالم العربي - . فالفرد هنا فاعل في التاريخ وغير فاعل في الوقت ذاته ولا تناقض بين القولين والظروف هي التي تصنع البطل ولكنه أيضاً يصنع الظروف.

ظرف المكان وصناعة القائد

العامل الثالث من عوامل صناعة القادة الأبطال بعد نظرية السمات الشخصية ونداء الزمان، بحسب بن حزيم، هو ظرف المكان وما حدث فيه من تحولات جيوسياسية وأنثروبولوجية ثقافية تستدعي ولادة دولة مركزية بعدما سئم الناس من غياب سلطة القانون والتناحر المحلي وضياع وفقدان الأمن والاقتصاد ناهيك عن التغير السوسيولوجي والتحول الكبير نحو قيام الدولة.

أحد القلاع والحصون التي استخدمت لحماية المدن والقرى (الشرق الأوسط)

ويقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: «بعد ظهور الدولة الأموية وانتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد في عهد الدولة العباسية، دخلت الجزيرة العربية عصراً مختلفاً عن عصرها الزاهي الأول؛ حيث انتشرت فيها الفوضى، وغابت الدولة، وظهرت إمارات متعددة اشتغلت بقتال بعضها بعضاً، وأصبح الحاج لا يأمن على نفسه في طريقه لأداء ركن مهم من أركان الإسلام. وعاشت الجزيرة العربية قروناً من قرون الظلام أصبحت بعيدة عن الأحداث التاريخية في عصرها الحديث، ولم تعد مركزاً للاهتمام والعناية، سوى القدوم إليها للحج أو زيارة الأماكن المقدسة مع المخاطر الشديدة. وأصبح قلب الجزيرة العربية منعزلاً عن العالم من حوله، منقسماً إلى إمارات متناحرة يعيش في غالبه حياةً ملأى بالخرافة وانعدام الوحدة التي عاشتها الجزيرة العربية في أيام الدولة الإسلامية الأولى، وأصبحت كل بلدة يحكمها فرد ينازعه آخر، وأصبحت القبيلة في حروب ضد الأخرى، وغابت الولاية وانعدم الأمن، لقد أصبح في كل إقليم دولة، وفي كل قبيلة دولة، وداخل كل دولة من هذه دول متنافرة ومتناحرة، بسبب غياب الدولة المركزية القائمة على راية الدين كما حدث في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين».

التحولات الكبرى... القوة النافذة

وبالسؤال عن القوة النافذة التي تخلق التحولات كما فعل الإمام محمد بن سعود وأبناؤه وأحفاده والمؤسسون والملوك خلال مراحل الدولة الثلاث يقول بن حزيم: يمكن التأكيد على أن عهد الإمام محمد بن سعود لم يكن عهداً سياسياً ودينياً فحسب بل هو ميلاد أمة على يد آباء مؤسسين سيدوم عقدهم الاجتماعي بعدها ثلاثمائة عام ولا يزال. وهذا ما يسمى بالتحولات الكبرى في التاريخ بعدما أثّر هذا الانقلاب في الاجتماع السياسي على مجمل العالم الإسلامي وبلغ ذروته في دوره الثالث مع الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، ثم عهد الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، الذي عنوانه الكبير: التجديد وإعادة البناء.

وبحسب بن حزيم، فإن القوة النافذة هي التي تنبثق من فكرة فلسفية عقلانية دافعها مقتضى الحاجة أو الألم أو الأمل، فكيف إذا ترافقت بصبغة دينية لتشكل أيديولوجيا يعرّف فيها الإنسان والمجتمع والسلطة نفسه والآخر، ثم يضع رؤاه للمستقبل لتكوين مشروع استقرار وتنمية وازدهار.

وقال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: «ما قامت به الدولة السعودية أشار إليه المؤرخ الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون في رؤيته التاريخية العامة حين قال إن العرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم على الجملة، وهذا هو الذي تحقق حيث قامت الدولة السعودية على أساس هذه الصبغة وكان لها الأثر الكبير من حيث الأمن والاستقرار والازدهار».


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!