تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

TT

تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)
مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)

بين روايات التأسيس والتوحيد وحكايات البناء والتطوير روابط ووشائج، وتاريخ دولة متصل لأكثر من 300 عام فيه الكثير من الصفحات المضيئة والقصص الملهمة، ومن يغص في أعماقه وينقب في وثائقه ويستجلي أوضاعه، ويقرأه وفق سياقه التاريخي وظرفه الزماني والمكاني، يدرك أبعاد اتجاهاته السياسية وتحولاته الاجتماعية ونهضته الفكرية، وملاحمه التنموية بل وحتى رؤيته الممتدة. كيف لا وهو تاريخ دولة وسيرة أمة.

أمة غُيّب دورها فنهضت من كبوتها لاستعادة أمجادها، ودولة أعادت لجزيرة العرب اعتبارها ووصلت ما انقطع من تاريخها العربي، أشرقت شمسها ثم أفلت وتكرر ذلك مرتين في حالة نادرة؛ بل فريدة.

من هنا أطلق المؤرخون المعاصرون على الحقب أو الأدوار الثلاثة للدولة السعودية مصطلحات «الأولى والثانية والثالثة» وتداولوها بوصفها حقباً تاريخية مع أنها لم تكن أسماءً رسمية، وبمحاولة تتبع متى بدأ استخدام هذا التقسيم يتبين أنه حديث نسبياً (في عهد الملك فيصل) وأن أول من استخدمه القانوني والمؤرخ الدكتور منير العجلاني. وإن كان ذلك يتطلب مزيداً من التدقيق والبحث، لكن سبق وأن استخدم مصطلح (الدور الأول) و(الدور الثاني) في عهد الملك عبد العزيز عند مؤرخين مثل أمين الريحاني وفؤاد حمزة.

مراحل بناء الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن سنوات ضعف أو غياب الدولة؟ لأنها هي سبب هذا التقسيم المنطقي من الناحية التاريخية، مع أنني أراها سنوات الربط بين الأدوار. ولا بد - قبل ذلك - من إدراك «حجم الرصيد التاريخي الذي أسسته الدولة (الأولى)» والذي استفادت منه «الثانية» و«الثالثة» وبنتا عليه. من هنا تأتي أهمية استذكار تاريخ الدولة السعودية بكل مراحله وتحولاته، واستحضار إرثه العريق ورصيده الكبير وجذوره الراسخة في ذكرى يوم التأسيس، وإلقاء مزيد من الضوء على جوانب لم تستوف حقها من ذلك التاريخ العريق.

مبادئ الدور الأول من الدولة السعودية

يرى الكاتب والباحث السياسي جبران شامية أن مشروع الدولة النهضوي في دورها الأول تضمن مبادئ لا يمكن تجاهلها، منها «الاهتمام بالعلم والمعرفة بالمعنيين الديني والدنيوي، والإصلاح القضائي وتوفير الأمن، وكسر التقليد وإعلان حق العقل في فهم النصوص، وتقييد القرار والإدارة السياسية بالأصول الدستورية، والإصلاح التربوي والاجتماعي، والكفاح من أجل الوحدة أو الاتحاد وتجاوز الإقليمية وتوسيع الاتصال بالعالم الخارجي».

ويوجز شامية حديثه عن «الدولة السعودية الأولى» فيما يلي من نقاط:

أولاً، إنها «كانت دولة عربية إسلامية ونداً عربياً قوياً على مستوى الحكم للشعوبية التركية وغيرها. وثانياً أنها نشأت في ظروف عالمية وعربية ومحلية شديدة التعقيد، وصمدت في وجه حملات القمع والتخذيل. ثالثاً أنها قدمت صورة جديدة بالنسبة للقرون الماضية من صور الحكم الإسلامي، ونمطاً متقدماً من أنماط الحكم السعودي في الجزيرة العربية. ورابعاً أنها تركت بصماتها الواضحة في التطورات العقلية والاجتماعية التي حدثت في جزيرة العرب من بعد، كما تركت آثارها العميقة في محيطها الأقرب (الخليج العربي)، ودائرتها المحيطة (الوطن العربي)، ومجالها العريض (العالم الإسلامي)».

ويؤيد ذلك السير هارفرد جونز بريدجز المقيم السياسي في بغداد (1798 - 1806م) بقوله: «إن النظام الذي سارت عليه الدولة السعودية هو نظام حر بكل ما في الكلمة من معنى. وأن العدل والأمن والانضباط كان أهم عناصر التحول التي أدخلتها تلك الدولة في حياة عرب الصحراء». ويقارب ذلك أستاذ التاريخ الدكتور عبد الكريم الغرايبة بقوله: لقد نجح آل سعود بنقل عرب الجزيرة نحو المدنية، «الأمر الذي لم يحققه أي نظام حكم في التاريخ، واستتب الأمن والنظام والوحدة في بلاد لم تعرف هذه الأمور من قبل».

 

أفراد من المجتمع السعودي بأزيائهم المختلفة (الشرق الأوسط)

وهذه التوطئة مهمة لفهم أسباب استمرارية الدولة رغم محاولات إنهائها وتدمير عاصمتها ومحو تراثها والتنكيل بأبنائها، والمفارقة الكبرى أننا أمام حالة نادرة في التاريخ فيما يتعلق باستمرار الدولة السعودية حضوراً وغياباً. فعمر الدولة منذ تولي الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية 297 عاماً ومجموع سنوات ضعفها أو غيابها لا يتجاوز 17 عاماً على أعلى التقديرات، أي بنسبة أقل من 6 في المائة من إجمالي عمر الدولة، وتلك السنوات وإن كانت غياب الحكم على الأرض، فإنها كانت سنوات الاستعداد لاسترداد الحكم وحضور رمزية الدولة مع حكامها الشرعيين بغض النظر عن مكانهم. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرويشد:

«كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية ولا يتخلون عنها»، وأورد عدة قصص عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي أر بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون، وكتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)».

سنوات الضعف

وفي سنوات ضعف الدولة (وأؤكد هنا على كلمة ضعف لأنني أرى أن الشرعية لم تسقط)، كان غياب آل سعود قسرياً لكن دورهم كان حاضراً ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع، وقد يكون هذا ما قصده أستاذ التاريخ الدكتور عبد الفتاح أبو علية بقوله إن «المفهوم الزمني للدور (السعودي) أوسع وأعم من مفهوم الدولة الزمني».

وإذا كانت أسباب غياب الدولة مفهومة، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل لماذا عادت الدولة؟

يجيب الدكتور أبو علية: «مع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهومية السياسية، فإنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظلت أفكار دعوتها ماثلة في أذهان الناس، وظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية». كذلك يرى الدكتور الغرايبة: «إن الدرعية انتصرت بانتحارها المشرف لا بجيوشها»، وأن «تضحياتها لم تذهب عبثاً... فلولا البطولات التي أبداها آل سعود دفاعاً عن بلدهم، ولولا سمو الفكرة التي دعوا إليها»، لما استطاع عبد العزيز آل سعود أن يؤسس ملكه في القرن العشرين».

وفي سنوات ضعفها وغيبتها لم تكن الدولة حاضرة في ذهن قادتها فحسب، بل أيضاً في وجدان الناس. ومن جميل ما مر علي في هذا الباب، ما سمعته من أستاذ التاريخ السعودي الدكتور عبداللطيف الحميد: «أن عدداً من تجار نجد وأغنيائها كانوا يحملون زكاتهم للكويت أثناء إقامة الإمام عبد الرحمن فيها ويدفعونها له، بصفته الحاكم الشرعي». ولعل ذلك هو ما دفع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان إلى القول، بعد تدمير الدرعية:

«مع أن أسرة سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد». ويواصل مانجان توقعاته عن عودة الحكام الشرعيين: «وإذا كان الرعب الذي تنشره اليوم جيوش محمد علي يضمن خضوع المهزومين، فإنه مما لا شك فيه أنهم بعد موت ذلك الأمير سيستفيدون من الحماسة الحربية التي هي الميزة الطبيعية لكل الأجيال الجديدة لاستعادة مملكة كانوا يستطيعون الدفاع عنها أمداً طويلاً».

لم تخب توقعات مانجان، فاسترد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الحكم الذي أسسه جده الإمام محمد بن سعود بعد مدة قصيرة من ذلك التنبؤ، كما استرده عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بعد ذلك، فالأس الخصب الذي أشار إليه مانجان تَفَتَحَ من جديد. لكن مملكة عبد العزيز أتت متفوقة بتجاوزها الإمارة والسلطنة، وحكمه كان مختلفاً. فلم يركن إلى الإرث والرصيد التاريخي لأجداده فقط وإنما قرأ التاريخ أيضاً، ووعى مساره واستوعب دروسه واستفاد من تجارب أسلافه فبنى هياكل دولته وطور أدواتها وممارساتها تماشياً مع مقتضيات عصره، مع المحافظة على أصالتها وركائزها. والأهم يبقى أنه أسس مدرسته الفريدة في الحكم والسياسة التي تلقى فيها أبناؤه الملوك مهارات الحكم وفنون السياسة، ناهيك عن كونهم امتداد لبيت ملك عريق ينتمي لأرض الجزيرة العربية، يؤمن بمبادئها ويعرف قيمها وشمائلها وحاجات إنسانها، ويستحضر كل منهم فلسفة عبد العزيز التي كانت مختلفة فعدلّت أبيات المتوكل الليثي:

لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا

«نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا»، هكذا قال مخاطباً الأديب المهجري أمين الريحاني الذي يلخص اختلاف عبد العزيز عن سابقيه:

«الحق يقال إن السلطان عبد العزيز آل سعود استعاد في دوره الأول، دور الفتوحات، ملك أجداده، وعزز هذا الملك بالعدل والأمن، وبالدين الذي هو في نجد مصدر الاثنين، فلا يخطئ ولا يموه إذا قال: نبني كما كانت تبني أوائلنا، ولكنه في تحضيره البدو، وفي تأسيس الجديد من المدن والقرى التي تدعى الهجر، وفي استخدامه من يحسن الخدمة مهما كان مذهبه، وفي إعطاء امتياز (الأحساء) لشركة أجنبية، وفي إرساله فتياناً من نجد إلى مصر ليتلقنوا فيها العلوم الحديثة، وفي استحضاره إلى الرياض السيارات وبعض الأطباء والمهندسين؛ في كل هذا ما يثبت قوله إنه يفعل فوق ما فعل أجداده ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائماً عن هذه الخطة. إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية التي لا تمس الدين. وهو، وإن قيل إنه شديد التعصب لمذهبه، يحسن المداراة فيتجاهل فيما لا يضر، ويتساهل فيما هو مفيد لبلاده. قد يفوه أحد العلماء أحياناً بكلمة فيها بعض ما يكنه من الوجد والأسى فيقول مثلاً: في أيام أجدادكم يا طويل العمر كانت الدنيا مستريحة من هذه المشاكل الجديدة كلها، فيسمع عبد العزيز ويبتسم ثم يسير في سبيله ليتم مقاصده. وقلما يكترث مما يشيعه عنه الأعداء وفيهم من الأدباء من يجهلون نجد الحديث. لذلك تضاربت الآراء في كثير من الشؤون التي تتعلق به وببلاده».

كتب الريحاني كلامه هذا عام 1924، أي قبل 100 عام بالتمام، ويظل كثير مما قاله ينطبق على واقعنا اليوم، ولا بد من التأكيد على نقطتين جوهريتين تتعلقان بمنجز الملك عبد العزيز لم تنل حقهما من الدراسة والإبراز: الأولى أنه أسس نهجاً دستورياً لانتقال الحكم في الدولة، والثانية أن التغيير الاجتماعي الذي أحدثه كان كبيراً بمقاييس عصره، وبالمقارنة مع التطورات الاجتماعية التي حدثت في الدور الأول للدولة السعودية.

أعراف متطورة

وسار أبناء عبد العزيز على نهجه مستحضرين فلسفته في التفوق، فأدى كل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية دوره وسلم الأمانة كاملة وأفضل مما تسلمها. وهذه مفارقة أخرى لا نراها في كثير من الدول، لذا علينا ألا ننسى أن المملكة العربية السعودية دولة عريقة لكنها ليست جامدة؛ بل مُجددة ومتجددة، طورت عبر قرون تاريخها وعقود دولتها الحديثة كماً من الأعراف والتقاليد الملكية، التي تتميز بها الأنظمة ذات الجذور الراسخة، واستفادت من كل ما هو جديد ومفيد، متكئة على إرثها العظيم ورصيدها التاريخي الكبير. وهي تتميز الآن بتوجهات تجديدية وإبداعية تكرس تقاليدها الملكية وتزيد عليها أو تعيد تقديم بعضها بما يتناسب وتوجهات العصر.

ولا أدل على ذلك من النهضة الكبرى التي تعيشها اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبإشراف ومتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما أن التحولات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع السعودي الآن تفوق أي تحول سابق. لذا أرى أن محاولة فصل هذه الإنجازات عن أبعادها التاريخية، تعد تجاوزاً لطبيعة هذه المآثر الملكية العريقة والمتصلة لثلاثة قرون، ولتاريخها الممتد لستة قرون، والذي يحتفل السعوديون بأحد إنجازاتها الفريدة وأيامها المجيدة، يوم التأسيس.

وعن مراجعة تقسيمات تاريخ الدولة التي أرى أنها وضعت لاستيعاب حقب التاريخ، فأدت ببعض المؤرخين المتأخرين أن يجعلوه تاريخ ثلاث دول بينما هو تاريخ متصل لدولة واحدة مرت بأدوار وعهود عدة وظلت مستمرة على مبادئها التي أسست عليها رغم كل ما مرّ بها.


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.