تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

TT

تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)
مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)

بين روايات التأسيس والتوحيد وحكايات البناء والتطوير روابط ووشائج، وتاريخ دولة متصل لأكثر من 300 عام فيه الكثير من الصفحات المضيئة والقصص الملهمة، ومن يغص في أعماقه وينقب في وثائقه ويستجلي أوضاعه، ويقرأه وفق سياقه التاريخي وظرفه الزماني والمكاني، يدرك أبعاد اتجاهاته السياسية وتحولاته الاجتماعية ونهضته الفكرية، وملاحمه التنموية بل وحتى رؤيته الممتدة. كيف لا وهو تاريخ دولة وسيرة أمة.

أمة غُيّب دورها فنهضت من كبوتها لاستعادة أمجادها، ودولة أعادت لجزيرة العرب اعتبارها ووصلت ما انقطع من تاريخها العربي، أشرقت شمسها ثم أفلت وتكرر ذلك مرتين في حالة نادرة؛ بل فريدة.

من هنا أطلق المؤرخون المعاصرون على الحقب أو الأدوار الثلاثة للدولة السعودية مصطلحات «الأولى والثانية والثالثة» وتداولوها بوصفها حقباً تاريخية مع أنها لم تكن أسماءً رسمية، وبمحاولة تتبع متى بدأ استخدام هذا التقسيم يتبين أنه حديث نسبياً (في عهد الملك فيصل) وأن أول من استخدمه القانوني والمؤرخ الدكتور منير العجلاني. وإن كان ذلك يتطلب مزيداً من التدقيق والبحث، لكن سبق وأن استخدم مصطلح (الدور الأول) و(الدور الثاني) في عهد الملك عبد العزيز عند مؤرخين مثل أمين الريحاني وفؤاد حمزة.

مراحل بناء الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن سنوات ضعف أو غياب الدولة؟ لأنها هي سبب هذا التقسيم المنطقي من الناحية التاريخية، مع أنني أراها سنوات الربط بين الأدوار. ولا بد - قبل ذلك - من إدراك «حجم الرصيد التاريخي الذي أسسته الدولة (الأولى)» والذي استفادت منه «الثانية» و«الثالثة» وبنتا عليه. من هنا تأتي أهمية استذكار تاريخ الدولة السعودية بكل مراحله وتحولاته، واستحضار إرثه العريق ورصيده الكبير وجذوره الراسخة في ذكرى يوم التأسيس، وإلقاء مزيد من الضوء على جوانب لم تستوف حقها من ذلك التاريخ العريق.

مبادئ الدور الأول من الدولة السعودية

يرى الكاتب والباحث السياسي جبران شامية أن مشروع الدولة النهضوي في دورها الأول تضمن مبادئ لا يمكن تجاهلها، منها «الاهتمام بالعلم والمعرفة بالمعنيين الديني والدنيوي، والإصلاح القضائي وتوفير الأمن، وكسر التقليد وإعلان حق العقل في فهم النصوص، وتقييد القرار والإدارة السياسية بالأصول الدستورية، والإصلاح التربوي والاجتماعي، والكفاح من أجل الوحدة أو الاتحاد وتجاوز الإقليمية وتوسيع الاتصال بالعالم الخارجي».

ويوجز شامية حديثه عن «الدولة السعودية الأولى» فيما يلي من نقاط:

أولاً، إنها «كانت دولة عربية إسلامية ونداً عربياً قوياً على مستوى الحكم للشعوبية التركية وغيرها. وثانياً أنها نشأت في ظروف عالمية وعربية ومحلية شديدة التعقيد، وصمدت في وجه حملات القمع والتخذيل. ثالثاً أنها قدمت صورة جديدة بالنسبة للقرون الماضية من صور الحكم الإسلامي، ونمطاً متقدماً من أنماط الحكم السعودي في الجزيرة العربية. ورابعاً أنها تركت بصماتها الواضحة في التطورات العقلية والاجتماعية التي حدثت في جزيرة العرب من بعد، كما تركت آثارها العميقة في محيطها الأقرب (الخليج العربي)، ودائرتها المحيطة (الوطن العربي)، ومجالها العريض (العالم الإسلامي)».

ويؤيد ذلك السير هارفرد جونز بريدجز المقيم السياسي في بغداد (1798 - 1806م) بقوله: «إن النظام الذي سارت عليه الدولة السعودية هو نظام حر بكل ما في الكلمة من معنى. وأن العدل والأمن والانضباط كان أهم عناصر التحول التي أدخلتها تلك الدولة في حياة عرب الصحراء». ويقارب ذلك أستاذ التاريخ الدكتور عبد الكريم الغرايبة بقوله: لقد نجح آل سعود بنقل عرب الجزيرة نحو المدنية، «الأمر الذي لم يحققه أي نظام حكم في التاريخ، واستتب الأمن والنظام والوحدة في بلاد لم تعرف هذه الأمور من قبل».

 

أفراد من المجتمع السعودي بأزيائهم المختلفة (الشرق الأوسط)

وهذه التوطئة مهمة لفهم أسباب استمرارية الدولة رغم محاولات إنهائها وتدمير عاصمتها ومحو تراثها والتنكيل بأبنائها، والمفارقة الكبرى أننا أمام حالة نادرة في التاريخ فيما يتعلق باستمرار الدولة السعودية حضوراً وغياباً. فعمر الدولة منذ تولي الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية 297 عاماً ومجموع سنوات ضعفها أو غيابها لا يتجاوز 17 عاماً على أعلى التقديرات، أي بنسبة أقل من 6 في المائة من إجمالي عمر الدولة، وتلك السنوات وإن كانت غياب الحكم على الأرض، فإنها كانت سنوات الاستعداد لاسترداد الحكم وحضور رمزية الدولة مع حكامها الشرعيين بغض النظر عن مكانهم. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرويشد:

«كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية ولا يتخلون عنها»، وأورد عدة قصص عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي أر بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون، وكتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)».

سنوات الضعف

وفي سنوات ضعف الدولة (وأؤكد هنا على كلمة ضعف لأنني أرى أن الشرعية لم تسقط)، كان غياب آل سعود قسرياً لكن دورهم كان حاضراً ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع، وقد يكون هذا ما قصده أستاذ التاريخ الدكتور عبد الفتاح أبو علية بقوله إن «المفهوم الزمني للدور (السعودي) أوسع وأعم من مفهوم الدولة الزمني».

وإذا كانت أسباب غياب الدولة مفهومة، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل لماذا عادت الدولة؟

يجيب الدكتور أبو علية: «مع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهومية السياسية، فإنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظلت أفكار دعوتها ماثلة في أذهان الناس، وظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية». كذلك يرى الدكتور الغرايبة: «إن الدرعية انتصرت بانتحارها المشرف لا بجيوشها»، وأن «تضحياتها لم تذهب عبثاً... فلولا البطولات التي أبداها آل سعود دفاعاً عن بلدهم، ولولا سمو الفكرة التي دعوا إليها»، لما استطاع عبد العزيز آل سعود أن يؤسس ملكه في القرن العشرين».

وفي سنوات ضعفها وغيبتها لم تكن الدولة حاضرة في ذهن قادتها فحسب، بل أيضاً في وجدان الناس. ومن جميل ما مر علي في هذا الباب، ما سمعته من أستاذ التاريخ السعودي الدكتور عبداللطيف الحميد: «أن عدداً من تجار نجد وأغنيائها كانوا يحملون زكاتهم للكويت أثناء إقامة الإمام عبد الرحمن فيها ويدفعونها له، بصفته الحاكم الشرعي». ولعل ذلك هو ما دفع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان إلى القول، بعد تدمير الدرعية:

«مع أن أسرة سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد». ويواصل مانجان توقعاته عن عودة الحكام الشرعيين: «وإذا كان الرعب الذي تنشره اليوم جيوش محمد علي يضمن خضوع المهزومين، فإنه مما لا شك فيه أنهم بعد موت ذلك الأمير سيستفيدون من الحماسة الحربية التي هي الميزة الطبيعية لكل الأجيال الجديدة لاستعادة مملكة كانوا يستطيعون الدفاع عنها أمداً طويلاً».

لم تخب توقعات مانجان، فاسترد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الحكم الذي أسسه جده الإمام محمد بن سعود بعد مدة قصيرة من ذلك التنبؤ، كما استرده عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بعد ذلك، فالأس الخصب الذي أشار إليه مانجان تَفَتَحَ من جديد. لكن مملكة عبد العزيز أتت متفوقة بتجاوزها الإمارة والسلطنة، وحكمه كان مختلفاً. فلم يركن إلى الإرث والرصيد التاريخي لأجداده فقط وإنما قرأ التاريخ أيضاً، ووعى مساره واستوعب دروسه واستفاد من تجارب أسلافه فبنى هياكل دولته وطور أدواتها وممارساتها تماشياً مع مقتضيات عصره، مع المحافظة على أصالتها وركائزها. والأهم يبقى أنه أسس مدرسته الفريدة في الحكم والسياسة التي تلقى فيها أبناؤه الملوك مهارات الحكم وفنون السياسة، ناهيك عن كونهم امتداد لبيت ملك عريق ينتمي لأرض الجزيرة العربية، يؤمن بمبادئها ويعرف قيمها وشمائلها وحاجات إنسانها، ويستحضر كل منهم فلسفة عبد العزيز التي كانت مختلفة فعدلّت أبيات المتوكل الليثي:

لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا

«نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا»، هكذا قال مخاطباً الأديب المهجري أمين الريحاني الذي يلخص اختلاف عبد العزيز عن سابقيه:

«الحق يقال إن السلطان عبد العزيز آل سعود استعاد في دوره الأول، دور الفتوحات، ملك أجداده، وعزز هذا الملك بالعدل والأمن، وبالدين الذي هو في نجد مصدر الاثنين، فلا يخطئ ولا يموه إذا قال: نبني كما كانت تبني أوائلنا، ولكنه في تحضيره البدو، وفي تأسيس الجديد من المدن والقرى التي تدعى الهجر، وفي استخدامه من يحسن الخدمة مهما كان مذهبه، وفي إعطاء امتياز (الأحساء) لشركة أجنبية، وفي إرساله فتياناً من نجد إلى مصر ليتلقنوا فيها العلوم الحديثة، وفي استحضاره إلى الرياض السيارات وبعض الأطباء والمهندسين؛ في كل هذا ما يثبت قوله إنه يفعل فوق ما فعل أجداده ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائماً عن هذه الخطة. إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية التي لا تمس الدين. وهو، وإن قيل إنه شديد التعصب لمذهبه، يحسن المداراة فيتجاهل فيما لا يضر، ويتساهل فيما هو مفيد لبلاده. قد يفوه أحد العلماء أحياناً بكلمة فيها بعض ما يكنه من الوجد والأسى فيقول مثلاً: في أيام أجدادكم يا طويل العمر كانت الدنيا مستريحة من هذه المشاكل الجديدة كلها، فيسمع عبد العزيز ويبتسم ثم يسير في سبيله ليتم مقاصده. وقلما يكترث مما يشيعه عنه الأعداء وفيهم من الأدباء من يجهلون نجد الحديث. لذلك تضاربت الآراء في كثير من الشؤون التي تتعلق به وببلاده».

كتب الريحاني كلامه هذا عام 1924، أي قبل 100 عام بالتمام، ويظل كثير مما قاله ينطبق على واقعنا اليوم، ولا بد من التأكيد على نقطتين جوهريتين تتعلقان بمنجز الملك عبد العزيز لم تنل حقهما من الدراسة والإبراز: الأولى أنه أسس نهجاً دستورياً لانتقال الحكم في الدولة، والثانية أن التغيير الاجتماعي الذي أحدثه كان كبيراً بمقاييس عصره، وبالمقارنة مع التطورات الاجتماعية التي حدثت في الدور الأول للدولة السعودية.

أعراف متطورة

وسار أبناء عبد العزيز على نهجه مستحضرين فلسفته في التفوق، فأدى كل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية دوره وسلم الأمانة كاملة وأفضل مما تسلمها. وهذه مفارقة أخرى لا نراها في كثير من الدول، لذا علينا ألا ننسى أن المملكة العربية السعودية دولة عريقة لكنها ليست جامدة؛ بل مُجددة ومتجددة، طورت عبر قرون تاريخها وعقود دولتها الحديثة كماً من الأعراف والتقاليد الملكية، التي تتميز بها الأنظمة ذات الجذور الراسخة، واستفادت من كل ما هو جديد ومفيد، متكئة على إرثها العظيم ورصيدها التاريخي الكبير. وهي تتميز الآن بتوجهات تجديدية وإبداعية تكرس تقاليدها الملكية وتزيد عليها أو تعيد تقديم بعضها بما يتناسب وتوجهات العصر.

ولا أدل على ذلك من النهضة الكبرى التي تعيشها اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبإشراف ومتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما أن التحولات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع السعودي الآن تفوق أي تحول سابق. لذا أرى أن محاولة فصل هذه الإنجازات عن أبعادها التاريخية، تعد تجاوزاً لطبيعة هذه المآثر الملكية العريقة والمتصلة لثلاثة قرون، ولتاريخها الممتد لستة قرون، والذي يحتفل السعوديون بأحد إنجازاتها الفريدة وأيامها المجيدة، يوم التأسيس.

وعن مراجعة تقسيمات تاريخ الدولة التي أرى أنها وضعت لاستيعاب حقب التاريخ، فأدت ببعض المؤرخين المتأخرين أن يجعلوه تاريخ ثلاث دول بينما هو تاريخ متصل لدولة واحدة مرت بأدوار وعهود عدة وظلت مستمرة على مبادئها التي أسست عليها رغم كل ما مرّ بها.


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

«المدرسة العالمية للاجئين»: بصيص أمل وسط الحروب والنزوح

TT

«المدرسة العالمية للاجئين»: بصيص أمل وسط الحروب والنزوح

تلامذة سوريون يلعبون خلال الاستراحة في باحة مدرستهم في مخيم للاجئين في أعزاز قرب الحدود التركية (غيتي)
تلامذة سوريون يلعبون خلال الاستراحة في باحة مدرستهم في مخيم للاجئين في أعزاز قرب الحدود التركية (غيتي)

وسط الكوارث الإنسانية الناجمة عن الحروب والنزاعات، لا يزال هناك أمل تعيده مبادرات إنسانية لمن فقدوه. من بين هذه المبادرات تبرز «المدرسة العالمية للاجئين» (World Refugees School)، التي أطلقها الأردني وليد تحبسم عام 2016، لتصبح نموذجاً ناجحاً في مجال تعليم اللاجئين؛ فهي لا تقتصر على محو الأمية، بل تسعى لتقديم تعليم شامل يتيح للاجئين استكمال مراحلهم التعليمية بشهادات معتمدة دولياً؛ ما يعيد الأمل لملايين الطلاب المحرومين من التعليم.

بداية الفكرة لقاء غير متوقع

كانت البداية مع لقاء جمع وليد تحبسم، وهو أحد رواد قطاع تقنية المعلومات في الأردن، مع متبرع أميركي في كاليفورنيا، أراد أن يساهم في تعليم اللاجئين السوريين بعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011. أراد المتبرع تمويل تعليم 25 طالباً فقط، لكن تحبسم رأى فرصة أكبر. فبدلاً من تعليم مجموعة صغيرة من الطلاب، طرح فكرة يمكن أن تشمل ملايين اللاجئين حول العالم.

يقول تحبسم: «كانت فكرة تقديم تعليم شامل وليست مجرد دورة تدريبية أو محو أمية. التعليم الرسمي هو السبيل لتغيير حياة اللاجئين وتحقيق أحلامهم في مستقبل أفضل».

وبحسب الدراسات التي أجرتها المجموعة، يصل متوسط فترة لجوء الفرد إلى 17 عاماً، بينما يحتاج اللاجئ إلى نحو 7 سنوات ليشعر بالاستقرار المؤقت. في هذه المدة، غالباً ما يخرِج الأطفال والشباب من النظام التعليمي الرسمي؛ ما يترك فجوة تعليمية تهدد مستقبلهم. هنا برزت الحاجة إلى نظام تعليمي يواكب طبيعة حياة اللاجئين المتنقلة ويوفر لهم فرصاً تعليمية مستدامة.

التلميذة السورية فاطمة الاحمد فقدت رجلها في قصف على إدلب وتقطع يومياً مسافة 3 كلم للوصول إلى التعليم (غيتي)

دعم سعودي ودولي

كان للدعم السعودي دور كبير في نجاح المبادرة، حيث ساهمت المملكة بمبادرات تعليمية أخرى، مثل نظام «نور» الذي يدير المنظومة التعليمية لخدمة أكثر من 6.5 مليون طالب في السعودية.

«الدعم السعودي لم يكن مادياً فقط، بل كان رؤية استراتيجية تركز على أهمية التعليم كونه أولوية إنسانية»، يقول تحبسم.

ويعيد تحبسم الفضل في ذلك إلى لقاء جمعه بالأمير فيصل بن عبد الله، قائلاً «كان الأثر الأكبر في التفكير كيف يمكن البناء على ما تم إنجازه في قطاع التعليم من خلال الشراكة الحقيقية ما بين القطاعين العام والخاص، حيث كانت قضية دعم اللاجئين حول العالم من أهم مخرجات هذا الاجتماع».

الأمير فيصل بن عبد الله

في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط» قال الأمير فيصل بن عبد الله، إنه «في ظل الظروف الصعبة التي يعاني منها أشقاؤنا اللاجئون في فلسطين وغيرها من الدول المنكوبة، لمواجهة الأزمات الإنسانية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، نجد أنه من المهم جداً دعم حق كل طفل في الحصول على تعليم آمن وجيد؛ كونه حجر الأساس لبناء مستقبل أفضل».

وأضاف الأمير أن مدرسة اللاجئين العالمية تمثل نموذجاً مُلهماً للدور الذي يمكن أن يلعبه التعليم في تخفيف معاناة الأطفال والشباب اللاجئين، وتجديد الأمل في نفوسهم.

وقال: «إن دعمنا هذه المدرسة ومبادراتها التعليمية هو واجب أخلاقي وإنساني نلتزم به لتعزيز فرص التعلم وتقديم يد العون لكل طفل يتطلع إلى مستقبل أفضل رغم التحديات».

وأضاف الأمير: «نؤمن بأن الاستثمار في التعليم ليس مجرد استجابة عاجلة للأزمات، بل هو استثمار طويل الأمد في تحقيق السلام والعدالة والتنمية المستدامة». ومن هذا المنطلق، دعا الأمير المجتمع الدولي والمؤسسات الإنسانية إلى الوقوف صفاً واحداً لدعم هذه الجهود وضمان حصول كل طفل لاجئ على حقه في التعليم.

وقال: «ستبقى الرسالة واضحة في عدم ادخار أي جهد في سبيل دعم اللاجئين أينما كانوا، خصوصاً في هذه الظروف العصيبة التي تتطلب من الجميع الوقوف بمسؤولية إنسانية تجاههم».

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

التعليم لمكافحة التطرف

يشدّد تحبسم على أهمية التعليم في الحد من الأفكار السلبية التي قد تنشأ في بيئات اللجوء، ويقول: «التعليم ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان عدم تحول الأطفال والشباب ضحايا للأفكار المتطرفة التي قد تملأ الفراغ في حياتهم».

وفي خضم الصراعات السياسية، غالباً ما يصبح اللاجئون ضحايا المصالح المتشابكة، لكن تحبسم يصرّ على أن التعليم يجب أن يظل بعيداً من التجاذبات السياسية، قائلاً: «هدفنا إنساني بحت، التعليم للجميع بغض النظر عن الخلفيات السياسية أو العرقية».

وتسعى «المدرسة العالمية للاجئين» إلى توسيع خدماتها لتشمل دولاً جديدة، في الشرق الأوسط وأفريقيا، كما تهدف إلى دعم الأنظمة التعليمية الرسمية في المناطق التي تعمل فيها، لتوفير تعليم مستدام للجميع.

لكن، على رغم الإنجازات الكبيرة، لا تزال المدرسة تواجه تحديات تمويلية كبيرة. ويقول تحبسم: «في ظل تركيز المنظمات الدولية على تقديم الطعام والمأوى، يبقى التعليم في مرتبة متأخرة. لكننا نؤمن بأنه الحل الجذري لبناء مستقبل أفضل».

وبالنسبة لوليد تحبسم وفريقه، فإن هذه المبادرة هي بمثابة الضوء في آخر النفق لملايين اللاجئين الذين ينتظرون فرصة لبناء حياة جديدة.

الطريق إلى الاعتراف الدولي

لم يكن الحصول على اعتماد دولي لشهادات «المدرسة العالمية للاجئين» أمراً سهلاً. استغرقت المبادرة ثلاث سنوات من البحث والتفاوض مع مؤسسات تعليمية مرموقة في بريطانيا. في النهاية، نجحت المدرسة في الحصول على الاعتمادية التي تمكّن طلابها من إكمال تعليمهم الجامعي في أي مكان في العالم.

«لم يكن الأمر سهلاً»، يقول تحبسم: «كنا في حاجة إلى إقناع الشركاء الدوليين بجدوى التعليم المدمج الذي يجمع بين التعليم الإلكتروني والحضوري. لكننا أثبتنا أن اللاجئين يستحقون فرصاً متساوية في التعليم».

طفل سوري متوجهاً إلى مدرسته في مخيم للاجئين في منطقة أعزاز قرب الحدود التركية (غيتي)

حلول مبتكرة لمناطق النزاع

قدمت «المدرسة العالمية للاجئين» حلاً عملياً يتمثل في وحدات تعليمية متنقلة (كرفانات) مزودة بالطاقة الشمسية، الإنترنت، ومرافق تعليمية كاملة. تم تصميم هذه الوحدات لتلبية احتياجات اللاجئين في المناطق النائية ومخيمات النزوح، مع ضمان تقديم تجربة تعليمية شبيهة بالتعليم النظامي.

«كان هدفنا توفير بيئة تعليمية مرنة تتكيف مع ظروف اللاجئين»، يقول تحبسم: «الوحدات المتنقلة ليست فقط مدارس، بل هي مراكز تعليمية تُعيد بناء الأمل في المجتمعات التي نخدمها».

الأرقام تتحدث

حتى اليوم، استفاد أكثر من 38 ألف طالب بشكل مباشر من خدمات المدرسة، وتخرج فيها 1800 طالب بشهادات معتمدة، بينما استفاد أكثر من 4.5 مليون شخص بشكل غير مباشر.

في محافظة إدلب السورية، نجحت المدرسة في تقديم التعليم لأكثر من 38 ألف طالب في ظروف غاية في الخطورة، حيث تم تخريج دفعات من الطلاب الذين حصلوا على شهادات معترف بها دولياً، وتم اعتماد البرنامج وشهاداته من قبل منظمة City & Guilds البريطانية.

و«المدرسة العالمية للاجئين» (World Refugees School) مدرسة عالمية تعنى بالتعليم الرسمي (Formal) المبني على مناهج دراسية عالمية ووطنية لجميع الفئات الطلابية المستهدفة، باستخدام التقنيات الرقمية في تعويض نقص الموارد التعليمية المتوفرة للطلبة اللاجئين والمهجرين، آخذين بعين الاهتمام الاختلاف في الموارد البشرية والمادية المتاحة لكل مجموعة منهم، وحقيقة تعرُّضهم للانتقال من دولة إلى أخرى، وبالتالي من نظام دراسي إلى آخر بشكل مستمر، إضافة إلى التعاون مع بعض أعرق المنظمات الدولية في اعتماد البرامج الدراسية، وتوفير اعتماد دولي لبرامجهم الدراسية وشهاداتهم.

ويتطلع القائمون على المبادرة إلى توظيف خبرات وتجارب «المدرسة العالمية للاجئين» (WRS) لتوصيل رسالة للأطفال الذين حرمتهم ويلات الحرب والدمار من نعمة التعليم والتعلم بإنشاء مبادرة خاصة لنشر رسالة «اقرأ» حول العالم انطلاقاً من غزة وانتهاءً بتأسيس وقف خيري يهدف إلى تعليم مليون طفل وطفلة محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية.