كرد سوريا يدرسون اللغة الأم دون اعتراف... وبأجندة سياسية

الكردية تغطي جميع المراحل التعليمية وفريق خبراء يحاول التخلص من «منهج التلقين»

الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)
الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)
TT

كرد سوريا يدرسون اللغة الأم دون اعتراف... وبأجندة سياسية

الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)
الطالبة مزكين دلو تمسك كتاب الرياضيات بعد ترجمته إلى لغتها الأم الكردية (الشرق الأوسط)

على منصة مرتفعة في ساحة إعدادية «شجرة الدر» للبنات في بلدة «الدرباسية» الحدودية مع تركيا، وقفت المديرة «ستيره أيو» لتردد الشعار اليومي بلغتها الكردية الأم: Roj baş (صباح الخير بالعربية)، ومن بعدها تردد الطالبات بصوت عال: Roj baş Mamoste (صباح الخير أستاذة)، إيذاناً ببدء الفصل الثاني من العام الدراسي الحالي.

من بين 1770 مدرسة، تُدرس هذه الإعدادية المنهاج الكردي منذ مطلع 2016 بعدما اعتمدت «الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق» سوريا الكردية بصفتها لغة رسمية إلى جانب العربية والسريانية، وطبقته تدريجياً على جميع المراحل التعليمية في مدن وبلدات الدرباسية وعامودا والقامشلي والمالكية والقحطانية وغيرها من مناطق الغالبية الكردية التابعة لمحافظة الحسكة، إضافة إلى عين العرب «كوباني» ومنبج، الواقعتين بريف حلب الشرقي، وبعض مدارس الرقة، شمال البلاد، التي يرتادها تلاميذ وطلبة من القومية الكردية.

تقول ستيره أيو، التي تشرف على نحو 400 طالبة في «شجرة الدر»، إن الطالبات يتعلمن اليوم ألف باء الكردية ونطقها السليم، ويدرسن العلوم المختلفة بهذه اللغة على نحو لم تكن هي نفسها تتمتع به خلال التسعينات، حينما كانت تتلقى الدروس بغير لغتها الأم.

«كنت أدرس باللغة العربية عند والدي الذي كان مدرساً قبل 3 عقود. كان من المحزن أن أتحدث معه بالعربية في المدرسة، ونعود إلى لغتنا الكردية في المنزل (...) في الحقيقة كنت أواجه صعوبة في فهم الدروس بغير لغتي الأم»، تقول ستيره.

اليوم في إعدادية «شجرة الدر»، تُلقى المحاضرات باللغة الكردية، وبين أيدي الطالبات كتب ومطبوعات بلغتهن الأم. تشعر ستيره بالغبطة وهي تصف مشهداً نادراً بالنسبة لها: «صرنا نتحدث الكردية في كل مكان».

المدرسة بيريفان حسين مدرسة اللغة الكردية تعطي دروسها بلغتها الأم (الشرق الأوسط)

لغة محظورة

على مدى عقود حُرم كرد سوريا، البالغ عدهم نحو مليوني ونصف نسمة، من القراءة والكتابة بلغتهم الأم، وبعد تولي نظام حزب «البعث» الحاكم السلطة بسوريا في سبعينات القرن الماضي بلغت ذروة سياساته العنصرية عندما منع الرئيس الراحل حافظ الأسد والد الرئيس الحالي بشار الأسد؛ الكرد من التحدث بلغتهم الأم في المدارس والدوائر الحكومية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

مع انسحاب القوات النظامية من أنحاء كثيرة من سوريا بداية عام 2014، توفرت للكرد فرصة لتشكيل إدارات ذاتية في 3 مناطق يشكلون فيها غالبية سكانية: الجزيرة السورية، عفرين، وعين العرب «كوباني» بريف حلب.

منذ ذلك الوقت، باتت المناهج في هذه المناطق منفصلة تماماً عن التعليم الحكومي في سوريا، إذ اعتمدت اللغة الكردية بشكل كامل في جميع الدروس، فيما يمكن للطالب المتخرج الالتحاق بكليات ومعاهد خاصة بالإدارة، وفقاً لرئيس هيئة التربية والتعليم بمقاطعة الجزيرة مصطفى فرحان.

يقول فرحان لـ«الشرق الأوسط»، إن نحو 1774 مدرسة مؤهلة، من الأول الابتدائي حتى الـ12 الثانوي بفرعيه الأدبي والعلمي، يرتادها 204 آلاف طالب وتلميذ، يدرسون بثلاث لغات رئيسية، وهي لغات سكان وشعوب المنطقة، العربية والكردية والسريانية.

وفصلت «الإدارة الذاتية» عمليتها التربوية في مناطق نفوذها عن وزارة التربية والتعليم التابعة للحكومة السورية، كما حظرت توزيع المناهج الحكومية في المدارس الخاضعة لها، وألفت مناهج جديدة شملت جميع المراحل التعليمية، بما فيها المراحل الجامعية والمعاهد المتوسطة، لكن الشهادة الصادرة من هيئاتها غير معترف بها من قبل وزارة التربية بدمشق. يقول فرحان: «ربطنا حلقات الإعدادية والثانوية بالجامعات والمعاهد التابعة للإدارة، ليتمكن الطلبة من إكمال تعليمهم العالي».

هناك 3 جامعات تابعة للإدارة الذاتية؛ «روج أفا» في القامشلي بريف الحسكة، و«كوباني» في «عين العرب» بريف حلب، وجامعة «الشرق» في الرقة.

مع ذلك، يشدد المسؤول الكردي على أن النظام التعليمي في مناطق الإدارة سيكُمل مستقبلاً النظام التربوي للدولة السورية. يقول فرحان: «الكردية ستصبح جزءاً من النظام التربوي لأنها لغة مكملة للعربية (...) الحركة الكردية بسوريا كانت تسعى منذ عقود للاعتراف الدستوري باللغة الكردية وتعليمها بالمدارس الرسمية».

تلميذات قبل دخولهن الصفوف الدراسية في مدرسة «شجرة الدر»... (الشرق الأوسط)

«حلم تحقق»

في فصل دراسي داخل مدرسة «شجرة الدر» جلست طالبات يرتدين قميصاً فضي اللون، وهو اللون الرسمي المعتمد لطلبة المرحلة الإعدادية؛ أمام كل طالبة كتاب مطبوع باللغة الكردية وكانت المدرّسة «مايا معيشي» المتحدرة من الدرباسية، تقرأ صفحات من منهج التاريخ، وخلال سردها محطات من تاريخ سوريا والشرق الأوسط عموماً، دونت على السبورة عبارات كردية بأحرف لاتينية.

قبل 15 عاماً، كانت «مايا معيشي» طالبة في المدرسة نفسها، وقضت سنوات تعليمها باللغة العربية، وتقول «كان حلماً لكل كردي الوقوف هنا للتعلم بلغتنا الكردية، حتى الأمس القريب كنت أتعلم بالعربية وأعاني الأمرين من طريقة الفهم وأسلوب المدرس لأنها لم تكن لغتنا الأم (...) كان حلماً وتحقق».

في فصل دراسي آخر، زميلة مايا، المدرسة نيرمين، تعطي مادة الرياضيات باللغة الكردية، رغم أنها درست هذه المادة بالعربية. ومنذ 6 سنوات تمكنت أخيراً من استعمال لغتها الأم بحرية.

لم يكن الأمر سهلاً على نيرمين، التي تقول إن تدريس الرياضيات بالكردية يتطلب ترجمة دقيقة للمصطلحات العلمية من العربية واللاتينية.

«التدريس بالكردية تجربة حديثة. كنت أعاني كثيراً في تجهيز المحاضرات، لكن بعد الاستعانة بخبراء اللغة تمكنت من إعطاء المادة بالكردية 100 في المائة».

وعلى ما تقول نيرمين، فإن استخدام الكردية في المناهج خلال السنوات الأولى واجه صعوبات جدية، بسبب قلة المهارات اللغوية وتعدد الأقسام التعليمية والافتقار لمختصين لغويين، لكن الحال تغير بعدما توفر كادر متخصص لجميع المواد والأقسام.

وبدا أن الطالبات في «شجرة الدر» سعيدات بتداول الكردية سواء في الفصول الدراسية أو في مناقشتها مع المدرسات. تقول الطالبة شيلان قادر (13 سنة)، إنها تتعلم بالكردية وتطمح إلى أن تصبح طبيبة، بينما كانت تبتسم وهي تحمل كتاب مادة اللغة الكردية.

«منذ صفوفي الأولى وأنا أحب الكتابة والقراءة بلغتي الكردية، حلمي أن أصبح مدرسة حتى أعلم تلاميذي لغة شعبنا»، تقول طالبة أخرى تدعى ميادة التي تدرس في الصف التاسع، بينما تتحدث زميلتها بالفصل، دلال حسين، عن حبها لمادة الكردية: «لأنها تاريخنا وحضارتنا، وهذه لغتنا الأم التي نحب أن نحافظ عليها».

يستخدم كرد سوريا الأحرف اللاتينية في القراءة والكتابة، بينما تندرج ضمن مجموعة اللغات الهندو – أوروبية في الشرق الأوسط، وضع قواعدها الأمير جلادت بدرخان، حين نشر عام 1932 كتابه المعروف: «الأبجدية الكُردية وأسس القواعد الكُردمانجية»، الذي صدرت طبعته الأولى في دمشق، وما زال يعد مرجعاً لتدريس قواعد اللغة الكردية.

وتعتمد «الإدارة الذاتية» اللهجة الكرمانجية، وهي توازي العربية الفصحى، يتقنها ويفهما جميع الكرد في العالم.

بحسب الإدارة الذاتية، يبلغ الكادر التدريسي في مناطق الجزيرة السورية نحو 17 ألفاً خضعوا لدروات في مؤسسة «اللغة الكردية» التابعة للإدارة، أحد هؤلاء رزكار سليمان محمد، الذي يعمل في إدارة هذه المؤسسة منذ تأسيسها نهاية 2011.

اكتسب رزكار مهارات اللغة في أكاديمية «جلادت بردخان» أكبر جهة كانت تدرس الكردية سراً خلال سنوات حكم نظام «حزب البعث»، وبعد تخرجه في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق التحق بالكادر التدريسي الكردي لتأسيس «جيل جديد»، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «تعمل المؤسسة في البحث عن معاني اللغة وتجميع مفرداتها الأصيلة الضائعة، وهي بمثابة قاموس لجميع أبناء الشعب الكردي للعودة إليه عند الحاجة».

ويأمل الخبير الكردي أن تعترف الحكومة السورية بالشهادات الصادرة عن مدارس الإدارة: «لحماية دراسة الطالب الكردي أينما وجد وأينما سافر، هذا مستقبل أبناء البلد ومن حق أي طفل الدراسة بلغته الأم، ونأمل أن تعترف منظمة الأمم المتحدة واليونيسيف بها»؛ خصوصاً بعد أن دخلت الكردية محرك البحث «غوغل».

«مؤسسة المناهج» التابعة للإدارة الذاتية، التي توازي «مديرية الكتب والمطبوعات» بالحكومة السورية، هي من تؤلف وتطبع المناهج المدرسية لجميع المراحل التعليمية، باللغتين الكردية والعربية، وتضم مؤلفين ومختصين بجميع المواد العلمية والأدبية.

هفند إبراهيم هو المسؤول عن هذه المؤسسة، ويحمل إجازة بقسم علم الاجتماع من جامعة دمشق، قبل أن ينضم وآخرون إلى أولى حلقات مؤسسة «رشيد كرد» التي تحولت فيما بعد لنواة مؤسسة «اللغة الكردية» التي انطلقت نهاية 2011 من مدينة عامودا المجاورة لبلدة الدرباسية.

تتحمل هذه المؤسسة عبء تحديث المناهج وتطويرها، ويقول هفند إبراهيم، إنها تخضع للتعديلات بشكل دوري لأنها كلاسيكية وتعتمد على التلقين.

«نعمل على تطوير هذه المناهج عبر إدخال الوسائل والأدوات الحديثة، وتقوية مهارات التفاعل بين الطالب والمدرس (...) خطة التغيير ستستمر حتى عام 2025».

تلميذات داخل صف دراسي يتفاعلن مع درس باللغة الكردية في «شجرة الدر»... (الشرق الأوسط)

أجندة سياسية

ينتقد أكاديميون ومختصون تجربة الإدارة في تدريس اللغة الكردية وأدلجة المناهج وانحيازها لـجهة سياسية، لا سيما نشر صور تمجد شخصيات حزبية ومقاتلين يظهرون بزي عسكري موالين لجهات سياسية، بينما تفتقر المدارس إلى قاعات الدروس الملائمة والمختبرات العلمية والمكتبات المتخصصة.

ورغم الشغف باللغة الكردية، يفضّل قسم من أهالي بلدة الدرباسية، أن يتعلم أبناؤهم في مدارس تعتمد المنهاج الحكومي بدلاً من منهاج الإدارة غير المعترف به، ولهذا الغرض سجلوا قيود أبنائهم بمدارس حكومية في الحسكة أو القامشلي، وافتتحوا دورات خاصة لدى معلمين يعطون الدروس النظامية.

من بين هؤلاء الأهالي سردار (47 سنة)، الذي أرسل جميع أبنائه إلى مدارس الحكومة في الحسكة، ويتلقون دروسهم عبر دورات خصوصية.

يقول سردار: «أنا مع الكردية وكانت حلماً لنا، لكن لا أريد مستقبلاً مجهولاً لأبنائي، فشهادات مدارس الإدارة غير معترف بها (...) الكردية لغة غير رسمية لا في سوريا ولا في أي دولة ثانية».

وترفض هيفي (37 عاماً) هي الأخرى إرسال ابنتيها لمدارس الإدارة بسبب «تدني المستوى التعليمي»، كما تقول: «نحن لا نجيد الكتابة والقراءة بالكردية بشكل سليم، فكيف للمدرس أن يلقن بناتي الكردية».

على مدار عقود اقتصر التدريس الحكومي في سوريا على اللغة العربية بوصفها اللغة الرسمية في البلاد، أضيف إليها لاحقاً في تسعينات القرن الماضي الإنجليزية والفرنسية بوصف كل منهما لغة أجنبية ثانية، ولم تجد اللغات المحلية في البلاد مثل الأرمنية والسريانية والكردية مكانها في المدارس الحكومية، وبينما كانت دور عبادة تدرس الأرمنية والسريانية حُرم الكرد حتى من هذا الامتياز الثانوي.

ولطالما مُنعت اللغة الكردية في سوريا، حتى مع محاولات الحركة السياسية للكرد انتزاع اعتراف دستوري بأحقية تعليمها في المدارس، لا سيما في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية سكانية على أن تكون مفتاحاً لحل قضيتهم العالقة والتعاطي الإيجابي معها.

لكن حداثة تجربة التدريس بالكردية، وصعوبات إدارية تتعلق بالاعتراف الرسمي بالشهادات، إلى جانب تسلل أجندة الأحزاب الكردية إلى مناهج التعليم، ستبقى تحديات تعيق نمو تجربة التعليم بهذه اللغة في منطقة يتحول التنوع فيها إلى بؤرة نزاع ثقافي واجتماعي.


مقالات ذات صلة

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

خاص ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

تبرز العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بوصفها واحدةً من أكثر العلاقات تعقيداً وتقلباً بالرغم من التحالف في «ناتو» يحرص البلدان على تسييرها من منظور براغماتي.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية عناصر من «قسد» أثناء تحركات في حلب (أ.ف.ب)

تضارب أنباء عن زيارة متوقعة لعبدي إلى دمشق

انتقدت قيادات كردية سياسة تركيا تجاه سوريا والتلويح المتكرر بالتدخل العسكري ضد «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، مؤكدة أن أكراد سوريا لا يسعون إلى تقسيم البلاد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
خاص قمة مرتقبة بين ترمب ونتنياهو آخر الشهر تناقش خطة السلام في غزة (أ.ف.ب)

خاص نتنياهو يمضي رأس السنة في أميركا... متجنباً إغضاب ترمب

يلتقي الرئيس ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للمرة الـ5 منذ بدء ولايته الثانية، علماً بأن ترمب هو خامس الرؤساء الأميركيين ممن يلتقون نتنياهو.

علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي علم سوريا خلال احتفالات مرور عام على سقوط نظام بشار الأسد وسط حماة (أرشيفية - أ.ف.ب)

سوري يقتل زوجته وبناته الثلاث ثم ينتحر في حماة

لقي خمسة أشخاص من عائلة واحدة سورية حتفهم مساء الجمعة داخل منزلهم في ظروف غامضة بحي البياض في مدينة حماة.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي توغل للقوات الإسرائيلية في بلدة صيدا بريف القنيطرة جنوب سوريا (أرشيفية - سانا)

القوات الإسرائيلية تنتشر في عدة قرى وتفتش المارة بجنوب سوريا

 توغلت القوات الإسرائيلية صباح اليوم الخميس في قرى عدة بريف القنيطرة الجنوبي في جنوب سوريا.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
TT

تركيا تعلق آمالاً على «صداقة» ترمب لحل الملفات العالقة

ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)
ترمب يستقبل إردوغان بالبيت الأبيض للمرة الأولى منذ 6 سنوات في 25 سبتمبر الماضي (الرئاسة التركية)

تبرز العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بوصفها واحدةً من أكثر العلاقات تعقيداً وتقلباً. فعلى الرغم من التحالف في إطار حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فإن البلدين يحرصان على إدارة هذه العلاقة وتسييرها من منظور براغماتي قائم على المصالح.

وبشكل عام، تشعر أنقرة بالارتياح مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بعد مضي عام من ولايته الثانية، التي شهدت ما يشبه «المراجعات» في كثير من القضايا الشائكة والملفات الحرجة المزمنة في العلاقات بين البلدين.

يعود ذلك إلى التصريحات المتكررة لترمب عن صداقته مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، و«إعجابه بذكائه» في كثير من القضايا، وفي مقدمتها تغيير النظام في سوريا.

هناك فرق جوهري ملحوظ بين إدارة ترمب وإدارة سلفه جو بايدن؛ إذ لا يبدي الأول أي حساسية تجاه أوجه القصور في الديمقراطية في تركيا، بعكس بايدن، الذي وصل إلى حد وصف إردوغان بـ«الديكتاتور»، وامتنع عن استضافته في البيت الأبيض على مدى 4 سنوات.

براغماتية ونهج حذر

لفتت إلى ذلك أستاذة العلوم السياسية التركية، دنيز تانسي، عادَّة أن الطرفين «يحاولان إيجاد أرضية مشتركة أوثق، وأن الولايات المتحدة تتصرف ببراغماتية في هذه المرحلة».

نأت واشنطن بنفسها عن اعتقال رئيس بلدية إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو والاحتجاجات التي أعقبته (حزب الشعب الجمهوري - إكس)

وقدَّم مدير مركز الاقتصاد والسياسة الخارجية التركي، سنان أولغن، اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أبرز منافسي إردوغان على حكم تركيا، منذ 19 مارس (آذار) الماضي، وإحالته إلى المحاكمة بشبهات فساد وإغراقه بكثير من القضايا، وتجاهل الاحتجاجات الشعبية على ذلك من جانب واشنطن، مثالاً واضحاً على التغاضي عن وضع الديمقراطية في تركيا.

وقال: «إن هذا فرق كبير عن الفترة السابقة، على الأقل نرى أن النهج على أعلى المستويات أصبح أكثر إيجابية... التفاؤل الحذر هو الإطار الذي وضعته قنصل تركيا العام السابقة في لوس أنجليس، غولرو غيزر، للعلاقات التركية - الأميركية في ولاية ترمب الثانية، لافتة إلى أن العلاقات وصلت إلى أدنى مستوياتها خلال فترة بايدن، وأن الديمقراطية، والتحول الديمقراطي، ليسا ضمن أجندة ترمب السياسية، وأنها غائبة حتى في بلاده، ومن الصعب حصر هذا الأمر في علاقته بتركيا أو غيرها من الدول».

كانت قضية اعتقال طالبة الدكتوراه التركية، روميسا أوزتورك، في الولايات المتحدة في 25 مارس بتهمة المشاركة في أنشطة لدعم حركة «حماس» الفلسطينية، وامتناع أنقرة عن مناقشة القضية علناً، مثالاً ثانياً على محاولة تجنب الإضرار بالديناميكية الإيجابية التي بدأت مع ترمب في ولايته الثانية.

مراجعة الملفات العالقة

وعد ترمب بحل قضية حصول تركيا على مقاتلات «إف - 16»، والعودة إلى برنامج إنتاج وتطوير مقاتلات «إف - 35»، الذي أُخرجت منه في أواخر ولايته الأولى بعد حصولها على منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس - 400»، صيف عام 2019، وقيامه في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بفرض عقوبات على قطاع الصناعات الدفاعية التركي بموجب قانون مكافحة خصوم تركيا بالعقوبات (كاتسا).

فرض ترمب في 2020 عقوبات على تركيا بموجب قانون «كاتسا» (موقع الصناعات العسكرية التركية)

ومؤخراً، قال السفير الأميركي لدى تركيا المبعوث الخاص إلى سوريا، توماس برّاك، إنه سيتم حل الملفات الخلافية في العلاقات مع تركيا خلال فترة تتراوح بين 3 و4 أشهر، لكنه أبقى مسألة رفع عقوبات «كاتسا» وعودة تركيا إلى برنامج «إف - 35» رهن التخلص من منظومة «إس - 400»، وهو أمر شبه مستحيل بالنسبة لتركيا؛ بسبب شروط الصفقة الموقَّعة مع روسيا عام 2017.

وفجَّرت زيارة إردوغان الأولى للبيت الأبيض، منذ 6 سنوات، التي أجراها في 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، انتقادات حادة من جانب المعارضة التركية؛ بسبب تصريحات أدلى بها براك عشية لقاء ترمب وإردوغان، قال فيها إن الأزمات التي ظلت عالقة لسنوات في العلاقات التركية - الأميركية، مثل حصول تركيا على منظومة «إس - 400» ومقاتلات «إف - 35» و«إف - 16»، تجب معالجتها من منظور «الشرعية»، وإن ترمب قال إنه سئم هذا، قائلاً: «فلنتخذ خطوةً جريئةً في علاقاتنا ونمنحه (إردوغان) ما يحتاج إليه».

السفير الأميركي لدى تركيا توماس برّاك (أ.ب)

وأضاف أنه عندما سأل ترمب عمّا يحتاج إليه إردوغان، أجاب بأنها «الشرعية»، وأن إردوغان شخص ذكي للغاية، والمسألة ليست الحدود مع سوريا (في إشارة إلى قلق تركيا من وجود مقاتلين أكراد على حدودها الجنوبية تدعمهم واشنطن)، أو منظومة «إس - 400»، أو طائرات «إف - 16»، المسألة هي الشرعية.

انتقادات من المعارضة

على خلفية هذه التصريحات، اتهم زعيم المعارضة التركية، رئيس حزب «الشعب الجمهوري» إردوغان بأنه «حوَّل تركيا من حليف استراتيجي لأميركا إلى عميل ثري يملأ جيوب ترمب بشراء 225 طائرة (بوينغ)، وتوقيع صفقة الغاز المسال وخفض الرسوم الجمركية على البضائع الأميركية، وتوقيع اتفاقية للطاقة النووية للأغراض المدنية دون الحصول على أي مقابل، إلا البحث عن شرعية في غياب حكم ديمقراطي في تركيا».

ترمب وإردوغان شهدا توقيع اتفاقية في مجال الطاقة النووية لأغراض مدنية 25 سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

بدوره، عدّ رئيس حزب «النصر» القومي المعارض، أوميت أوزداغ، تصريح برّاك حول «الشرعية» إهانةً للأمة التركية، ولإردوغان، ورأى أن إشارة ترمب بإصبعه إلى إردوغان خلال لقائهما بالبيت الأبيض، قائلاً: «هذا الرجل يعرف الانتخابات المزورة أكثر من أي شخص آخر»، لم تكن من قبيل الصدفة وإنما لإثارة الجدل في تركيا وعلى الصعيد الدولي.

وانتقد أوزداغ تذكير ترمب مرة أخرى بقضية اعتقال القس الأميركي، أندرو برونسون، التي تسبب في أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا عام 2018، خلال ولايته الأولى، عادّاً أنه انعدام للياقة الدبلوماسية؛ لأن الرأي العام التركي والعالمي يعلم أن قضية برونسون طُرحت مع رسالة مهينة لإردوغان من جانب ترمب.

جانب من مباحثات إردوغان وترمب بالبيت الأبيض في 25 سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

وطالب رئيس حزب «الوطن» التركي ذو التوجه اليساري، دوغو برينتشيك، بطرد برّاك من أنقرة.

حاول براك إصلاح الأمر قائلاً، في تصريحات لوسائل إعلام تركية، لاحقاً، إن رئيسنا (ترمب) يثمّن عالياً جهود تركيا سواء لمصلحة أميركا أو في إطار «ناتو»، وإنه «يضع في مفهوم الشرعية معنى الاحترام».

بدوره، عدّ إردوغان موقف المعارضة تعبيراً عن «خيبة الأمل» ودليلاً على النجاح الكبير للزيارة.

ملفات دولية وإقليمية

على الرغم مما يبدو أنه حراك فعال على خط العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وتنسيق في كثير من الملفات الدولية والإقليمية، مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، والأمن الأوروبي، والطاقة والقضايا المتعلقة بـ«ناتو»، إلى جانب الإشادة الأميركية بالدور التركي في سوريا، والتنسيق الفعال بشأن سوريا ومكافحة الإرهاب، يبدو أن الملفات الأساسية، وفي مقدمتها الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب (الكردية) التي تقود «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لا تزال تراوح مكانها، بدافع من غياب الثقة المتبادلة حسب رؤية الخبراء، رغم التصريحات التي تشير إلى توجه أميركي لتحسين الوضع في الولاية الثانية لترمب عنها في الولاية الأولى.

تدريب مشترك بين القوات الأميركية و«قسد» في شمال شرقي سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)

في الملف السوري، أحد أهم الملفات الإقليمية التي شهدت تنسيقاً أميركياً - تركياً ملحوظاً في العام الأول من ولاية ترمب الثانية، دعت «وثيقة مشروع 2025»، التي تمثل جزءاً من رؤية ترمب للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط، إلى إعادة التفكير في السياسة الأميركية تجاه الأكراد في المنطقة، عادة أن دعمهم قد يهدد المصالح الأميركية والإقليمية ويتعارض مع علاقتها بالحلفاء، مثل تركيا.

ولفتت الأكاديمية التركية، دنيز تانسي، إلى سعي ترمب وإدارته لمنع الصدام بين تركيا وإسرائيل في سوريا، وهو ما انعكس خلال لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض؛ إذ طالبه بحل مشكلاته مع تركيا، مبدياً استعداده للعمل على ذلك بحكم الصداقة التي تربطه بإردوغان.

إردوغان شارك باجتماع حول غزة دعا إليه ترمب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 (الرئاسة التركية)

أما على صعيد القضية الفلسطينية، فإن رؤية ترمب للدور التركي قائمة على تقدير التأثير الفعال لتركيا على «حماس» لصالح إسرائيل، لكنه لم يتمكن حتى الآن من كسر حدة موقف نتنياهو ورفضه مشاركة تركيا في قوة دولية مزمع نشرها في غزة، للسبب ذاته، وهو علاقة تركيا بـ«حماس»، ويشكل ذلك نقطة أخرى لاختبار تغير وجه العلاقات التركية - الأميركية في ظل ترمب.

في التحليل النهائي، تظل العلاقات التركية - الأميركية معقدة ومرهونة بالتفاهمات والصفقات البراغماتية في إطار تعاون تكتيكي في مجالات مثل الأمن والاقتصاد والتجارة ومكافحة الإرهاب، لكنها ستبقى فاقدة للشراكة الاستراتيجية الراسخة؛ بسبب التباينات في الرؤى حول القضايا الإقليمية.


مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
TT

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)

بعد أشهر من التكهنات بشأن مستقبل العلاقات المصرية - الأميركية، وسط حديث متكرر عن بوادر «توتر وأزمة» بين القاهرة وواشنطن على خلفية تبني الرئيس دونالد ترمب مقترحاً لـ«تهجير» سكان غزة، الذي رفضه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وما تبع ذلك من تداعيات، جاء لقاء الرئيسين في شرم الشيخ وتوقيعهما اتفاق سلام بشأن غزة ليؤكد استمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين على وقع الاضطرابات الإقليمية.

وبينما شهدت بداية العام الأول من ولاية ترمب حديثاً إعلامياً عن إلغاء السيسي خطط زيارة لواشنطن، ينتهي العام بتكهنات عن اقتراب تنفيذ تلك الزيارة، رد الرئيس الأميركي عليها بقوله: «السيسي صديق لي، وسأكون سعيداً بلقائه أيضاً».

وحمل فوز ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، نهاية العام الماضي، آمالاً مصرية بتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، عبَّر عنها السيسي، في منشور لتهنئة ترمب عبر حسابه الرسمي على موقع «إكس»، قال فيه: «نتطلع لأن نصل معاً لإحلال السلام، والحفاظ على السلم والاستقرار الإقليميَّين، وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية».

لكن طَرْحَ ترمب خطة لـ«تطهير غزة»، وتهجير سكانها إلى مصر والأردن، ألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين، لا سيما مع إعلان القاهرة رفضها القاطع للتهجير، وحشدها دعماً دولياً لرفض الطرح الأميركي مع إعلانها مخططاً بديل لإعمار غزة، واستضافتها قمةً طارئةً بهذا الشأن في مارس (آذار) الماضي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرحب بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في البيت الأبيض (أرشيفية - رويترز)

القليل المعلن

ويرى ديفيد باتر، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الجانب اللافت في العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، على مدار العام الماضي، هو «انخفاض مستوى الجوانب العلنية»، فباستثناء «عرض ترمب» في شرم الشيخ، «لم يكن هناك كثير مما جرى، على الملأ».

في حين وصف عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية المصري، مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة «كارنيغي»، العام الأول من ولاية ترمب الثانية، بأنه كان «عاماً صعباً فيما يتعلق بالعلاقات المصرية - الأميركية»، مشيراً في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إلى أن «العام بدأ بحديث عن التهجير و(ريفييرا الشرق الأوسط)، لكن مصر بجهودها الدبلوماسية استطاعت تحويل المسار، لتحمل خطة ترمب للسلام إشارة إلى رفض التهجير، وحديث عن مسار أمني وسياسي لغزة، ومسار سياسي للقضية الفلسطينية كلها، وإن كان غير واضح».

وقال حمزاوي: «بدأ العام من نقطة صعبة، هي تطور طبيعي لموقف بايدن المتخاذل في غزة، حيث بدأ الحديث التهجير فعلياً في عهد بايدن، لكن بعد نحو عام من الجهد المصري السياسي والدبلوماسي وصلت الأمور لمعكوس البدايات، حيث أصبح التهجير غير مطروح على أجندة واشنطن، وإن ظل خطراً قائماً لا يمكن تجاهله».

تاريخياً «شكّلت مصر دولةً محوريةً بالنسبة للأمن القومي الأميركي، استناداً إلى موقعها الجغرافي، وثقلها الديمغرافي، ودورها الدبلوماسي»، بحسب تقرير نشرته أخيراً وحدة أبحاث الكونغرس الأميركي.

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة بمدينة شرم الشيخ المصرية في أكتوبر 2025 (أرشيفية - أ.ف.ب)

غزة... العقدة الأبرز

كان لحرب غزة دور في تشكيل العلاقات المصرية - الأميركية خلال العام الأول من ولاية ترمب، ودعمت واشنطن جهود الوساطة المصرية - القطرية لإيقاف الحرب. ووجَّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الشكر للقاهرة بعد نجاحها في إقرار هدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في يناير (كانون الثاني) الماضي. لكن مع استئناف القتال مرة أخرى «وُضعت مصر في مواقف دبلوماسية معقّدة إزاء كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فبينما رفضت دعوة ترمب لإعادة توطين سكان غزة، فإن خطتها لإعادة إعمار غزة لم تحظَ بقبول من الولايات المتحدة أو إسرائيل. وتعرَّضت القاهرة لانتقادات من ترمب إثر امتناعها عن الانضمام إلى واشنطن في تنفيذ أعمال عسكرية ضد جماعة (الحوثي) اليمنية»، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس.

وأوضح الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس» أن «العلاقات المصرية مع إدارة ترمب شهدت توتراً على خلفية ملف غزة؛ حيث ألغى السيسي خططاً لزيارة واشنطن في مطلع العام، عقب إعلان ترمب عن (ريفييرا الشرق الأوسط)، ليقتصر التواصل بين الجانبين على الحد الأدنى».

لكن باتر يشير إلى أن «زيارة ترمب لشرم الشيخ وتوقيع (اتفاق غزة) والاحتفاء بنجاح خطته، كانت فرصة لإعادة ضبط العلاقات بين القاهرة وواشنطن»، لافتاً إلى أنه بالنسبة للوضع في غزة فإن «مصر أصبحت لاعباً رئيسياً لا غنى عنه لإدارة ترمب ولإنجاح خطته».

وقال حمزاوي: «إن غزة كانت الملف الأبرز في العام الأول لإدارة ترمب، ومنحت مصر فرصةً لاستعادة قراءة صانع القرار الأميركي والأوروبي لدورها وسيطاً رئيسياً لحل الصراع وتفعيل وتنفيذ الاتفاق، والانطلاق لمسارات سياسية»، لافتاً إلى أن «القاهرة استطاعت وضع رؤيتها للحل على الطاولة، فبدلاً من تعاقب المسارَين الأمني والسياسي في الطرح الأميركي، أصبح هناك توافق على توازي المسارات، وكذلك الأمر تحول من الحديث عن نزع السلاح إلى قبول فكرة حصر السلاح».

وطوال العام عوّلت مصر على ترمب لإنهاء الحرب في غزة، عبر بيانات وتصريحات رسمية عدة، ودخلت واشنطن بالفعل على خط الوساطة. وحثَّ السيسي نظيره الأميركي، في كلمة متلفزة في يوليو (تموز) الماضي على بذل الجهد لوقف الحرب بوصفه «قادراً على ذلك».

وتعد «مصر دولة لا غنى عنها في خطوات الاستجابة الدولية لحرب غزة، وإن ظلت شريكاً صعباً للولايات المتحدة وإسرائيل»، وفق ما كتبه الباحثان الأميركيان دانيال بيمان وجون ألترمان، في مقال مشترك نشرته «فورين بوليسي». وأوضح بيمان وألترمان أن «الحرب في غزة أعادت تسليط الأضواء الدبلوماسية تدريجياً على مصر، ومنحتها أوراق ضغط قوية».

بدورها، ترى سارة كيرة، مديرة المركز الأوروبي الشمال أفريقي للأبحاث، أن «وتيرة العلاقات المصرية - الأميركية في ظل إدارة ترمب في ولايته الثانية تختلف عن الأولى»، موضحة في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «ولاية ترمب الأولى شهدت توافقاً بين البلدين في ملفات عدة، وكانت هناك حفاوة من ترمب شخصياً بمصر وإدارتها للملفات المختلفة، لا سيما مكافحة الإرهاب، على عكس الولاية الثانية التي شهدت تباينات في المواقف».

هذه الخلافات في المواقف برزت في أبريل (نيسان) مع حديث ترمب عن «مرور مجاني لسفن بلاده التجارية والعسكرية في قناة السويس المصرية»، مقابل ما تبذله واشنطن من إجراءات لحماية الممر الملاحي.

إيجابية رغم التباين

تباين المواقف بشأن غزة لم يمنع من إشارات إيجابية في ملفات أخرى، ففي بداية العام قرَّرت وزارة الخارجية الأميركية تجميد التمويل الجديد لجميع برامج المساعدات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء برامج الغذاء الإنسانية، والمساعدات العسكرية لإسرائيل ومصر.

كما لم تدرج واشنطن مصر ضمن قائمة حظر السفر التي أصدرتها في يونيو (حزيران) الماضي، وبرَّر ترمب ذلك بأن «مصر دولة نتعامل معها من كثب. الأمور لديهم تحت السيطرة». واستُثنيت مصر أيضاً من زيادة رسوم الجمارك الأميركية. في وقت أكدت فيه مصر مراراً على «عمق ومتانة» العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.

وأشارت كيرة إلى أن «مصر ضغطت بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق السلام وإيقاف الحرب على قطاع غزة، ونجحت في إقناع الجانب الأميركي برؤيتها حتى وصلت لتوقيع اتفاق سلام في شرم الشيخ». وقالت: «تعاملت الدولة المصرية ببراغماتية وذكاء، واستطاعت بفهمها لطبيعة شخصية ترمب وللمصالح الأميركية إقناع واشنطن برؤيتها».

وبينما يتعثر الوصول للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، لا تزال مصر تعوّل على ترمب لإنجاح خطته، وتتواصل القاهرة مع واشنطن في هذا الشأن، كما تعمل معها على الإعداد لمؤتمر تمويل إعادة إعمار القطاع، الذي لا يبدو حتى الآن أن إدارة ترمب أعطته الزخم الكافي.

ولا يقتصر الحوار المصري - الأميركي على غزة، بل يمتد إلى عدد آخر من الملفات الإقليمية مثل ليبيا والسودان ولبنان وإيران، إضافة إلى الملفات المرتبطة بالأمن المائي، وعلى رأسها «سد النهضة» الإثيوبي الذي تخشى مصر أن يضر بحصتها من مياه النيل.

«سد النهضة» الإثيوبي (وكالة الأنباء الإثيوبية)

سد النهضة

في منتصف يونيو الماضي، أثار ترمب جدلاً في مصر بحديثه عبر منصته «تروث سوشيال» بأنَّ الولايات المتحدة «موَّلت بشكل غبي سد النهضة، الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وأثار أزمةً دبلوماسيةً حادةً مع مصر». وفي أغسطس (آب) الماضي، أعلن «البيت الأبيض» قائمة نجاحات ترمب في إخماد حروب بالعالم، تضمَّنت اتفاقية مزعومة بين مصر وإثيوبيا بشأن «سد النهضة». وكرَّر ترمب مراراً حديثاً عن جهود إدارته في «حل أزمة السد الإثيوبي»، لكن هذا الحديث لم يترجم حتى الآن إلى جهود على الأرض.

وأشار حمزاوي إلى أن «هناك فرصة لتلعب واشنطن دور الوسيط لحل أزمة سد النهضة، والعودة للاتفاق الذي تمَّ في نهاية فترة ترمب الأولى». لكن تشارلز دن، الباحث في «المركز العربي واشنطن دي سي»، كتب في تقرير نُشر أخيراً، يقول: «إن موقف ترمب من السد الإثيوبي قد يمنح قدراً من الرضا للقاهرة، لكنه قد يفضي في الوقت نفسه إلى نتائج غير محمودة، في ظل عدم تبني واشنطن دور الوسيط في هذا الملف حتى الآن».

وكانت واشنطن قد استضافت جولة مفاوضات خلال ولاية ترمب الأولى عام 2020 بمشاركة البنك الدولي، بين مصر وإثيوبيا والسودان، لكنها لم تصل إلى اتفاق نهائي؛ بسبب رفض الجانب الإثيوبي التوقيع على مشروع الاتفاق.

قوات أميركية محمولة جواً خلال تدريبات النجم الساطع في مصر في سبتمبر 2025 (القيادة المركزية الأميركية)

علاقات عسكرية مستمرة

على صعيد العلاقات العسكرية، واصل التعاون بين الجانبين مساره المعتاد. ومنذ عام 1946، قدَّمت الولايات المتحدة لمصر نحو 90 مليار دولار من المساعدات، مع زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية والاقتصادية بعد عام 1979، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس، التي أشارت إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبرِّر ذلك بوصفه «استثماراً في الاستقرار الإقليمي».

وعلى مدى أكثر من عقد، وضع الكونغرس شروطاً متعلقة بحقوق الإنسان على جزء من المساعدات الموجَّهة لمصر. وخلال الأعوام المالية من 2020 إلى 2023، حجبت إدارة بايدن والكونغرس نحو 750 مليون دولار من التمويل العسكري لمصر، لكن الملحق الفني الأخير الذي قدَّمه ترمب لموازنة عام 2026، تضمّن طلباً بقيمة 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية لمصر، دون أي مشروطية، وفق وحدة أبحاث الكونغرس.

وهنا قال حمزاوي: «الإدارة الأميركية أبعد ما تكون عن وضع مشروطية على مصر، فالعلاقات بين البلدين مبنية على المصالح بين قوة كبرى، وأخرى وسيطة مؤثرة بإيجابية».

بالفعل، منذ حرب غزة، سرَّعت إدارتا بايدن وترمب وتيرة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى مصر بشكل ملحوظ، وأخطرت وزارة الخارجية الكونغرس بمبيعات عسكرية لمصر بقيمة إجمالية بلغت 7.3 مليار دولار، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس. وفي يوليو الماضي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) موافقة وزارة الخارجية، على صفقة بيع لمنظومة صواريخ متقدمة للدفاع الجوي إلى مصر، بقيمة تقدر بنحو 4.67 مليار دولار. كما استضافت مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي مناورات «النجم الساطع».

وقالت كيرة: «العلاقات بين مصر وواشنطن تسير وفقاً لاعتبارات المصالح»، مؤكدة أن «القاهرة استطاعت تقديم نفسها لاعباً أساسياً في الإقليم». بينما أكد حمزاوي أن «مصر في مكان مركزي في تفكير الولايات المتحدة للشرق الأوسط، حيث تحتاج واشنطن إلى طيف من الحلفاء، ومصر في موقع القلب منه».


عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟