في العهد السعودي... استتب الأمن فتضاعف الحجاج وازدحم المسجد الحرام

الملك عبد العزيز شكّل لجنة لمتطلبات الحرم المكي وأمر بإنشاء مصنع لكسوة الكعبة

الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً
الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً
TT

في العهد السعودي... استتب الأمن فتضاعف الحجاج وازدحم المسجد الحرام

الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً
الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً

فور ضم المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - مكة المكرمة في العام 1343هـ -1924م، إلى حكمه جعل خدمة المسجد الحرام على رأس أولوياته، وأكد اهتمامه «بأقدس بلاد الله، مسطع النور، ومهبط الوحي، ومنشأ الهدى»، كما شرع في عمل ما يتطلبه الحرم من إصلاحات وترميمات عاجلة، فتم في العام 1344هـ - 1925م، ترميم عموم المسجد الحرام، وإصلاح كل ما يقتضي إصلاحه، ومن ذلك: ترميم جدران المسجد وأرضه وأعمدته، وإصلاح المماشي وحاشية المطاف، وطلاء مقام إبراهيم، وإصلاح الأبواب وصيانة القباب وغيرها من الأعمال. وفي العام 1345هـ - 1927م زاد عدد الحجاج زيادة كبيرة بسبب استتباب الأمن واستقرار الأوضاع.

الملك عبد العزيز ممتطياً جواده أثناء خروجه من المسجد الحرام بعد نحو شهرين من ضم مكة المكرمة تحت رايته وذلك عام 1343هـ - 1924م التقطها المصور شفيق محمود بشرف وتعدّ من نوادر الصور

نصب الخيام والسرادقات لاستيعاب الحجاج

وبسبب زيادة عدد الحجاج ازدحم المسجد الحرام بالمصلين؛ مما أدى إلى عدم استيعاب الأروقة تلك الأعداد الكبيرة، خصوصاً في أوقات النهار، فأمر الملك عبد العزيز بنصب الخيام والسرادقات والصواوين في حصاوي المسجد الحرام التي تلي المطاف ليستظل بها المصلون وحجاج بيت الله الحرام، فاستوعبت أكثر من عشرة آلاف حاج، وكانت حلولاً مؤقتة لضيق الوقت ودخول موسم الحج، كما أمر برصف المسعى وكان شارعاً خارج المسجد الحرام، وتم رصفه ولأول مرة في تاريخه بالحجر الصوان المربع، وتؤكد المصادر أنه كان أول شارع يرصف في مكة على الإطلاق. كما شكّل إدارة خاصة بمسمى مجلس إدارة الحرم للقيام بإدارة شؤون المسجد الحرام والإشراف على خدماته.

العهد السعودي والاهتمام بالمسجد الحرام

صدرت أوامر الملك عبد العزيز عام 1346هـ - 1927م بإجراء عمارة عموم المسجد الحرام داخلياً وخارجياً على نفقته الخاصة، حيث رُممت أرضيات الأروقة من جهاته الأربع مع زيادتي «دار الندوة» و«باب إبراهيم»، ورسم أيضاً بلاط أبواب المسجد الحرام وجدرانه داخلياً وخارجياً، وكذلك الدَّرَج المؤدية إلى أبواب المسجد الحرام، ونُظفت قباب الأروقة باطناً وظاهراً، كما طُليت العقود والأعمدة، وصُبغت بألوان مختلفة بحسب ألوانها الأصلية التي تناسب الحجر الشميسي الذي بُنيت منه، والذي له ألوان مختلفة، منها الأسود والأصفر البرتقالي والأحمر العنابي والرمادي، كما تم تنظيف الأعمدة الرخام وإزالة ما علق فيها من غبار وأتربة حتى عادت إلى لونها الأصلي الناصع البياض، كما رُمّم أسفل جدران المسجد الحرام والأعمدة المبنية بالحجر الصوان وأبواب المسجد الحرام وبطون القبب والطواجن بالرخام الأبيض المائل للون الأزرق بعد أن أضيفت إليه زهرة النيل الزرقاء ليزداد رونقاً وجمالاً، واستمر العمل في ترميم وإصلاح المسجد الحرام عاماً كاملاً، وصُرف على هذه الإصلاحات ما يقارب (2000 جنيه ذهب) تبرع بها الملك عبد العزيز. كما أمر بعمل مظلات ثابتة على دائرة الحصوة مما يلي الأروقة من الجهات الأربع ليستظل تحتها المصلون ولتكون بديلاً للخيام، وجدد سبيل زمزم القديم، وأمر أن يُعمل سبيلان جديدان لسقيا قاصدي المسجد الحرام.

دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة

صورة تبين كسوة الكعبة في عهد الملك عبد العزيز

وفي عام 1346هـ -1928م أمر الملك عبد العزيز بإنشاء دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة في حي أجياد، حيث كانت كسوة الكعبة تأتي من مصر لقرون عدة في العصرين المملوكي والعثماني، واستمر ذلك حتى دخلت مكة في حكم الملك عبد العزيز عام 1343هـ -1925م، ولتأخر وصول الكسوة في تلك السنة بسبب الأوضاع السياسية، أمر الملك عبد العزيز بصناعة كسوة الكعبة في الأحساء، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تُكسى فيها الكعبة من الأحساء؛ ففي عهد الإمام سعود بن عبد العزيز في الدولة السعودية الأولى كانت كسوة الكعبة تصنع في الأحساء، وفي عام 1347هـ - 1929م أمر بإضاءة عموم المسجد الحرام بالكهرباء وزيادة عدد مصابيحه حتى بلغت ألف مصباح كهربائي.

الملك عبد العزيز يلقي كلمة في حفل استقبال وفود الحج في 10 - 12 - 1357هـ الموافق 1938م وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حينما كان طفلاً

لجنة لعمارة وإصلاح المسجد الحرام

في عام 1354هـ - 1935م أصدر الملك عبد العزيز أوامره بتشكيل لجنة برئاسة الشيخ عبد الله بن عبد القادر الشيبي، نائب رئيس مجلس الشورى، وعَهِد إلى هذه اللجنة إجراء الكشف المستمر على عموم ما يلزم المسجد الحرام من عمارة وإصلاح وحصر ما يتطلبه ذلك، وبعد إجراء الكشف اللازم قررت اللجنة ما يلي:

أولاً: إصلاح الأرضية المفروشة بالحجر الصوّان الواقعة حول صحن المطاف وداخل الحصاوي والمماشي، ورصفها من جديد رصفاً جيداً متقناً باستخدام الإسمنت والنورة والحصحاص.

ثانياً: إصلاح أرضية أروقة المسجد الحرام، وتجديد الطبطاب القديم وحشو الفراغات بالنورة بصفة متقنة.

ثالثاً: إزالة الجص الموجود على جميع جدران المسجد الحرام وإصلاحها بالإسمنت والنورة لمنع تسرب الرطوبة، وكذلك إصلاح العقد الموالي لباب الصفا.

رابعاً: ترخيم عموم المسجد الحرام من داخله وخارجه والأبواب، وبيت زمزم، وترميم الشقوق الموجودة في بعض قباب المسجد الحرام .

خامساً: تجديد الأصبغة الموجودة بعموم أبواب المسجد الحرام، بما فيها الجدار الواقع خارج المسجد من باب بازان إلى باب العباس، وتحديد الأصبغة التي بداخل أروقة المسجد الحرام مع الأعمدة المثمنة المبنية بالحجر الشميسي كما كانت عليه في السابق بالألوان المختلفة، الأحمر العنابي، والأسود، والأصفر، والبرتقالي، والرمادي.

سادساً: إصلاح عموم أبواب المسجد الحرام بالخشب الجاوي القوي، وصبغ واجهة هذه الأبواب بالأصباغ المناسبة، وقدّر لذلك مبلغ (12483 ريالاً عربياً سعودياً)، وعرض هذا الأمر على الملك عبد العزيز، الذي أصدر موافقته على إجراء هذا التعمير، وتبرع بنصف المبلغ المقدر لهذه الإصلاحات والترميمات، والنصف الآخر قامت مديرية الأوقاف بصرفه من صندوقها. وشدّد الملك عبد العزيز على أن يكون مباشرة العمل سريعة وتحت مراقبة وإشراف اللجنة المتقدم ذكرها. واستمرت عناية الملك عبد العزيز بعمارة وخدمة المسجد الحرام؛ ففي عام 1363هـ - 1944م أمر بصناعة باب جديد للكعبة المشرفة بدلاً من بابها القديم، وكلف بصنعه شيخ الصاغة في مكة محمود يوسف بدر، وتم تركيبه في 15 ذي الحجة 1366هـ - 31 أكتوبر (تشرين الأول) 1947م، وفي العام نفسه تم استكمال بناء سقيفة المسعى وتجديد الجزء القديم منها.

كما تم تركيب مكبرات الصوت لأول مرة في المسجد الحرام يوم الجمعة 17 ذي الحجة 1366هـ – 31 أكتوبر 1947م.

صورة التقت عام 1930م تبين اكتظاظ المصلين والحجاج في المسجد الحرام بعد استتباب الأمن في عهد الملك عبد العزيز (غيتي)

عودة التوسعات للمسجد الحرام بعد توقف ألف عام

وفي عام 1368هـ - 1949م، صدر بيان عن عزم الملك عبدالعزيز توسعة الحرمين الشريفين بدءاً بالمسجد النبوي في المدينة المنورة، وتم البدء في توسعة المسجد النبوي في شهر شوال عام 1370هـ – يوليو (تموز) 1951م، وكلف المدير العام للعمائر والإنشاءات الحكومية محمد بن لادن، التنفيذ. وذكر الدكتور بدر كريم أن المعلم محمد بن لادن قال له في مقابلة إذاعية لاحقة: «إن الملك عبد العزيز كلفه أن يبدأ في وضع التصاميم اللازمة لتوسعة المسجد الحرام».

لقد كانت توسعة الحرمين وبناؤهما بالشكل الذي يعكس مكانتهما والطراز الذي يمثل هويتهما ويلائم ما يتطلع إليه قاصدوهما، وما يشعر به المسلمون تجاههما، أحد الأماني العظيمة للملك المؤسس - رحمه الله -، والتي حققها أبناؤه الملوك من بعده.

أول هيئة فنية وهندسية لتصاميم الحرم

ويذكر الدكتور منصور الدعجاني في دراسته التاريخية المعنونة «أروقة المسجد الحرام بمكة المكرمة»، أنه تم تكوين هيئة فنية وهندسية لعمل التصاميم والمخططات اللازمة لهذا المشروع الإسلامي العملاق قبل البدء في التوسعة؛ وذلك لما رأه الملك عبد العزيز من تزايد أعداد الحجاج عاماً بعد آخر، بسبب استتباب الأمن في العهد السعودي وتطور وسائل النقل مما سهل السفر، وتحسن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، واستقلال بعض الدول الإسلامية، كل هذه الأسباب وغيرها أسهمت في مضاعفة عدد الحجاج القادمين من الخارج أربعة أضعاف في غضون عشرين عاماً، واستمرت في الازدياد، حيث بلغت في عام 1370ه – 1951م نحو 100 ألف حاج، ووصلت إلى أكثر من 200 ألف حاج في عام 1374ه – 1955م، هذا عدا حجاج الداخل. كما أن المنازل والأسواق كانت قد أحاطت بالمسجد وفصلت بينه وبين المسعى الذي كان طريقاً ضيقة تقوم على جانبيها الدُّور والمحال التجارية، إضافة إلى وجود عدد من الأبنية التي تعيق الحركة داخل صحن المطاف، وهي مباني المقامات الحنفي والحنبلي والمالكي، ومبنى المقام الشافعي وبئر زمزم ومظلة المؤذنين، ومبنى مقام إبراهيم، وعقد باب بني شيبة، والمنبر، وكان المسجد الذي لا تتجاوز طاقته القصوى 50 ألف مصلٍ، يزدحم بالمصلين خاصة في مواسم الحج؛ الأمر الذي يتطلب توسعته لاستيعاب تلك الأعداد الكبيرة من قاصديه.

ويضيف الدعجاني: شرع الفنيون والمهندسون في عمل الدراسات والمخططات اللازمة لذلك، وبُدئ في تحديد المساحات التي سيقام عليها المشروع، وأعداد الدور والمتاجر التي تحتاج إلى إزالة لصالح المشروع، وتقدير التكاليف والتي تشمل نزع الملكية والبناء، وبينما كانت هذه الأعمال تجري وافت المنية الملك عبد العزيز قبل الشروع في التوسعة، حيث توفي - رحمه الله - في الطائف في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول 1373هـ - الموافق التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1953م.

الملك عبد العزيز مؤدياً فريضة الحج يرافقه ولي عهده (الأمير) الملك سعود وذلك في حج عام 1353هـ - 1935م

الملك سعود ومتابعة مشروع توسعة المسجد الحرام

وفي بداية عهد الملك سعود، أنهت اللجان الفنية والهندسية الدراسات والمخططات والتصاميم الأولية لمشروع توسعة المسجد الحرام، وتم حصر العقارات التي سيتم نزع ملكيتها لصالح المشروع، وصدر بيان رسمي يعلن البدء في مشروع التوسعة في شهر محرم 1375ه - أغسطس (آب) 1955م، وأصدر الملك سعود أمراً بتشكيل لجنة عليا للإشراف على المشروع، برئاسة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء وقتذاك (الأمير) الملك فيصل، يتبعها لجنة لمراقبة التنفيذ ولجنة لتثمين العقارات. وأنشئ مكتب بمسمى مكتب «مشروع صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود لتوسعة المسجد الحرام وتجديد عمارته» للإشراف على التنفيذ والتنسيق ومتابعة الأعمال المرتبطة بالمشروع، وكان من أهداف التوسعة السعودية التالي:

1- رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف بإزالة المباني الموجودة في صحن المطاف.

2- رفع الطاقة الاستيعابية للمصلين بزيادة المساحات التي تؤدى فيها الصلاة.

3- رفع الطاقة الاستيعابية للمسعى ببنائه ودمجه ضمن مباني المسجد الحرام.

4- تحسين الأحوال لتأدية شعائر الطواف والسعي والصلاة بيسر وسلامة.

5- وضع الحلول الجذرية لمعالجة الأخطار التي كانت تهدد سلامة المسجد وقاصديه كالحرائق والسيول من خلال: استخدام مواد البناء غير القابلة للاشتعال وأنظمة مكافحة الحريق، وعمل مجاري تصريف السيول.

6- توفير الخدمات المتكاملة من طرق وميادين لتسهيل الوصول إلى المسجد، إضافة إلى توفير المياه والصرف والتهوية والإنارة ودورات المياه لراحة قاصديه.

رؤية شاملة لمشروع التوسعة العاشرة

منذ بدايات «مشروع جلالة الملك عبد العزيز لتوسعة المسجد الحرام وتجديد عمارته» كانت هناك رؤية شاملة لكل ما يتعلق بالمشروع من النواحي التخطيطية والفنية والهندسية ومراعاة للهوية العمرانية والجوانب الصحية والأمنية والسلامة، وإذا أدركنا أن المساجد التي أسست خارج الجزيرة العربية في العراق والشام ومصر وغيرها كانت قد بُنيت وفق نموذج بناء الحرمين الشريفين (الأروقة والفناء المكشوف) كما يشير إلى ذلك الدكتور حسن الباشا في دراسته «أثر عمارة عثمان بن عفان في المسجد الحرام في تخطيط المساجد وفي العمارة الإسلامية»، ومؤسس نظام الأروقة في المساجد وفق النموذج المكي هو الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ خلصنا إلى أننا أمام عمارة عربية مكية متفردة ليست بعيدة عن معمار «دار الندوة» التي توحي المعلومات المتعلقة بها أنها تقوم على الأروقة كما أورد ذلك الدكتور يحيى بن جنيد في بحثه المعنون «جدلية الرواق: أزمنة العمارة المكية للمسجد الحرام». وفي تقديري أن هناك جانبين لم يستوفيا حقهما من البحث والتوثيق والدراسة في تاريخ الحرمين الشريفين، وهما الجانب العمراني وما يتعلق بأثر عمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي في العمارة الإسلامية، والجانب التعليمي كون الحرمين الشريفين أقدم الجامعات الإسلامية، ولعلني أعود في بحث مستقل إلى هذين الجانبين. أما ما يتعلق بفرادة تصميم عمارة المسجد الحرام وأصلها المكي والرؤية السعودية حول ذلك، فيشير تقرير توثيقي عن مشروع التوسعة السعودية الأولى أصدرته وزارة المالية والاقتصاد الوطني (الجهة المشرفة على المشروع) وأعدّه اتحاد المهندسين الاستشاريين في باكستان (استشاري المشروع)، وأنقل بعض ما جاء فيه هنا بتصرف، إلى أن «فرادة الأسلوب المعماري الذي تم إنجازه في التوسعة السعودية وتميز طابعه من حيث النسق والجمع بين الأساليب الإسلامية المختلفة والطراز التاريخي التليد، فهو على الشكل الذي صُمّم وأنجز به، منعدم النظير في العالم الإسلامي. وكان طبيعياً أن تأتي هذه المهمة الفريدة، مهمة عمارة المسجد الحرام، بطابع فريد. وجدير بنا للمزيد من تفهم هذا الأسلوب الفريد أن نستعرض بإيجاز المظاهر التي يشترك بها مبنى الحرم في التوسعة السعودية الأولى مع المساجد الكبرى في العالم الاسلامي، ثم نوضح بالمقارنة ذلك التناسق الفريد الذي تجلى عنه البناء بطابعه الذي تم عليه».

مخطط للحرم المكي الشريف والمسجد الحرام وذلك في عهد الملك عبد العزيز عام 1931م (غيتي)

التصميم والإبداع المعماري في التوسعة

إن الأروقة ذات الأعمدة في بناء الحرم الجديد تحاكي بوضوح الطراز العربي العريق في بناء المساجد (الذي انطلق من الحرمين الشريفين) إلى المسجد الكبير في الكوفة ومساجد العراق والشام، ثم مساجد مصر وشمال أفريقية والأندلس. ومن حيث الخطة والتصميم، نجد أن الشكل المُثمّن الأضلاع يحاكي قبة الصخرة في القدس، ولكننا لا نلبث هنا حتى ندرك الفرق الشاسع بين بنيان الحرم المكي والمساجد الأخرى، نجد أول ما نجد أن جميع المساجد يتوخى في بنائها توجيه المؤمنين في صلاتهم نحو مكة المكرمة والكعبة المشرّفة؛ وبذا ينصبّ تصميمها على شكل هندسي قائم الزوايا، قياساً على وجهة المحراب. أما الحرم المكي فيستوجب بناؤه الإحاطة بالكعبة المشرفة والدوران حولها من جميع جوانبها. وبذا يكون كل حيز في المبنى منبعثاً من المركز، من الكعبة المشرفة.

إن الشكل المُثمّن في التصميم يسهّل أداء هذه الغاية رمزاً وعملاً. ومع ذلك، فهو يختلف في صورته الثمانية عن كثير من الأبنية المثمنة الشكل، كقبة الصخرة مثلاً، وعن الأبنية المربعة أو المستطيلة الشكل كمسجد الكوفة.

ثم إننا لو أمعنا النظر في الأروقة ذات الأعمدة لوجدناها تختلف عن مثيلاتها من المباني التاريخية؛ ذلك أنها مقسمة أقساماً منفصلة عن بعضها بعضاً، منها ما هو خاص بالصلاة ومنها ما هو خاص بمرور المصلين مما يلطف الشعور بالجزء، الذي يستوعبه الشكل في الأبنية الأخرى، زد إلى ذلك تصميم البناء على طابقين بسقوف عالية مما يوضح الفارق بجلاء، كما أن المآذن السبع التي تعلو جنبات المسجد تفوق في عددها مآذن المساجد الأخرى، فضلاً عما تسبغه من الجلال الذي يتسم به هذا المكان المقدس.

الأروقة التاريخية وترميم الكعبة المشرّفة

والميزة الأخيرة التي أضفت على البنيان حلته الفريدة هي طابعه المتكامل، فاستبقاء «الأروقة التاريخية» التي يرجع عهدها إلى أربعمائة سنة خلت (بُنيت عام 984هـ - 1576م)، وضمها في نسق مع البنيان الجديد إنما هو انجاز معماري يضاهي في تصوره وواقعه أعظم الإنجازات في تاريخ الفن المعماري. وهكذا تجلى الحرم المكي بأسلوبه النهائي وحلته الفريدة عن حس بالأزل لا يعرف الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل؛ لأن الباعث من جميع معالمه صادر من الكعبة المشرفة.

لقد مرّ المشروع بمراحل متعددة كما واجه تحديات فنية، وكانت هذه التوسعة التي بدأت في عهد الملك سعود هي العاشرة في تاريخ المسجد الحرام، وهي عمارة لم يشهد الحرم المكي لها مثيلاً وذلك من حيث المساحة، ومواد البناء المستخدمة، والجوانب المعمارية، وفخامة البناء، والإنجاز المحكم. ومر المشروع الذي أُسند تنفيذه إلى مدير الأبنية والإنشاءات المعلم محمد بن لادن بمراحل متعددة؛ إذ كلف بن لادن المهندس المعماري فهمي مؤمن (مصمم مشروع عمارة المسجد النبوي) تصميم مشروع عمارة الحرم المكي، فجاء تصميمه الابتدائي مبنى مستديراً بصفوف دائرية حول الكعبة، وكُلّف المهندس المعماري محمد طاهر الجويني عمل تصميم بديل، وكانت فكرته البديلة أن يجعل المسجد مربع الشكل مع مربعات متمركزة حول الصحن، وكان التصميمان المبدئيان يتضمنان إزالة كامل المباني والأروقة القديمة في الحرم. وتم اعتماد الفكرة البديلة وبدأ التنفيذ على ذلك الأساس. وضع الملك سعود حجر الأساس للتوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام يوم الخميس 23 شعبان 1375ه – 24 مارس (آذار) 1956م، وكان العمل قد بدأ في النصف الخارجي من المبنى الجديد وتركت العمارة القديمة لتأدية الصلوات فيها ريثما يتم الانتهاء من المبنى الجديد وشملت المرحلة الأولى (1375ه - 1955م إلى 1381ه - 1961م) إزالة المباني المحيطة بالحرم من الجهة الجنوبية، وتحويل الطرق والشوارع، والبدء في بناء الأروقة الجنوبية بأدوارها المتعددة (القبو والدور الأرضي والدور الأول)، كما شملت جميع أعمال الخرسانة في المسعى، ومجرى السيل المغطى، وباب الملك عبد العزيز، وباب العمرة، كما تم تشطيب أماكن مختلفة من تلك المباني، وتركيب الأبواب والشبابيك وتوسعة المطاف، وذلك بإزالة مباني المقامات الحنفي والحنبلي والمالكي، مع الإبقاء على المقام الشافعي لكونه فوق بيت بئر زمزم، والذي أزيل في عام 1383هـ - 1963م، وتم عمل قبو لبئر زمزم في الجهة الشرقية من المطاف، كما تم خلال هذه المرحلة وفي العام 1377ه – 1958م ترميم الكعبة المشرفة، وشمل ذلك إزالة أخشاب السقف العلوي وإعادة بنائه، وتجديد السقف الخشبي الداخلي، وترميم الجدران الداخلية وإصلاح رخامها.

* غداً في الحلقة الثالثة... لماذا رفض الملك فيصل مقترح الهيئة الإستشارية الهندسية الإسلامية العالمية بهدم الأروقة، وما هو القرار التاريخي الذي أصدره وأصبح تحدياً أمام المهندسين.


مقالات ذات صلة

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

الخليج الأمير سعود بن مشعل أكد ضرورة تكثيف التنسيق بين كافة القطاعات لتهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات (إمارة منطقة مكة المكرمة)

السعودية تعلن بدء التخطيط الزمني لموسم الحج المقبل

نحو تهيئة كافة السبل لتطوير الخدمات وتسهيل طرق الحصول عليها وتحسين المرافق التي تحتضن هذه الشعيرة العظيمة، أعلنت السعودية عن بدء التخطيط الزمني لحج 1446هـ.

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا الحجاج المصريون النظاميون يؤدون مناسك الحج (أرشيفية - وزارة التضامن الاجتماعي)

مصر تلغي تراخيص شركات سياحية «متورطة» في تسفير حجاج «غير نظاميين»

ألغت وزارة السياحة والآثار المصرية تراخيص 36 شركة سياحة، على خلفية تورطها في تسفير حجاج «غير نظاميين» إلى السعودية.

أحمد عدلي (القاهرة)
الخليج 7700 رحلة جوية عبر 6 مطارات نقلت حجاج الخارج إلى السعودية لأداء فريضة الحج (واس)

السعودية تودّع آخر طلائع الحجاج عبر مطار المدينة المنورة

غادر أراضي السعودية، الأحد، آخر فوج من حجاج العام الهجري المنصرم 1445هـ، على «الخطوط السعودية» من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز الدولي في المدينة المنورة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد صورة للطرفين عقب توقيع الاتفاقية (مجموعة السعودية)

«مجموعة السعودية» توقّع صفقة لشراء 100 طائرة كهربائية

وقّعت «مجموعة السعودية» مع شركة «ليليوم» الألمانية، المتخصصة في صناعة «التاكسي الطائر»، صفقة لشراء 100 مركبة طائرة كهربائية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الثوب الأغلى في العالم بحلته الجديدة يكسو الكعبة المشرفة في المسجد الحرام بمكة المكرمة (هيئة العناية بشؤون الحرمين)

«الكعبة المشرفة» تتزين بالثوب الأنفس في العالم بحلته الجديدة

ارتدت الكعبة المشرفة ثوبها الجديد، الأحد، جرياً على العادة السنوية من كل عام هجري على يد 159 صانعاً وحرفياً سعودياً مدربين ومؤهلين علمياً وعملياً.

إبراهيم القرشي (جدة)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.