قمح سوريا يعود إلى الحياة... وتركة الحرب تقوّض مكاسب المزارعين

الموسم يبدو واعداً هذه السنة؛ حقول القمح المغطاة بسنابل صفراء ذهبية تبشّر بمحصول وفير وعودة المحصول الأهم إلى الحياة بعد سنوات من الجفاف، لكنَّ الأسعار التي تقدمها الحكومة السورية لشراء المحاصيل تلقى اعتراضاً كبيراً من المزارعين الذين يقولون إن أسعار العام الماضي كانت أفضل، خصوصاً في ظل التراجع الكبير في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي.

اعتراض المزارعين ليس وحده ما تواجهه الحكومة السورية لتأمين حاجة البلاد من القمح. فمناطق واسعة من البلاد، بما في ذلك «سلّة البلاد الغذائية» تقع في مناطق خارجة عن سيطرتها سواء في شمال شرقي البلاد أو في شمالها الغربي. والجهات الحاكمة في هذه المناطق، وليست الحكومة السورية، هي التي تتحكم إلى حد بعيد في المحاصيل.

«الشرق الأوسط» تفتح ملف القمح في سوريا من خلال ثلاثة تقارير: من الحسكة بشمال شرقي البلاد حيث «الإدارة الذاتية» التي تهيمن عليها «قوات سوريا الديمقراطية»، ومن إدلب في شمال غربي سوريا حيث «حكومة الإنقاذ» التابعة لـ«هيئة تحرير الشام»، ومن دمشق حيث مقر الحكومة السورية.

«فالج لا تعالج»... أزمة تسعير القمح تهدد رغيف الخبز السوري

أثار قرار الحكومة السورية بخصوص تسعيرة القمح استغراب مزارعين وحنقهم، فيما أفادت وسائل إعلام محلية بإجماع فروع الاتحاد العام للفلاحين في المحافظات على عدم عدالة التسعيرة. وفي وقت طالبت لجنة الزراعة العليا بإعادة النظر في التسعيرة ورفعها إلى 3 آلاف ليرة للكيلو الواحد حداً أدنى، حذّر رئيس مكتب التسويق والتصنيع في اتحاد الفلاحين أحمد هلال الخلف، «من عزوف الفلاحين في الموسم المقبل عن زراعة هذا المحصول الاستراتيجي واستبداله بزراعات توفر دخلاً أفضل لهم»، في احتجاج منهم على الأسعار التي يعدونها غير منصفة.

واختصر مزارع يتحدر من ريف حمص رأيه بالقرارات الحكومية الخاصة بشراء القمح لهذا العام بالمثل الشعبي «فالج لا تعالج»، مؤكداً خلال اتصال هاتفي عجزه عن فهم الغاية من «قرارات مجحفة بحق المزارع... سعر الحكومة للقمح والشعير لهذا العام أقل من سعر التكلفة». ويتناقض كلامه مع تأكيد الحكومة حين حددت سعر شراء كيلو القمح للعام الحالي بـ2800 ليرة سورية، وسعر كيلو الشعير بـ2200 ليرة، أنها «ضمنت للمزارع هامش ربح بنسبة 35 في المائة»، وأن هذه التسعيرة جاءت نتيجة «احتساب تكلفة الإنتاج الحقيقية في ظل الدعم المقدم للقطاع الزراعي من بذار ومحروقات وأسمدة».

وزيرة سابقة تنتقد

بدورها، انتقدت وزيرة الاقتصاد السابقة لمياء عاصي، عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، سياسات الحكومة الزراعية، وقالت «إن الاستمرار بالاستيراد وعدم تشجيع المزارعين على زراعة القمح بات سياسة متبناة ودائمة لصالح المستوردين»، لافتة إلى أن الحكومة هذا العام أعادت تسعيرة القمح بأقل من الأسعار العالمية، ما يؤدي بالنتيجة إلى خفض نسبة الأراضي وكميات الإنتاج المسلمة للحكومة.

جانب من الحصاد في حقل قمح بسوريا (الشرق الأوسط)

وقالت مصادر اقتصادية في دمشق لـ«الشرق الأوسط»، إن سعر شراء كيلو القمح هذا الموسم أقل من الموسم الماضي قياساً إلى سعر صرف الليرة أمام الدولار (9200 ليرة) وتكلفة الإنتاج. وحددت الحكومة العام الماضي سعر شراء كيلو القمح بـ1700 ليرة مع إضافة 300 ليرة لمن يبيعها من خارج مناطق سيطرتها، أي بسعر ألفي ليرة، وكان سعر الصرف وقتذاك أقل من 4000 ليرة مقابل كل دولار أميركي، بينما حددت الحكومة سعر كيلو القمح بـ2800 ليرة في الموسم الحالي، علماً بأن الليرة خسرت كثيراً من قيمتها أمام الدولار هذا العام.

يُضاف إلى ذلك أن المزارعين يعانون أيضاً من ارتفاع في أسعار البذار والمبيدات والري وأجور العمالة، حيث إن الدعم الذي تقدمه الحكومة لا يغطي ربع الاحتياجات، كما يقول مزارعون، كما أن الدعم غالباً ما يأتي متأخراً.

دفع إلى السوق السوداء

وتوضح المصادر الاقتصادية ذاتها أن تكلفة إنتاج كيلو القمح تبلغ في الواقع بين 2500 ليرة و3200 ليرة، «ما يعني في أقل تقدير، واستناداً إلى سعر الصرف وتكلفة الإنتاج، أن التسعيرة يجب أن لا تقل عن 3500 ليرة حداً أدنى». وتتابع أن فرض سعر أقل من التكلفة «سيدفع بالإنتاج إلى السوق السوداء أو إلى التهريب خارج البلاد... وستضطر الحكومة لاستيراد القمح وشرائه بالعملة الصعبة».

يذكر أن المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة تحتاج سنوياً إلى مليوني طن من القمح، وكانت سوريا لغاية عام 2011 تنتج نحو 3.5 ملايين طن. ووصل إنتاج القمح في عموم المناطق السورية الموسم الماضي إلى مليون ونصف المليون طن، منها 500 ألف طن في مناطق سيطرة الحكومة، و200 ألف في مناطق المعارضة شمال غربي البلاد، و800 ألف طن في مناطق الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، ما اضطر حكومة دمشق إلى استيراد أكثر من مليون طن من القمح خلال العام الماضي، منها 500 ألف طن من روسيا. وأوكلت إلى القطاع الخاص مهمة استيراد القمح من دول أخرى.

ومع اندلاع الحرب وتضرر الزراعة، تراجع إنتاج القمح وتحوّلت سوريا من دولة مصدّرة للقمح إلى دولة مستوردة له. ومع أن إنتاج القمح تحسّن منذ عام 2018 إلا أنه ما زال لا يغطي الاحتياج، حيث تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح للموسم الحالي بنسبة 20 في المائة عن العام الماضي، بسبب تأثير الجفاف على أكثر من 70 في المائة من المساحات المزروعة في مناطق نهر الفرات، وتضررت نحو 17 ألف دونم من محصولي القمح والشعير في دير الزور بسبب هطولات المطر الربيعية.

حقائق

الحرب أنهت «الاكتفاء الذاتي» لسوريا من قمحها

  • حافظت سوريا حتى سنة 2011 على الاكتفاء الذاتي في مادتي القمح والشعير.
  • على مستوى سوريا، كان يزرع حتى عام 2010 نحو 1.7 مليون هكتار.
  • متوسط إنتاج القمح خلال آخر 20 عاماً قبل الحرب (1990-2010) كان يزيد على 4 ملايين طن.
  • احتفظت سوريا بالمخزون الاستراتيجي حتى 2010 وكان يكفي لمدة عامين متتاليين.
  • شكّلت مساحة القمح المزروعة المروية على الآبار الجوفية نحو 43% من الأراضي.
  • المساحة الفعلية التي تعتمد على الأمطار الشتوية بلغت 57%.
  • في سنة 2006 سجلت سوريا أعلى رقم في إنتاج القمح بمقدار 4.9 ملايين طن.
  • عام 2021 سجلت البلاد أدنى منتج في القمح بعد عامين من الجفاف، وبلغ آنذاك نحو 100 ألف طن فقط.
  • مناطق الإدارة الذاتية (شمال شرق) مكتفية ذاتياً بمحصول القمح والشعير، وتحتاج إلى نصف مليون طن لتأمين الطحين وعلف الحيوانات والبذار، وتبيع الفائض للحكومة السورية.
  • مدينة إدلب (شمال غرب) وريف حلب الشمالي والغربي (مناطق العمليات التركية) غير مكتفية ذاتياً نظراً لوجود أكثر من 4 ملايين نسمة يعيشون هناك، تحتاج لأكثر من نصف مليون طن من القمح سنوياً.

مزارعو شمال غربي سوريا... تفاؤل بالحصاد ومخاوف من القصف

تشهد مناطق شمال غربي سوريا، التي تضم أجزاء واسعة من محافظة إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية، الخاضعة لنفوذ فصائل مسلحة أبرزها «هيئة تحرير الشام»، حالة تفاؤل بالوضع الزراعي وسط توقعات بإنتاج وفير من الزراعات الاستراتيجية وعلى رأسها القمح. وتقول فصائل المعارضة التي أحكمت سيطرتها على المنطقة منذ عام 2015، إنها عملت على تحسين الواقع الزراعي عبر سلسلة من الإجراءات والمساعدات لتشجيع المزارعين، بحيث بلغت نسبة الاكتفاء من مادة القمح 60 في المائة.

ويشكل القسم الشمالي من سهل الغاب، غرب مدينة حماة بوسط البلاد، والقسم الصالح للزراعة في سهل الروج، والمقدر مساحتهما بـ59795 هكتاراً؛ ومناطق أخرى في إدلب، بالإضافة إلى السهول الزراعية في عفرين والقسم الشمالي لمحافظة حلب، وتبلغ مساحتها بحدود 22230 هكتاراً، السلة الغذائية الرئيسية لأكثر من 5 ملايين ونصف مليون نسمة يعيشون في مناطق المعارضة المسلحة بشمال غربي البلاد. وتُنتج في هذه المناطق محاصيل زراعية مختلفة في مقدمها القمح والشعير إضافةً إلى محاصيل بعلية ومرويّة أخرى.

وتزامن تراجع دعم الجهات الإنسانية من الطحين لإنتاج الخبز في نهاية عام 2021، مع تراجع نسبة إنتاج القمح في شمال غربي سوريا بسبب عوامل مختلفة، ما أثار مخاوف من حدوث مجاعة تطول نسبة كبيرة من السكان. وأدى ذلك إلى حالة غضب واحتجاجات، ما دفع «حكومة الإنقاذ» التي تدعمها «هيئة تحرير الشام» والتي تشرف على الجانب الإداري في المنطقة، إلى اتّباع تدابير وقائية تهدف إلى دعم مادة الخبز وتثبيت أسعاره لدى الأفران الخاصة.

تسعيرة «تحرير الشام»

وتباع سعر ربطة الخبز وزن كيلوغرام بـ5 ليرات تركية بعد توزيع كميات إضافية من مساعدات الطحين إلى المخابز. وبعد تعهد زعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، بتقديم 3 ملايين دولار لدعم مادة الخبز وتشغيل الأفران حتى انتهاء الأزمة الاقتصادية، أعلنت «حكومة الإنقاذ» مخصصات لدعم الطحين والوقود لـ85 مخبزاً، في محاولة منها لتثبيت سعر ربطة الخبز عند حدود 5 ليرات تركية.

وفرة في محصول القمح السوري... وخلاف على الأسعار (غيتي)

وبموازاة ذلك، عملت الجهات الممسكة بالوضع في شمال غربي البلاد على تطوير القطاع الزراعي وتشجيع الفلاحين على العودة إلى الزراعة وزيادة المساحات الزراعية، وإنتاج المحاصيل بكميات وفيرة قادرة على سد الطلب وتعويض النقص في المساعدات الإنسانية (الطحين). ويتم ذلك من خلال تقديم مشروع «القرض الحسن» للمزارعين لشراء بذور وأسمدة ومحروقات، على أن يتم تسديد القرض بعد الحصاد وجني المواسم.

وقال المهندس أحمد الكوان، وهو معاون «وزير الزراعة والري» في «حكومة الإنقاذ» بإدلب، إن «الوزارة أطلقت في بداية الموسم الزراعي لهذا العام، مشروع القرض العيني الخاص بمحصول القمح، وذلك لتشجيع الفلاحين على زيادة المساحات المزروعة بالقمح، ووزعت خلاله 22459 طناً من بذاره على المزارعين في مناطق سهل الروج ومناطق أخرى بريف إدلب، بالإضافة إلى توزيع 2182 طناً من السماد، و71810 ليترات من المحروقات لهم... وتقدّر المساحة المزروعة لهذا العام بـ32850 هكتاراً من القمح، وهذا يعني ضعف المساحات التي كانت تستثمر في زراعة القمح خلال السنوات المنصرمة... أما الهدف من ذلك فهو رفع كمية الإنتاج من القمح إلى الحد المطلوب للاكتفاء الذاتي».

وأشار إلى أنه «لا تزال هناك عراقيل وصعوبات تواجه المزارعين خصوصاً في الأمراض التي أصابت المزروعات في عدد من المناطق خصوصاً القريبة من مناطق التماس مع قوات النظام السوري». وأشار إلى ظهور «حافر أوراق النجيليات» نتيجة عدم اتّباع المزارعين دورة زراعية «بفعل القصف المتكرر على المنطقة»، وإلى تعرض حقول القمح للحرائق قبل موسم الحصاد بسبب القصف أيضاً، علماً أن بعض المناطق المزروعة تقع قرب خطوط التماس بين قوات الحكومة السورية وبين فصائل المعارضة المسلحة.

وحددت «حكومة الإنقاذ» سعر طن القمح في إدلب هذا العام بـ350 دولاراً أميركياً. ويرجح أن يبلغ اكتفاء القمح 60 في المائة هذا العام، ويعود ذلك إلى زراعة مئات الهكتارات بالقمح والتي يتم ريّها عبر شبكات مياه تعتمد على الطاقة الشمسية.

مزارعان في حقل قمح بريف إدلب شمال غربي سوريا (الشرق الأوسط)

أما في المناطق الخاضعة لنفوذ الجيش التركي والتي تُعرف بمنطقتي عمليات «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، شمال حلب، فقد قال أحد المسؤولين في «وزارة الزراعة» التابعة لـ«الحكومة المؤقتة» للمعارضة المدعومة من أنقرة، «إن الحكومة بصدد دراسة حثيثة لاستجرار مياه الري من نهر الفرات إلى مناطق الباب والراعي وجنوب جرابلس، بالاعتماد على جهات دولية مانحة، لتمكين المزارعين من توسيع المساحات المزروعة بالقمح، وذلك بعد أن شهدت المنطقة خلال السنوات الماضية تراجعاً في عملية زراعة القمح التي تعتمد على الري بالآبار الارتوازية ذات الكلفة الباهظة وتوجه الفلاحين إلى زراعات أخرى لا تحتاج إلى كميات مياه كبيرة وتعتمد في الوقت ذاته على الحد الأدنى من الأمطار كالعدس والعصفر وغيرها من الزراعات البعلية، وهو ما قلّص إنتاج مادة القمح خلال السنوات الماضية إلى ما دون 150 ألف طن، ضمن مساحة لا تتجاوز 250 ألف دونم، وهذا على الرغم من تشجيع المزارعين وتقديم البذار والأسمدة لهم بالمجان». وتابع أن خبراء يقدّرون احتياج مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي للقمح بـ185 ألف طن سنوياً، حيث تحتاج منطقة «درع الفرات» لـ125 ألف طن، ومنطقة «غصن الزيتون» لـ60 ألف طن، في الوقت الذي تحتاج هاتان المنطقتان لـ150 ألف طن من الدقيق (الطحين).

مخاوف الحرائق تدفع المزارعين لحصاد القمح مبكراً

ويتخوف المزارع أبو خليل كحال، مثله مثل كثير من مزارعي جنوب إدلب والقسم الشمالي لسهل الغاب بريف حماة، من تزايد حدة القصف بين قوات الحكومة السورية والمعارضة تزامناً مع بدء جني مواسم حصاد القمح هذه الأيام. ويوضح أبو خليل (53 عاماً) وهو أحد سكان بلدة الفريكة الواقعة على بُعد 50 كيلومتراً إلى الغرب من إدلب، ويمتلك ما يقارب 20 هكتاراً من القمح القاسي ذي الجودة العالية، أنه يخشى مع اقتراب موسم الحصاد أن تعمد قوات الحكومة السورية «كالعادة مثل الأعوام السابقة خلال مواسم جني المحاصيل» إلى قصف منطقته التي بادر أهلها إلى زراعة القمح على مساحات كبيرة من أراضيهم الزراعية هذا العام، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارة الموسم الذي انتظروه «عاماً كاملاً».

ونوّه أبو خليل إلى أن كلفة الدونم الواحد من القمح المروي هذا العام، بدءاً من زراعته والعناية به حتى حصاده، وصلت إلى ما يقارب 100 دولار أميركي، متوقِّعاً وصول إنتاج الدونم الواحد إلى نحو نصف طن من القمح وأكثر «نظراً إلى حجم سنابل القمح الناضجة بصورة سليمة بعد العناية بها على مدار عام كامل، ما يعني أنه سيوفر أرباحاً بما بين 100 و150 دولاراً في الدونم الواحد، فيما لو نجا الموسم من أي حريق».

شمال شرقي سوريا... حقول القمح تبشّر بمحصول وفير

في بلدة الدرباسية التابعة لمحافظة الحسكة (شمال شرقي سوريا) وعلى مد البصر، تنتشر حقول القمح، القاسي والطري منها، إلى جانب حقول الشعير التي تبشّر بموسم وفير هذا العام بعد موجة جفاف ضربت المنطقة لسنوات. فهذه المنطقة السورية تشتهر بزراعة أجود أنواع القمح والشعير عالي الجودة، وقد بدأت بالفعل مرحلة حصاد مادة الشعير ليصار، خلال أيام، جني حقول القمح.

يقول المزارع دارا سليمان، المتحدر من قرية سلام عليك، الواقعة بالجهة الشرقية من الدرباسية: «غالبية المزارعين والفلاحين استدانوا ثمن البذور وتكاليف الإنتاج، آملين أن يكون هذا الموسم أفضل من الأعوام السابقة». ويمتلك هذا المزارع نحو 80 هكتاراً زرعها بالقمح المروي على الآبار الجوفية، وذكر أنهم يبيعون إنتاجهم الزراعي لسلطات «الإدارة الذاتية» التي تقدّم أسعاراً تنافس أسعار الحكومة السورية. ويضيف بقلق: «تسعيرة حكومة دمشق كانت صادمة، لا تغطي جزءاً من تكاليف الإنتاج، أما تسعيرة الإدارة فأفضل منها».

حقول قمح في شمال شرقي سوريا (الشرق الأوسط)

ويشاطر دارا في محنته آلاف المزارعين من أبناء المنطقة الذين يعتمدون على حقول القمح بوصفه جزءاً رئيسياً من مداخيلهم الاقتصادية، إلى جانب زراعة الشعير والذرة الصفراء. وتبلغ المساحات المزروعة في ريف هذه البلدة نحو 280 ألف دونم مروية، في وقت تبلغ مساحة الأراضي المزروعة بعلاً 110 آلاف دونم، بحسب هيئة الزراعة التابعة لـ«الإدارة الذاتية».

في المقابل، يقول المزارع أشرف عبدي، المتحدر من قرية كربشك (غرب الدرباسية) إن تسعيرة القمح التي حددتها حكومة دمشق لهذا العام (2800 ليرة سورية، أي ما يعادل 30 سنتاً أميركياً) لن تغطي التكاليف والمصاريف الإنتاجية الأولية، فالدونم الواحد المروي من الأرض يكلّف أكثر من 150 دولاراً أميركياً. وأثناء حديثه، كان عبدي يقف بجانب حقله المزروع بالقمح، والمغطى بسنابل صفراء ذهبية تبشّر بمحصول وفير. لكن علامات الحيرة والاستفهام ارتسمت على وجهه، مشيراً إلى أن سعر الكيلوغرام إذا بيع اليوم بأقل من نصف دولار أميركي (يعادل 4200 ليرة سورية) «فلن يسد مجهود ورمق المزارع الذي ينتظر الموسم لعام كامل... حتى تسعيرة الإدارة (الذاتية) غير منصفة. أفضّل تخزينه (المحصول) على بيعه بالخسارة».

وتسيطر «الإدارة الذاتية» وقواتها العسكرية على محافظة الحسكة وريفها، ومدينة الرقة، وبلدة الطبقة، وريف دير الزور الشرقي، إلى جانب مدينتي عين العرب ومنبج بريف محافظة حلب الشرقي. وتشكل هذه المناطق خزان القمح على المستوى السوري وسلّة البلاد الغذائية. وتبلغ نسبة المساحات المزروعة هذا العام من مادتي القمح والشعير نحو مليون و900 ألف هكتار، منها 300.000 ألف هكتار قمح مروية على الآبار الجوفية.

جانب من حصاد القمح شمال شرقي سوريا قبل أيام (غيتي)

وتولي «الإدارة الذاتية» أهمية لمحصول القمح الاستراتيجي، وقد حددت سعر شراء الكيلوغرام من القمح لهذا الموسم بـ(43 سنتاً أميركياً). وتتوقع سلطات «الإدارة»، وكذلك بعض الخبراء المحليين، أن يكون إنتاج هذا الموسم أكثر من مليون طن. وتمنع «الإدارة الذاتية» المزارعين والتجار من بيع محصول القمح للحكومة السورية، كون الإدارة تخصص كميات محروقات كافية للزراعة بأسعار تنافسية، كما أنها توزّع البذار المعقّم بسعر أقل من أسعار الحكومة. وتخلت «الإدارة» هذا الموسم عن شراء مادة الشعير.

بدورها؛ حددت الحكومة السورية سعر شراء مادة القمح للموسم الحالي عند 2800 ليرة سورية (نحو 30 سنتاً أميركياً) للكيلوغرام الواحدة، بينما حددت تسعيرة مادة الشعير عند 2200 ليرة سورية (25 سنتاً). وهذه الأسعار، مقارنة مع تكاليف الإنتاج ومصاريف الشحن والزراعة، تبدو «صادمة»، كما يقول فلاحون ومزارعون.

ويرى الخبير الزراعي أكرم حسو، أن تسعيرة الحكومة السورية لهذا العام غير منصفة كلياً، ومتدنية مقارنةً مع العام الماضي، حيث اشترت دمشق الكيلوغرام من القمح بألفي ليرة، وكان تصريف الليرة أمام الدولار يومذاك نحو (3700 ليرة)، أي أنها اشترت كيلو القمح بـ(52 سنتاً أميركياً) في حين نافستها «الإدارة الذاتية» واشترت الكيلوغرام بـ(55 سنتاً أميركياً). ويضيف أن تسعيرة دمشق هذا العام «صدمت الجميع».

القمح محصول استراتيجي لـ «الإدارة الذاتية» في شمال شرقي سوريا (غيتي)

ويشير المزارع دارا إلى أن الارتفاع الباهظ في تكلفة أعطال محرّكات المشروعات الجوفية يُثقل جيوبهم، كما أن تكاليف حراثة الأرض ازدادت أسعارها لتصل إلى أرقام قياسية (تكلفة الدونم 150 دولاراً، مثلاً)، إضافةً إلى ارتفاع أسعار المبيدات الحشرية (الدونم يحتاج إلى 5 دولارات). ويقول: «كلها تحديات وصعوبات تواجه المزارع، وقد أثّرت في الموسم لهذا العام، فضلاً عن ارتفاع أسعار المحروقات غير المدعومة».

من جهته، يوضح المزارع أشرف أن الأسمدة التي تدخل بوصفها عنصراً رئيسياً في زراعة الحبوب، ارتفعت أسعارها لتتجاوز 750 دولاراً للطن، «خصوصاً مع شح الأمطار الموسمية، وتعرض المنطقة لسنوات من الجفاف، علماً بأن التربة استُنزفت بسبب زراعتها سنوياً».

ويتعرض سكان شمال شرقي البلاد، مثل حال باقي السوريين، إلى موجة قاسية من ارتفاع الأسعار في الأشهر الأخيرة، بعدما انخفضت الليرة السورية بشكل حاد أمام العملات الأجنبية. وشمل ارتفاع الأسعار مادة السكر والمواد الغذائية ومشتقات الوقود والكهرباء وأسطوانة الغاز. وتباع ربطة الخبز السياحي من الأفران الخاصة بـ2500 ليرة سورية، في حين يباع رغيف الخبز الحجري (في شرق البلاد) بألف ليرة سورية. ويخشى المزارعون والفلاحون من أبناء المنطقة مزيداً من التدهور في سعر ليرتهم؛ ما يعني خسارة فادحة في موسم القمح الذي كلّفهم كثيراً من الأموال والمجهود... «لقد دفعنا دم قلبنا عليه (الموسم)»، كما قال المزارعان دارا وأشرف في ختام حديثهما لـ«الشرق الأوسط».