إن موضوع الثقافة يمتاز بكونه حيّاً وراهناً؛ كيف لا ونحن نفتخر بثقافتنا دوماً معياراً لأصالتنا وتمجيداً لتراثنا. ولكثرة ما نتباهى بالثقافة ونحمّلها معظم الأحيان أوزار تفاهتنا واصطناعيتا وازدواجيتنا، أضحى معنى الثقافة مقيماً في مجال التتفيه ويقع تحت قوانين الاستهلاك. في الواقع، يجري الحديث في بلادنا عن الثقافة والمثقفين ضمن مستويات تختلف باختلاف منطلقات وغايات المتحدثين، حيث يضيع المعنى ويصبح موضوعاً لمونولوجات الطرشان.
قبل أن ندخل في موضوعنا، لا بد لنا من التوقف عند مسألة تعريف الثقافة. نبدأ بما ورد في قاموس «لالاند» الفلسفي، حيث نجد ثلاثة معان للثقافة: 1 - المعنى الضيق، حيث تكون الثقافة عبارة عن تنمية بعض ملكات الروح أو الجسد من خلال تمرين خاص. 2 - المعنى العام، حيث تكون الثقافة، أولاً، ميزة لشخص متعلم نمى ذوقه وحسه النقدي وقدرته على التمييز في الأحكام، وثانياً، تكون هي نفسها التربية التي تساهم في إنتاج هذه الميزة. 3 - أما المعنى الثالث فيعتبر الثقافة مرادفاً للحضارة.
أما قاموس «وبستر» فيعتبر أن الثقافة هي مجموعة معينة من الاعتقادات والآراء والإنجازات والتقاليد التي تؤلف خلفية مجتمع ما.
أما هيغل فيعتبر أن الثقافة هي شكل أو صورة الفكر وفعل الفكر. والإنسان المثقف هو الذي يعرف أن يطبع كل أعماله بخاتم الكلية أو الكونية والذي تخلى عن خصوصيته ويفعل بحسب مبادئ كلية.
ويورد كلود ليفي - ستروس في كتابه «الأنثروبولوجيا البنيوية» تعريف تايلور للثقافة، ويعتبره أول من عرَّف الثقافة بشكل يجعل من الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية ملتصقتين ومتجاورتين. يعرّف تايلور الثقافة بأنها: ذلك الكل المركب الذي يضم المعرفة والاعتقاد والفن والأخلاقيات والقانون والعادة والعرف وأي كفاءات أو إمكانيات وسلوكات وأعراف ومظاهر أخرى مكتسبة من قِبل الإنسان كعضو في المجتمع.
ويعتبر هربرت مركيوز في «ملاحظات حول تحديد جديد للثقافة»، أن الثقافة هي عملية أنسنة تمتاز بالسعي المشترك نحو دوام الحياة البشرية وتهدئة الصراع من أجل الحياة – أو على الأقل حصره في حدود يمكن مراقبتها – وتدعيم نظام المجتمع الإنتاجي وتنمية القدرات الفكرية عند البشر وتخفيف التعديات والعنف والبؤس.
من خلال هذه التعريفات للثقافة يتضح لنا اتجاهان بارزان: اتجاه يميز الثقافة عن الحضارة، وآخر يميل إلى اعتبارها مرادفاً للحضارة.
ولا شك أن الاتجاه الذي ساد بين فلاسفة وأنثروبولوجيي العصر الحديث، وخاصة في أميركا وإنجلترا وألمانيا كان يدمج الثقافة بالحضارة؛ وهذا ما أدى إلى سيطرة القيم التقنية وتراجع القيم الفكرية. ويميز مركيوز بين الثقافة والحضارة فيعتبر أن الثقافة تعود إلى مستوى عالٍ من استقلال الإنسان وتكامله؛ في حين تخص الحضارة ميادين الحاجة والسلوك... حيث يكون الإنسان فيها تبعياً متعلقاً بالظروف والحاجات الخارجية. ولا تصبح الحضارة ثقافة إلا عندما تصل البشرية إلى مرحلة تستطيع فيها أن تبني تقنياً عالم السلام الخالي من البؤس والخوف والاستغلال.
إذن، إن الحضارة التقنية جعلت الإنسان في سباق نحو إشباع الحاجات المتزايدة ونحو البقاء. وبالتالي أصبحت الثقافة النظرية والفكرية تُباع وتُشترى، وأصبح البعد الفكري مجرد تابع للبعد التقني العملي والاستهلاكي.
إذن، من زاوية الأزمة القائمة في علاقة الثقافة بالحضارة التقنية سوف نبدأ بتلمس أزمة ثقافتنا.
في الواقع، يبدو أن أزمة ثقافتنا تظهر من جهتين: 1 - من جهة العلاقة مع الخارج، حيث نتخبط بين منطقين: منطق التماثل ومنطق الاختلاف. فنحن حين ننبهر بتقنية العالم الغربي وثقافته ينبري قوم منا فينادي بالتماثل المطلق مع الحضارة التي سبقتنا واستقوت علينا. وحين نشعر بعدم قدرتنا على مجاراة العصر التقني ونعي أن أحادية السيطرة على العالم قد تمحو هويتنا وثقافتنا، ينبري قوم منا فينادي بالاختلاف المطلق مع الآخر. 2 - أما من جهة الداخل، نحن نعاني من تمزقات سياسية ودينية وآيديولوجية على مدى العالم العربي ككل. هذه التمزقات تضع هويتنا الثقافية على المحك وتجعلنا في حالة قصور عن إمكانية انتمائنا إلى مستوى الروح الكلية أو الكونية.
وإذا أردنا تحديد إشكالية الثقافة عندنا فإننا نجد هذه الثقافة في أزمة من زاويتي تعريف الثقافة بشكل عام؛ فإذا اعتبرناها مرادفاً للحضارة نجد أنفسنا أمام سيطرة الحضارة التقنية على العالم؛ وأمام عجزنا عن اللحاق بها، كوننا مستهلكين غير منتجين لها، نرى أنفسنا في مأزق لا نُحسد عليه، حيث تسيطر قيم السوق والاستهلاك على فكرنا ونصبح أرقاماً في غرف انتظار الحضارة التقنية، نترقب ما تصنعه لنا كي نستهلكه ونبيعه ونشتريه ونبقى تجاراً وسماسرة. أما إذا اعتبرنا الثقافة من منظار تنمية مواهب الأفراد وتربيتهم لاكتساب الحس النقدي السليم، فإننا نجد دون هذه المهمة عوائق كثيرة تعود بمجملها إلى مسألة الفكر والسلطة، حيث نلاحظ أن الفكر في المجتمعات المتخلفة اقتصادياً وسياسياً وديمقراطياً لا يستطيع أن يتجلى في الثقافة؛ لأن تربية الحس النقدي عند الأفراد لا تلائم أبداً السلطات المسيطرة في المجتمع.
إن مشكلة ثقافتنا إذن تكمن في كونها ثقافة أزمة. نحن لا نقول، إن ليس لدينا ثقافة، بل نقول، إن ثقافتنا هي في مستوى أزمتنا؛ وبالتالي هي تعكس لحظة ومستوى انتمائنا إلى الروح الشاملة أو الكونية. وعليه، فإن أزمة الثقافة عندنا ناتجة من مراوحة فكرنا في مستويات دون مواقع السيادة في الروح الشاملة المتسلحة بالعلم والتكنولوجيا والحرية. يعني أن ثقافتنا تقف عند حدود مراوحة فكرنا الذي يتخبط في مكانه مجتراً إشكالياته القاصرة تجاه الزمن المعاصر.
الثقافة في غرفة الانتظار والفكر عاجز عن الظهور في الثقافة. وأزمة الثقافة هذه تجعلنا في إنتاج متجدد لثقافة الأزمة فنعيش في أزمة العلاقة بين الفكر وتجليه الروحي - الثقافي.
والآن سنحاول، بإيجاز شديد، رصد تجليات التداخل بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة في مظاهر حياتنا. إن أول مظهر من مظاهر أزمة الثقافة يتجلى في تحول مجتمعاتنا إلى الحكم على أي نشاط بشري بالقياس إلى مدى الريع المادي الذي يوفره. وبما أن ريع النشاط الفكري يأتي متأخراً، لا، بل أحياناً كثيرة يبقى كامناً في روح المجتمع، فإن بضاعته لا يستثمرها ولا يراهن عليها سوى قلة من الناس. من هنا، فإن قوانين العرض والطلب السائدة تُتَرجَم في ثقافة التجارة؛ ويصبح التعامل مع الثقافة كسلعة تجارية وتنشأ تجارة الثقافة التي تبقى من أفشل التجارات.
وتتجلى الأزمة أيضاً في مجال التربية والتعليم، حيث نرى برامجنا التعليمية والتربوية تراوح مكانها فتتأخر عن العصر الذي بدأ منذ سنوات عديدة بتجارب جديدة قد لا نستطيع تمثلها إذا استمررنا في المراوحة. وهذا الواقع ينتج لنا أجيالاً من حاملي ثقافة الأزمة، لن نستطيع في المستقبل مطالبتهم بتحمل أعباء قيادة المجتمع إلى القرون الآتية على إيقاع التقنية المتطورة وتحالف قوى التقنية والعلم. وحين تأتي لحظة مواجهة العالم الجديد سيشعر أبناؤنا بالخواء ولن نستطيع عندئذٍ مساعدتهم ولن يستطيعوا تحقيق أحلامنا بالاختلاف، بل سيكرسون تبعيتنا المتجددة بفضل ثقافة الأزمة التي نشأوا عليها وترعرعوا بين أحضانها.
أما على صعيد الفن الذي يعتبره هيغل لحظة أساسية في أعلى مثلث من مثلثات الروح المطلق، فإننا نشهد تجليات أزمتنا الروحية في تهافت وعقم الإنتاج الفني. وأزمة الفن ناتجة من عدم وعينا لأزمتنا. فالفن هو تجسيد لمعاناة الروح في إحدى لحظاتها؛ وعندما لا تخرج معاناة الروح وتتجسد في عمل فني، هذا يعني أنها ليست في سيرورتها نحو الروح المطلق الذي يتطابق فيه الفكر والواقع في حقيقة مطلقة. هذا يعني، أن أزمة الفن هي دلالة على قصور الروح عندنا عن حركتها الجدلية في سبيل تجسدها في الحقيقة المطلقة. وهذا الواقع القاصر يُنتج فن أزمة يستبيح ذوقنا ويكبلنا في سجن الروح السائدة التي لم تتجاوز تناقضاتها وإشكالياتها إلى الآن.
وعلى صعيد الدين، فإن الأزمة تتجلى في إشكالية النظر إلى الدين ودوره في المجتمع. وتتحول الإشكالية إلى أزمة عندما لا يتم تجاوزها. ومن أهم عناصر هذه الإشكالية: قضايا الأصولية والتسامح والطائفية والمذهبية، دور الدين في السياسة، الولاء الديني والولاء الوطني والقومي. ولا حاجة بنا إلى البرهان على تأزم هذه الإشكالية بعد ما رأيناه وما زلنا من صراعات وتناحرات في هذا المجال. وبما أن الدين، أيضاً، يجسد اللحظة الوجدانية في أعلى مثلث من مثلثات الروح المطلق عند هيغل، فإن ثقافتنا في هذا المجال هي تعبير عن روحنا السائدة في هذه اللحظة من تاريخنا. ولا شك أن هذه المراوحة في أزمة وجداننا الديني تعني أننا نُنتج ثقافة أزمة تُبقي أجيالنا القادمة خارج حدود الروح الشاملة، أي خارج الحقيقة المطلقة الكونية السائدة. أما التجلي المباشر لأزمة الثقافة فنراه في المثقفين، في علاقتهم بالسلطات وفي علاقتهم بالسياسة. أولاً، هناك فهم خاطئ وشائع يعتبر المثقفين كتلة متجانسة لها مصالح وغايات واحدة. في الواقع، إن المثقفين ينتمون إلى فئات مختلفة ويمثلون الوعي الاجتماعي لهذه الفئات. ويتميز المثقف عن غيره من أفراد طبقته أو شريحته الاجتماعية بكونه قادراً على تمثل وعي ومصالح فئته الاجتماعية، وبالتالي عاملاً على تصوير هذا الوعي وهذه المصالح على أنها كلية، أي على أنها تمثل مصلحة ووعي المجتمع ككل. من هنا، فإن المثقف قد يلجأ إلى ممارسة الدعارة الثقافية من خلال بيعه قدراته الفكرية التنظيرية من أجل تبرير مصلحة معينة. ولكن ما الذي يُسهل ممارسة الدعارة الثقافية؟ إنها أزمة الروح السائدة في المجتمع. فحين تسيطر قيم المال والسلطة على المجال السياسي، وحين يُقاس نشاط البشر على أساس الريع المادي المباشر، وحين تصبح الثقافة الفكرية سلعة في بازار السلطة المالية، فإن المثقف يجد نفسه تابعاً للسياسي ولصاحب السلطة متناقضاً بذلك مع وظيفته الكلية. وما الذي يُنتجه مثقف في أزمة سوى ثقافة الأزمة؟
وتتجلى الأزمة في المفارقة التي يقع فيها السياسي؛ فهو، رغم قوته وجبروته وسلطته، يبقى في حاجة ماسة إلى المستشار الثقافي. السياسي يُذل المثقف بالعمل على إبقائه في موقع التابع، من جهة، ومن جهة أُخرى لا يمكنه الاستغناء عنه؛ لأنه بواسطته يستطيع الانتماء إلى عالم الكليات. والخروج من هذه المفارقة لا يتم سوى بإغناء الثقافة بمضامين الفكر وبالتالي بتجاوز أزمة العلاقة بين الحضارة التقنية وسيطرة نظام الحاجات من جهة، وبين الأبعاد الفكرية والنظرية في الثقافة. هذا ما قد يؤدي إلى توليف جديد بين الثقافة والسياسة، حيث تنتقل الروح العامة للمجتمع إلى مرحلة الحقيقة.
وإذا كان لا بد من استنتاج فإننا نستنتج بالتساؤل التالي: ما دامت كل ثقافة هي ثقافة حقيقية بقدر ما هي تعبير عن لحظة روحية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً ودينياً، هل يبقى من معنى لقولنا بأزمة الثقافة؟ وبالتالي، ألا يعني ذلك أن ثقافة الأزمة هي أيضاً حقيقية، وهي ما نستحق في لحظتنا؟ أليس مؤسفاً أن ثقافتنا التي نبروِزها ونبررها بكلمة «أزمة» هي فعلاً ثقافة حقيقية وعينية ومن صميمنا؟ فهل نعي هذه الحقيقة ونتجاوزها؟
* باحث وأستاذ جامعي لبناني