«المونادولوجيا»: ميتافيزيقيا الشبكة العنكبوتية

هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
TT

«المونادولوجيا»: ميتافيزيقيا الشبكة العنكبوتية

هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)

«المونادولوجيا» هو عنوان الكتاب الذي أصدره الفيلسوف الألماني لايبنتز سنة 1714 م. وكان بمثابة وصيته الفلسفية التي كثّف فيها مبادئ فلسفته بعد أن خاضت غمار اللاهوت والرياضيات والفيزياء والمنطق والميتافيزيقا. ولكن نظرية المونادولوجيا شكّلت مع ذلك إنجازاً ومنعطفاً في تاريخ الفلسفة بشكل عام، وفي فلسفة لايبنتز بشكل خاص، إذ إنها أتت في بداية القرن الثامن عشر لتمهد لتحرير الخطاب الفلسفي من النهج اللاهوتي بعد أن كانت اللغة اللاهوتية ما تزال ماثلة في بعض فلسفات القرن السابع عشر، وخصوصاً في كتابه «خطاب الميتافيزيقا». على ذلك فإن «المونادولوجيا» ليست مجرد تكثيف لفلسفة لايبنتز، بل هي على العكس تشكل إنجازاً أو إتماماً لهذه الفلسفة يضعها على منعطف أساسي في تاريخ الفلسفة العام.
في البداية يعرف لايبنتز الموناد كما يلي: «الموناد التي سوف نتحدث عنها هنا ليست شيئاً آخر سوى جوهر بسيط يدخل في المركّبات. والبسيط يعني أنه من دون أجزاء». (ص95)** نلاحظ هنا أن لايبنتز تحدث عن جوهر بسيط وعن موناد، في حين أنه في «خطاب الميتافيزيقا» لم يستعمل مصطلح موناد، ولم يتحدث إلا عن جواهر فردية تتميز بمحمولات، وتتصف بأنها كائنات روحية أو أشخاص معينين كأن نقول مثلاً إن الإسكندر هو جوهر فردي. الجديد هنا إذن هو الحديث عن بساطة الموناد وعن عدم امتلاكها لأجزاء.
ولكن لماذا توجد هذه المونادات؟ إنها ضرورية، وذلك لأن هناك تركيبات ولأن المركّب ليس سوى تجميع للجواهر البسيطة. وينتج عن بساطة الموناد عدم وجود الامتداد ولا الصورة ولا القسمة، وبالتالي فإن هذه المونادات هي بمثابة ذرات طبيعية حقيقية أي أنها عناصر الأشياء. هكذا فالوجود الحقيقي يتمثل في ذرات الطبيعة.
وبما أن المونادات بسيطة، فهي من دون أجزاء وأبواب ونوافذ، وبالتالي لا شيء يستطيع التأثير فيها من خارجها.
ولكن بساطة الموناد لا تحجب عنها بعض المزايا الإيجابية؛ ومن أهم هذه المزايا الإدراك الحسي والنزوع. وبالتالي، فإن كل موناد لها مزاياها، وليس هناك موناد متطابقة مع الأخرى؛ والتغيير الذي نشهده في الأشياء لهو خير دليل على ذلك. ومن جهة أخرى، فإن الموناد هي معرضة للتغير، ولكن تغيرها يأتي من مبدأ داخلي، وبالتالي لا بد من أن يكون في كل موناد كثرة من الانفعالات والعلاقات. هذه الكثرة الموجودة داخل كل جوهر بسيط هي التي تجعل كل موناد مختلفة عن غيرها من المونادات.
أما الإدراك الحسي فهو ليس سوى تمثّل لهذه الكثرة المنضوية في الوحدة. أما ميزة النزوع فتتمثل في ميل الموناد للانتقال من إدراك حسي إلى آخر. وللدفاع عن وجود الكثرة في الجوهر البسيط يقول لايبنتز: «نحن نختبر بأنفسنا وجود كثرة في الجوهر البسيط، وذلك عندما نجد أن أقل فكرة يمكن أن نلاحظها تنطوي على تنوع في الموضوع. هكذا فإن كل أولئك الذين يعترفون بأن النفس هي جوهر بسيط عليهم الاعتراف بهذه الكثرة في الموناد». (ص97)
بعد ذلك ينتقل لايبنتز إلى تمييز درجات الكمال في الموناد؛ وهذا التمييز يرتكز على معايير الإدراك الحسي والنزوع والذاكرة والعقل. إن درجة الكمال الأولى توجد لدى ما يسميه لايبنتز الأنتيليشيا (Entéléchie)، التي هي عبارة عن موناد بسيطة تملك ما يكفي لتكون مصدر حركتها الداخلية. هذا يعني أن كل جوهر بسيط يتمتع بميزتي الإدراك الحسي والنزوع هو موناد بدرجة الأنتيليشيا.
ولكن الجوهر البسيط الذي يمتاز بامتلاكه للذاكرة، إضافة إلى الميزتين السابقتين، فهو يستحق اسم النفس. ومع ذلك فإن لايبنتز يصنف النفس إلى حيوانية وعاقلة أو روح. فالنفس الحيوانية تتمتع بالذاكرة، ولكنها لا تفعل سوى تقليد العقل، وبالتالي فإن أفعالها تقع تحت نطاق العادة. أما الروح، أي النفس العاقلة، فإنها تتيح لنا الاستدلال والارتفاع إلى مستوى الحقائق الأبدية التي تتعلق بنا وبالله، وذلك بالاستناد إلى مبدأين كبيرين وهما: مبدأ التناقض ومبدأ السبب الكافي. وبالتالي فهو يميز بين نوعين من الحقائق: الحقائق الضرورية أو حقائق الاستدلال والحقائق العرَضية أو الحادثة؛ وهو يعتبر أن مبدأ السبب الكافي يمكن أن يطبق على هذين النوعين من الحقائق. وانطلاقاً من مبدأ السبب الكافي حيث لكل حادث سبب يكفي لوجوده، يلاحظ لايبنتز أن سلسلة الأسباب يمكن أن تذهب إلى اللانهاية نظراً إلى إمكانية قسمة الأجسام إلى اللانهاية؛ ولكن كل هذه السلسلة تدخل في السبب النهائي الذي لا بد أن يكون سبباً كافياً، وأخيراً خارج سلسلة الأشياء الحادثة.
من هنا ينتقل لايبنتز في القسم الثاني من «المونادولوجيا» إلى البرهان على وجود الله فلسفياً، حيث يقدم ثلاث حجج: الحجة الأولى أتت في سياق معالجة السبب الكافي للقضايا الحادثة، حيث يستنتج لايبنتز قائلاً: «وهكذا فإن السبب الأخير للأشياء يجب أن يكون في جوهر ضروري لا تكون فيه التغيرات التفصيلية إلا بطريقة الفيض كما في النبع، وهذا ما نسميه الله». (ص102) ومن هذه الحجة يستنتج لايبنتز أحادية الله وكماله: «بما أن هذا الجوهر هو سبب كافٍ لكل التفاصيل التي ترتبط بكل شيء، فليس هناك إذن سوى إله واحد وهذا الإله يكفي». (ص102) وبما أنه ليس هناك شيء خارج هذا الجوهر يمكن أن يكون مستقلاً عنه، فهو يتمتع بكل الواقع الممكن، وبالتالي فإن الله هو كامل بالمطلق، طالما أن الكمال ليس سوى عظمة الواقع الإيجابي، حيث لا حدود تحده وحيث الكمال لامتناهٍ. وبما أن المخلوقات تتميز بمحدوديتها فهي تأخذ كمالها من كمال الله. إذن، هذه الحجة الأولى هي حجة بعدية، إذ يستنتج لايبنتز وجود الله كسبب كافٍ لوجود الأشياء الحادثة وكمصدر ضروري لها.
أما الحجة الثانية، فهي حجة قبلية، إذ إن الله ليس فقط مصدراً للوجود، بل هو أيضاً مصدر للماهيات بما هي حقيقية. إذن، الحجة القبلية تتلخص في أنها تؤكد وجود الله قبلياً كمصدر للماهيات وللإمكانات وللحقائق الأبدية.
هكذا يتوصل لايبنتز إلى الحجة الأنطولوجية الشهيرة معدّلة حيث يقول: «هكذا فإن الله وحده (أو الكائن الضروري) يملك الامتياز في أنه يجب أن يكون موجوداً إذا كان ممكناً. وبما أنه لا شيء يمكن أن يمنع إمكانية ما لا ينطوي على أي حدود ولا على أي سلب، وبالتالي لا ينطوي على أي تناقض فإن هذا وحده يكفي لمعرفة وجود الله قبلياً». (ص103) انطلاقاً من هذ الحجج الثلاث يستنتج لايبنتز بأن الله وحده هو الوحدة البدائية، أو هو الجوهر البسيط الأصلي، وبالتالي فإن كل المونادات المخلوقة تأتي نتيجة ومضات متواصلة من الألوهة، بحيث تتوزع هذه الومضات تبعاً لقدرة المخلوقات على استقبالها ضمن حدودها الخاصة بها.
إذن، هناك المونادات، وهناك الله، وبينهما عالم المخلوقات الذي يأتي ليجسد العلاقة بينهما، حيث إن هذا العالم يكون حاصل نسبة صفات المونادات المحدودة إلى صفات الله اللامحدودة، بحيث إن الله الذي يملك القدرة والمعرفة والإرادة يعرف ويفهم العالم كأفضل نتاج يمكن أن تقدمه توليفة المونادات المتصفة بالإدراك الحسي والنزوع. هكذا بين نزوع المونادات وإدراكها الحسي وبين كمال الله يتكون عالم المخلوقات.
من هنا ينتقل لايبنتز في القسم الأخير من المونادولوجيا للحديث عن عالم المخلوقات وما يدور فيه من نشاط ما بين المونادات.
بما أن الموناد هي جوهر بسيط يتميز بالإدراك الحسي وبالنزوع وهو مقفل على ذاته ويتحرك من داخله، فإن عملية التفاعل والتأثير المتبادل ما بين المونادات تصبح عملية افتراضية ومثالية وتقوم على معيار مستوى الإدراك الحسي في كل موناد، بحيث إن الموناد التي تتميز بإدراك حسي غامض وملتبس تتلقى التأثيرات من داخلها، بحيث إن ميزتها الداخلية تضعها في تبعية لتوليفات المونادات الأكثر إدراكاً؛ وهذه العملية تتم بتدخل من الله، الذي يضبط العلاقة بين المونادات بحيث تكمل الواحدة نقص الأخرى في سبيل تركيب أفضل العوالم الممكنة.
بالتالي، فإن نظرية تفاعل المونادات البسيطة اللامحدودة العدد تؤدي بلايبنتز إلى بلورة مبدأ الأفضل حيث يقول: «على ذلك، وبما أن هناك عدد لا متناهٍ من العوالم الممكنة في أفكار الله، وبما أنه لا يمكن أن يوجد سوى عالم وحيد، فيجب أن يكون هناك سبب كافٍ لاختيار الله لهذا العالم دون غيره... وهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في التناسب أو في درجات الكمال التي تنطوي عليها هذه العوالم، بحيث إن كل ممكن له الحق في ادعاء الوجود، قياساً إلى الكمال الذي ينطوي عليه... وهذا هو سبب وجود الأفضل الذي عرفه الله بالحكمة واختاره بإرادته وخلقه بقدرته». (ص105) إذن، الله اختار بمعرفته وإرادته وقدرته أفضل العوالم الممكنة، خاصة أنه اهتم منذ بداية الأشياء بملاءمة كل موناد مع كل المونادات الأخرى.
وهذا ما أدى بلايبنتز إلى إعادة تأكيده على أطروحة الانسجام المسبق، حيث إن علاقة وتلاؤم كل موناد مع غيرها من المونادات تجعل كل جوهر يبدو وكأنه مرآة العالم. وبذلك يمكن الحصول على أكثر ما يمكن من الكمال وتحقيق مبدأ الأفضل، وذلك لأن كل موناد تمثل كل العالم ولكن تمثلاتها هي في أكثريتها ملتبسة، وهي لا تعرف بشكل متميز سوى القليل من الأشياء؛ وبذلك تتكامل معرفتها مع معارف المونادات الأخرى حسب نظام الانسجام الكوني المسبق الماثل في فكر الله.
ولكن ما الذي يدور في هذا العالم؟ وكيف هي العلاقة بين المونادات من جهة وبين الأشياء أو الأجسام المركبة منها؟ هنا يعتبر لايبنتز أنه كما أن كل موناد تعبر عن كل المونادات الأخرى، فإن كل جسم يتأثر بكل الأجسام الأخرى مهما كانت بعيدة عنه. وبالتالي فإن الموناد بتمثيلها للجسم الذي ينتمي إليها فهي تمثل كل العالم، مما يعني أن طريقة تمثيل الموناد للعالم تتوقف على جسمها. ويضيف لايبنتز بأنه ينشأ عن التقاء الموناد بجسم معين ما هو كائن حي. وإذا كانت الموناد نفساً يكون هذا الحي حيواناً. وبما أن الجسم الحي هو دائماً عضوي فإن هيئة الجسم تعكس النظام الكامل للكون الذي تشكّل الموناد المرتبطة بهذا الجسم مرآة له. وبالتالي فإن الجسم الحي هو كالعالم منظم إلى اللانهاية وأن كل كائن حي يحتوي على عدد لا محدود من الأحياء الآخرين، الذين يمتلك كل واحد منهم نفسه مع الموناد المسيطرة فيه.
من هنا يعتبر لايبنتز أن الأجسام الحية والنفوس هي في علاقة تحولية؛ فلا الجسم ولا النفس لهما بدايات ونهايات محددة إذ إن كل شيء يخضع لمقتضيات الانسجام المسبق، مما جعل لايبنتز يستنتج حول علاقة النفس بالجسم قائلاً: «هذه المبادئ منحتني الوسيلة لتفسير طبيعي لاتحاد، أو بالأحرى، لتلاؤم النفس والجسم العضوي. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة بها؛ والجسم يتبع قوانينه أيضاً؛ وهما يلتقيان بفضل الانسجام المسبق فيما بين كل الجواهر، إذ إن هذه الجواهر هي جميعها تمثلات للعالم ذاته». (ص111)
إذن، طالما أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة وأن العلاقات بين المونادات وبين الأجسام تخضع لمبدأ الانسجام المسبق لم يبقَ سوى ترجمة هذا الواقع في سلوك النفوس، وبالتالي ينتهي لايبنتز في ختام المونادولوجيا إلى الاستثمار الأخلاقي لفلسفته، حيث يعتبر أن النفوس العاقلة هي التي أدركت من خلال مستوى كمال معرفتها أنها جزء من هذا العالم الذي يأخذ كماله من كونه يدخل في شراكة مع أكمل المونادات وعياً ومعرفة أي مع الله. على ذلك، فإن هذه النفوس تتميز بتفوقها على بقية النفوس وتشكل مدينة الله التي تجسد العالم الأخلاقي في العالم الطبيعي، حيث هناك انسجام بين فيزياء الطبيعة وبين الأخلاق الإلهية، وحيث تقوم أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل السلاطين، أي الله.
في الختام لا بد من التساؤل ما إذا كانت محاولتنا هذه قد نجحت بعض الشيء في تحقيق ما طرحته على نفسها من إثبات لدور المونادولوجيا في إنجاز «خطاب الميتافيزيقا» عند لايبنتز.
إن أبلغ رد على هذا التساؤل قد يكون بطرح التساؤلات التالية: أليست فلسفة لايبنتز متعددة الوجوه والأبواب والمفاهيم المتشابكة والمتلائمة والكونية، تشبه الموناد البسيطة الواحدة التي تمثل الله والعالم والكائنات المخلوقة؟ ألا تكمن قمة ميتافيزيقا لايبنتز في اختراعه لمفهوم الموناد، ذلك الجوهر البسيط الذي يحمل في ثنياته اللامتناهية وحدة الله وكثرة الموجودات؟ وبالتالي، ألا نستطيع القول إن إله المونادولوجيا هو عبارة عن مبدأ ميتافيزيقي أكثر منه لاهوتي؟ وأخيراً ألا يمكننا اعتبار مونادولوجيا لايبنتز، عالم الرياضيات المساهم في تأسيس المعلوماتية، كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر بفضل تكنولوجيا النانو والاتصالات والنظام الرقمي والأقمار الصناعية التي حولت «أفضل العوالم الممكنة» إلى قرية كونية؟
*باحث وأستاذ جامعي لبناني
** المقتطفات الواردة في النص مأخوذة من الكتاب التالي:
Leibniz، Discours de métaphysique، suivi de Monadologie، Gallimard، Paris1995



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».