«المونادولوجيا»: ميتافيزيقيا الشبكة العنكبوتية

هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
TT

«المونادولوجيا»: ميتافيزيقيا الشبكة العنكبوتية

هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)
هل يمكن اعتبار «مونادولوجيا» لايبنتز كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر(أ.ف.ب)

«المونادولوجيا» هو عنوان الكتاب الذي أصدره الفيلسوف الألماني لايبنتز سنة 1714 م. وكان بمثابة وصيته الفلسفية التي كثّف فيها مبادئ فلسفته بعد أن خاضت غمار اللاهوت والرياضيات والفيزياء والمنطق والميتافيزيقا. ولكن نظرية المونادولوجيا شكّلت مع ذلك إنجازاً ومنعطفاً في تاريخ الفلسفة بشكل عام، وفي فلسفة لايبنتز بشكل خاص، إذ إنها أتت في بداية القرن الثامن عشر لتمهد لتحرير الخطاب الفلسفي من النهج اللاهوتي بعد أن كانت اللغة اللاهوتية ما تزال ماثلة في بعض فلسفات القرن السابع عشر، وخصوصاً في كتابه «خطاب الميتافيزيقا». على ذلك فإن «المونادولوجيا» ليست مجرد تكثيف لفلسفة لايبنتز، بل هي على العكس تشكل إنجازاً أو إتماماً لهذه الفلسفة يضعها على منعطف أساسي في تاريخ الفلسفة العام.
في البداية يعرف لايبنتز الموناد كما يلي: «الموناد التي سوف نتحدث عنها هنا ليست شيئاً آخر سوى جوهر بسيط يدخل في المركّبات. والبسيط يعني أنه من دون أجزاء». (ص95)** نلاحظ هنا أن لايبنتز تحدث عن جوهر بسيط وعن موناد، في حين أنه في «خطاب الميتافيزيقا» لم يستعمل مصطلح موناد، ولم يتحدث إلا عن جواهر فردية تتميز بمحمولات، وتتصف بأنها كائنات روحية أو أشخاص معينين كأن نقول مثلاً إن الإسكندر هو جوهر فردي. الجديد هنا إذن هو الحديث عن بساطة الموناد وعن عدم امتلاكها لأجزاء.
ولكن لماذا توجد هذه المونادات؟ إنها ضرورية، وذلك لأن هناك تركيبات ولأن المركّب ليس سوى تجميع للجواهر البسيطة. وينتج عن بساطة الموناد عدم وجود الامتداد ولا الصورة ولا القسمة، وبالتالي فإن هذه المونادات هي بمثابة ذرات طبيعية حقيقية أي أنها عناصر الأشياء. هكذا فالوجود الحقيقي يتمثل في ذرات الطبيعة.
وبما أن المونادات بسيطة، فهي من دون أجزاء وأبواب ونوافذ، وبالتالي لا شيء يستطيع التأثير فيها من خارجها.
ولكن بساطة الموناد لا تحجب عنها بعض المزايا الإيجابية؛ ومن أهم هذه المزايا الإدراك الحسي والنزوع. وبالتالي، فإن كل موناد لها مزاياها، وليس هناك موناد متطابقة مع الأخرى؛ والتغيير الذي نشهده في الأشياء لهو خير دليل على ذلك. ومن جهة أخرى، فإن الموناد هي معرضة للتغير، ولكن تغيرها يأتي من مبدأ داخلي، وبالتالي لا بد من أن يكون في كل موناد كثرة من الانفعالات والعلاقات. هذه الكثرة الموجودة داخل كل جوهر بسيط هي التي تجعل كل موناد مختلفة عن غيرها من المونادات.
أما الإدراك الحسي فهو ليس سوى تمثّل لهذه الكثرة المنضوية في الوحدة. أما ميزة النزوع فتتمثل في ميل الموناد للانتقال من إدراك حسي إلى آخر. وللدفاع عن وجود الكثرة في الجوهر البسيط يقول لايبنتز: «نحن نختبر بأنفسنا وجود كثرة في الجوهر البسيط، وذلك عندما نجد أن أقل فكرة يمكن أن نلاحظها تنطوي على تنوع في الموضوع. هكذا فإن كل أولئك الذين يعترفون بأن النفس هي جوهر بسيط عليهم الاعتراف بهذه الكثرة في الموناد». (ص97)
بعد ذلك ينتقل لايبنتز إلى تمييز درجات الكمال في الموناد؛ وهذا التمييز يرتكز على معايير الإدراك الحسي والنزوع والذاكرة والعقل. إن درجة الكمال الأولى توجد لدى ما يسميه لايبنتز الأنتيليشيا (Entéléchie)، التي هي عبارة عن موناد بسيطة تملك ما يكفي لتكون مصدر حركتها الداخلية. هذا يعني أن كل جوهر بسيط يتمتع بميزتي الإدراك الحسي والنزوع هو موناد بدرجة الأنتيليشيا.
ولكن الجوهر البسيط الذي يمتاز بامتلاكه للذاكرة، إضافة إلى الميزتين السابقتين، فهو يستحق اسم النفس. ومع ذلك فإن لايبنتز يصنف النفس إلى حيوانية وعاقلة أو روح. فالنفس الحيوانية تتمتع بالذاكرة، ولكنها لا تفعل سوى تقليد العقل، وبالتالي فإن أفعالها تقع تحت نطاق العادة. أما الروح، أي النفس العاقلة، فإنها تتيح لنا الاستدلال والارتفاع إلى مستوى الحقائق الأبدية التي تتعلق بنا وبالله، وذلك بالاستناد إلى مبدأين كبيرين وهما: مبدأ التناقض ومبدأ السبب الكافي. وبالتالي فهو يميز بين نوعين من الحقائق: الحقائق الضرورية أو حقائق الاستدلال والحقائق العرَضية أو الحادثة؛ وهو يعتبر أن مبدأ السبب الكافي يمكن أن يطبق على هذين النوعين من الحقائق. وانطلاقاً من مبدأ السبب الكافي حيث لكل حادث سبب يكفي لوجوده، يلاحظ لايبنتز أن سلسلة الأسباب يمكن أن تذهب إلى اللانهاية نظراً إلى إمكانية قسمة الأجسام إلى اللانهاية؛ ولكن كل هذه السلسلة تدخل في السبب النهائي الذي لا بد أن يكون سبباً كافياً، وأخيراً خارج سلسلة الأشياء الحادثة.
من هنا ينتقل لايبنتز في القسم الثاني من «المونادولوجيا» إلى البرهان على وجود الله فلسفياً، حيث يقدم ثلاث حجج: الحجة الأولى أتت في سياق معالجة السبب الكافي للقضايا الحادثة، حيث يستنتج لايبنتز قائلاً: «وهكذا فإن السبب الأخير للأشياء يجب أن يكون في جوهر ضروري لا تكون فيه التغيرات التفصيلية إلا بطريقة الفيض كما في النبع، وهذا ما نسميه الله». (ص102) ومن هذه الحجة يستنتج لايبنتز أحادية الله وكماله: «بما أن هذا الجوهر هو سبب كافٍ لكل التفاصيل التي ترتبط بكل شيء، فليس هناك إذن سوى إله واحد وهذا الإله يكفي». (ص102) وبما أنه ليس هناك شيء خارج هذا الجوهر يمكن أن يكون مستقلاً عنه، فهو يتمتع بكل الواقع الممكن، وبالتالي فإن الله هو كامل بالمطلق، طالما أن الكمال ليس سوى عظمة الواقع الإيجابي، حيث لا حدود تحده وحيث الكمال لامتناهٍ. وبما أن المخلوقات تتميز بمحدوديتها فهي تأخذ كمالها من كمال الله. إذن، هذه الحجة الأولى هي حجة بعدية، إذ يستنتج لايبنتز وجود الله كسبب كافٍ لوجود الأشياء الحادثة وكمصدر ضروري لها.
أما الحجة الثانية، فهي حجة قبلية، إذ إن الله ليس فقط مصدراً للوجود، بل هو أيضاً مصدر للماهيات بما هي حقيقية. إذن، الحجة القبلية تتلخص في أنها تؤكد وجود الله قبلياً كمصدر للماهيات وللإمكانات وللحقائق الأبدية.
هكذا يتوصل لايبنتز إلى الحجة الأنطولوجية الشهيرة معدّلة حيث يقول: «هكذا فإن الله وحده (أو الكائن الضروري) يملك الامتياز في أنه يجب أن يكون موجوداً إذا كان ممكناً. وبما أنه لا شيء يمكن أن يمنع إمكانية ما لا ينطوي على أي حدود ولا على أي سلب، وبالتالي لا ينطوي على أي تناقض فإن هذا وحده يكفي لمعرفة وجود الله قبلياً». (ص103) انطلاقاً من هذ الحجج الثلاث يستنتج لايبنتز بأن الله وحده هو الوحدة البدائية، أو هو الجوهر البسيط الأصلي، وبالتالي فإن كل المونادات المخلوقة تأتي نتيجة ومضات متواصلة من الألوهة، بحيث تتوزع هذه الومضات تبعاً لقدرة المخلوقات على استقبالها ضمن حدودها الخاصة بها.
إذن، هناك المونادات، وهناك الله، وبينهما عالم المخلوقات الذي يأتي ليجسد العلاقة بينهما، حيث إن هذا العالم يكون حاصل نسبة صفات المونادات المحدودة إلى صفات الله اللامحدودة، بحيث إن الله الذي يملك القدرة والمعرفة والإرادة يعرف ويفهم العالم كأفضل نتاج يمكن أن تقدمه توليفة المونادات المتصفة بالإدراك الحسي والنزوع. هكذا بين نزوع المونادات وإدراكها الحسي وبين كمال الله يتكون عالم المخلوقات.
من هنا ينتقل لايبنتز في القسم الأخير من المونادولوجيا للحديث عن عالم المخلوقات وما يدور فيه من نشاط ما بين المونادات.
بما أن الموناد هي جوهر بسيط يتميز بالإدراك الحسي وبالنزوع وهو مقفل على ذاته ويتحرك من داخله، فإن عملية التفاعل والتأثير المتبادل ما بين المونادات تصبح عملية افتراضية ومثالية وتقوم على معيار مستوى الإدراك الحسي في كل موناد، بحيث إن الموناد التي تتميز بإدراك حسي غامض وملتبس تتلقى التأثيرات من داخلها، بحيث إن ميزتها الداخلية تضعها في تبعية لتوليفات المونادات الأكثر إدراكاً؛ وهذه العملية تتم بتدخل من الله، الذي يضبط العلاقة بين المونادات بحيث تكمل الواحدة نقص الأخرى في سبيل تركيب أفضل العوالم الممكنة.
بالتالي، فإن نظرية تفاعل المونادات البسيطة اللامحدودة العدد تؤدي بلايبنتز إلى بلورة مبدأ الأفضل حيث يقول: «على ذلك، وبما أن هناك عدد لا متناهٍ من العوالم الممكنة في أفكار الله، وبما أنه لا يمكن أن يوجد سوى عالم وحيد، فيجب أن يكون هناك سبب كافٍ لاختيار الله لهذا العالم دون غيره... وهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في التناسب أو في درجات الكمال التي تنطوي عليها هذه العوالم، بحيث إن كل ممكن له الحق في ادعاء الوجود، قياساً إلى الكمال الذي ينطوي عليه... وهذا هو سبب وجود الأفضل الذي عرفه الله بالحكمة واختاره بإرادته وخلقه بقدرته». (ص105) إذن، الله اختار بمعرفته وإرادته وقدرته أفضل العوالم الممكنة، خاصة أنه اهتم منذ بداية الأشياء بملاءمة كل موناد مع كل المونادات الأخرى.
وهذا ما أدى بلايبنتز إلى إعادة تأكيده على أطروحة الانسجام المسبق، حيث إن علاقة وتلاؤم كل موناد مع غيرها من المونادات تجعل كل جوهر يبدو وكأنه مرآة العالم. وبذلك يمكن الحصول على أكثر ما يمكن من الكمال وتحقيق مبدأ الأفضل، وذلك لأن كل موناد تمثل كل العالم ولكن تمثلاتها هي في أكثريتها ملتبسة، وهي لا تعرف بشكل متميز سوى القليل من الأشياء؛ وبذلك تتكامل معرفتها مع معارف المونادات الأخرى حسب نظام الانسجام الكوني المسبق الماثل في فكر الله.
ولكن ما الذي يدور في هذا العالم؟ وكيف هي العلاقة بين المونادات من جهة وبين الأشياء أو الأجسام المركبة منها؟ هنا يعتبر لايبنتز أنه كما أن كل موناد تعبر عن كل المونادات الأخرى، فإن كل جسم يتأثر بكل الأجسام الأخرى مهما كانت بعيدة عنه. وبالتالي فإن الموناد بتمثيلها للجسم الذي ينتمي إليها فهي تمثل كل العالم، مما يعني أن طريقة تمثيل الموناد للعالم تتوقف على جسمها. ويضيف لايبنتز بأنه ينشأ عن التقاء الموناد بجسم معين ما هو كائن حي. وإذا كانت الموناد نفساً يكون هذا الحي حيواناً. وبما أن الجسم الحي هو دائماً عضوي فإن هيئة الجسم تعكس النظام الكامل للكون الذي تشكّل الموناد المرتبطة بهذا الجسم مرآة له. وبالتالي فإن الجسم الحي هو كالعالم منظم إلى اللانهاية وأن كل كائن حي يحتوي على عدد لا محدود من الأحياء الآخرين، الذين يمتلك كل واحد منهم نفسه مع الموناد المسيطرة فيه.
من هنا يعتبر لايبنتز أن الأجسام الحية والنفوس هي في علاقة تحولية؛ فلا الجسم ولا النفس لهما بدايات ونهايات محددة إذ إن كل شيء يخضع لمقتضيات الانسجام المسبق، مما جعل لايبنتز يستنتج حول علاقة النفس بالجسم قائلاً: «هذه المبادئ منحتني الوسيلة لتفسير طبيعي لاتحاد، أو بالأحرى، لتلاؤم النفس والجسم العضوي. إن النفس تتبع قوانينها الخاصة بها؛ والجسم يتبع قوانينه أيضاً؛ وهما يلتقيان بفضل الانسجام المسبق فيما بين كل الجواهر، إذ إن هذه الجواهر هي جميعها تمثلات للعالم ذاته». (ص111)
إذن، طالما أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة وأن العلاقات بين المونادات وبين الأجسام تخضع لمبدأ الانسجام المسبق لم يبقَ سوى ترجمة هذا الواقع في سلوك النفوس، وبالتالي ينتهي لايبنتز في ختام المونادولوجيا إلى الاستثمار الأخلاقي لفلسفته، حيث يعتبر أن النفوس العاقلة هي التي أدركت من خلال مستوى كمال معرفتها أنها جزء من هذا العالم الذي يأخذ كماله من كونه يدخل في شراكة مع أكمل المونادات وعياً ومعرفة أي مع الله. على ذلك، فإن هذه النفوس تتميز بتفوقها على بقية النفوس وتشكل مدينة الله التي تجسد العالم الأخلاقي في العالم الطبيعي، حيث هناك انسجام بين فيزياء الطبيعة وبين الأخلاق الإلهية، وحيث تقوم أكمل مدينة ممكنة في ظل أكمل السلاطين، أي الله.
في الختام لا بد من التساؤل ما إذا كانت محاولتنا هذه قد نجحت بعض الشيء في تحقيق ما طرحته على نفسها من إثبات لدور المونادولوجيا في إنجاز «خطاب الميتافيزيقا» عند لايبنتز.
إن أبلغ رد على هذا التساؤل قد يكون بطرح التساؤلات التالية: أليست فلسفة لايبنتز متعددة الوجوه والأبواب والمفاهيم المتشابكة والمتلائمة والكونية، تشبه الموناد البسيطة الواحدة التي تمثل الله والعالم والكائنات المخلوقة؟ ألا تكمن قمة ميتافيزيقا لايبنتز في اختراعه لمفهوم الموناد، ذلك الجوهر البسيط الذي يحمل في ثنياته اللامتناهية وحدة الله وكثرة الموجودات؟ وبالتالي، ألا نستطيع القول إن إله المونادولوجيا هو عبارة عن مبدأ ميتافيزيقي أكثر منه لاهوتي؟ وأخيراً ألا يمكننا اعتبار مونادولوجيا لايبنتز، عالم الرياضيات المساهم في تأسيس المعلوماتية، كمبدأ ميتافيزيقي للشبكة العنكبوتية التي تجتاح العالم المعاصر بفضل تكنولوجيا النانو والاتصالات والنظام الرقمي والأقمار الصناعية التي حولت «أفضل العوالم الممكنة» إلى قرية كونية؟
*باحث وأستاذ جامعي لبناني
** المقتطفات الواردة في النص مأخوذة من الكتاب التالي:
Leibniz، Discours de métaphysique، suivi de Monadologie، Gallimard، Paris1995



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».