الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية
TT

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

أمام ما يشهده عالمنا المعاصر من أزمات وتحديات تهدد مصير الإنسان، لا بد من العودة إلى الفلسفة الأخلاقية التي يمكنها أن تساعد الإنسان المعاصر على فهم شروطه وتخطيها، وبالتالي الخروج من أزماته المتلاحقة على إيقاع التطور الهائل في ميادين العلم والتكنولوجيا. في هذا المقال سوف نستعين بأحد أهم فلاسفة الأخلاق، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804)، حيث سنحاول إلقاء الضوء على منعطف أساسي في فلسفته يتمثّل في محاولة إتمام مشروع النقد من خلال الخروج من مأزق العقل النظري الخالص، الذي وجد نفسه عاجزاً أمام موضوعات غير خاضعة للتجربة، مثل الله والنفس والعالم، إلى ميدان التجربة الأخلاقية، بحيث يستعيد العقل دوره فيتحول إلى عقل عملي خالص من خلال تأسيس ميتافيزيقي للأخلاق يؤسس التجربة الأخلاقية على العقل، ويضمن للعقل العملي بذلك موضوعاته التجريبية التي يستمدها من ميدان الأخلاق النظرية.
هذا المنعطف برز من خلال كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»** الذي صدر في العام 1785، أي بعد مرور أربع سنوات على صدور كتابه «نقد العقل الخالص النظري».
في الفصل الأول، أي الانتقال من المعرفة العقلية الشائعة للأخلاق إلى المعرفة الفلسفية، يتناول كانط بالتحليل مسألة الإرادة الخيّرة، معتبراً أنها بصفتها خيّرة تملك قيمة مطلقة. ولكن هذه المسألة تطرح المفارقة التالية: كيف تكون الإرادة خيّرة بشكل مطلق دون أن تكترث للمنفعة التي يمكن للإنسان أن يطمح لها من خلال قيامه بعمل الخير؟
إن حل هذه المفارقة قد يكمن في المقصد الأخلاقي للعقل المتمثل في إنتاج إرادة خيّرة في ذاتها وليس كوسيلة لتحقيق غاية أخرى. وبالتالي، فإن الإرادة الخيّرة تتمثل في أن نقوم بواجبنا انطلاقاً فقط من شعورنا بالواجب. وهذا يفترض ثلاث فرضيات: الفرضية الأولى تكمن في افتراض مفهوم لإرادة حقاً جديرة بالتقدير بذاتها وخيّرة بمعزل عن أي مقصد لاحق. وهذا يتوضح من خلال الإضاءة على مفهوم الواجب الذي يتضمن مفهوم الإرادة الخيّرة. ولكن هل نستطيع التمييز بسهولة بين واجبات تقوم على الواجب لمجرد الواجب وأخرى تقوم على المنفعة؟ أما الفرضية الثانية فتفيد بأن أي عمل يقوم انطلاقاً من الواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من الهدف المطلوب الوصول إليه بل من الحكمة (maxime) التي على أساسها يتصرف؛ هذا يقودنا إلى الفرضية الثالثة المشتقة من الفرضيتين السابقتين والتي صاغها كانط كما يلي «إن الواجب هو ضرورة إنجاز عمل ما احتراماً للقانون» (ص 23). إذاً، إن احترام القانون هو المحرك الوحيد للإرادة الخيّرة. ولكن ماذا يمكن أن يكون عليه هذا القانون؟
علي العمل دائماً بطريقة تمكنني من أن أريد أيضاً أن تصبح حكمتي قانوناً كونياً. إن هذا التطابق مع القانون بشكل عام يصلح إذاً كمبدأ للإرادة.
إذاً، وبكل بساطة، فإن المعرفة العقلية الشائعة تتمتع بمزايا تمكّنها، دون الحاجة إلى علم أو فلسفة، من معرفة ما يجب عمله من أجل أن يصبح الإنسان خيّراً وشريفاً وحتى حكيماً وفاضلاً. وهذا يظهر جلياً من خلال الاحترام الذي يتطلبه العقل تجاه فكرة إمكان أن تكون الحكمة الشخصية قانوناً كونياً. ويفترض كانط أن العمل انطلاقاً من الاحترام الخالص للقانون العملي يؤسس الواجب. مع ذلك، فإن كانط لن يأمن في بساطة الحس المشترك.
هكذا، فإن العقل المشترك يحتاج إلى الفلسفة لحماية الوعي ضد مغالطات «حب الذات».
ولكن الانتقال إلى المعرفة الفلسفية يستلزم انتقالاً من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق، وهذا سيكون موضوع الفصل الثاني للكتاب، حيث ينطلق كانط من التأكيد على أن مفهوم الواجب ليس تجريبياً؛ إذ إننا نقرّ بأنه ليس ممكناً إيراد مثَال واحد أكيد عن القصد بالسلوك انطلاقاً من الواجب في ذاته.
بالتالي، فإن دراسة فكرة الواجب يجب أن تكون ميتافيزيقية قبلية. ومن هنا ينتقل كانط إلى تعريف الواجب. فهو يعتبر أن كل شيء في الطبيعة يفعل حسب القوانين ولكن الكائن العاقل وحده يمتلك القدرة على العمل حسب تمثّل القوانين، أي حسب مبادئ؛ وبعبارة أخرى، هو الوحيد الذي يمتلك إرادة. وبما أن العقل ضروري لاشتقاق الأعمال من القوانين، وبما أن الكائن العاقل له رغباته وميوله، وبما أن إرادته قد تصطدم بمبادئ موضوعية، فإن تمثّل المبدأ الموضوعي من قِبَل الإرادة يكون بمثابة خضوعٍ واعٍ للأمر الآتي من الواجب. وبالتالي، فإن الأوامر تعبّر عن نفسها من خلال فعل الوجوب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإرادة الخيّرة بذاتها لا تحتاج إلى أوامر؛ إذ إنها في ذاتها مطابقة للقوانين الموضوعية.
ولكن الأوامر على أنواع، فمنها ما يأمر افتراضياً، ومنها ما يأمر قطعياً.
لصياغة الأمر القطعي يكفي أن نرجع إلى مفهومه البسيط وهو مفهوم الكونية universalité. إذاً هو بسيط وكوني وواحد يمكن صياغته على الشكل التالي: افعل دائماً تبعاً لحكمة تمكّنك من أن تريد لها أن تصبح في الوقت نفسه قانوناً كونياً.
وإذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار كونية القوانين التي تشكل الطبيعة والواقع الخارجي، فإن الأمر الكوني للواجب يمكن أن يصاغ أيضاً على الشكل التالي: افعل كما لو أن بإرادتك يجب أن تكون حكمة عملك صالحة كقانون كوني للطبيعة. وبالتالي، فإن مختلف واجباتنا تنتج من هذا الأمر كما لو أنه مبدؤها. ويختار كانط بعض الأمثلة عن الواجبات التي يصنفها كواجبات تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وكواجبات تامة وأخرى ناقصة. ويذكر أربعة أمثلة يحاول من خلالها تبيان نسبية ومحدودية وذاتية الحِكَم التي على أساسها تتم الواجبات تجاه الذات وتجاه الغير، وبالتالي يستنتج ضرورة وإمكانية أن تكون صيغة الأمر الأخلاقي القطعي بمثابة قانون كوني للطبيعة على أساسه يقيس الإنسان أحكامه.
المثال الأول هو مثال الشخص الذي قرّر الانتحار نتيجة لظروف معينة سببت له القرف من الحياة فتكونت لديه الحكمة التالية: لأني أحب نفسي فإني أقترح على ذاتي وضع حد لوجودي في هذه الحياة، وذلك إذا رأيت أن آلامي ستزداد أكثر من أفراحي إذا بقيت حياً. هذا الشخص عليه أن يسأل نفسه ما إذا كان حكمه يصلح لأن يكون قانوناً كونياً للطبيعة. ولكن هل حب الذات يمكن أن يصلح قانوناً كونياً للطبيعة إذا كان سيؤدي إلى تدمير الحياة التي هي مبدأ أساسي من مبادئ الطبيعة؟ بالطبع، فإن طبيعة تقضي على الحياة ستكون متناقضة مع ذاتها، وبالتالي فإن حكمة ذلك الشخص لا تستطيع مطلقاً أن تصبح قانوناً كونياً، وهي بالتالي مناقضة للمبدأ السامي للواجب.
المثال الثاني، هو مثال الشخص الذي وعد برد مال كان قد اقترضه مع علمه المسبق أنه ليس باستطاعته القيام بإيفاء الديْن. هل يقبل هذا الشخص أن يعامله الآخرون بنفس ما عاملهم؟ وهل بعد ذلك يبقى هناك أي نوع من المصداقية لأي وعد من الوعود؟ من الواضح إذاً أن حكمة هذا الشخص لا تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
المثال الثالث، هو مثال الشخص الذي لا يهتم بمواهبه وقدراته الطبيعية ولا ينميها. ولكن هذا الشخص كونه كائناً عاقلاً لا يستطيع أن يريد بأن حكمته هذه تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة؛ وذلك لأن الكائن العاقل يريد بالضرورة تنمية كل قدراته لأنها مفيدة له وهي أعطيت له من أجل كل الغايات الممكنة.
المثال الرابع، هو مثال الشخص الميسور الذي لا يكترث لرؤية أناس آخرين يمرون في ظروف صعبة مكتفياً بعدم إيذاء الآخرين، ومعتبِراً أنه في ذلك يقوم بما عليه وليس مطلوباً منه التدخل بقضايا الغير. في الواقع، إذا كانت طريقة التفكير هذه بمثابة قانون كوني للطبيعة، فإن الجنس البشري قد يستمر في البقاء ولكن مع ذلك قد يكون من المستحيل أن نمنح هذا المبدأ قيمة قانون طبيعي في كل مكان. ونحن إذا قبلنا بهذه الحكمة، فإننا ننتزع من أنفسنا كل أمل في الحصول على العون الذي قد نريده لأنفسنا.
إن كل هؤلاء الأشخاص عليهم أن يتساءلوا ما إذا كانت حكمة عملهم تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
بعد أن يحلل كانط هذه الأمثلة يلاحظ أن الإنسان بشكل عام؛ كونه عاقلاً، لا يستطيع إلا أن يكون مع القوانين الكونية؛ إلا أنه كونه ينتمي إلى عالم الحس والرغبات، فإنه يسمح لنفسه ببعض الاستثناءات، أي أنه يلجأ إلى مساومة أو تسوية ما، ورغم أن هذه التسوية غير مبررة إذا حكمنا بشكل حيادي، فإنها على الأقل تبين لنا بأننا نعترف حقاً بقيمة الأمر القطعي الأخلاقي.
ولكن الإمرة المطلقة للعقل تفترض غاية في ذاتها. من هنا نأتي إلى الصيغة الثانية للواجب والتي يمكن التعبير عنها كما يلي «افعل كما لو أنك تعامل الإنسانية دائماً في شخصك وفي شخص الآخر في الوقت نفسه على أنها غاية وليس أبداً كمجرد وسيلة». (ص 47) إذاً الإنسان هو غاية في ذاته وليس وسيلة. فإذا تفحصنا الأمثلة الأربعة السابقة الذكر، نجد أن كل الأشخاص الذين تنطبق عليهم لا يقومون بواجباتهم لا تجاه أنفسهم ولا تجاه الآخرين؛ إذ إنهم في جميع الحالات الواردة أعلاه يتعاملون مع الإنسان كوسيلة وليس كغاية في ذاته.
أما الصيغة الثالثة للواجب، فتتمثل في الاستقلالية، حيث إن الإرادة تؤسس القانون الذي تخضع له وهي بذلك تؤسس تشريعاً كونياً. وبالتالي، فإن هذا المبدأ يلائم تماماً الأمر القطعي؛ وذلك لأنه، بسبب فكرة تشريع كوني، لا يقوم على أي منفعة، ولأنه بذلك يكون الوحيد من بين الأوامر الممكنة قادراً أن يكون غير مشروط. إذاً، كانط يسمي مبدأ استقلالية الإرادة ذلك المبدأ الأساسي المتعارض مع كل المبادئ الأخرى المرتبطة بالتبعية.
ويرتبط بهذه الصيغة ما يسميه كانط «مملكة الغايات» التي يقصد بها الاتحاد المطلق لمختلف الكائنات العاقلة استناداً إلى قوانين مشتركة.
وفي مملكة الغايات، كل شيء يمكن أن يكون له ثمن أو يكون له كرامة. أما الشيء الذي له ثمن فيمكن استبداله بشيء آخر كمعادل له. وعلى العكس، فإن ما هو فوق أي ثمن ولا يقبل أي معادل له هو الذي يتمتع بالكرامة. والكرامة تأتي من الالتزام بالواجب وبالأمر الأخلاقي. إذاً، إن الاستقلالية هي مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة.
وهكذا نجد من خلال هذا التحليل أننا استطعنا أن نستخلص من الصيغة الأصلية للأمر القطعي ثلاث صيغ أخرى تتفق في المعنى؛ إذ إنها جميعها تمتلك صورة ومادة وتحديداً كاملاً: فمن ناحية الصورة فهي تكمن في الكونية (universalité)، حيث تكون صيغة الأمر القطعي كما يلي: يجب اختيار الحِكَم كما لو أن عليها أن تتمتع بقيمة قوانين الطبيعة الكونية. أما من ناحية المادة، فالأمر يتعلق بالغاية وبالتالي الصيغة تقول بأن الكائن العاقل كونه بطبيعته غاية في ذاته عليه أن يفرض على كل حكمة شرطاً يسهم في حصر الغايات النسبية والعشوائية. أما الصيغة التي تعبّر عن التحديد الكامل فيما يتعلق بكل الحِكم فتقول: إن كل الحِكم الآتية من تشريعنا الخاص عليها أن تتفق مع مملكة ممكنة للغايات متصوَّرة كمملكة طبيعية. ويمكن لنا في آخر الأمر أن نوضح أن هذه الصيغ كلها يمكن أن تعود إلى صيغة واحدة فنقول، إن الأمر القطعي هو القانون الكوني لكائنات عاقلة هي غايات بالذات وهذه الكائنات العاقلة هي مشرّعة هذا القانون.
وهذه الصيغ تتدرج بالأمر الأخلاقي القطعي حتى تقرّبه من نفوسنا فتبدأ انطلاقاً من الوحدة وتمر بالكثرة لتصل إلى الكلية المتمثلة بنظام الغايات الذي ندركه بقلوبنا كما بعقولنا. على أن الطريق المثلى التي يجب أن نتبعها حينما نريد أن نصدر حكماً أخلاقياً، هي أن نسترشد بالصيغة الأصلية للأمر القطعي، وهي «اعمل كما لو كنت تريد أن تكون حكمتك قانوناً كونياً للكائنات العاقلة».
ولكن كيف يمكن لفرضية عملية تركيبية قبلية أن تكون ممكنة ولماذا هي ضرورية؟ هذا سؤال لا يجد إجابة له في حدود ميتافيزيقا الأخلاق؛ لذلك وجب الانتقال إلى ميدان العقل العملي الخالص.
وهذا ما يقودنا إلى الفصل الثالث والأخير وموضوعه: الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل الخالص العملي.
وهنا نجد كانط يبحث عما إذا كان الواجب حقيقة مقرَّرة ثم عن إمكان الأمر القطعي بصفة عامة. وهو يحدد المنهج الذي نسير عليه لكي نصل إلى إقرار فكرتي الواجب والأمر القطعي. فبعد أن استخدم منهج التحليل في الفصلين الأول والثاني استطاع تحليل الشعور العام وانتهى إلى فكرة الواجب التي نتج منها فكرة استقلال الإرادة في الحياة الأخلاقية. وها هو الآن يستخدم القياس والجدل لكي يربط النتائج التي توصل إليها بقانون أشمل للحياة الأخلاقية. عندما نقول إن الإنسان قانون نفسه يكون معنى هذا أن إرادة الفرد يجب أن تتطابق مع القانون الكوني للطبيعة، أي الإرادة الكونية. وهنا نجد أن كانط يضع تخطيطاً يلخص فيه فلسفته النقدية وتبريره للأحكام التركيبية الأولية في ميدان الأخلاق، فيبدأ نقده للعقل العملي بالكلام عن فكرة الحرية التي هي وحدها تسمح بقيام الأحكام التركيبية الأولية في الأخلاق.
ويبدأ كانط بتعريف الحرية أولاً بطريقة سلبية فيعتبرها صفة تتعلق بأفعال الإنسان باعتبارها أفعالاً مستقلة عن العلل الطبيعية. أما التعريف الإيجابي للحرية فيتناول ماهيتها معتبراً أنها القوة التي يُصدِر بها الكائن العاقل قانونه بنفسه. وهنا نجد أن علة الحرية تأتيها من ذاتها؛ ذلك أن قانون الحرية لا يمكن أن يضعه سوى الحرية ذاتها بحيث تكون الإرادة الحرة هي الإرادة المستقلة. هكذا، فإن الحرية ليست موضوع حدس حسي، بل هي صفة للكائنات العاقلة.
إذاً، العالم المعقول هو الذي سيوحّد في مرحلة لاحقة من التحليل ما بين الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة للقانون الأخلاقي. وبالتالي، فإن الحرية يجب أن تكون مفترضة كخاصية للإرادة التي تتمتع بها كل الكائنات العاقلة؛ إذ لا يكفي أن أنسب الحرية إلى إرادتي، بل يجب أن يكون لدي الحوافز الكافية لأنسبها لكل الكائنات العاقلة الأخرى.
ولكن لماذا الأخلاق وما المنفعة التي ترتبط بالأفكار الأخلاقية وما مصدر إلزامية القانون الأخلاقي؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في الخروج من الحلقة المفرغة التالية: نحن نفترض أنفسنا أحراراً ضمن إطار نظام العلل الفاعلة؛ وذلك كي نتصور أنفسنا خاضعين لقوانين أخلاقية في إطار نظام الغايات؛ وبالتالي فنحن ننظر إلى أنفسنا كخاضعين لهذه القوانين لأننا نسبنا إلى أنفسنا حرية الإرادة؛ وبالفعل فإن الحرية والتشريع الخاص للإرادة ينتميان معاً إلى الاستقلالية.
وبما أن هناك الظاهرات من جهة والأشياء في ذاتها من جهة أخرى، يستنتج كانط وجود العالم المعقول من جهة والعالم المحسوس من جهة أخرى؛ ويتوقف موضوع استقلالية الإرادة الحرة على الجهة التي يضع فيها الكائن العاقل نفسه حين يتعلق الأمر بإلزامية القانون الأخلاقي الذي يشرّعه هو نفسه. ويبسّط كانط الأمر كما يلي «إن على أي كائن عاقل، إذاً، أن يعتبر نفسه، بما هو عقل، منتمياً، ليس إلى العالم المحسوس، بل إلى العالم المعقول، وبالتالي فهو لديه وجهتا نظر يمكنه تبعاً لهما أن يعرف نفسه ويعرف قوانين ممارسة قدراته وأعماله: أولاً بصفته جزءاً من العالم المحسوس وخاضعاً لقوانين الطبيعة (تبعية hétéronomie)؛ وثانياً بصفته جزءاً من العالم المعقول وخاضعاً للقوانين المستقلة للطبيعة وغير قائمة على التجربة، بل على العقل فقط... ونحن الآن نرى جيداً بأنه عندما نتصور أنفسنا أحراراً فإننا نضع أنفسنا في عالم معقول باعتبارنا جزءاً من هذا العالم، حيث نتعرف على استقلالية الإرادة مع نتيجتها: الأخلاق؛ وعلى العكس، حين نتصور أنفسنا كمُلزَمين بالواجب فإننا نعتبر أنفسنا في آن واحد كأعضاء في العالم المحسوس وفي العالم المعقول معاً». (ص 69)
هكذا نتجاوز الحلقة المفرغة ونجد مصدر الإلزام الأخلاقي في مفهوم الاستقلالية من جهة وفي الانتماء المزدوج للإنسان إلى العالمين المعقول والمحسوس من جهة أخرى.
وهذا يفتح الباب لطرح السؤال عن إمكانية الأمر القطعي. إن الأمر القطعي يكون ممكناً لأن فكرة الحرية تجعل الكائن العاقل عضواً في العالم المعقول، ولكن بما أنه عضو في العالم المحسوس أيضاً، فإن أعماله تصبح خاضعة للواجب وبالتالي للأمر القطعي.
من كل ذلك يستنتج كانط بأن الواجب الأخلاقي هو إذاً الإرادة الضرورية الخاصة بعضو ينتمي إلى العالم المعقول؛ وهذا بالذات لا يبدو له كواجب إلا إذا اعتبر نفسه في الوقت نفسه عضواً في العالم المحسوس. (ص 72)
إذاً، إن إمكانية الأمر القطعي تتلخص في افتراض ضرورة الحرية وتبيان ضرورة هذا الافتراض.

* باحث وأستاذ جامعي لبناني
**لقد اعتمدنا الترجمة الفرنسية لكتاب كانط وكل
النصوص الواردة في هذه الورقة مأخوذة من هذه النسخة:
Kant، Fondements de la métaphysique des mœurs.Traductions Hatier،
Paris 1974.



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».