الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية
TT

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

أمام ما يشهده عالمنا المعاصر من أزمات وتحديات تهدد مصير الإنسان، لا بد من العودة إلى الفلسفة الأخلاقية التي يمكنها أن تساعد الإنسان المعاصر على فهم شروطه وتخطيها، وبالتالي الخروج من أزماته المتلاحقة على إيقاع التطور الهائل في ميادين العلم والتكنولوجيا. في هذا المقال سوف نستعين بأحد أهم فلاسفة الأخلاق، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804)، حيث سنحاول إلقاء الضوء على منعطف أساسي في فلسفته يتمثّل في محاولة إتمام مشروع النقد من خلال الخروج من مأزق العقل النظري الخالص، الذي وجد نفسه عاجزاً أمام موضوعات غير خاضعة للتجربة، مثل الله والنفس والعالم، إلى ميدان التجربة الأخلاقية، بحيث يستعيد العقل دوره فيتحول إلى عقل عملي خالص من خلال تأسيس ميتافيزيقي للأخلاق يؤسس التجربة الأخلاقية على العقل، ويضمن للعقل العملي بذلك موضوعاته التجريبية التي يستمدها من ميدان الأخلاق النظرية.
هذا المنعطف برز من خلال كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»** الذي صدر في العام 1785، أي بعد مرور أربع سنوات على صدور كتابه «نقد العقل الخالص النظري».
في الفصل الأول، أي الانتقال من المعرفة العقلية الشائعة للأخلاق إلى المعرفة الفلسفية، يتناول كانط بالتحليل مسألة الإرادة الخيّرة، معتبراً أنها بصفتها خيّرة تملك قيمة مطلقة. ولكن هذه المسألة تطرح المفارقة التالية: كيف تكون الإرادة خيّرة بشكل مطلق دون أن تكترث للمنفعة التي يمكن للإنسان أن يطمح لها من خلال قيامه بعمل الخير؟
إن حل هذه المفارقة قد يكمن في المقصد الأخلاقي للعقل المتمثل في إنتاج إرادة خيّرة في ذاتها وليس كوسيلة لتحقيق غاية أخرى. وبالتالي، فإن الإرادة الخيّرة تتمثل في أن نقوم بواجبنا انطلاقاً فقط من شعورنا بالواجب. وهذا يفترض ثلاث فرضيات: الفرضية الأولى تكمن في افتراض مفهوم لإرادة حقاً جديرة بالتقدير بذاتها وخيّرة بمعزل عن أي مقصد لاحق. وهذا يتوضح من خلال الإضاءة على مفهوم الواجب الذي يتضمن مفهوم الإرادة الخيّرة. ولكن هل نستطيع التمييز بسهولة بين واجبات تقوم على الواجب لمجرد الواجب وأخرى تقوم على المنفعة؟ أما الفرضية الثانية فتفيد بأن أي عمل يقوم انطلاقاً من الواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من الهدف المطلوب الوصول إليه بل من الحكمة (maxime) التي على أساسها يتصرف؛ هذا يقودنا إلى الفرضية الثالثة المشتقة من الفرضيتين السابقتين والتي صاغها كانط كما يلي «إن الواجب هو ضرورة إنجاز عمل ما احتراماً للقانون» (ص 23). إذاً، إن احترام القانون هو المحرك الوحيد للإرادة الخيّرة. ولكن ماذا يمكن أن يكون عليه هذا القانون؟
علي العمل دائماً بطريقة تمكنني من أن أريد أيضاً أن تصبح حكمتي قانوناً كونياً. إن هذا التطابق مع القانون بشكل عام يصلح إذاً كمبدأ للإرادة.
إذاً، وبكل بساطة، فإن المعرفة العقلية الشائعة تتمتع بمزايا تمكّنها، دون الحاجة إلى علم أو فلسفة، من معرفة ما يجب عمله من أجل أن يصبح الإنسان خيّراً وشريفاً وحتى حكيماً وفاضلاً. وهذا يظهر جلياً من خلال الاحترام الذي يتطلبه العقل تجاه فكرة إمكان أن تكون الحكمة الشخصية قانوناً كونياً. ويفترض كانط أن العمل انطلاقاً من الاحترام الخالص للقانون العملي يؤسس الواجب. مع ذلك، فإن كانط لن يأمن في بساطة الحس المشترك.
هكذا، فإن العقل المشترك يحتاج إلى الفلسفة لحماية الوعي ضد مغالطات «حب الذات».
ولكن الانتقال إلى المعرفة الفلسفية يستلزم انتقالاً من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق، وهذا سيكون موضوع الفصل الثاني للكتاب، حيث ينطلق كانط من التأكيد على أن مفهوم الواجب ليس تجريبياً؛ إذ إننا نقرّ بأنه ليس ممكناً إيراد مثَال واحد أكيد عن القصد بالسلوك انطلاقاً من الواجب في ذاته.
بالتالي، فإن دراسة فكرة الواجب يجب أن تكون ميتافيزيقية قبلية. ومن هنا ينتقل كانط إلى تعريف الواجب. فهو يعتبر أن كل شيء في الطبيعة يفعل حسب القوانين ولكن الكائن العاقل وحده يمتلك القدرة على العمل حسب تمثّل القوانين، أي حسب مبادئ؛ وبعبارة أخرى، هو الوحيد الذي يمتلك إرادة. وبما أن العقل ضروري لاشتقاق الأعمال من القوانين، وبما أن الكائن العاقل له رغباته وميوله، وبما أن إرادته قد تصطدم بمبادئ موضوعية، فإن تمثّل المبدأ الموضوعي من قِبَل الإرادة يكون بمثابة خضوعٍ واعٍ للأمر الآتي من الواجب. وبالتالي، فإن الأوامر تعبّر عن نفسها من خلال فعل الوجوب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإرادة الخيّرة بذاتها لا تحتاج إلى أوامر؛ إذ إنها في ذاتها مطابقة للقوانين الموضوعية.
ولكن الأوامر على أنواع، فمنها ما يأمر افتراضياً، ومنها ما يأمر قطعياً.
لصياغة الأمر القطعي يكفي أن نرجع إلى مفهومه البسيط وهو مفهوم الكونية universalité. إذاً هو بسيط وكوني وواحد يمكن صياغته على الشكل التالي: افعل دائماً تبعاً لحكمة تمكّنك من أن تريد لها أن تصبح في الوقت نفسه قانوناً كونياً.
وإذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار كونية القوانين التي تشكل الطبيعة والواقع الخارجي، فإن الأمر الكوني للواجب يمكن أن يصاغ أيضاً على الشكل التالي: افعل كما لو أن بإرادتك يجب أن تكون حكمة عملك صالحة كقانون كوني للطبيعة. وبالتالي، فإن مختلف واجباتنا تنتج من هذا الأمر كما لو أنه مبدؤها. ويختار كانط بعض الأمثلة عن الواجبات التي يصنفها كواجبات تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وكواجبات تامة وأخرى ناقصة. ويذكر أربعة أمثلة يحاول من خلالها تبيان نسبية ومحدودية وذاتية الحِكَم التي على أساسها تتم الواجبات تجاه الذات وتجاه الغير، وبالتالي يستنتج ضرورة وإمكانية أن تكون صيغة الأمر الأخلاقي القطعي بمثابة قانون كوني للطبيعة على أساسه يقيس الإنسان أحكامه.
المثال الأول هو مثال الشخص الذي قرّر الانتحار نتيجة لظروف معينة سببت له القرف من الحياة فتكونت لديه الحكمة التالية: لأني أحب نفسي فإني أقترح على ذاتي وضع حد لوجودي في هذه الحياة، وذلك إذا رأيت أن آلامي ستزداد أكثر من أفراحي إذا بقيت حياً. هذا الشخص عليه أن يسأل نفسه ما إذا كان حكمه يصلح لأن يكون قانوناً كونياً للطبيعة. ولكن هل حب الذات يمكن أن يصلح قانوناً كونياً للطبيعة إذا كان سيؤدي إلى تدمير الحياة التي هي مبدأ أساسي من مبادئ الطبيعة؟ بالطبع، فإن طبيعة تقضي على الحياة ستكون متناقضة مع ذاتها، وبالتالي فإن حكمة ذلك الشخص لا تستطيع مطلقاً أن تصبح قانوناً كونياً، وهي بالتالي مناقضة للمبدأ السامي للواجب.
المثال الثاني، هو مثال الشخص الذي وعد برد مال كان قد اقترضه مع علمه المسبق أنه ليس باستطاعته القيام بإيفاء الديْن. هل يقبل هذا الشخص أن يعامله الآخرون بنفس ما عاملهم؟ وهل بعد ذلك يبقى هناك أي نوع من المصداقية لأي وعد من الوعود؟ من الواضح إذاً أن حكمة هذا الشخص لا تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
المثال الثالث، هو مثال الشخص الذي لا يهتم بمواهبه وقدراته الطبيعية ولا ينميها. ولكن هذا الشخص كونه كائناً عاقلاً لا يستطيع أن يريد بأن حكمته هذه تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة؛ وذلك لأن الكائن العاقل يريد بالضرورة تنمية كل قدراته لأنها مفيدة له وهي أعطيت له من أجل كل الغايات الممكنة.
المثال الرابع، هو مثال الشخص الميسور الذي لا يكترث لرؤية أناس آخرين يمرون في ظروف صعبة مكتفياً بعدم إيذاء الآخرين، ومعتبِراً أنه في ذلك يقوم بما عليه وليس مطلوباً منه التدخل بقضايا الغير. في الواقع، إذا كانت طريقة التفكير هذه بمثابة قانون كوني للطبيعة، فإن الجنس البشري قد يستمر في البقاء ولكن مع ذلك قد يكون من المستحيل أن نمنح هذا المبدأ قيمة قانون طبيعي في كل مكان. ونحن إذا قبلنا بهذه الحكمة، فإننا ننتزع من أنفسنا كل أمل في الحصول على العون الذي قد نريده لأنفسنا.
إن كل هؤلاء الأشخاص عليهم أن يتساءلوا ما إذا كانت حكمة عملهم تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
بعد أن يحلل كانط هذه الأمثلة يلاحظ أن الإنسان بشكل عام؛ كونه عاقلاً، لا يستطيع إلا أن يكون مع القوانين الكونية؛ إلا أنه كونه ينتمي إلى عالم الحس والرغبات، فإنه يسمح لنفسه ببعض الاستثناءات، أي أنه يلجأ إلى مساومة أو تسوية ما، ورغم أن هذه التسوية غير مبررة إذا حكمنا بشكل حيادي، فإنها على الأقل تبين لنا بأننا نعترف حقاً بقيمة الأمر القطعي الأخلاقي.
ولكن الإمرة المطلقة للعقل تفترض غاية في ذاتها. من هنا نأتي إلى الصيغة الثانية للواجب والتي يمكن التعبير عنها كما يلي «افعل كما لو أنك تعامل الإنسانية دائماً في شخصك وفي شخص الآخر في الوقت نفسه على أنها غاية وليس أبداً كمجرد وسيلة». (ص 47) إذاً الإنسان هو غاية في ذاته وليس وسيلة. فإذا تفحصنا الأمثلة الأربعة السابقة الذكر، نجد أن كل الأشخاص الذين تنطبق عليهم لا يقومون بواجباتهم لا تجاه أنفسهم ولا تجاه الآخرين؛ إذ إنهم في جميع الحالات الواردة أعلاه يتعاملون مع الإنسان كوسيلة وليس كغاية في ذاته.
أما الصيغة الثالثة للواجب، فتتمثل في الاستقلالية، حيث إن الإرادة تؤسس القانون الذي تخضع له وهي بذلك تؤسس تشريعاً كونياً. وبالتالي، فإن هذا المبدأ يلائم تماماً الأمر القطعي؛ وذلك لأنه، بسبب فكرة تشريع كوني، لا يقوم على أي منفعة، ولأنه بذلك يكون الوحيد من بين الأوامر الممكنة قادراً أن يكون غير مشروط. إذاً، كانط يسمي مبدأ استقلالية الإرادة ذلك المبدأ الأساسي المتعارض مع كل المبادئ الأخرى المرتبطة بالتبعية.
ويرتبط بهذه الصيغة ما يسميه كانط «مملكة الغايات» التي يقصد بها الاتحاد المطلق لمختلف الكائنات العاقلة استناداً إلى قوانين مشتركة.
وفي مملكة الغايات، كل شيء يمكن أن يكون له ثمن أو يكون له كرامة. أما الشيء الذي له ثمن فيمكن استبداله بشيء آخر كمعادل له. وعلى العكس، فإن ما هو فوق أي ثمن ولا يقبل أي معادل له هو الذي يتمتع بالكرامة. والكرامة تأتي من الالتزام بالواجب وبالأمر الأخلاقي. إذاً، إن الاستقلالية هي مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة.
وهكذا نجد من خلال هذا التحليل أننا استطعنا أن نستخلص من الصيغة الأصلية للأمر القطعي ثلاث صيغ أخرى تتفق في المعنى؛ إذ إنها جميعها تمتلك صورة ومادة وتحديداً كاملاً: فمن ناحية الصورة فهي تكمن في الكونية (universalité)، حيث تكون صيغة الأمر القطعي كما يلي: يجب اختيار الحِكَم كما لو أن عليها أن تتمتع بقيمة قوانين الطبيعة الكونية. أما من ناحية المادة، فالأمر يتعلق بالغاية وبالتالي الصيغة تقول بأن الكائن العاقل كونه بطبيعته غاية في ذاته عليه أن يفرض على كل حكمة شرطاً يسهم في حصر الغايات النسبية والعشوائية. أما الصيغة التي تعبّر عن التحديد الكامل فيما يتعلق بكل الحِكم فتقول: إن كل الحِكم الآتية من تشريعنا الخاص عليها أن تتفق مع مملكة ممكنة للغايات متصوَّرة كمملكة طبيعية. ويمكن لنا في آخر الأمر أن نوضح أن هذه الصيغ كلها يمكن أن تعود إلى صيغة واحدة فنقول، إن الأمر القطعي هو القانون الكوني لكائنات عاقلة هي غايات بالذات وهذه الكائنات العاقلة هي مشرّعة هذا القانون.
وهذه الصيغ تتدرج بالأمر الأخلاقي القطعي حتى تقرّبه من نفوسنا فتبدأ انطلاقاً من الوحدة وتمر بالكثرة لتصل إلى الكلية المتمثلة بنظام الغايات الذي ندركه بقلوبنا كما بعقولنا. على أن الطريق المثلى التي يجب أن نتبعها حينما نريد أن نصدر حكماً أخلاقياً، هي أن نسترشد بالصيغة الأصلية للأمر القطعي، وهي «اعمل كما لو كنت تريد أن تكون حكمتك قانوناً كونياً للكائنات العاقلة».
ولكن كيف يمكن لفرضية عملية تركيبية قبلية أن تكون ممكنة ولماذا هي ضرورية؟ هذا سؤال لا يجد إجابة له في حدود ميتافيزيقا الأخلاق؛ لذلك وجب الانتقال إلى ميدان العقل العملي الخالص.
وهذا ما يقودنا إلى الفصل الثالث والأخير وموضوعه: الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل الخالص العملي.
وهنا نجد كانط يبحث عما إذا كان الواجب حقيقة مقرَّرة ثم عن إمكان الأمر القطعي بصفة عامة. وهو يحدد المنهج الذي نسير عليه لكي نصل إلى إقرار فكرتي الواجب والأمر القطعي. فبعد أن استخدم منهج التحليل في الفصلين الأول والثاني استطاع تحليل الشعور العام وانتهى إلى فكرة الواجب التي نتج منها فكرة استقلال الإرادة في الحياة الأخلاقية. وها هو الآن يستخدم القياس والجدل لكي يربط النتائج التي توصل إليها بقانون أشمل للحياة الأخلاقية. عندما نقول إن الإنسان قانون نفسه يكون معنى هذا أن إرادة الفرد يجب أن تتطابق مع القانون الكوني للطبيعة، أي الإرادة الكونية. وهنا نجد أن كانط يضع تخطيطاً يلخص فيه فلسفته النقدية وتبريره للأحكام التركيبية الأولية في ميدان الأخلاق، فيبدأ نقده للعقل العملي بالكلام عن فكرة الحرية التي هي وحدها تسمح بقيام الأحكام التركيبية الأولية في الأخلاق.
ويبدأ كانط بتعريف الحرية أولاً بطريقة سلبية فيعتبرها صفة تتعلق بأفعال الإنسان باعتبارها أفعالاً مستقلة عن العلل الطبيعية. أما التعريف الإيجابي للحرية فيتناول ماهيتها معتبراً أنها القوة التي يُصدِر بها الكائن العاقل قانونه بنفسه. وهنا نجد أن علة الحرية تأتيها من ذاتها؛ ذلك أن قانون الحرية لا يمكن أن يضعه سوى الحرية ذاتها بحيث تكون الإرادة الحرة هي الإرادة المستقلة. هكذا، فإن الحرية ليست موضوع حدس حسي، بل هي صفة للكائنات العاقلة.
إذاً، العالم المعقول هو الذي سيوحّد في مرحلة لاحقة من التحليل ما بين الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة للقانون الأخلاقي. وبالتالي، فإن الحرية يجب أن تكون مفترضة كخاصية للإرادة التي تتمتع بها كل الكائنات العاقلة؛ إذ لا يكفي أن أنسب الحرية إلى إرادتي، بل يجب أن يكون لدي الحوافز الكافية لأنسبها لكل الكائنات العاقلة الأخرى.
ولكن لماذا الأخلاق وما المنفعة التي ترتبط بالأفكار الأخلاقية وما مصدر إلزامية القانون الأخلاقي؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في الخروج من الحلقة المفرغة التالية: نحن نفترض أنفسنا أحراراً ضمن إطار نظام العلل الفاعلة؛ وذلك كي نتصور أنفسنا خاضعين لقوانين أخلاقية في إطار نظام الغايات؛ وبالتالي فنحن ننظر إلى أنفسنا كخاضعين لهذه القوانين لأننا نسبنا إلى أنفسنا حرية الإرادة؛ وبالفعل فإن الحرية والتشريع الخاص للإرادة ينتميان معاً إلى الاستقلالية.
وبما أن هناك الظاهرات من جهة والأشياء في ذاتها من جهة أخرى، يستنتج كانط وجود العالم المعقول من جهة والعالم المحسوس من جهة أخرى؛ ويتوقف موضوع استقلالية الإرادة الحرة على الجهة التي يضع فيها الكائن العاقل نفسه حين يتعلق الأمر بإلزامية القانون الأخلاقي الذي يشرّعه هو نفسه. ويبسّط كانط الأمر كما يلي «إن على أي كائن عاقل، إذاً، أن يعتبر نفسه، بما هو عقل، منتمياً، ليس إلى العالم المحسوس، بل إلى العالم المعقول، وبالتالي فهو لديه وجهتا نظر يمكنه تبعاً لهما أن يعرف نفسه ويعرف قوانين ممارسة قدراته وأعماله: أولاً بصفته جزءاً من العالم المحسوس وخاضعاً لقوانين الطبيعة (تبعية hétéronomie)؛ وثانياً بصفته جزءاً من العالم المعقول وخاضعاً للقوانين المستقلة للطبيعة وغير قائمة على التجربة، بل على العقل فقط... ونحن الآن نرى جيداً بأنه عندما نتصور أنفسنا أحراراً فإننا نضع أنفسنا في عالم معقول باعتبارنا جزءاً من هذا العالم، حيث نتعرف على استقلالية الإرادة مع نتيجتها: الأخلاق؛ وعلى العكس، حين نتصور أنفسنا كمُلزَمين بالواجب فإننا نعتبر أنفسنا في آن واحد كأعضاء في العالم المحسوس وفي العالم المعقول معاً». (ص 69)
هكذا نتجاوز الحلقة المفرغة ونجد مصدر الإلزام الأخلاقي في مفهوم الاستقلالية من جهة وفي الانتماء المزدوج للإنسان إلى العالمين المعقول والمحسوس من جهة أخرى.
وهذا يفتح الباب لطرح السؤال عن إمكانية الأمر القطعي. إن الأمر القطعي يكون ممكناً لأن فكرة الحرية تجعل الكائن العاقل عضواً في العالم المعقول، ولكن بما أنه عضو في العالم المحسوس أيضاً، فإن أعماله تصبح خاضعة للواجب وبالتالي للأمر القطعي.
من كل ذلك يستنتج كانط بأن الواجب الأخلاقي هو إذاً الإرادة الضرورية الخاصة بعضو ينتمي إلى العالم المعقول؛ وهذا بالذات لا يبدو له كواجب إلا إذا اعتبر نفسه في الوقت نفسه عضواً في العالم المحسوس. (ص 72)
إذاً، إن إمكانية الأمر القطعي تتلخص في افتراض ضرورة الحرية وتبيان ضرورة هذا الافتراض.

* باحث وأستاذ جامعي لبناني
**لقد اعتمدنا الترجمة الفرنسية لكتاب كانط وكل
النصوص الواردة في هذه الورقة مأخوذة من هذه النسخة:
Kant، Fondements de la métaphysique des mœurs.Traductions Hatier،
Paris 1974.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!