وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح

من أصول مهاجرة بسيطة وذو توجّه يميني محافظ

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح
TT

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح

لعل أهم ميزة تذكر لوزير الداخلية الفرنسي الشاب جيرالد دارمانان، مسيرته السياسية الحافلة. فهو، خلافاً لبعض زملائه من وزراء عهد إيمانويل ماكرون الذين يفتقرون للخبرة السياسية، بدأ نشاطه السياسي وهو ابن 16 سنة. ومنذ ذلك الوقت خاض عدة معارك انتخابية في صفوف اليمين الجمهوري قبل أن يختاره الرئيس ماكرون وزيراً للحسابات العامة في مايو (أيار) 2017، ثم يعينه وزيراً للداخلية في 6 يوليو (تموز) 2020.

لقد ارتقى الوزير الشاب سلّم المراتب بعد تخرّجه في المعهد العالي للقانون والدراسات السياسية «سيانس بو» في مدينة ليل - أقصى شمال فرنسا - وبعد سنوات عمل فيها مساعداً لعدة شخصيات سياسية مثل وزير العمل السابق كزافييه برتران، ووزير العدالة السابق جاك توبون، وصل إلى احتلال مناصب مرموقة؛ أهمها منصب نائب عام 2012 وهو لا يتعدى التاسعة والعشرين. وبعد سنتين انتخب عُمدة لمدينة توركوان - أيضاً في أقصى شمال البلاد - بشمال فرنسا.

والواقع أن دارمانان ينتمي إلى الجناح المحافظ من اليمين الجمهوري، ولذا يتعامل بحزم مع قضايا الهجرة والأمن. ثم إنه كانت له مواقف معادية لزواج المثليين، إذ رفض بصفته عمدة لمدينة توركوان الإشراف على مراسم زواج من هذا القبيل قبل أن يغيّر رأيه بعد التحاقه بالحكومة، وإعلانه في أحد حواراته أنه «كان مخطئاً...». وراهناً، يلقى تعامله مع ملف الهجرة والمهاجرين الكثير من النقد حتى قيل إنه «يصطاد في أراضي اليمين المتطرف»، ويسابق مارين لوبان للاستحواذ على أصوات ناخبيها. وللعلم، فإن دارمانان هو «مهندس» مشروع قانون الهجرة الجديد الذي سيُعرض على المناقشة قريبَاً، والذي يدعو لصرامة أكبر في التعامل مع المهاجرين، وتحديد إقامتهم، مع تكثيف عمليات ترحيل المهاجرين غير القانونين، خصوصاً ذوي السوابق العدلية.

طموح بلا حدود

الصحافي لوران فالديغييه، في كتابه «دارمانان البارون الأسود للرئيس» (دار نشر روبرت لافون)، تطرق إلى العقبات التي اعترضت طريق السياسي الشاب وهو في بداياته، فكتب «وهو ابن السادسة عشرة طرق جيرالد باب مكتب الحزب اليميني للانخراط فيه، وأول تعليق تلقاه من الموظفة كان: لا يمكن يا صغيري، يجب أن تكون فرنسياً. (مُلمحة لسحنته الأجنبية)، ورغم جنسيته الفرنسية فقد استلزم الأمر توصية من فيليب سوغان - أحد قادة الحزب آنذاك - للحصول على بطاقة انخراطه. هذه الحادثة لاحقته طويلاً وكانت حافزاً جعله يعمل دون هوادة من أجل الوصول للقمة».

الكاتب فالديغيه نقل أيضاً طموح الوزير الشاب الذي جعل الوسط السياسي يلقبه بـ«البارون الأسود»، على اسم بطل مسلسل تلفزيوني، فقال إنه شخصية سياسية «تحاول المستحيل للوصول إلى السلطة، ولو على حساب الوازع الأخلاقي». وهنا يُذكر الكاتب والصحافي في مجلة «ماريان»، بأن التخلي عن «عائلته السياسية» لم يأخذ من دارمانان سوى ثلاثة أيام كانت كافية ليرمي وراء ظهره عشرين سنة من النشاط السياسي في صفوف اليمين، وكل العلاقات والزمالات التي كونّها في هذه العائلة ليلتحق بالرئيس إيمانويل ماكرون والوظيفة السامية التي عرضها عليه.

أما أنيتا هوسر، فقد كتبت في كتاب «جيرالد دارمانان، أسرار الطموح» (دار نشر أرشيبل) «منذ البداية كان منصب الوزير الأول نصب أعينه... طَرق كل الأبواب للحصول على منصب وزير الداخلية لأنه يعلم أنه مفتاح الوصول، فكثيرون من رؤساء الحكومة وصلوا إلى هذا المنصب مروراً بخانة الداخلية...». غير أن البعض يتكلم أيضاً عن طموحات أكبر تتمثل في الوصول إلى أعلى منصب في الدولة، أي «رئيس الجمهورية»، على غرار أستاذه ومثله الأعلى نيكولا ساركوزي، الذي كان وزيراً للمالية ثم الداخلية، ثم صار رئيساً للجمهورية. وبالفعل، هناك شائعات تناقلتها بعض وسائل الإعلام عن أنه يحضّر لتأسيس حزب جديد يدخل به المعركة الرئاسية عام 2027. وعودة إلى هوسر، فإنها تؤكد على صفحات كتابها «إذا وجد الفرصة السانحة، فإن الوزير الطموح لن يتردّد في الترشح للرئاسيات المقبلة، حتى وأن تطلّب الأمر خيانة صديقه إدوار فيليب (الوزير الأول السابق) الذي ينوي الترشح خلفاً لماكرون. فعند دارمانان لا أحد أهم من دارمانان...».

أصول مهاجرة بسيطة وأب غائب

في أول خطاب له بعد وصوله للوظيفة الوزارية، شكر جيرالد دارمانان والدته أني واكيد، ابنة المهاجر الجزائري وعاملة النظافة التي وصفها بـ«المحاربة الشجاعة»، مشيراً إلى أنها كانت تعمل طوال النهار، وفي المساء أيضاً، حيث كانت تكوي ملابس الجيران، كي توفر لابنها حياة أفضل بعد انفصالها عن زوجها.

وفي حوار مع صحيفة «ليبراسيون» عام 2012، قال دارمانان إن اسمه الثاني بعد جيرالد هو «موسى» تكريماً لجده المهاجر الجزائري موسى واكيد، الذي وُلد في بلدة أولاد غالية، القريبة من مدينة بومرداس بشمال الجزائر، ثم هاجر إلى فرنسا وهو ابن 15 سنة ليلتحق بصفوف الجيش الفرنسي. ثم إن الوزير الشاب أمضى طفولته في المقهى الذي كان يديره جدّه، وكان قريباً منه ويزوره باستمرار، ولا يفوِّت فرصة من دون ذكره. وحين اختاره نيكولا ساركوزي ليكون ناطقه الرسمي، كان أول تعليق صدر منه على وسائل التواصل هو تقديم الشكر بصفته «حفيد المهاجر الجزائري»، كما ذكر جّده الذي كان يصلي لله ويحترم قوانين فرنسا في مداخلة برلمانية حول الإسلام السياسي. على النقيض من ذلك، ما كان الوزير الشاب قريباً من والده جيرار، إذ عاش بعيداً عنه بعد انفصال والديه، وكان هذا الأخير يدير مقهى ويحب الكتابة والمغامرة والترحال. ثم وقع في حالة اكتئاب، ثم أدمن على الكحول، ولم يتواصل مع ابنه إلا في آخر أيامه حين تكفل ابنه بمصاريف علاجه إلى أن توفي الأب متأثراً بمرض السرطان عام 2019.

وزير على كل الجبهات

كثيرة هي التعليقات التي تطرّقت إلى تعدد أوجه التشابه بين الوزير دارمانان والرئيس السابق ساركوزي. فـ«التلميذ» مثل «أستاذه» كثير الحركة والتنقل، يفيض بالحيوية، ويسافر على الأقل ثلاث أو أربع مرات خلال الأسبوع في زيارات رسمية تفقّدية وكأنه يطبّق النصيحة التي وجهها له ساركوزي عشية حصوله على منصب وزير الداخلية، وهي «كوزير للداخلية يجب أن تكون حاضراً بقوة على كل الجبهات، سواءً عند وقوع حرائق الغابات، أو في زيارات لأقسام الشرطة...». والنتيجة، كما يقول النائب روجيه كاروتشي، لصحيفة «لوبينيون»، هي «أن دارمانان شخص مفرط في النشاط (هيبر أكتيف) إذا أردت موعداً معه فعليك أن تكون مستعداً للجري...».

أما صحيفة «لوباريزيان»، فتُذكر أن دارمانان سافر عام 2022 أكثر من 30 مرة إلى خارج البلاد، وهذا رقم قياسي مقارنة بسابقيه ما قد يساعده على تعزيز مكانته على الصعيد الدولي أيضاً. وقال خبير الاتصال غاسبار غانتسار لإذاعة «فرانس إنفو» معلّقاً «حتى إذا كنا لا نوافق الوزير دارمانان، فلا مفر من الاعتراف بأنه نجح في ملء الفضاء الإعلامي، فهو يثير الجدل بمجرد أن يأخذ الكلمة، وهذا من منظور الاتصال والدعاية شيء جيد... وبينما لا يعرف الفرنسيون 80 في المائة من وزراء الحكومة، فإن اسم دارمانان وحده يبقى معروفاً لدى الجميع...». وللتذكير، وضعت دراسة أخيرة لمعهد «ايفوب» عن وزراء الداخلية الأكثر شعبية في فرنسا، دارمانان، في المرتبة العاشرة بعد أقطاب السياسة كساركوزي ودوفيلبان... وهذا بعد 6 أشهر فقط من بلوغه هذا المنصب.

الإخفاقات

قد يكون أكبر فشل لجيرالد دارمانان منذ بدأ مهامه على رأس الداخلية قضية ملعب «ستاد دو فرانس» بباريس، حين وقعت اضطرابات وفوضى عارمة في محيط الملعب إبان نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، وذلك بعد تداول أخبار بوجود 40 ألف تذكرة مُزوة للمشجعين البريطانيين.

هذه القضية أساءت إلى صورة فرنسا وأثارت غضب البريطانيين، وحُمّل وزير الداخلية على أثرها كامل المسؤولية بعدما دافع عن موقف الشرطة التي قمعت المشجعين وعائلاتهم من دون التحقق من هذه الأخبار. وتطرّقت أنيتا هوسر لهذا الموضوع في كتابها «جيرالد دارمانان، أسرار الطموح» بقولها: «إذا كانت هناك نقطة سوداء في مسيرة دارمانان المهنية فهي بالتأكيد قضية (ستاد دو فرانس)... الثقة المفرطة بـفريقه كلّفته الكثير...».

أيضاً، لا تطورات في مكافحة المخدرات، وكل التقارير تشير إلا أن فرنسا ما زالت البلد الأول من حيث استهلاك «الحشيش»، والأرقام في تصاعد مستمر. والمشكلة، حسب المراقبين، هي في المنهج الذي يتبعه الوزير الذي يعتمد حظر الاستهلاك كلياً بدلاً من إباحة الاستهلاك بمستويات معقولة لكسر شوكة التجار والتحكم في الأمور. وهي تجربة كانت مثمرة في عدد من دول شمال أوروبا، حسب تقارير المتخصصين. وتضاف إلى المشكلات العالقة أيضاً الهجرة غير الشرعية في جزيرة مايوت، ومشروع «قانون الهجرة» الذي قُوبل بمعارضة اليمين واليسار ما تسبب في تأجيله إلى وقت لاحق.

جدل وقضايا قانونية

حقيقة الأمر، أن معظم الجدل الكبير صاحب توّلي دارمانان مهامه نتج عن تعليقات حادة وغير مناسبة. وآخرها كانت تصريحاته تجاه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في برنامج إذاعي، حين قال إنها «عاجزة عن حل مشكلات الهجرة في بلادها...»، وأدى هذا الكلام إلى إلغاء زيارة رسمية كانت مبرمجة في باريس، واندلاع أزمة دبلوماسية بين البلدين استدعت تدخل الخارجية لتهدئة الأوضاع.

كذلك أثارت التهديدات التي وجهّها أخيراً إلى جمعية حقوق الإنسان بقطع المساعدات الحكومية، بعدما نددّت بقمع الشرطة للمتظاهرين، جدلاً واسعاً حتى في أوساط حزب الوزير نفسه. وهنا نشير إلى أن فالغييه أورد في كتابه عن الوزير أن «الكثير من الجدل كان سمة لتصريحات الوزير دارمانان حتى لقّب بالاطفائي المفتعل للحرائق»... فهو يتهم تارة اليساريين والنخبة الفكرية بالإرهاب، وطوراً زعيم الحزب الشيوعي بتنظيم انقلاب... وهو بذلك يطبق ما يسمى باستراتيجية الضغط، وكأنه يقول إن كل هؤلاء يخططون لخراب البلاد، وأنا وحدي هنا لإنقاذكم وكل هذا لا يخدم سوى طموحه السياسي...».

ختاماً، لا بد من الإشارة إلى تعرّض دارمانان لملاحقات قضائية بعد تسلمه منصب وزير الحسابات العامة في 2017. وكانت الدعاوى المرفوعة تتعلق بتهم الاغتصاب، إذ ادّعت سيدتان أن الوزير استغل وظيفته ونفوذه للحصول على خدمات جنسية. ومع أن القضاء قرّر حفظ الدعويين، فإن جزءاً من الرأي العام لا يزال يذكر هذه القضايا، لا سيما أن وسائل الإعلام تناقلت في حينه تنديد الجمعيات النسوية بتعيين دارمانان وزيراً للداخلية، كما نظمت مسيرات احتجاج حاملة شعار «دارمانان المغتصب... ارحل».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.