وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح

من أصول مهاجرة بسيطة وذو توجّه يميني محافظ

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح
TT

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح

وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان... شخصية جدلية تجسد الصرامة والطموح

لعل أهم ميزة تذكر لوزير الداخلية الفرنسي الشاب جيرالد دارمانان، مسيرته السياسية الحافلة. فهو، خلافاً لبعض زملائه من وزراء عهد إيمانويل ماكرون الذين يفتقرون للخبرة السياسية، بدأ نشاطه السياسي وهو ابن 16 سنة. ومنذ ذلك الوقت خاض عدة معارك انتخابية في صفوف اليمين الجمهوري قبل أن يختاره الرئيس ماكرون وزيراً للحسابات العامة في مايو (أيار) 2017، ثم يعينه وزيراً للداخلية في 6 يوليو (تموز) 2020.

لقد ارتقى الوزير الشاب سلّم المراتب بعد تخرّجه في المعهد العالي للقانون والدراسات السياسية «سيانس بو» في مدينة ليل - أقصى شمال فرنسا - وبعد سنوات عمل فيها مساعداً لعدة شخصيات سياسية مثل وزير العمل السابق كزافييه برتران، ووزير العدالة السابق جاك توبون، وصل إلى احتلال مناصب مرموقة؛ أهمها منصب نائب عام 2012 وهو لا يتعدى التاسعة والعشرين. وبعد سنتين انتخب عُمدة لمدينة توركوان - أيضاً في أقصى شمال البلاد - بشمال فرنسا.

والواقع أن دارمانان ينتمي إلى الجناح المحافظ من اليمين الجمهوري، ولذا يتعامل بحزم مع قضايا الهجرة والأمن. ثم إنه كانت له مواقف معادية لزواج المثليين، إذ رفض بصفته عمدة لمدينة توركوان الإشراف على مراسم زواج من هذا القبيل قبل أن يغيّر رأيه بعد التحاقه بالحكومة، وإعلانه في أحد حواراته أنه «كان مخطئاً...». وراهناً، يلقى تعامله مع ملف الهجرة والمهاجرين الكثير من النقد حتى قيل إنه «يصطاد في أراضي اليمين المتطرف»، ويسابق مارين لوبان للاستحواذ على أصوات ناخبيها. وللعلم، فإن دارمانان هو «مهندس» مشروع قانون الهجرة الجديد الذي سيُعرض على المناقشة قريبَاً، والذي يدعو لصرامة أكبر في التعامل مع المهاجرين، وتحديد إقامتهم، مع تكثيف عمليات ترحيل المهاجرين غير القانونين، خصوصاً ذوي السوابق العدلية.

طموح بلا حدود

الصحافي لوران فالديغييه، في كتابه «دارمانان البارون الأسود للرئيس» (دار نشر روبرت لافون)، تطرق إلى العقبات التي اعترضت طريق السياسي الشاب وهو في بداياته، فكتب «وهو ابن السادسة عشرة طرق جيرالد باب مكتب الحزب اليميني للانخراط فيه، وأول تعليق تلقاه من الموظفة كان: لا يمكن يا صغيري، يجب أن تكون فرنسياً. (مُلمحة لسحنته الأجنبية)، ورغم جنسيته الفرنسية فقد استلزم الأمر توصية من فيليب سوغان - أحد قادة الحزب آنذاك - للحصول على بطاقة انخراطه. هذه الحادثة لاحقته طويلاً وكانت حافزاً جعله يعمل دون هوادة من أجل الوصول للقمة».

الكاتب فالديغيه نقل أيضاً طموح الوزير الشاب الذي جعل الوسط السياسي يلقبه بـ«البارون الأسود»، على اسم بطل مسلسل تلفزيوني، فقال إنه شخصية سياسية «تحاول المستحيل للوصول إلى السلطة، ولو على حساب الوازع الأخلاقي». وهنا يُذكر الكاتب والصحافي في مجلة «ماريان»، بأن التخلي عن «عائلته السياسية» لم يأخذ من دارمانان سوى ثلاثة أيام كانت كافية ليرمي وراء ظهره عشرين سنة من النشاط السياسي في صفوف اليمين، وكل العلاقات والزمالات التي كونّها في هذه العائلة ليلتحق بالرئيس إيمانويل ماكرون والوظيفة السامية التي عرضها عليه.

أما أنيتا هوسر، فقد كتبت في كتاب «جيرالد دارمانان، أسرار الطموح» (دار نشر أرشيبل) «منذ البداية كان منصب الوزير الأول نصب أعينه... طَرق كل الأبواب للحصول على منصب وزير الداخلية لأنه يعلم أنه مفتاح الوصول، فكثيرون من رؤساء الحكومة وصلوا إلى هذا المنصب مروراً بخانة الداخلية...». غير أن البعض يتكلم أيضاً عن طموحات أكبر تتمثل في الوصول إلى أعلى منصب في الدولة، أي «رئيس الجمهورية»، على غرار أستاذه ومثله الأعلى نيكولا ساركوزي، الذي كان وزيراً للمالية ثم الداخلية، ثم صار رئيساً للجمهورية. وبالفعل، هناك شائعات تناقلتها بعض وسائل الإعلام عن أنه يحضّر لتأسيس حزب جديد يدخل به المعركة الرئاسية عام 2027. وعودة إلى هوسر، فإنها تؤكد على صفحات كتابها «إذا وجد الفرصة السانحة، فإن الوزير الطموح لن يتردّد في الترشح للرئاسيات المقبلة، حتى وأن تطلّب الأمر خيانة صديقه إدوار فيليب (الوزير الأول السابق) الذي ينوي الترشح خلفاً لماكرون. فعند دارمانان لا أحد أهم من دارمانان...».

أصول مهاجرة بسيطة وأب غائب

في أول خطاب له بعد وصوله للوظيفة الوزارية، شكر جيرالد دارمانان والدته أني واكيد، ابنة المهاجر الجزائري وعاملة النظافة التي وصفها بـ«المحاربة الشجاعة»، مشيراً إلى أنها كانت تعمل طوال النهار، وفي المساء أيضاً، حيث كانت تكوي ملابس الجيران، كي توفر لابنها حياة أفضل بعد انفصالها عن زوجها.

وفي حوار مع صحيفة «ليبراسيون» عام 2012، قال دارمانان إن اسمه الثاني بعد جيرالد هو «موسى» تكريماً لجده المهاجر الجزائري موسى واكيد، الذي وُلد في بلدة أولاد غالية، القريبة من مدينة بومرداس بشمال الجزائر، ثم هاجر إلى فرنسا وهو ابن 15 سنة ليلتحق بصفوف الجيش الفرنسي. ثم إن الوزير الشاب أمضى طفولته في المقهى الذي كان يديره جدّه، وكان قريباً منه ويزوره باستمرار، ولا يفوِّت فرصة من دون ذكره. وحين اختاره نيكولا ساركوزي ليكون ناطقه الرسمي، كان أول تعليق صدر منه على وسائل التواصل هو تقديم الشكر بصفته «حفيد المهاجر الجزائري»، كما ذكر جّده الذي كان يصلي لله ويحترم قوانين فرنسا في مداخلة برلمانية حول الإسلام السياسي. على النقيض من ذلك، ما كان الوزير الشاب قريباً من والده جيرار، إذ عاش بعيداً عنه بعد انفصال والديه، وكان هذا الأخير يدير مقهى ويحب الكتابة والمغامرة والترحال. ثم وقع في حالة اكتئاب، ثم أدمن على الكحول، ولم يتواصل مع ابنه إلا في آخر أيامه حين تكفل ابنه بمصاريف علاجه إلى أن توفي الأب متأثراً بمرض السرطان عام 2019.

وزير على كل الجبهات

كثيرة هي التعليقات التي تطرّقت إلى تعدد أوجه التشابه بين الوزير دارمانان والرئيس السابق ساركوزي. فـ«التلميذ» مثل «أستاذه» كثير الحركة والتنقل، يفيض بالحيوية، ويسافر على الأقل ثلاث أو أربع مرات خلال الأسبوع في زيارات رسمية تفقّدية وكأنه يطبّق النصيحة التي وجهها له ساركوزي عشية حصوله على منصب وزير الداخلية، وهي «كوزير للداخلية يجب أن تكون حاضراً بقوة على كل الجبهات، سواءً عند وقوع حرائق الغابات، أو في زيارات لأقسام الشرطة...». والنتيجة، كما يقول النائب روجيه كاروتشي، لصحيفة «لوبينيون»، هي «أن دارمانان شخص مفرط في النشاط (هيبر أكتيف) إذا أردت موعداً معه فعليك أن تكون مستعداً للجري...».

أما صحيفة «لوباريزيان»، فتُذكر أن دارمانان سافر عام 2022 أكثر من 30 مرة إلى خارج البلاد، وهذا رقم قياسي مقارنة بسابقيه ما قد يساعده على تعزيز مكانته على الصعيد الدولي أيضاً. وقال خبير الاتصال غاسبار غانتسار لإذاعة «فرانس إنفو» معلّقاً «حتى إذا كنا لا نوافق الوزير دارمانان، فلا مفر من الاعتراف بأنه نجح في ملء الفضاء الإعلامي، فهو يثير الجدل بمجرد أن يأخذ الكلمة، وهذا من منظور الاتصال والدعاية شيء جيد... وبينما لا يعرف الفرنسيون 80 في المائة من وزراء الحكومة، فإن اسم دارمانان وحده يبقى معروفاً لدى الجميع...». وللتذكير، وضعت دراسة أخيرة لمعهد «ايفوب» عن وزراء الداخلية الأكثر شعبية في فرنسا، دارمانان، في المرتبة العاشرة بعد أقطاب السياسة كساركوزي ودوفيلبان... وهذا بعد 6 أشهر فقط من بلوغه هذا المنصب.

الإخفاقات

قد يكون أكبر فشل لجيرالد دارمانان منذ بدأ مهامه على رأس الداخلية قضية ملعب «ستاد دو فرانس» بباريس، حين وقعت اضطرابات وفوضى عارمة في محيط الملعب إبان نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، وذلك بعد تداول أخبار بوجود 40 ألف تذكرة مُزوة للمشجعين البريطانيين.

هذه القضية أساءت إلى صورة فرنسا وأثارت غضب البريطانيين، وحُمّل وزير الداخلية على أثرها كامل المسؤولية بعدما دافع عن موقف الشرطة التي قمعت المشجعين وعائلاتهم من دون التحقق من هذه الأخبار. وتطرّقت أنيتا هوسر لهذا الموضوع في كتابها «جيرالد دارمانان، أسرار الطموح» بقولها: «إذا كانت هناك نقطة سوداء في مسيرة دارمانان المهنية فهي بالتأكيد قضية (ستاد دو فرانس)... الثقة المفرطة بـفريقه كلّفته الكثير...».

أيضاً، لا تطورات في مكافحة المخدرات، وكل التقارير تشير إلا أن فرنسا ما زالت البلد الأول من حيث استهلاك «الحشيش»، والأرقام في تصاعد مستمر. والمشكلة، حسب المراقبين، هي في المنهج الذي يتبعه الوزير الذي يعتمد حظر الاستهلاك كلياً بدلاً من إباحة الاستهلاك بمستويات معقولة لكسر شوكة التجار والتحكم في الأمور. وهي تجربة كانت مثمرة في عدد من دول شمال أوروبا، حسب تقارير المتخصصين. وتضاف إلى المشكلات العالقة أيضاً الهجرة غير الشرعية في جزيرة مايوت، ومشروع «قانون الهجرة» الذي قُوبل بمعارضة اليمين واليسار ما تسبب في تأجيله إلى وقت لاحق.

جدل وقضايا قانونية

حقيقة الأمر، أن معظم الجدل الكبير صاحب توّلي دارمانان مهامه نتج عن تعليقات حادة وغير مناسبة. وآخرها كانت تصريحاته تجاه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في برنامج إذاعي، حين قال إنها «عاجزة عن حل مشكلات الهجرة في بلادها...»، وأدى هذا الكلام إلى إلغاء زيارة رسمية كانت مبرمجة في باريس، واندلاع أزمة دبلوماسية بين البلدين استدعت تدخل الخارجية لتهدئة الأوضاع.

كذلك أثارت التهديدات التي وجهّها أخيراً إلى جمعية حقوق الإنسان بقطع المساعدات الحكومية، بعدما نددّت بقمع الشرطة للمتظاهرين، جدلاً واسعاً حتى في أوساط حزب الوزير نفسه. وهنا نشير إلى أن فالغييه أورد في كتابه عن الوزير أن «الكثير من الجدل كان سمة لتصريحات الوزير دارمانان حتى لقّب بالاطفائي المفتعل للحرائق»... فهو يتهم تارة اليساريين والنخبة الفكرية بالإرهاب، وطوراً زعيم الحزب الشيوعي بتنظيم انقلاب... وهو بذلك يطبق ما يسمى باستراتيجية الضغط، وكأنه يقول إن كل هؤلاء يخططون لخراب البلاد، وأنا وحدي هنا لإنقاذكم وكل هذا لا يخدم سوى طموحه السياسي...».

ختاماً، لا بد من الإشارة إلى تعرّض دارمانان لملاحقات قضائية بعد تسلمه منصب وزير الحسابات العامة في 2017. وكانت الدعاوى المرفوعة تتعلق بتهم الاغتصاب، إذ ادّعت سيدتان أن الوزير استغل وظيفته ونفوذه للحصول على خدمات جنسية. ومع أن القضاء قرّر حفظ الدعويين، فإن جزءاً من الرأي العام لا يزال يذكر هذه القضايا، لا سيما أن وسائل الإعلام تناقلت في حينه تنديد الجمعيات النسوية بتعيين دارمانان وزيراً للداخلية، كما نظمت مسيرات احتجاج حاملة شعار «دارمانان المغتصب... ارحل».



اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».