فينومينولوجيا العقل اللبناني

مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)
مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)
TT

فينومينولوجيا العقل اللبناني

مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)
مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)

في البداية، لا بد من تبرير عنوان هذا المقال المكثف. في الواقع، إن لبنان منذ نشأته ككيان وكدولة وكوطن عانى وما زال يعاني من أزمات وحروب أهلية وتدخلات أجنبية وأخوية ومن اعتداءات إسرائيلية. أضف إلى ذلك، أن تركيبة المجتمع اللبناني التعددية القائمة على العديد من الطوائف والمذاهب الدينية ساهمت في تأجيج الأزمات وفي استدراج التدخلات الخارجية من أجل فرض موازين القوى التي تخدم مصالح الأقوى في المعادلات الإقليمية والدولية، وما نشهده في هذه المرحلة من تأزم في موضوع انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية هو أوضح دليل على ما ذكرناه.
وانطلاقاً من هذا الإطار البنيوي سوف نرصد ما يمكن تسميته بالعقل اللبناني الذي وُلد وترعرع في ظل الصيغة الطائفية والمذهبية والتعددية والمتفاعلة مع العوامل الخارجية. ولكي نفهم ما يجري في هذا البلد الصغير بحجمه والكبير بأزماته وبتأثيره على محيطه، سوف نلجأ إلى المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) لرصد العقل اللبناني ومفارقاته. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن المنهج الفينومينولوجي يعود بشكل أساسي إلى الفيلسوف الألماني إدمون هوسرل (1859-1938). هذا المنهج يقوم على رصد الظاهرة من خلال العودة إلى الأشياء ذاتها من دون إسقاط أي أفكار مسبقة عليها، كما يقوم على مفهوم القصدية؛ بمعنى أن الوعي يقصد الظاهرة كما هي أو كما تظهر له؛ إذ إنه يعتبر أن كل وعي هو وعي لشيء ما. بالنسبة إلى هوسرل، فإن الكينونة هي ما يظهر أمام وعينا؛ إذ إنه بعكس كانط لا يؤمن بأن هناك أشياء في ذاتها غير قابلة للانكشاف أمام العقل.
إذن، بواسطة المنهج الفينومينولوجي سوف نحاول رصد العقل اللبناني من خلال مفارقاته وظهوراته في التجربة اللبنانية المتحركة باستمرار. ولكن ما المقصود بالعقل اللبناني؟ المقصود هنا بالعقل اللبناني تلك البنية التي تتضمن المبادئ الأساسية والقيم والأفكار السائدة والعادات والتقاليد والموروثات الثقافية والدينية التي تحكم العلاقات فيما بين المواطنين اللبنانيين الذين اختاروا أن يخضعوا لها بكامل حريتهم. إذن، فإن اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومواقعهم وإثنياتهم ارتضوا أن يعيشوا معاً، وأن يخضعوا للقوانين اللبنانية وللدولة اللبنانية ودستورها. هذا من حيث المبدأ، ولكن حين نخرج إلى الواقع والممارسة والعيش معاً تبدأ المفارقات بالبروز وبالتأثير في خلق الأزمات وصولاً إلى الحرب الأهلية، وإلى استدراج الأطراف الخارجية للاستقواء على الشريك الداخلي. وإذا نظرنا إلى المواطن اللبناني نظرة فينومينولوجية نجد أن العقل الذي يوجهه يتميز بمفارقات واضحة، أهمها ازدواجية الولاء والانتماء من خلال أولوية الانتماء إلى الطائفة والمذهب، أو إلى العشيرة، أو إلى الأمة العربية، أو إلى الأمة الأوروبية وغيرها. أضف إلى ذلك ظاهرة تعدد الجنسيات الأجنبية؛ إذ يتباهى اللبنانيون بالحصول على جنسيات أجنبية. هذا الوضع سوف يؤدي حتماً إلى تعدد الثقافات المرجعية التي من المفترض أن تؤسس الأوطان. وأهم مفارقة تكمن في ظاهرة لافتة تتمثل في انتماء المسؤولين الرسميين في الدولة إلى جنسيات أجنبية. أمام هذا الواقع الذي يعيشه اللبنانيون سوف يجدون أنفسهم واقعين ومتخبطين في أزمات ومـآزق لا يمكن تجاوزها إلا من خلال التسويات والمساومات التي تعيش لفترة، ثم تتجدد الأزمة ويتم الانتقال إلى تسوية أخرى أكثر كلفة على المجتمع وعلى الاقتصاد. من هذه الزاوية أيضاً يمكننا اعتبار أن العقل اللبناني محكوم بالتسويات نتيجة المفارقات التي تحكمه بنيوياً وتاريخياً. من هنا، فإن كينونة لبنان تلازمت مع كينونة التسوية، فبقدر ما تكون التسوية حيّة ومتجدّدة؛ أي بقدر ما تشكّل ظاهرة، بقدر ما يكون لبنان محافظاً على حياته وهويته النظريّة على الأقل.
انطلاقاً من ذلك، فإن العقلية اللبنانية التي تأسست على اعتبار لبنان ذا الهويّة الواحدة لعناصره المختلفة والمتنوعة الحاصلة نتيجة لتسوية ومساومات محكومة بأن تبقى حيّة، هذه العقليّة محكومة أيضاً بأن تكون تسووية ومساومة. وكل فكر يترعرع ضمن هذه البنية ومؤمن بلبنان كوطن نهائي، هو فكر محكوم بأن يكون مساوماً؛ لأن للمساومة مكانة أنطولوجيّة في تحديده كفكر لبناني. وبالفعل، فإن هذه المكانة الأنطولوجيّة للتسوية تنعكس على جميع ميادين الفكر اللبناني. فإذا أجرينا رصداً فينومينولوجيّاً لنشاط الفكر في لبنان نلاحظ أن ظاهرة التسوية تعبره من أبسط مستوياته إلى أعقدها. في الفكر التجاري والاقتصادي تظهر المساومات بوضوح، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالقوانين التي تحاول تنظيم وتوجيه أو تقييد الاقتصاد الحر. وفي الفكر السياسي تظهر المساومة من خلال التنظير لأشكال غريبة في أسلوب ممارسة الحكم يتميّز بها لبنان من دون سواه من الكيانات والدول. وفي الفكر الدستوري تظهر المساومة من خلال اللَّف والدوران حول الدستور، ومن خلال تشريع القوانين الاعتباطيّة والموسميّة والظَّرفيَّة لخدمة حالات خاصَّة. وفي الفكر الديني نرى المساومة والتسويات بين المذاهب المتعدِّدة تغطّي بساطة الدِّين وتغلِّفه بطبقات من التفسيرات والاجتهادات والتأويلات التي تكيِّفه حسب الطلب وحسب الظروف السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة. وتظهر المساومة والتسوية في الموقف من لبنان: هل هو وطن نهائي؟ فإذا كان كذلك، فإن أصحاب الفكر الديني المؤمنين بمذاهب مختلفة يجدون أنفسهم أمام خيارات صعبة تلزمهم بالتسوية مع الآخرين من أجل فكرة الوطن والمصالح العامة. وفي الفكر الاجتماعي، يرى اللبناني نفسه أمام تنظير يحاول تبرير الفوارق الاجتماعية بين منطقة وأخرى، وبين طائفة وأخرى، في حين أننا إذا أردنا أن نكون لبنانيين فعلاً يجب أن ننتمي إلى مجتمع واحد، وهذا يقتضي منّا التسوية والمساومة حول فهم مشترك للظاهرات الاجتماعيّة التي تسود في مجتمعنا، والعمل على إيجاد الأطر الكفيلة بدمج اللبنانيّين فيما بينهم على تنوّعهم الدّيني والاجتماعي والثقافي. وفي الفكر الفلسفي، أخيراً، تتجلّى المساومة والتسوية في تيّار «الفلسفة اللبنانية»؛ إذ كان الفيلسوف كمال يوسف الحاج يعتبر أن كلّ ما هو علماني وعروبي وشيوعي غريب عن «الذات اللبنانية»، وبالتالي إذا أراد هذا الغريب أن يكون لبنانيّاً فعليه أن يقبل بالنّظام الطّائفي؛ إذ إنَّ «الأرض والسّماء قد تزولان ولا تزول الطَّائفيّة من لبنان. والطيّون لا يجب أن يناطح الأرز، والغراب لا يجب أن يداعي الحمام»؛ فكلٌّ له مكانه بقدر مدى انتمائه إلى الذات اللبنانيّة المسيحيّة المارونيّة.
وإذا اعترف غير المسيحيين بسيادة الذات المسيحيّة في لبنان وتدجَّنوا تحت لوائها، فإن الفيلسوف كمال الحاج يقدِّم لهم بالمقابل تنازلاً تكتيكيّاً؛ إذ يعترف لهم بوجود الأمة العربية كبُعد اقتصادي للبنان، ولكن بالمقابل هو ينكر وجود «القوميّة العربيّة» التي لم تستطع أن تتجسّد في كيان سياسيّ، بل يعترف «بالقوميّة اللبنانيّة» المتجسِّدة في الدولة اللبنانية.
ونظراً لضيق المجال، فسنكتفي بهذا النموذج المعبّر عن مدى اختراق المساومة أو التسوية الانتقائية والتَّوفيقيّة لمساحات الفكر الناتج داخل إطار بنية ما سُمِّيَ بلبنان. أما تيَّارات الفكر الأخرى من عروبيّة وقوميّة اجتماعية وشيوعيَّة واشتراكيَّة، فعلى رغم صلابة عقائدها ومحاولاتها التَّرفُّع عن المساومة، فإنها بحكم الواقع التَّاريخي وبحكم لبنانيَّتها؛ فقد كانت دائماً تقع في المساومة في وجهها اللبناني؛ إذ إنه عندما يتعلَّق الأمر بمقابلة الفكر بالواقع اللبناني لا بد للمساومة من دور ومكانة أنطولوجيَّة.
والآن بعدما استعرضنا عناصر إشكاليتنا ومراحلها، فإن السُّؤال المطروح يأخذ وجهين: وجهاً معرفيّاً وآخر أخلاقيّاً. معرفيّاً يمكن أن نتساءل: هل نعرف فكرنا؟ هل نعرف أن فكرنا محكوم بظاهرة المساومة أو التسوية؟ ماذا يفيد أن نعرف كون عقلنا، نحن اللبنانيين، عقلاً تسووياً أو مساوماً؟ أما أخلاقيّاً، فيمكن أن نتساءل: هل من المعيب أن يكون فكرنا مساوماً؟ هل المساومة في كينونتها هي شرّ أو خير؟ نحن رصدنا فينومينولوجيا التسوية والمساومة في العقل والفكر اللبنانيين، وليس علينا إطلاق أحكام – قيمة؛ إذ إن الفينومينولوجيا لا تدَّعي بذاتها صياغة وصفات أخلاقيَّة، بل هي تنشغل فقط بما هو كائن وظاهر، ولكنها تفتح باباً لطرح التساؤلات الأخلاقيَّة. إذا سلَّمنا بأننا مساومون، فإنَّ الأحكام تختلف باختلاف المنظار والمعيار. وهناك معيار الوحدة ومعيار الاختلاف. المساومة في ذاتها ليست عيباً ولا حسنة، بل المهم لماذا نساوم، فالمساومة نشاط فكري، والفكر حياة، والحياة كينونة تصير. وإذا لم تكن الفلسفة إشكالية، فهي ليست فلسفة.
- باحث وأستاذ جامعي لبناني



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.