في اليوم الثاني من «الملتقى العالمي للذكاء الاصطناعي في طب الأسنان»، الموافق ليوم أمس (السبت)، بدا أنّ القاعة في جامعة هارفارد لم تعد مجرد ساحة للعرض الأكاديمي، بل منصة تُكتب فيها ملامح الجيل المقبل من المهنة الطبية... فمن هارفارد، التي تحافظ على موقعها بوصفها بيتاً للفكر الطبي منذ 1636، انطلقت سلسلة محاضرات وجلساتٍ علمية حملت مضموناً واضحاً: طب الأسنان لم يعد تخصصاً يقوم على المهارة اليدوية وحدها، بل أصبح علماً هجيناً يربط بين البيانات، والخوارزميات، والذكاء التنبّئي، والإنسان.

الاعتماد على الذكاء الاصطناعي قد يسلب الإنسان التفكير النقدي
وفي واحدة من أكثر لحظات المؤتمر إثارةً للاهتمام، وقف البروفسور كريم لَخّاني - عميد معهد الذكاء الاصطناعي والبيانات في جامعة هارفارد - ليطلق تحذيراً لافتاً هزّ القاعة. فقد أكّد أن السباق نحو اعتمادٍ مطلق على دقّة الخوارزميات قد يدفع الإنسان، من حيث لا يشعر، إلى تسليم قراراته للآلة دون مراجعة أو تفكير نقدي.
وحذّر من أن هذا «الاطمئنان المفرط» قد يسمح لأخطاء برمجية عميقة بأن تمرّ كحقائق، فقط لأننا نفترض مسبقاً أن الذكاء الاصطناعي لا يخطئ... بينما الحقيقة أن خطأ واحداً غير مُكتشَف قد يغيّر نتائج منظومات كاملة.
«التوأم الرقمي»... حين يصبح للمريض مستقبلان
كانت واحدة من أكثر الجلسات إثارةً تلك التي تناولت مفهوم «التوأم الرقمي الفموي». فقد تحدّث الباحثون عن نموذج ثلاثي الأبعاد يتجاوز حدود التصوير التقليدي، ليحوّل فم المريض إلى نسخة رقمية تتعلم وتتحرك وتتفاعل.
لم يعد الهدف مجرد «رؤية» السن أو العظم، بل التنبؤ بما سيحدث قبل أن يحدث.
تستطيع هذه النسخة الافتراضية محاكاة أي علاج - سواء زرعة، أو تقويم، أو جراحة - ثم تقدِّم للطبيب سيناريوهات دقيقة للنجاح والمضاعفات والوقت المتوقع للشفاء.
في أحد الأمثلة التي عرضها باحثو هارفارد، أُجريت على «التوأم الرقمي» عملية جراحية معقدة استغرقت ساعة ونصف الساعة في الواقع، بينما تمكَّنت الخوارزمية من محاكاتها بدقة خلال 37 ثانية فقط.
ورغم أن القرار يبقى للطبيب، فإن القدرة على رؤية المستقبل قبل رفع الأدوات من الحقيبة تُعد نقلة غير مسبوقة في سلامة العلاج.
الذكاء العاطفي... عندما تفهم الخوارزمية الخوف
أفرز النقاش العلمي محوراً بدا خارج التوقعات التقليدية للطب: الذكاء العاطفي السريري.
قدَّم فريق البحث في معهد ماساتوشيس للتكنولوجيا MIT نموذجاً قادراً على تحليل التوتر عبر حركة العين، وتذبذب الصوت، وتقلبات التنفس، ليقيس مستوى القلق المتوقع بدقة تفوق الملاحظة البشرية.
كان السؤال الأكثر حضوراً بين الباحثين: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أكثر رحمةً من الطبيب؟
بالطبع، لا يستبدل الذكاء العاطفي دور الطبيب في بناء الثقة، لكنه يقدّم له «بوصلة خفية» ترصد ما قد يفوت حتى على أكثر الأطباء خبرة.
تخيّل، مثلاً، طبيباً يعرف أن مريضه يشعر بالخوف قبل أن يتكلم، أو يرى أن مستوى التوتر ارتفع في أثناء الحقن، فيهدّئ الإجراء أو يبطئه... هذا هو المعنى الجديد للطب الإنساني في زمن الذكاء.
الذكاء المُبادِر... خطوة قبل السؤال
تصدَّر مفهوم الذكاء المُبادِر (Proactive Intelligence) المحاوِر البحثية لهذا العام. إذ قدّمت هارفارد نظاماً يستطيع مراقبة البيانات السريرية لحظة بلحظة، لا ليستجيب فقط، بل ليتحرّك قبل صدور القرار.
وإذا لاحظ تغيّراً مجهرياً في الأشعة، أو ارتفاعاً غير مفسَّر في مؤشرات الالتهاب، فيقترح تعديلاً فورياً في الخطة العلاجية.
وهو ما يجعل العيادة تمتلك «وعياً رقمياً» يعمل في الخلفية دون توقّف.
أحد المتحدثين شبّه الأمر بطبيب ثانٍ يقف خلف كتف الطبيب الأصلي، لا ينام، ولا يتعب، ولا يغفل عن إشارة واحدة.

الأسنان بوصفها مستشعرات... الفم يتحول إلى شاشة للجسد
اكتسبت جلسة المستشعرات الحيوية زخماً خاصاً. فقد استعرض الباحثون تقنيات دقيقة تُزرع فوق الأسنان، أو تُدمج داخل اللعاب؛ لقياس مستويات السكر، وتركيب المعادن، وأنماط الميكروبيوم، ومؤشرات التوتر.
الفم هنا لا يُستخدم لقياس المرض فحسب، بل لقياس الحياة.
وقال أحد العلماء: «ربما سيأتي اليوم الذي يصبح فيه فم الإنسان جهازاً طبياً يرسل إشعارات تنبيه قبل 48 ساعة من حدوث الالتهاب أو الألم».
السياسات الصحية... وولادة قواعد جديدة
لم تكن جلسات الملتقى علميةً فقط، بل طرحت أسئلة أخلاقية وتشريعية صعبة:
- مَن يملك بيانات «التوأم الرقمي» للمريض؟
- كيف يمكن ضبط الخوارزميات في الدول النامية؟
- ما مسؤولية الطبيب إذا كانت توصية الذكاء الاصطناعي خاطئة؟
- كيف نحمي الهوية الطبية العربية من الهيمنة التقنية الغربية؟
كانت هذه الأسئلة محور نقاش موسّع شارك فيه الحاضرون من الشرق الأوسط، خصوصاً من السعودية والإمارات وقطر، حيث تتقدَّم مبادرات الصحة الرقمية بشكل غير مسبوق.
الحضور العربي... من المتابعة إلى المشارَكة
لفت الحضور العربي في الملتقى الانتباه بشكل واضح، إذ لم يعد وجود الباحثين والمؤسسات من المنطقة يقتصر على متابعة ما ينتجه العالم، بل بات حضوراً فاعلاً يطرح أسئلة ويقدّم حلولاً. فقدّمت وفود من السعودية والإمارات وقطر عروضاً حول مشروعات «التوأم الرقمي»، و«العيادات الذكية»، و«أنظمة التشخيص اللحظي»، في إشارة إلى أن المنطقة لم تعد «مستقبِلة للتقنية»، بل «مُنتِجة» لها أيضاً.
وأكد المتحدثون أن الخليج، بما يمتلكه من بنية صحية رقمية متسارعة، ينتقل تدريجياً من مرحلة التطبيق إلى مرحلة التصميم وصياغة النماذج العلمية، وهو تحوّل يضعه في موقع الشريك الحقيقي في رسم مستقبل الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان.
التوصيات... خريطة طريق للمستقبل
خرج الملتقى بتوصيات رئيسية عدة:
- دمج الذكاء التنبّئي في مناهج التعليم الطبي.
- تدريب الطلاب على تحليل البيانات، لا على حفظها فقط.
- اعتماد «التوأم الرقمي» خطوةً إلزاميةً في العمليات المعقدة بحلول 2030 لرفع نسبة النجاح وتقليل المضاعفات.
- تطوير أنظمة ذكاء عاطفي تقدّم للطبيب «مؤشرات نفسية» تساعده على التعامل مع القلق، خصوصاً لدى الأطفال وكبار السن.
- تقليل فجوة الوصول للذكاء الاصطناعي عالمياً عبر مبادرات مشتركة بين جامعة هارفارد ومراكز بحث عربية.
- صياغة أُطر تشريعية جديدة للرقابة على الخوارزميات تحفظ خصوصية المريض، وتضمن سلامة التوصيات السريرية.
خاتمة... بين الطب والإنسان
مع غروب اليوم الأخير، أدرك الحضور أن ما شهدوه لم يكن تطوّراً تقنياً فحسب، بل كان تحوّلاً فلسفياً في معنى الطب. فالطبيب ليس في طريقه إلى الاختفاء كما يتوهّم البعض، بل إلى العودة أقوى... لأن الآلة تزيل عنه الأعباء، وتترك له ما لا تستطيع هي القيام به: الرحمة، والحكمة، واللمسة الإنسانية.
وفي هذا السياق، يعود صوت ابن رشد ليمنحنا ذلك الاتزان الذي نحتاج إليه:
«العلم إنما يُثمر إذا قُرن بالإنسان».

