في خضمّ جنون محو أمية الذكاء الاصطناعي، يغدو التواضع أهم مهارة بشرية - القدرة على الاعتراف بما لا نعرفه.
ومع إعادة تشكيل الذكاء الاصطناعي للصناعات وأماكن العمل، تمنع ثقافة الخجل المتنامية المرتبطة بالجهل، الناس من طرح الأسئلة والتجريب والتعلم. والنتيجة هي «دوامة خجل» تُخمد حب الاطلاع وتُقوّض الإمكانات البشرية والتبني المسؤول للذكاء الاصطناعي، كما كتبت كريستينا مانشيني(*).
الذكاء الاصطناعي وحالة عدم اليقين لدى العاملين
خلال العام الماضي، أصبح الذكاء الاصطناعي المصطلح المهني الأكثر رواجاً. فقد ارتفعت نسبة ذكر مصطلحات مثل «الذكاء الاصطناعي الوكيل» و«قوى العمل الذكية» و«العمل الرقمي» بنسبة 800 في المائة في تقارير أرباح الشركات.
ويتزايد طلب أصحاب العمل على وثائق إثبات الإتقان للذكاء الاصطناعي، بينما يسارع الموظفون لمواكبة التقنيات التي تتطور بوتيرة أسرع من قدرتهم على تعلمها. ومع ذلك، فإن المشكلة لا تكمن في نقص الفهم، بل في ثقافة تتسم بعدم اليقين، إذ يُشار إلى الأفراد، أو يوصفون، بعدم الكفاءة إذا لم يتمكنوا من إتقان أدوات الذكاء الاصطناعي فوراً. وهذا ما يثنيهم عن التحدث أو طلب المساعدة.
أكبر نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي... قول: «لا أعرف»
لخص رائد الأعمال مارك كوبان هذه المفارقة بإيجاز قائلاً: «إن أكبر نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي هي عدم قدرته على قول: (لا أعرف)». ولذا ينبغي على البشر الاستفادة من هذه القوة – أي استعدادنا للاعتراف بعدم اليقين- أي أننا أيضاً لا نعرف - والتعلم منه.
ومع ذلك، غالباً ما تُشجع الثقافات السائدة في أماكن العمل الحديثة على عكس ذلك، فهي وكأنها تشجع على مقولة: «تظاهر بالأمر حتى تنجح فيه». وهذا النهج يُغذي الخوف والصمت، مما يخلق حاجزاً غير مرئي يمنع الحوار الهادف حول آثار الذكاء الاصطناعي.
«دوامة الخجل» بسبب الجهل بالتكنولوجيا الجديدة
تتجلى «دوامة الخجل» في جميع القطاعات. إذ يشعر العديد من المهنيين - بنسبة 35 في المائة وفقاً لـمنصة «لنكد إن» - بالتوتر الشديد من مناقشة الذكاء الاصطناعي في العمل، بينما يعترف ثلثهم بالشعور بالحرج من معرفتهم المحدودة.
ولهذا الصمت عواقبه. إذ يُضيّع العاملون فرصاً، ليس لعجزهم، بل لأن الشركات تُغيّر الأدوار أسرع من تدريبها للموظفين. وبعضها، مثل شركة التكنولوجيا المالية «كلارنا»، سرّحت موظفين ثم أعادت توظيفهم بعد إدراكها قصور أنظمة الذكاء الاصطناعي. وداخل المؤسسات، تفلت خوارزميات معيبة أو متحيزة من التدقيق في أثناء عمليات الموافقة على استخدامها، لعدم شعور أحد بالسلطة لمساءلتها.
أمثلة على فشل توظيف الذكاء الاصطناعي
هذا النقص في المشاركة ينطوي على مخاطر واقعية. وهناك عدة أمثلة على فشل الذكاء الاصطناعي: فقد تخلّت «أمازون» عن نظام التوظيف الخاص بها بعد ثبوت تمييزه ضد المرأة؛ وتواجه «ووركداي» دعوى قضائية تزعم أن خوارزمياتها استبعدت المتقدمين من كبار السن وذوي الإعاقة؛ وبدأ روبوت الدردشة «تاي» من «مايكروسوفت»، الذي تعرض للمتصيدين عبر الإنترنت، في نشر محتوى يحض على الكراهية في غضون يوم من إطلاقه.
خطر السماح للأنظمة الآلية بالعمل دون ضوابط
تُبيّن هذه الإخفاقات خطر السماح للأنظمة الآلية بالعمل دون ضوابط. وعندما يتجنب الناس طرح الأسئلة خوفاً أو إحراجاً، فإنهم يُبعدون أنفسهم فعلياً عن عملية صنع القرار، ويتنازلون عن سيطرتهم لصالح تقنيات غامضة.
محو أمية الذكاء الاصطناعي- مشاركة ووعي أخلاقي
ولتغيير المسار، ينبغي حث المؤسسات على إعادة تعريف محو أمية الذكاء الاصطناعي، ليس كإتقان تقني، بل كمشاركة وفضول ووعي أخلاقي. ينبغي أن يكون الهدف نقل الأفراد من القلق إلى القدرة على التصرف. وما يُمكّن هذا التحول في النجاح ليس المزيد من التدريب التقني، بل الإذن - الإذن بأن نكون مبتدئين، وأن نطرح أسئلة ساذجة، وأن نجرب دون خوف من الأحكام.
«الكرامة الرقمية»
إن «الكرامة الرقمية» تبدأ بتهيئة مساحات آمنة للتعلم والاعتراف بالجهل.
تجني الشركات التي تُعزز هذا الانفتاح ثماره بالفعل. فقد بنى بنك «جي بي مورغان» بيئات «منخفضة المخاطر» حيث يمكن للمديرين اختبار أدوات الذكاء الاصطناعي ومناقشة التحديات بصراحة، مما عزز الثقة وسرّع من تبنيها. ودعت شركة جونسون آند جونسون إلى إجراء تجارب عبر الإدارات، مما أدى إلى توليد ما يقرب من 900 مبادرة متعلقة بالذكاء الاصطناعي وأدوات جديدة مثل روبوت محادثة داخلي للموظفين، وطرق مُحسّنة لتنويع التجارب السريرية. في كلتا الحالتين، قدّم القادة نموذجاً للضعف والفضول، ممهدين الطريق للابتكار المسؤول.
أزمة ثقافية... وليست فجوة في المهارات
في النهاية، فإن هذه ليست مجرد فجوة في المهارات، بل أزمة ثقافية. إذا استمر الصمت والخجل في الهيمنة، فسيعكس الذكاء الاصطناعي أسوأ عادات البشرية - التحيز وعدم المساواة والإقصاء - بدلاً من أن يكون قوةً للتغيير. والترياق بسيط ولكنه جذري: تطبيع قول «لا أعرف»، فهذه الكلمات الأربع كفيلةٌ بإثارة حوارٍ صادق، وتعلمٍ جماعي، وابتكارٍ أكثر تعمقاً.
ولصياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي - ومستقبل العمل بشكلٍ منصف، يجب أن يكون للجميع «مقعدٌ على الطاولة ويدٌ على القلم». وأن أقوى ما يمكننا قوله ليس «أنا أفهم الذكاء الاصطناعي»، بل «لا أعرف - لكنني أريد أن أتعلم».
* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».

