في عالم تُختبر فيه حدود الزمن، لم تعد الساعة تقيس فقط ما مضى... بل ما يُمكن أن يعود... تخيّل حاسوباً لا يكتفي بحساب الماضي، بل «يعيد الزمن إلى الوراء» للحظة وجيزة، كي يتحقّق مما إذا كان قراره السابق صائباً. قد يبدو المشهد مقتطعاً من رواية خيال علمي، لكنه اليوم حقيقة علمية نُشرت في مجلة «نتشر» (Nature) المرموقة في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، ضمن دراسة أجراها فريق «Google Quantum AI» في كاليفورنيا تحت عنوان لافت: «أصداء الكم» (Quantum Echoes).
أصداء الكمّ
والعبارة ليست مجازاً شعرياً بقدر ما هي وصفٌ لتجربة فيزيائية دقيقة، نجح فيها الباحثون بجعل نظام كمّي يستمع إلى «صدى أفعاله» كما يستمع الوادي إلى صدى الصوت، ليقيس مدى ترابطه أو تشابكه مع نفسه عبر الزمن. إنها محاولة جريئة لجعل الحاسوب الكمّي يختبر ما إذا كان يسير في مسارٍ يمكن التنبؤ به، أم أنه بدأ ينجرف نحو الفوضى التي تسكن أعماق ميكانيكا الكم.

حين يتقاطع الزمن مع الذكاء
الفكرة التي بنى عليها الفريق بحثه تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها مذهلة في عمقها. تخيَّل خوارزمية قادرة على تشغيل عملية كمّية، ثم «إرجاع الزمن» خطوةً إلى الوراء لتسأل نفسها: هل كانت النتيجة صحيحة؟
لقد طوّر العلماء ما سمّوه «خوارزمية الأصداء الكمّية» (Quantum Echo Algorithm)، وهي تقنية تُمكّن النظام الكمّي من تنفيذ عملية حسابية ثم عكسها، ليرى ما إذا كان سيعود إلى حالته الأصلية. فإذا عاد تماماً كما بدأ، فهذا يعني أن المعلومات بقيت سليمة ولم تُفقد؛ أما إذا لم يتمكّن من العودة، فذلك يعني أن الفوضى الكمّية (Quantum Chaos) قد بدأت تبتلع البيانات في أعماق الاحتمالات.
بهذه الطريقة الذكية، تمكّن الفريق من قياس ما يُعرف في الفيزياء باسم «المعاملات الخارجة عن ترتيب الزمن» (Out-of-Time-Order Correlators – OTOCs)، وهي أدوات رياضية معقدة يستخدمها الفيزيائيون لقياس مدى انتشار المعلومات أو تشتّتها داخل الأنظمة الكمّية.
وللمرة الأولى في التاريخ، أُجري هذا القياس على شريحة كمّية حقيقية تضم 65 وحدة كمّية (كيوبِت qubits) تُسمّى «Willow»، صمّمها فريق «غوغل» بشكل خاص للحوسبة الكمّية المتقدمة. وكانت النتيجة مذهلة: فقد أثبتت التجربة أن الخوارزمية الكمّية أدّت الحسابات بسرعةٍ تفوق البرامج الكلاسيكية التقليدية بنحو 13 ألف مرة؛ وهي قفزة تُذكّرنا بأن الحواسيب الكمّية لا تتطوّر فحسب، بل تغيّر مفهوم الزمن نفسه داخل المعادلات.
خطوة نحو «الميزة الكمّية القابلة للتحقق»
منذ عقد على الأقل، ظلّ العلماء يعدون بأن الحواسيب الكمّية (Quantum Computers) ستتفوّق يوماً ما على نظيراتها الكلاسيكية في سرعة الحساب وحجم المعالجة، لكنّ معظم تجارب ما سُمّي «التفوّق الكمّي» (Quantum Supremacy) كانت تصطدم بعقبة أساسية: إذ لا يمكن التحقق من نتائجها بسهولة، لأن الحواسيب التقليدية نفسها تعجز عن مراجعتها أو إعادة إنتاجها.
أما تجربة «أصداء الكم»، فقد كسرت هذا الحاجز، إذ قدَّم الفريق ما يمكن تسميته «الميزة الكمية القابلة للتحقق» (Verifiable Quantum Advantage)، أي أن التفوّق الكمّي لم يعد مجرّد إنجاز رياضي في مختبر مغلق، بل تجربة يمكن لأي مختبر آخر أن يُعيد تنفيذها ليختبر صدقها. بهذا المعنى، لم تعد الحواسيب الكمّية «ألغازاً سريعة»، بل أدوات علمية تتقدّم بثقة نحو مرحلةٍ يمكن فيها التحقق من أدائها ونتائجها، تماماً كما نتحقق من أي تجربة مختبرية أخرى. إنها خطوة حقيقية نحو اللحظة التي ستتحول فيها الحوسبة الكمّية من فضاء المعادلات المجردة إلى تطبيقات محسوسة تمسّ حياتنا اليومية... من الطب إلى الطاقة إلى الذكاء الاصطناعي.
تطبيقات تتجاوز المختبر
قد يبدو هذا الاكتشاف للوهلة الأولى حديثاً فيزيائياً مجرّداً، لكنه في الحقيقة يطرق باب حياتنا اليومية، فالفريق يُشير إلى أن «خوارزمية الأصداء الكمّية» لا تقتصر على اختبار حدود الزمن، بل يمكن أن تُحدِث ثورة في مجالاتٍ طبية وصناعية متعددة.
من أبرز تطبيقاتها المحتملة في الرنين المغناطيسي النووي (Nuclear Magnetic Resonance – NMR)، وهي التقنية التي تُستخدم اليوم في الطب لتصوير الأنسجة بوضوح مذهل، وفي الكيمياء لتحليل البنية الذرية للجزيئات، فإذا تمكنت الخوارزمية من محاكاة سلوك الجزيئات بدقةٍ غير مسبوقة، فإنها قد تفتح الباب أمام عصر جديد من تصميم الأدوية، وفهم تفاعلات البروتينات المعقّدة داخل الخلايا، بل حتى تطوير بطاريات المستقبل التي تعتمد على مواد ذكية ذات خصائص كمية دقيقة.
إنّها ليست مجرد قفزة في علم الحوسبة، بل في فهمنا للطبيعة ذاتها: كيف تنتشر المعلومات داخل المادة، وكيف «يتذكّر» الكون ما جرى فيه؟ وربما، في يوم ما، سنتمكّن من سماع صدى الذرات كما نسمع صدى أصواتنا بين الجبال — لحظةٍ شعريةٍ وعلميةٍ في آنٍ، تمحو الحدود بين المعادلة والمجاز، وبين المختبر والحياة.
من مختبر الفيزياء إلى غرفة التشخيص
الأهمية الحقيقية في «خوارزمية الأصداء الكمّية» لا تكمن في تفوّقها الرياضي فحسب، بل في آفاقها الطبية والعلاجية الهائلة، فالفريق العلمي يُشير إلى أن هذه التقنية قد تُحدث ثورة في التصوير بالرنين المغناطيسي، وهو المبدأ الفيزيائي الذي تقوم عليه أجهزة الرنين المغناطيسي الطبي (MRI) المستخدمة اليوم في تصوير الدماغ والقلب والأعضاء الداخلية.
إذا تمكّنت هذه الخوارزمية من محاكاة الذرات والمجالات المغناطيسية بدقة غير مسبوقة، فقد نحصل على صورٍ طبيةٍ أوضح وأسرع، وبجرعاتٍ أقل من الإشعاع، وربما نصل إلى القدرة على كشف التغيرات المجهرية في الأنسجة قبل ظهور المرض نفسه؛ أي إلى الطب الذي يتنبأ بالمرض قبل أن يولد.
لكن الثورة لا تتوقف عند التصوير؛ بل تمتد إلى عالم تصميم الأدوية، فمحاكاة الجزيئات عبر خوارزميات كمية مستقرة مثل «أصداء الكم» قد تتيح للعلماء اختبار مئات التركيبات الدوائية في ثوانٍ، بدلاً من شهور طويلة في المختبر، واختيار الأنسب لكل مريض تبعاً لبصمته الجينية. إنها البداية الفعلية لعصر الطب الكمّي الشخصي (Quantum Personalized Medicine)، حيث يُصمَّم العلاج على مقاس الجينات كما يُفصَّل الثوب على الجسد.
إننا أمام بوابةٍ جديدةٍ يلتقي عندها الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية في مشروعٍ مشترك لإعادة تعريف معنى التشخيص والعلاج، فهنا لا يكون الطبيب مجرّد مستخدمٍ للأجهزة، بل شريك في إعادة بناء المنطق نفسه الذي تفكّر به الآلة؛ من الفيزياء إلى الوعي، ومن الذرّة إلى الإنسان.

العرب والكمّ... متى نشارك في الصدى؟
بينما تتسابق الشركات العالمية مثل «غوغل» و«آي بي إم» و«مايكروسوفت» لتطوير شرائح كمّية أكثر استقراراً، ما زال العالم العربي يخطو بحذر في هذا الميدان الذي قد يُغيّر وجه العلم كما غيّر اختراع الكهرباء مسار التاريخ. ومع ذلك، فإن الفرصة ما زالت مفتوحة على مصراعيها؛ فثورة الكمّ لا تحتاج بالضرورة إلى أجهزة عملاقة بقدر ما تحتاج إلى عقول مبدعة تتقن التعامل مع الخوارزميات، وتفهم لغة الرياضيات والفيزياء النظرية، وتؤمن بأن المستقبل يُكتب بالمعادلة لا بالصدفة.
في السعودية، بدأ هذا المستقبل يتشكّل بالفعل، ففي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST)، تعمل فرقٌ بحثية متخصّصة على تطوير المواد الفائقة (Superconducting Materials)، وبناء نماذج أوليّة للذكاء الكمّي (Quantum Intelligence) القادر على معالجة البيانات الطبية والجينية بسرعة غير مسبوقة. كما تُعدّ الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) اليوم إحدى الجهات القليلة في المنطقة التي تستشرف دمج الحوسبة الكمّية في منظومات الذكاء الاصطناعي الوطني، تمهيداً لولادة جيلٍ سعوديٍّ جديد من العلماء والمهندسين الذين يمكن أن يُعيدوا صياغة العلاقة بين العقل والمعادلة. وربما يأتي اليوم الذي يجتمع فيه باحثٌ سعودي في «نيوم» مع زميلٍ في «وادي السيليكون» ليصمّما معاً خوارزميةً تُحاكي صدى الذرات، أو تستمع إلى «نبض الكون» في زمنٍ لم نعرفه بعد. فكما كان الخوارزمي قبل ألف عام يضع الأساس للمنطق الحسابي، قد يكون للعرب اليوم دورٌ جديد في كتابة لغة الكم، لا بوصفهم مستمعين فقط... بل صانعو الصدى ذاته.
الخاتمة: حين يتذكّر الحاسوب المستقبل
ما فعله باحثو فريق «غوغل» لم يكن مجرّد تجربةٍ علمية، بل نافذة على فلسفة الزمن والمعرفة. فقد كشفت تجربة «أصداء الكمّ» أن الزمن ليس خطاً مستقيماً كما نتصوّر، بل نسيجٌ يمكن أن يلتفّ على نفسه، وأن المعرفة لا تمضي دائماً إلى الأمام... أحياناً تعود إلى الوراء لتفهم نفسها. في قلب كل خوارزمية كمّية، هناك صدى يُحاول أن يُعيد النظام إلى توازنه، وأن يذكّرنا بأن الذكاء -سواء كان بشرياً أو كمّياً- لا يُقاس بالسرعة، بل بالقدرة على الفهم والتأمل، وكما قال أحد أعضاء الفريق البحثي: «حين تُعيد النظام إلى ماضيه، فأنت في الحقيقة تتأمل مستقبله».
ربما هذا هو الدرس الأجمل من «أصداء الكم»: أن الحوسبة ليست سباقاً بين الآلات، بل بحثٌ إنساني عن معنى الزمن نفسه؛ وكيف يمكن للعقل، حين يلامس حدود الكمّ، أن يكتشف أنه لم يكن يوماً يبحث عن الأرقام فقط... بل عن صدى وجوده في الكون.

