أصداء الكمّ… حين يتذكّر الحاسوب المستقبل

خوارزمية تُعيد الزمن إلى الوراء وتفتح آفاقاً جديدة للتشخيص الطبي والطب الشخصي

أبحاث الكم تبشر بآفاق طبية واعدة في التشخيص والعلاج
أبحاث الكم تبشر بآفاق طبية واعدة في التشخيص والعلاج
TT

أصداء الكمّ… حين يتذكّر الحاسوب المستقبل

أبحاث الكم تبشر بآفاق طبية واعدة في التشخيص والعلاج
أبحاث الكم تبشر بآفاق طبية واعدة في التشخيص والعلاج

في عالم تُختبر فيه حدود الزمن، لم تعد الساعة تقيس فقط ما مضى... بل ما يُمكن أن يعود... تخيّل حاسوباً لا يكتفي بحساب الماضي، بل «يعيد الزمن إلى الوراء» للحظة وجيزة، كي يتحقّق مما إذا كان قراره السابق صائباً. قد يبدو المشهد مقتطعاً من رواية خيال علمي، لكنه اليوم حقيقة علمية نُشرت في مجلة «نتشر» (Nature) المرموقة في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، ضمن دراسة أجراها فريق «Google Quantum AI» في كاليفورنيا تحت عنوان لافت: «أصداء الكم» (Quantum Echoes).

أصداء الكمّ

والعبارة ليست مجازاً شعرياً بقدر ما هي وصفٌ لتجربة فيزيائية دقيقة، نجح فيها الباحثون بجعل نظام كمّي يستمع إلى «صدى أفعاله» كما يستمع الوادي إلى صدى الصوت، ليقيس مدى ترابطه أو تشابكه مع نفسه عبر الزمن. إنها محاولة جريئة لجعل الحاسوب الكمّي يختبر ما إذا كان يسير في مسارٍ يمكن التنبؤ به، أم أنه بدأ ينجرف نحو الفوضى التي تسكن أعماق ميكانيكا الكم.

خوارزمية الأصداء الكمية: ثورة في عالم الذكاء الاصطناعي

حين يتقاطع الزمن مع الذكاء

الفكرة التي بنى عليها الفريق بحثه تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها مذهلة في عمقها. تخيَّل خوارزمية قادرة على تشغيل عملية كمّية، ثم «إرجاع الزمن» خطوةً إلى الوراء لتسأل نفسها: هل كانت النتيجة صحيحة؟

لقد طوّر العلماء ما سمّوه «خوارزمية الأصداء الكمّية» (Quantum Echo Algorithm)، وهي تقنية تُمكّن النظام الكمّي من تنفيذ عملية حسابية ثم عكسها، ليرى ما إذا كان سيعود إلى حالته الأصلية. فإذا عاد تماماً كما بدأ، فهذا يعني أن المعلومات بقيت سليمة ولم تُفقد؛ أما إذا لم يتمكّن من العودة، فذلك يعني أن الفوضى الكمّية (Quantum Chaos) قد بدأت تبتلع البيانات في أعماق الاحتمالات.

بهذه الطريقة الذكية، تمكّن الفريق من قياس ما يُعرف في الفيزياء باسم «المعاملات الخارجة عن ترتيب الزمن» (Out-of-Time-Order Correlators – OTOCs)، وهي أدوات رياضية معقدة يستخدمها الفيزيائيون لقياس مدى انتشار المعلومات أو تشتّتها داخل الأنظمة الكمّية.

وللمرة الأولى في التاريخ، أُجري هذا القياس على شريحة كمّية حقيقية تضم 65 وحدة كمّية (كيوبِت qubits) تُسمّى «Willow»، صمّمها فريق «غوغل» بشكل خاص للحوسبة الكمّية المتقدمة. وكانت النتيجة مذهلة: فقد أثبتت التجربة أن الخوارزمية الكمّية أدّت الحسابات بسرعةٍ تفوق البرامج الكلاسيكية التقليدية بنحو 13 ألف مرة؛ وهي قفزة تُذكّرنا بأن الحواسيب الكمّية لا تتطوّر فحسب، بل تغيّر مفهوم الزمن نفسه داخل المعادلات.

خطوة نحو «الميزة الكمّية القابلة للتحقق»

منذ عقد على الأقل، ظلّ العلماء يعدون بأن الحواسيب الكمّية (Quantum Computers) ستتفوّق يوماً ما على نظيراتها الكلاسيكية في سرعة الحساب وحجم المعالجة، لكنّ معظم تجارب ما سُمّي «التفوّق الكمّي» (Quantum Supremacy) كانت تصطدم بعقبة أساسية: إذ لا يمكن التحقق من نتائجها بسهولة، لأن الحواسيب التقليدية نفسها تعجز عن مراجعتها أو إعادة إنتاجها.

أما تجربة «أصداء الكم»، فقد كسرت هذا الحاجز، إذ قدَّم الفريق ما يمكن تسميته «الميزة الكمية القابلة للتحقق» (Verifiable Quantum Advantage)، أي أن التفوّق الكمّي لم يعد مجرّد إنجاز رياضي في مختبر مغلق، بل تجربة يمكن لأي مختبر آخر أن يُعيد تنفيذها ليختبر صدقها. بهذا المعنى، لم تعد الحواسيب الكمّية «ألغازاً سريعة»، بل أدوات علمية تتقدّم بثقة نحو مرحلةٍ يمكن فيها التحقق من أدائها ونتائجها، تماماً كما نتحقق من أي تجربة مختبرية أخرى. إنها خطوة حقيقية نحو اللحظة التي ستتحول فيها الحوسبة الكمّية من فضاء المعادلات المجردة إلى تطبيقات محسوسة تمسّ حياتنا اليومية... من الطب إلى الطاقة إلى الذكاء الاصطناعي.

تطبيقات تتجاوز المختبر

قد يبدو هذا الاكتشاف للوهلة الأولى حديثاً فيزيائياً مجرّداً، لكنه في الحقيقة يطرق باب حياتنا اليومية، فالفريق يُشير إلى أن «خوارزمية الأصداء الكمّية» لا تقتصر على اختبار حدود الزمن، بل يمكن أن تُحدِث ثورة في مجالاتٍ طبية وصناعية متعددة.

من أبرز تطبيقاتها المحتملة في الرنين المغناطيسي النووي (Nuclear Magnetic Resonance – NMR)، وهي التقنية التي تُستخدم اليوم في الطب لتصوير الأنسجة بوضوح مذهل، وفي الكيمياء لتحليل البنية الذرية للجزيئات، فإذا تمكنت الخوارزمية من محاكاة سلوك الجزيئات بدقةٍ غير مسبوقة، فإنها قد تفتح الباب أمام عصر جديد من تصميم الأدوية، وفهم تفاعلات البروتينات المعقّدة داخل الخلايا، بل حتى تطوير بطاريات المستقبل التي تعتمد على مواد ذكية ذات خصائص كمية دقيقة.

إنّها ليست مجرد قفزة في علم الحوسبة، بل في فهمنا للطبيعة ذاتها: كيف تنتشر المعلومات داخل المادة، وكيف «يتذكّر» الكون ما جرى فيه؟ وربما، في يوم ما، سنتمكّن من سماع صدى الذرات كما نسمع صدى أصواتنا بين الجبال — لحظةٍ شعريةٍ وعلميةٍ في آنٍ، تمحو الحدود بين المعادلة والمجاز، وبين المختبر والحياة.

من مختبر الفيزياء إلى غرفة التشخيص

الأهمية الحقيقية في «خوارزمية الأصداء الكمّية» لا تكمن في تفوّقها الرياضي فحسب، بل في آفاقها الطبية والعلاجية الهائلة، فالفريق العلمي يُشير إلى أن هذه التقنية قد تُحدث ثورة في التصوير بالرنين المغناطيسي، وهو المبدأ الفيزيائي الذي تقوم عليه أجهزة الرنين المغناطيسي الطبي (MRI) المستخدمة اليوم في تصوير الدماغ والقلب والأعضاء الداخلية.

إذا تمكّنت هذه الخوارزمية من محاكاة الذرات والمجالات المغناطيسية بدقة غير مسبوقة، فقد نحصل على صورٍ طبيةٍ أوضح وأسرع، وبجرعاتٍ أقل من الإشعاع، وربما نصل إلى القدرة على كشف التغيرات المجهرية في الأنسجة قبل ظهور المرض نفسه؛ أي إلى الطب الذي يتنبأ بالمرض قبل أن يولد.

لكن الثورة لا تتوقف عند التصوير؛ بل تمتد إلى عالم تصميم الأدوية، فمحاكاة الجزيئات عبر خوارزميات كمية مستقرة مثل «أصداء الكم» قد تتيح للعلماء اختبار مئات التركيبات الدوائية في ثوانٍ، بدلاً من شهور طويلة في المختبر، واختيار الأنسب لكل مريض تبعاً لبصمته الجينية. إنها البداية الفعلية لعصر الطب الكمّي الشخصي (Quantum Personalized Medicine)، حيث يُصمَّم العلاج على مقاس الجينات كما يُفصَّل الثوب على الجسد.

إننا أمام بوابةٍ جديدةٍ يلتقي عندها الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية في مشروعٍ مشترك لإعادة تعريف معنى التشخيص والعلاج، فهنا لا يكون الطبيب مجرّد مستخدمٍ للأجهزة، بل شريك في إعادة بناء المنطق نفسه الذي تفكّر به الآلة؛ من الفيزياء إلى الوعي، ومن الذرّة إلى الإنسان.

تطبيقات الكمبيوتر الكمي تتجاوز المختبر من «سدايا» إلى العالم العربي

العرب والكمّ... متى نشارك في الصدى؟

بينما تتسابق الشركات العالمية مثل «غوغل» و«آي بي إم» و«مايكروسوفت» لتطوير شرائح كمّية أكثر استقراراً، ما زال العالم العربي يخطو بحذر في هذا الميدان الذي قد يُغيّر وجه العلم كما غيّر اختراع الكهرباء مسار التاريخ. ومع ذلك، فإن الفرصة ما زالت مفتوحة على مصراعيها؛ فثورة الكمّ لا تحتاج بالضرورة إلى أجهزة عملاقة بقدر ما تحتاج إلى عقول مبدعة تتقن التعامل مع الخوارزميات، وتفهم لغة الرياضيات والفيزياء النظرية، وتؤمن بأن المستقبل يُكتب بالمعادلة لا بالصدفة.

في السعودية، بدأ هذا المستقبل يتشكّل بالفعل، ففي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST)، تعمل فرقٌ بحثية متخصّصة على تطوير المواد الفائقة (Superconducting Materials)، وبناء نماذج أوليّة للذكاء الكمّي (Quantum Intelligence) القادر على معالجة البيانات الطبية والجينية بسرعة غير مسبوقة. كما تُعدّ الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) اليوم إحدى الجهات القليلة في المنطقة التي تستشرف دمج الحوسبة الكمّية في منظومات الذكاء الاصطناعي الوطني، تمهيداً لولادة جيلٍ سعوديٍّ جديد من العلماء والمهندسين الذين يمكن أن يُعيدوا صياغة العلاقة بين العقل والمعادلة. وربما يأتي اليوم الذي يجتمع فيه باحثٌ سعودي في «نيوم» مع زميلٍ في «وادي السيليكون» ليصمّما معاً خوارزميةً تُحاكي صدى الذرات، أو تستمع إلى «نبض الكون» في زمنٍ لم نعرفه بعد. فكما كان الخوارزمي قبل ألف عام يضع الأساس للمنطق الحسابي، قد يكون للعرب اليوم دورٌ جديد في كتابة لغة الكم، لا بوصفهم مستمعين فقط... بل صانعو الصدى ذاته.

الخاتمة: حين يتذكّر الحاسوب المستقبل

ما فعله باحثو فريق «غوغل» لم يكن مجرّد تجربةٍ علمية، بل نافذة على فلسفة الزمن والمعرفة. فقد كشفت تجربة «أصداء الكمّ» أن الزمن ليس خطاً مستقيماً كما نتصوّر، بل نسيجٌ يمكن أن يلتفّ على نفسه، وأن المعرفة لا تمضي دائماً إلى الأمام... أحياناً تعود إلى الوراء لتفهم نفسها. في قلب كل خوارزمية كمّية، هناك صدى يُحاول أن يُعيد النظام إلى توازنه، وأن يذكّرنا بأن الذكاء -سواء كان بشرياً أو كمّياً- لا يُقاس بالسرعة، بل بالقدرة على الفهم والتأمل، وكما قال أحد أعضاء الفريق البحثي: «حين تُعيد النظام إلى ماضيه، فأنت في الحقيقة تتأمل مستقبله».

ربما هذا هو الدرس الأجمل من «أصداء الكم»: أن الحوسبة ليست سباقاً بين الآلات، بل بحثٌ إنساني عن معنى الزمن نفسه؛ وكيف يمكن للعقل، حين يلامس حدود الكمّ، أن يكتشف أنه لم يكن يوماً يبحث عن الأرقام فقط... بل عن صدى وجوده في الكون.


مقالات ذات صلة

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً رغم ارتفاع الأخطاء البشرية

تكنولوجيا نصف الموظفين في السعودية فقط تلقّوا تدريباً سيبرانياً ما يخلق فجوة خطرة في الوعي الأمني داخل المؤسسات (غيتي)

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً رغم ارتفاع الأخطاء البشرية

تكشف دراسة «كاسبرسكي» فجوة كبيرة في الوعي الأمني لدى موظفي السعودية؛ إذ تلقى نصفهم فقط تدريباً سيبرانياً ما يجعل الأخطاء البشرية مدخلاً رئيسياً للهجمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا خاصية إشعارات ارتفاع ضغط الدم في «أبل ووتش» تستند إلى مستشعر نبضات القلب البصري في الساعة (الشرق الأوسط)

«أبل ووتش» تتيح خاصية التنبيه المبكر لارتفاع ضغط الدم في السعودية والإمارات

قالت شركة «أبل» إنها أتاحت خاصية إشعارات ارتفاع ضغط الدم على ساعات «أبل ووتش» لمستخدميها في السعودية والإمارات.

«الشرق الأوسط» (دبي)
تكنولوجيا أطلقت «يوتيوب» أول ملخص سنوي يمنح المستخدمين مراجعة شخصية لعادات المشاهدة خلال عام 2025

«ملخص يوتيوب»: خدمة تعيد سرد عامك الرقمي في 2025

يقدم الملخص ما يصل إلى 12 بطاقة تفاعلية تُبرز القنوات المفضلة لدى المستخدم، وأكثر الموضوعات التي تابعها، وكيفية تغيّر اهتماماته على مدار العام.

نسيم رمضان (لندن)
علوم الصين تبني أول جزيرة عائمة مقاومة للأسلحة النووية في العالم

الصين تبني أول جزيرة عائمة مقاومة للأسلحة النووية في العالم

مشروع مثير للإعجاب لا مثيل له في العالم

جيسوس دياز (واشنطن)
تكنولوجيا الأوتار الاصطناعية قد تصبح وحدات قابلة للتبديل لتسهيل تصميم روبوتات هجينة ذات استخدامات طبية واستكشافية (شاترستوك)

أوتار اصطناعية تضاعف قوة الروبوتات بثلاثين مرة

الأوتار الاصطناعية تربط العضلات المزروعة بالهياكل الروبوتية، مما يرفع الكفاءة ويفتح الباب لروبوتات بيولوجية أقوى وأكثر مرونة.

نسيم رمضان (لندن)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.