يشهد العالم سباقاً عالمياً محموماً للسيطرة في سباق الذكاء الاصطناعي؛ إذ تستثمر أكبر وأقوى الشركات في العالم مليارات الدولارات في قدرات حوسبة غير مسبوقة، فيما تُخصص الدول الأقوى موارد طاقة هائلة لمساعدتها، كما كتب توم بارنيت(*).
ويتمحور هذا السباق حول فكرة واحدة: أن الهندسة المعمارية القائمة على «الأجهزة الذكية لنماذج اللغة الكبيرة (LLM)» هي مفتاح الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي... لكن ماذا لو كانوا مخطئين؟
تطور الذكاء البيولوجي
لقد تطور ما نسميه «الذكاء» في الحياة البيولوجية على مدى مئات الملايين من السنين، بدءاً من ذكاء الكائنات الحية البسيطة وحيدة الخلية، مثل البكتيريا، التي تتفاعل مع بيئتها. ثم تطورت الحياة تدريجياً إلى كائنات متعددة الخلايا تتعلم البحث عما تحتاج إليه، وتتجنّب ما قد يضرها.
وفي النهاية، ظهر البشر بأدمغة شديدة التعقيد، تحتوي على مليارات الخلايا العصبية، ولها تفاعلات عصبية متزايدة بشكل كبير، مصمَّمة للاستجابة لاحتياجاتهم وتفاعلاتهم وارتباطاتهم مع بعضهم ومع العالم.
شكل اصطناعي من الذكاء البشري
من المرجَّح أن يتطلب إنشاء شكل اصطناعي من ذلك أكثر من مجرد توليد لغة بذكاء باستخدام أدوات مُدربة على مستودعات ضخمة من النصوص غير المُنسقة إلى حد كبير وتسويقها على أنها ذكاء.
ماذا لو كان تجميع ما يُسمى بالحكمة الجماعية الهائلة المتراكمة على الإنترنت وتحليلها إحصائياً باستخدام خوارزميات مُعقدة للاستجابة (بلا تفكير) للإشارات البشرية، مجرد عملية مكلفة للغاية ومُستهلكة للموارد في عملية «إدخال القمامة وإخراج القمامة»؟
في أفضل الأحوال، قد يعتبر ذلك توثيقاً تاريخياً للحكمة البشرية الشائعة. لكنه، في أسوأ الأحوال، قد يكون إهداراً غير مسبوق وغير ضروري للموارد مع عواقب وخيمة محتملة.
«الأفكار من دون محتوى... فارغة، والحدس من دون مفاهيم.. أعمى»
فيما يشبه النذير المُخيف الناقد لتطور للذكاء الاصطناعي السائد حالياً، كتب إيمانويل كانط في عمله الرائد «نقد العقل الخالص» يقول: «الأفكار من دون محتوى فارغة، والحدس من دون مفاهيم أعمى».
أي، وبعبارة أخرى، هل يُمكن تكرار دهور من الذكاء المُتطور واختزاله إلى أعظم ببغاء في العالم؟ ومع كل هذه القوة العالمية، والدعاية، والموارد وراء هذا النهج الواحد، قد يتكون لديك انطباع بأنه الطريقة الوحيدة المجدية لإنشاء شكل اصطناعي من الذكاء البشري. ولكن ولحسن الحظ، فإن الأمر ليس كذلك.
منهج التدرّج: وكلاء الذكاء الاصطناعي
في إطار التدرُّج في مجال البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي، هناك مناهج تسعى إلى استخدام أكثر كفاءة للموارد، مثل تجميع نماذج اللغة الصغيرة (SLM) مع وكلاء الذكاء الاصطناعي بهدف تقديم استفسارات والحصول على استجابات أكثر تركيزاً وفعالية.
والنظرية هنا بسيطة: استخدام وكلاء ذكاء اصطناعي مرنين وفعالين؛ إذ إنها تقنية يمكنها التفاعل بشكل مستقل مع البيئة وأداء مهام دون إشراف بشري، بهدف الوصول إلى نماذج التعلُّم الآلي، وهي مجموعات بيانات أصغر وأكثر استهدافاً وأقل استهلاكاً للموارد.
إن النظرية الأساسية هي نفسها بالنسبة لنماذج اللغة الكبيرة ونماذج التعلُّم الآلي؛ إذ إنها تعمل على تجميع البيانات ونمذجتها إحصائياً لتوليد نصوص أو بيانات أخرى. إلا أن نماذج التعلم الآلي هي مجرد طريقة أصغر وأكثر كفاءة (ولكنها محدودة بطبيعتها) للقيام بذلك.
يمكن لهذا النهج دمج تقنيات إضافية لتحقيق دقة أكبر، مثل الوصول إلى معلومات أكثر استهدافاً وقابلية للتحقق، وبشكل حاسم، في الوقت الفعلي، بدلاً من الاعتماد فقط على البيانات الثابتة (المدربة مسبقاً) وحدها.
بدائل محتملة... بذكاء أقرب إلى البشر
يعتمد البديل المحتمل الأكثر أهمية، لبنية نماذج اللغة الكبيرة مثل «جي بي تي (GPT)»، على تصميم يحاكي بشكل أدق طريقة تفكيرنا، أي على محاولة تكرار علم الأحياء التطوري.
وتعتبر شركة «سوفتماكس (Softmax)» إحدى الشركات الرائدة في هذا المجال. ويقودها إيميت شير الذي شغل لفترة وجيزة منصب الرئيس التنفيذي لشركة «(OpenAI) أوبن إيه آي» مصممة «جي بي تي». ويستند هذا النهج إلى علم الأحياء الخلوية، وفكرة أن الأجزاء الفردية (الخلايا) التي تعمل (أو تتناغم) مع بعضها يمكن أن تُشكل وحدة متكاملة ذات وظائف أكثر تنسيقاً من الأجزاء الفردية.
يتكون الإنسان من خلايا فردية متزامنة، لا تعمل بمفردها مثلنا، ولكنها تترابط بطريقة ما لتسمح لنا بالتفكير والعمل كبشر. ولذا وبالنسبة لبناء نموذج حاسوبي، تُعادل برامج الذكاء الاصطناعي الخلايا في هذا النهج؛ حيث يمكنها، نظرياً على الأقل، العمل معاً لتشكيل كيان وظيفي ومتعلم أكثر.
هيمنة القوى التجارية على توجهات التطوير
إذا استمرت الهيمنة الحالية لنماذج اللغة الكبيرة، وسقطت (أو أُهملت) مناهج مبتكرة أخرى؛ فلن تكون هذه المرة الأولى في تاريخ الحوسبة التي تطغى فيها القوى التجارية على البدائل الأفضل المحتملة.
وكما قال ألبرت أينشتاين الشهير إنه لو كان لديه ساعة لإنقاذ العالم، لأمضى 55 دقيقة في تحديد المشكلة و5 دقائق في حلها. إلا أن الشركات الضخمة التي تُروج للنهج السائد حالياً في تطوير الذكاء الاصطناعي لا تزال لم تحدد المشكلة التي تحاول حلها بعد.
وقد أثبتت نماذج اللغة الكبيرة، مثل برنامج «جي بي تي» قدرتها على أداء مهام يجدها الناس مفيدة، ومن المرجح أن تستمر في ذلك. إلا أن السؤال هو: ما علاقة ذلك بالذكاء، سواء أكان بشرياً أو غيره؟
* المدير الأول في استوديو المشاريع التكنولوجية القانونية وفي الشركة الاستشارية «مَيْكَرْ 5»، مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا»

