في أعماق كل خلية بشرية تقبع الميتوكوندريا؛ محطات طاقة دقيقة تزوّد الجسم بما يحتاجه من وقود للحركة، والتفكير، وتجديد الخلايا. ورغم حجمها المتناهي الصغر، فإنها تمثل نحو 10 في المائة من كتلة جسم الإنسان، وكأننا نحمل داخلنا «مصانع مصغّرة» لا تهدأ عن العمل.
هذه الأعضاء المصغّرة داخل الخلية ليست مستقلة بذاتها؛ بل تعتمد على بروتينات تُصنَّع في أماكن أخرى من الخلية، ثم تُوجَّه إليها بعناية عبر شفرة وراثية دقيقة تُعرف بـ«تسلسل الاستهداف الميتوكوندريا»، أشبه بعنوان بريدي بالغ الدقة يضمن وصول كل بروتين إلى موقعه الصحيح في قلب هذه المحطات النشطة.

مفاتيح لغز قديم
على مدى عقود، ظلّ هذا «العنوان» داخل الخلية لغزاً معقداً، لا يُفك إلا من خلال أبحاث جزيئية مضنية استغرقت سنوات طويلة في المختبرات. لكن عام 2025 حمل نقطة تحوّل مهمة؛ ففي 15 أبريل (نيسان) 2025، نشر فريق من معهد ماكس بلانك للبيولوجيا الجزيئية في غوتنغن - ألمانيا، بقيادة الباحثة كلاوديا فايس، دراسة محورية في مجلة «أيض الخلية» Cell Metabolism، استعان العلماء بخوارزميات التعلم العميق لتحليل آلاف تسلسلات البروتينات المرتبطة بالميتوكوندريا، فاستطاعوا رسم خريطة دقيقة لما يشبه «قاموساً داخلياً» تستخدمه الخلية لتوجيه بروتيناتها نحو هذه الأعضاء المصغّرة، كاشفين عن لغة خفية تنظّم إنتاج الطاقة وتوزيعها داخل أجسامنا، وتمنح الخلية قدرة مدهشة على الحفاظ على توازنها الحيوي.
الذكاء الاصطناعي يكتب على هامش كتاب الحياة
لم يقف العلماء عند حدود الفهم النظري، بل انتقلوا إلى إعادة تصميم التعليمات الحيوية ذاتها. ففي 5 يونيو (حزيران) 2025، أعلن فريق من جامعة إلينوي - أوربانا شامبين في ولاية إلينوي - الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة البروفسور هويمين تشاو (Huimin Zhao)، عن دراسة رائدة بعنوان «Harnessing Generative AI to Expand the Mitochondrial Targeting Toolkit» ضمن منشورات معهد كارل ر. ووز لبيولوجيا الجينوم التابع للجامعة.
أطلق الباحثون العنان لخوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدية لإعادة ابتكار «عناوين» البروتينات المرسلة إلى الميتوكوندريا، فصمّموا تسلسلات جديدة أكثر كفاءة وأماناً، ووسّعوا بذلك ما يُعرف بـ«عدة الاستهداف الميتوكوندري».
ولم يقتصر إنجاز الجامعة على أساليب التصميم التقليدية؛ بل اعتمد على نموذج متقدم يُعرف باسم «المشفّر التلقائي التبايني» (Variational Autoencoder)، وهو نوع من الخوارزميات القادرة على ابتكار بيانات جديدة استناداً إلى الأنماط التي تتعلمها من بيانات أصلية. بفضل هذه التقنية، ابتكر الباحثون مكتبة رقمية هائلة تضم أكثر من مليون تسلسل بروتيني محتمل. وقد اختُبرت عشرات منها بدقة في مختبرات متخصصة، شملت خلايا الخميرة والنباتات وحتى خلايا الثدييات، وأثبتت فعاليتها في إيصال البروتينات بدقة وكفاءة غير مسبوقتين نحو هذه الأعضاء المصغّرة داخل الخلية.
من المختبر إلى العيادة
تفتح هذه الاكتشافات آفاقاً رحبة أمام تطوير علاجات دقيقة لأمراض كان يُنظر إليها سابقاً على أنها مستعصية، مثل بعض اعتلالات العضلات العصبية وأنواع العمى الوراثي النادرة. وتشمل هذه الفئة أيضاً الأمراض التنكّسية؛ وهي اضطرابات مزمنة تتسم بتدهور تدريجي في الخلايا أو الأنسجة ووظائفها، مثل داء ألزهايمر وباركنسون وبعض أشكال الحثل العضلي أو اعتلال الشبكية. فإعادة تصميم «عناوين» البروتينات لتصل بدقة إلى الميتوكوندريا قد يسمح بإصلاح الخلل من الداخل، ويمنح الأطباء أدوات أكثر أماناً وفاعلية لمعالجة الخلايا المريضة، كما يعزّز فرص النجاح في العلاجات الجينية ويتيح استراتيجيات وقائية مبكرة ضد هذه الاضطرابات.

من المختبرات العالمية إلى الطموحات السعودية
لم يعد هذا الحقل حكراً على المختبرات الغربية وحدها، بل أصبح مصدر إلهام للعالم العربي أيضاً. ففي المملكة العربية السعودية، أطلق الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، في عام 2023، الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية، في خطوة تهدف إلى ترسيخ مكانة المملكة كدولة رائدة عالمياً في هذا القطاع الحيوي. وتركّز الاستراتيجية على تحسين الصحة الوطنية، ورفع جودة الحياة، وتعزيز الوقاية من الأمراض، إضافةً إلى حماية البيئة وتحقيق الأمن الغذائي والمائي، وتعظيم الفرص الاقتصادية وتوطين الصناعات الواعدة، مما يسهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030.
ولأن المملكة استثمرت خلال السنوات الأخيرة في إنشاء مراكز بحثية متقدمة، وتطوير بنية تحتية صحية وتعليمية حديثة، ودعمت برامج الابتعاث واستقطاب الخبرات، فهي تمتلك قاعدة قوية تمكّنها من أن تكون الأولى في المنطقة في استقطاب الدراسات الرائدة حول الميتوكوندريا والذكاء الاصطناعي، وتحويل نتائجها إلى تطبيقات سريرية ملموسة تسهم في تحسين صحة الإنسان وتطوير الطب الدقيق في العالم العربي.
من الاكتشاف إلى العلاج: فرص جديدة لطب المستقبل
لا تقتصر هذه الاكتشافات على إثراء فهمنا لبيولوجيا الخلية، بل تفتح الباب أمام تحول جذري في طرق التشخيص والعلاج. فبفضل التسلسلات الجديدة التي صُمّمت بمساعدة الذكاء الاصطناعي، أصبح من الممكن استهداف الميتوكوندريا بدقة غير مسبوقة، مما يتيح تطوير علاجات موجّهة لأمراض نادرة طالما اعتُبرت عصيّة على العلاج كما ذكرنا. كما يمكن لهذه التقنيات أن ترفع كفاءة العلاجات الجينية وتزيد من دقتها، من خلال توجيه الأدوية أو الإنزيمات مباشرة نحو هذه الأعضاء المصغّرة داخل الخلية، مع تقليل الآثار الجانبية وتحسين النتائج السريرية. وإلى جانب ذلك، قد تساهم هذه المقاربات في دعم أبحاث الشيخوخة وصحة الخلايا، وتهيئة الطريق لطب شخصي أكثر دقة وإنصافاً.
لغة جديدة للحياة
الميتوكوندريا، إذن، ليست مجرد «بطارية» تمدّ الخلية بالطاقة، بل هي حارسة لتوازنها واستقرارها، وركيزة أساسية لقدرتنا على الحركة والتفكير والنمو. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى هذا الميدان، تتغيّر علاقتنا بأجسادنا: لم نعد مجرد مراقبين لعملياتها الدقيقة، بل أصبحنا شركاء في فهمها وتوجيهها، مسلحين بالعلم والإبداع لإعادة صياغة تعليمات الحياة نفسها، بما يفتح الباب أمام مستقبل تُسخَّر فيه المعرفة لخدمة صحة الإنسان وجودة معيشته.
ويبقى السؤال الفلسفي حاضراً بقوة: هل يمكن أن تصبح الخوارزميات منافساً للطبيعة في إبداعها، أم ستبقى حليفاً لها في رحلة الاكتشاف؟ وهل يمكن للآلة أن تعيد تشكيل الخلية - وربما الإنسان - من الداخل، لا كأداة طيّعة، بل كشريك غير مرئي يكتب معنا نص الحياة؟
الإجابة لم تُحسم بعد، لكن المؤكد أن حدود المعرفة تتسع بوتيرة غير مسبوقة، وأن هذه الأعضاء المصغّرة داخل الخلية ستظل ساحة خصبة لاختبار قدرة العقل البشري - مدعوماً بالذكاء الاصطناعي - على كشف أسرار الحياة وتسخيرها لبناء غدٍ أكثر صحة وإنصافاً للإنسان.

