في زمنٍ تتسارع فيه الخوارزميات كما لو كانت في سباقٍ لا يعرف خط النهاية، يبرز التعلّم المتحد (Federated Learning) باعتباره أحد أكثر الابتكارات ثورية في الذكاء الاصطناعي الطبي. تخيّل أن مئات المستشفيات والجامعات حول العالم تتعاون لتدريب «عقل رقمي واحد»، من دون أن تترك بيانات المرضى خزائنها، أو تُعرَّض خصوصيتهم للخطر... إنها ثورة صامتة تجعل الذكاء الاصطناعي لا مجرد «خادمٍ للبيانات»، بل يكون جسراً يربط العقول الطبية عبر القارات، محوّلاً التشخيص والعلاج إلى تجربة جماعية آمنة تتخطى حدود الجغرافيا، وتعقيدات البيروقراطية.

التعليم المتَّحد
* من أين بدأت الفكرة؟ في النماذج التقليدية لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي تُجمَع البيانات من المستشفيات والمختبرات المختلفة وتُصبّ في مركزٍ واحد ضخم، ليُبنى النموذج ويتعلم. غير أن هذه المقاربة، رغم قوتها الحسابية، اصطدمت بجدارٍ صلب من العقبات: قوانين صارمة لحماية البيانات الطبية، مثل اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR)، أو التشريعات الأميركية HIPAA، إلى جانب المخاوف الأخلاقية والعملية من نقل بيانات حساسة عبر الحدود وكأنها «حقائب» قابلة للتداول.
عام 2017، قدّم باحثون في شركة «غوغل» حلاً بدا حينها أقرب إلى الخيال: لماذا لا نُعلّم النموذج مباشرة في موقع البيانات بدلاً من نقل البيانات إلى مكان النموذج؟ هكذا وُلد إطار التعلّم المتّحد. فكل مستشفى أو مركز صحي يحتفظ ببياناته محلياً، لكنه يرسل فقط «خلاصة» التدريب، أي الأوزان (Weights)، إلى خادمٍ مركزي. وهذا الخادم يقوم بدمج الخلاصات، وتحديث النموذج، ثم يعيد توزيعه على جميع المشاركين. والنتيجة: عقلٌ جماعي مشترك، يتطور باستمرار، من دون أن يرى أي ملف طبي خام.
* كيف يخدم الصحة؟ يُعدّ القطاع الصحي من أكبر المستفيدين من التعلّم المتّحد، إذ يجمع بين حاجته إلى بيانات ضخمة ودقّة تنبئية عالية من جهة، وحساسية المعلومات الطبية من جهة أخرى. ففي مستشفى لندن الملكي التابع لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية NHS، استُخدم هذا النموذج عام 2020 لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي تتنبأ بمضاعفات مرضى كوفيد-19، اعتماداً على بيانات موزّعة بين مستشفيات متعددة، من دون أن تُنقل إلى قاعدة مركزية واحدة. النتيجة كانت نموذجاً يتميز بدقة أعلى، وسرعة أكبر في اتخاذ القرار، مع الحفاظ التام على خصوصية المرضى.
وفي الولايات المتحدة، دخلت مؤسسات كبرى، مثل مايو كلينيك (Mayo Clinic) وستانفورد (Stanford)، في شراكات بحثية لتطوير نماذج متحدة قادرة على التنبؤ بسرطان الثدي، وأمراض القلب. وهذه التجارب لم تُقدّم فقط حلولاً مبتكرة، بل أظهرت أن التعلّم المتّحد يفتح الباب أمام الاستفادة من البيانات النادرة والموزعة التي يصعب جمعها في مكان واحد، ليُحوِّلها إلى معرفة عملية تُنقذ الأرواح.
فوائد جوهرية
تكمن قوة التعلّم المتّحد في أنه لا يقدّم حلاً تقنياً فحسب، بل يعيد رسم معادلة الثقة بين المرضى والمؤسسات الصحية. وأبرز فوائده:
-حماية الخصوصية: تبقى البيانات الطبية داخل المستشفى أو العيادة، فلا تُعرَّض لخطر التسريب، أو الاختراق أثناء النقل، وهو ما يعزز ثقة المريض، ويزيل عقبة قانونية كبرى.
-تسريع البحث العلمي: بدلاً من انتظار سنوات لجمع بيانات ضخمة في قاعدة واحدة، يمكن للمؤسسات البدء فوراً في تدريب نماذجها، كلٌّ على بياناته، ثم مشاركة النتائج في شبكة أوسع.
-التعامل مع البيانات النادرة: بعض الأمراض نادرة، أو محصورة في مناطق جغرافية محدودة. ويتيح التعلّم المتّحد دمج هذه الخبرات المتفرقة في نموذج عالمي قادر على اكتشاف الأنماط بسرعة.
-تقليل التحيّز: النماذج التي تُدرَّب على بيانات محلية محدودة قد تُظهر تحيّزاً لجنس، أو عرق، أو بيئة معينة. أما حين تتعلم الخوارزميات من بيانات موزعة ومتنوعة، فإنها تقترب أكثر من العدالة الطبية في التشخيص والعلاج.
-الكفاءة الاقتصادية: نقل البيانات الضخمة وحمايتها مكلف مادياً، وتقنياً، بينما مشاركة الأوزان الحسابية فقط تجعل العملية أقل تكلفة، وأكثر استدامة.
التحديات الكامنة
غير أن الطريق إلى تبنّي التعلّم المتّحد في الطب ليس مفروشاً بالورود؛ فهذه التقنية، رغم وعودها الكبيرة، ما زالت تصطدم بجملة من التحديات المعقّدة:
-تباين البيانات (Non-IID): تختلف أنماط البيانات بين مستشفى وآخر؛ فمرضى لندن لا يشبهون مرضى الرياض، أو مومباي، ما قد يقلل من دقة النماذج إذا لم تُعالج هذه الفوارق بذكاء.
-الأمان السيبراني: صحيح أن الملفات الطبية لا تُغادر أماكنها، لكن تبادل الأوزان الحسابية بين المراكز قد يصبح هدفاً لهجمات سيبرانية متطورة تكشف أو تضلل النموذج.
-تكلفة البنية التحتية: يحتاج هذا النهج إلى شبكات اتصال عالية الكفاءة، وخوادم آمنة، وهو ما قد يشكّل عبئاً على بعض المستشفيات، خاصة في الدول النامية.
-حوكمة البيانات والملكية الفكرية: من يملك النموذج النهائي؟ وهل تُوزّع منافعه بالتساوي بين المشاركين؟ هذه الأسئلة لا تزال مفتوحة، وتحتاج إلى أطر قانونية وأخلاقية واضحة.

دروس للعالم العربي
ما يجري في بريطانيا وأميركا ليس بعيداً عن طموحات منطقتنا. ففي المملكة العربية السعودية، حيث تسابق رؤية 2030 الزمن لبناء قطاع صحي رقمي متكامل، يبرز التعلّم المتّحد باعتباره فرصة استراتيجية. تخيّل أن المستشفيات من جدة إلى الرياض، ومن الدمام إلى نيوم، تعمل معاً لتدريب نموذج موحد يتنبأ بأمراض السكّري، أو القلب، من دون أن يغادر أي ملف طبي حدود مؤسسته.
مثل هذه المنظومة لا تمنح السعودية فقط لقب الريادة في مجال «الذكاء الاصطناعي الآمن»، بل ترسم مساراً جديداً حيث الخصوصية لا يُضحّى بها من أجل التقدم، بل تصبح جزءاً من بنيته. والأبعد من ذلك، يمكن أن تتحوّل التجربة السعودية إلى منصة عربية مشتركة، عبر إطلاق «منصة عربية للذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية»، تتيح للدول تبادل الخبرات وبناء نماذج فيدرالية إقليمية تعكس تنوّع المرضى العرب، وتسد فجوات البحث العلمي المستقبلي: حين يصبح الطب شخصياً وجماعياً.
مع استمرار تطور الخوارزميات، قد نشهد قريباً دمج التعلّم المتّحد مع تقنيات أخرى، مثل التشفير المتجانس (Homomorphic Encryption) أو سلاسل الكتل (Blockchain)، ما يرفع مستوى الأمان إلى أقصى درجاته. والنتيجة؟ نماذج أكثر ذكاءً، قادرة على تقديم توصيات علاجية فردية (Personalized Medicine) لكل مريض، اعتماداً على معرفة عالمية تم صقلها من آلاف المستشفيات، من دون أن يغادر ملفه الطبي غرفة الطبيب.
من الاحتكار إلى التعاون
التعلّم المتّحد ليس مجرد خوارزمية جديدة، بل هو رؤية مختلفة في معنى الذكاء الاصطناعي. فهو يدعونا إلى استبدال ثقافة التعاون بمنطق الاحتكار، وإلى مشاركة الثمار دون التفريط بالأسرار، وإلى بناء معرفة تتشكّل من الجميع، ولأجل الجميع.
إنه يذكّرنا بأن المستقبل لا يُكتب بالسرعة وحدها، بل بالتوازن بين التقدم وحماية الإنسان. فإذا كانت الخوارزميات هي لغة الغد، فإن التعلّم المتّحد هو القواعد النحوية التي تضمن لهذه اللغة أن تظل مفهومة، وعادلة.
طبٌّ أذكى، خصوصية مصونة، وإنسانٌ يبقى في قلب المعادلة... لعلها الجملة التي نحتاج أن نخطّها ونحن نفتح صفحة جديدة من تاريخ الرعاية الصحية.

