توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

شركة صينية ناشئة تنشرها في الغلاف الجوي العلوي للأرض

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء
TT

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

توربينات الرياح الطائرة تسحب الطاقة من أعالي السماء

عادةً ما تبرز توربينات الرياح من سطح الأرض مثل طواحين هوائية عملاقة. واليوم، تستكشف شركة صينية شكلاً جديداً: توربينات الرياح الطائرة. وتحلق هذه الطائرات الشبيهة بالمنطاد عالياً في السماء، ولا يربطها بالأرض سوى عدد من الكابلات، حيث تُولّد تياراً مستمراً من الطاقة، بفضل الرياح القوية الموجودة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي.

وبدلاً من البقاء تحت رحمة تقلبات الرياح على سطح الأرض -أحد التحديات الرئيسة التي تواجه التوربينات الثابتة اليوم- لن يتذبذب إنتاج الطاقة لدى توربينات الرياح الطائرة، بفضل ثبات تدفق الرياح بالطبقات العليا. ويمكن لهذا التصميم أن يحل بعضاً من كبرى مشكلات توليد طاقة الرياح، دون الحاجة إلى الاستثمار في بنية تحتية واسعة، ما يقلص البصمة البيئية لعملية توليد طاقة الرياح.

من «ناسا» إلى الصين

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم طرح للمرة الأولى من قِبل مهندس صيني، كان من بين رواد «مختبر الدفع النفاث»، التابع لوكالة «ناسا»، في منتصف أربعينات القرن الماضي. ومع أن هذه الفكرة لم تصادف نجاحاً داخل الولايات المتحدة، تزعم اليوم شركة الطاقة الصينية الناشئة «ساويس» أنها جاهزة لنشر آلاف التوربينات الطائرة التي يمكنها إنتاج 100 كيلوواط، ما يكافئ إنتاج طواحين الهواء الأرضية التي تُغذي الآن كل شيء، من المنشآت التجارية الصغيرة ومتوسطة الحجم، والعمليات الزراعية، إلى المنشآت الصناعية، وحتى المشروعات البلدية الصغيرة.

علاوة على ذلك، تعكف «ساويس» على بناء نموذج جديد يُضاهي قدرات طواحين الهواء الأرضية التقليدية، مع توربين يمكنه توليد أكثر من واحد ميغاواط.

وتعود جذور فكرة طاقة الرياح الجوالة جواً إلى مهندس الفضاء والطيران تشيان شيويسن المولود في شنغهاي، والذي هرب من الصين في ثلاثينات القرن الماضي للدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قبل الانضمام إلى «الفرقة الانتحارية» الشهيرة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، المعروف اختصاراً باسم «كالتيك» ـ وهي مجموعة من المهندسين المهووسين بالصواريخ، وضعوا أسس رحلات الفضاء الأميركية الحديثة.

كان شيويسن مهاجراً ذكياً، ساهم في إحدى أهم الثورات التكنولوجية الأميركية على مر العصور. إلا أن مسيرته المهنية في الولايات المتحدة انتهت تحت وطأة شكوك تعود إلى العهد المكارثي (عهد مكافحة الشيوعية). وبعد سنوات من الإقامة الجبرية، جرى ترحيله إلى الصين عام 1955، حيث أصبح الأب المؤسس لبرنامج الصواريخ والفضاء الصيني. وشكّلت أبحاثه الأساس الذي قامت عليه سلسلة صواريخ «لونغ مارش» التي جعلت من بكين قوة فضائية عظمى.

وكذلك كان ذلك الوقت الذي شهد طرح النظريات التي جعلت من الممكن تطوير توربينات الرياح الطائرة الحالية. عام 1957، اقترح شيويسن ما سماه «قناة ناشر القاذف ejector diffuser duct»، وهي نظرية مفادها بأنه يمكن تسريع تدفق الهواء عبر التوربين بشكل كبير من خلال إضافة غلاف دائري مُصمّم بعناية حوله.

يُحدث الأنبوب المصمم على شكل حلقة فرق ضغط (ضغط منخفض خلف التوربين، وضغط أعلى أمامه)، يسحب هواءً إضافياً نحو الشفرات. هذا التأثير الذي يُشبه خلق «حلق» أو «حلقوم» صناعي للرياح بمقدوره أن يعزز الكفاءة بقوة، دون الحاجة إلى شفرات أكبر، أو أبراج أطول. وفي حين تعتمد التوربينات الأرضية التقليدية، بشكل كامل، على مساحة الشفرات، فإن نموذج «ناشر القاذف» الذي ابتكره شيويسن يُضاعف بفعالية الرياح الصالحة للاستخدام، من دون زيادة وزن الهيكل.

آنذاك، بدت فكرة شيويسن غريبة. جدير بالذكر أنه في ذلك الوقت كانت التوربينات لا تزال مشروعات هندسية متخصصة، ولم يكن لدى مُخططي الطاقة حماس كبير تجاه التصميمات التجريبية. وعليه، لم تبدأ هذه التصميمات في التبلور إلا بعد ذلك بكثير.

أحلام مُحطمة

في مجمله، لم يكن الأمر سهلاً، فرغم روعة الأفكار، فإن هندستها وتصنيعها غالباً ما يكونان في غاية الصعوبة، ما أدى إلى وقوع حوادث كثيرة. على مر العقود، حاول الكثيرون تحويل توربينات الرياح الطائرة إلى آلات عاملة.

من جهتها، عكفت شركة «ألتاروس»، شركة فرعية تتبع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على بناء منطاد مملوء بالهيليوم، ومزود في قلبه بتوربين رياح، على أمل أن يحلق على ارتفاع 2000 قدم لالتقاط رياح أسرع.

وعلى صعيد ثانٍ، نجحت شركة «كايت جين» الإيطالية في بناء نظام يشبه الطائرة الورقية يحلق على شكل رقم ثمانية، ويسحب المولدات على الأرض. حتى هذه اللحظة، لم يتجاوز النظام مرحلة النموذج الأولي.

أما شركة «ماكاني تكنولوجيز»، التي تأسست في منطقة خليج سان فرنسيسكو، واستحوذت عليها «غوغل» عام 2013، فقد جربت طائرة شراعية مربوطة ومزودة بدوارات، لكن الشركة تعرضت للإغلاق من جانب شركة «ألفابت» عام 2020. وحتى وكالة «ناسا» خاضت تجارب على هذه الأفكار. إلا أنه لم يكتب لأي منها النجاح على نطاق واسع، رغم أننا قد نرى طائرة ورقية تولد الكهرباء على المريخ، أو أي كوكب آخر يوماً ما.

اللافت أن كل تلك المحاولات جابهت المشكلات ذاتها: التعقيد الهندسي، واستقرار الطيران في ظل الرياح العاتية، والتصاريح الحكومية، وانخفاض تكاليف طاقة الرياح بسبب الغاز الطبيعي. إضافةً إلى ذلك، تُعدّ توربينات الرياح الثابتة مثالية للمنشآت الكبيرة، رغم تكلفتها، والوقت الذي تستغرقه، وتأثيرها البيئي.

* تيارات الهواء العليا أسرع بـ 3 مرات ويمكنها توليد طاقة أكبر بمقدار 27 مرة *

لماذا التوربينات الطائرة؟

تكمن جاذبية التوربينات الطائرة في قدرتها على التعامل مع رياح أقوى، وأكثر ثباتاً. جدير بالذكر أنه لا يمكن للأبراج التقليدية الوصول إلا إلى نحو 650 قدماً فوق سطح الأرض، حيث تتسم الرياح بالتقلب. على النقيض نجد أنه على ارتفاع 5000 قدم تتحرك تيارات الهواء أسرع بثلاث مرات، ويمكنها توليد طاقة أكبر بما يصل إلى 27 ضعفاً.

ولا تقتصر ميزة هذه التوربينات على إنتاجها النظري الثابت للطاقة فحسب، بل تتضمن كذلك ميزة قلة تكلفتها. إذ إن توربينات الرياح الثابتة تتسم بثمنها الباهظ، وتتطلب موارد هائلة في البناء والتركيب، بما يتجاوز بكثير تكلفة تصنيع الدوار والبرج وحدهما.

ويتطلب كل توربين أرضي مئات الأطنان من الفولاذ والخرسانة والمكونات الصناعية، بالإضافة إلى مواقع بناء ضخمة، وغالباً يحتاج إلى طرق جديدة، أو تفجير قمم الجبال لنقل المعدات، ووضعها في أماكنها. كما تتطلب التصميمات البحرية أبراجاً شبكية فولاذية تزن آلاف الأطنان، ومرافق بحرية متخصصة، وخدمات لوجستية معقدة.

وتترتب على هذه الاحتياجات من البنية التحتية آثار بيئية جسيمة: مساحات أرضية شاسعة تصل إلى 80 فداناً لكل توربين، واضطراب في الموائل، وتقييد الوصول إلى الأراضي، وشهور أو سنوات من التخطيط، وإصدار التصاريح، والبناء. وفي ظل الاستخدام المحدود حول التوربينات بسبب الضوضاء ومخاطر السلامة، تصبح أجزاء كبيرة من الأرض غير قابلة للاستفادة منها -حتى لأصحابها.

في المقابل، تزن التوربينات الطائرة، كتلك التي طورتها شركة «ساويس»، أقل من طن، ولا تتطلب أساساً دائماً، أو تنظيفاً للأرض، علاوة على أنه يمكن نشرها بسرعة، حيث لا يمكن للطاقة التقليدية الوصول إليها بأقل قدر من الاضطراب والتكلفة: حقول النفط النائية، والجزر الصغيرة، أو مناطق الكوارث، حيث تزداد أهمية السرعة والتنقل.

وشرعت شركة «ساويس» في أبحاثها على مولداتها الجوالة جواً، بالاعتماد على أفكار شيويسن، عام 2017. ودرست الشركة استخدام وسادة هوائية رئيسة من الهيليوم، مُدمجة مع جناح حلقي يُسرّع تدفق الهواء ويوجهه مباشرةً عبر المولدات المُدمجة، ما يُعزز الكفاءة نظرياً بأكثر من 20 في المائة.

وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أفادت التقارير بأن النموذج الأولي لطائرة S500 التابعة للشركة وصل إلى ارتفاع 1640 قدماً، وولّد 50 كيلوواط، مُحطماً بذلك الأرقام القياسية العالمية في الارتفاع والإنتاج، والتي كانت حتى ذلك الحين حكراً على فريق بحثي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وفي يناير (كانون الثاني) 2025، ضاعفت طائرة S1000 هذا الارتفاع، وتجاوزت عتبة 100 كيلوواط.

وتبقى هناك تحديات، فالسلامة، على سبيل المثال، لا تزال تطرح سؤالاً ملحاً. على تلك الارتفاعات، يُمكن أن تتخذ الرياح منحى عنيفاً بسرعة. في هذا الصدد، أوضح وينغ هانكي، كبير مسؤولي التكنولوجيا في «ساويس»، لصحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست»، الصادرة في هونغ كونغ، أن تكنولوجيا النظام المزدوج للشركة -الرادار على الأرض وأجهزة الاستشعار في الوسادة الهوائية- تضمن الاستقرار. وفي ظل الظروف القاسية «يمكن للنظام أن يهبط بسرعة في غضون خمس دقائق»، حسبما قال.

هناك كذلك مشكلة الهيليوم. في الواقع، تعمل هذه الأشياء بطريقة مشابهة لبالونات الطقس، ودائماً ما يكون هناك تسريب، ما يُثير الشكوك حول متانتها. من جهته، صرّح دان تيانروي، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «ساويس» بأن تسرب الغاز في منطاد الشركة قد انخفض إلى درجة أنه يُمكنه البقاء في الهواء لأكثر من 25 عاماً.

وبحسب «ساويس»، بدأ الإنتاج بكميات كبيرة بالفعل في يويانغ التي تقع على بُعد قرابة 700 ميل جنوب شرقي بكين، بعقود تتجاوز قيمتها 70 مليون دولار. في الوقت نفسه، يتخطى طموح الشركة هذه الحدود.

المحطة التالية: طبقة الستراتوسفير

اليوم، تستعد «ساويس» لرحلة تجريبية لطرازها الجديد S1500. من جهته، زعم وينغ أن «نظام S1500 المُطوَّر حديثاً يتميز بقدرة توليد تبلغ نحو واحد ميغاواط، أي ما يعادل قدرة برج توربينات الرياح التقليدي بارتفاع 100 متر، ومن المقرر إطلاق رحلته التجريبية قريباً».

وأضاف: «تشكل الرياح على ارتفاعات عالية مصدر طاقة قوياً، وغير مستغل في الغالب... وبمجرد بناء هذه الأنظمة بأعداد كبيرة، يُمكن أن تكون الطاقة التي تُنتجها رخيصة، مثل توربينات الرياح العادية».

ويتميز التصميم بنفس هيكل الطائرة المُصمَّم على شكل حلقات مجرى هواء يُسرِّع تدفق الهواء. وفي الداخل، يعمل 12 مولداً صغيراً، وكلها مصنوعة من ألياف الكربون بالتوازي، وستُولِّد طاقة على نطاق واسع من وحدة يقل وزنها بنسبة 90 في المائة عن توربينات أبراج الفولاذ.

من ناحيتها، لدى شركة «تيانروي» تصور يدور حول أساطيل من مناطيد الرياح، مصممة من فئة ميغاواط واحد للإنتاج، تعمل في طبقة الستراتوسفير، على ارتفاع يزيد عن 32000 قدم، حيث يُقال إن طاقة الرياح أقوى 200 مرة من طاقة الرياح على الأرض. وعن ذلك، قال وينغ: «في ذلك الوقت، ستكون تكلفة الكهرباء عُشر ما هي عليه اليوم».

بوجه عام، تُبرز هذه الأحلام كلاً من الوعود والتحديات التي تنطوي عليها طاقة الرياح الجوالة جواً. لقد شهد العالم صعود شركات ناشئة في مجال طاقة الرياح الجوالة جواً، وكذلك سقوط البعض. ويعتمد نجاح شركة «ساويس»، حيث فشلت «غوغل» والشركات الناشئة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والمهندسون الأوروبيون، على عوامل الحجم، والاقتصاد، والقدرة على الاستمرار. وفي الوقت الحالي، تحمل الشركة الرقم القياسي لأعلى وأقوى توربين طائر على الإطلاق –وهو حلمٌ جرى رسم ملامحه لأول مرة قبل ما يقرب من 70 عاماً، وقد يكون جاهزاً أخيراً للتحليق.

• مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً

تكنولوجيا نصف الموظفين في السعودية فقط تلقّوا تدريباً سيبرانياً ما يخلق فجوة خطرة في الوعي الأمني داخل المؤسسات (غيتي)

دراسة: نصف الموظفين في السعودية تلقّوا تدريباً سيبرانياً

ذكرت دراسة «كاسبرسكي» أن نصف موظفي السعودية تلقوا تدريباً سيبرانياً ما يجعل الأخطاء البشرية مدخلاً رئيسياً للهجمات الرقمية.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا خاصية إشعارات ارتفاع ضغط الدم في «أبل ووتش» تستند إلى مستشعر نبضات القلب البصري في الساعة (الشرق الأوسط)

«أبل ووتش» تتيح خاصية التنبيه المبكر لارتفاع ضغط الدم في السعودية والإمارات

قالت شركة «أبل» إنها أتاحت خاصية إشعارات ارتفاع ضغط الدم على ساعات «أبل ووتش» لمستخدميها في السعودية والإمارات.

«الشرق الأوسط» (دبي)
تكنولوجيا أطلقت «يوتيوب» أول ملخص سنوي يمنح المستخدمين مراجعة شخصية لعادات المشاهدة خلال عام 2025

«ملخص يوتيوب»: خدمة تعيد سرد عامك الرقمي في 2025

يقدم الملخص ما يصل إلى 12 بطاقة تفاعلية تُبرز القنوات المفضلة لدى المستخدم، وأكثر الموضوعات التي تابعها، وكيفية تغيّر اهتماماته على مدار العام.

نسيم رمضان (لندن)
علوم الصين تبني أول جزيرة عائمة مقاومة للأسلحة النووية في العالم

الصين تبني أول جزيرة عائمة مقاومة للأسلحة النووية في العالم

مشروع مثير للإعجاب لا مثيل له في العالم

جيسوس دياز (واشنطن)
تكنولوجيا الأوتار الاصطناعية قد تصبح وحدات قابلة للتبديل لتسهيل تصميم روبوتات هجينة ذات استخدامات طبية واستكشافية (شاترستوك)

أوتار اصطناعية تضاعف قوة الروبوتات بثلاثين مرة

الأوتار الاصطناعية تربط العضلات المزروعة بالهياكل الروبوتية، مما يرفع الكفاءة ويفتح الباب لروبوتات بيولوجية أقوى وأكثر مرونة.

نسيم رمضان (لندن)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.